تلفت نظري أحيانا ردود الفعل على الطروحات والأفكار الجديدة . وجدت مثلا من ينسب التوجه الاصلاحي عند محمد شحرور الى عقد
نفسية. وثمة من قال ان تركيز محمد
عابد الجابري على نقد التراث ، راجع الى
حرمانه من وظيفة كان يتطلع اليها في الديوان. وقيل مثل ذلك عن علماء آخرين في
الماضي والحاضر. وبشكل عام فان غالبية الناس يودون ان يروا علة في القائل (حسنة او
سيئة) قبل النظر في قوله او تحليل مراميه.
من نافل القول ان كل نهضة في تاريخ البشرية بدأت
بمناكفة من نوع ما ، مناكفة بين أشخاص أو قوى حديثة الظهور في الساحة الاجتماعية ،
وأخرى مستقرة ذات نفوذ. في أول الأمر تبدو أشبه بنزاع محدود حول افكار او مصالح ،
تعود لأشخاص بعينهم. في واقع الامر فانه يصعب - في المراحل المبكرة خصوصا - فصل
الافكار عن أشخاص الداعين اليها. وليس من الممكن ايضا حمايتها من التصنيف القسري ،
اي تحديد من يستفيد من نجاحها ومن يتضرر.
مع مرور الوقت يتبين للجميع ، ان الاشخاص القليلين
الذين تمردوا وناكفوا ، لم يكونوا نبتا في صحراء ، بل تعبيرا عن بواكير تحول يجري
تحت السطح الخارجي للمجتمع. ومع مرور الزمن ، تتحول تلك القلة الى أمثولة ومصدر
إلهام ، فكانها تقول لكافة الناس: انظروا .. لقد فعلنا ما ظنه الجميع مستحيلا ،
وتبين لكم ولنا انه ممكن وان كلفته محتملة.
تتحول المناكفة الى نهضة ، حين تدخل فكرته
العامة دائرة الجدل العلني ويجاهر عدد متزايد من الناس ، من شرائح اجتماعية مختلفة
بتبنيهم للافكار الجديدة ، ويتحدثون عنها كنمط حياة ضروري ، يريدون الانتقال اليه.
ونعلم ان وصول المجتمع الى هذه المرحلة
يعني – بالضرورة - قيام نوع من توازن القوى في المجتمع ، بين القوى الداعية
للتغيير وتلك المتمسكة بالمحافظة على الاجماع القديم ، اي من يسمون في عالم
السياسة بالاصلاحيين ، ومن يسمون بالمحافظين.
مسار تقدم الانسان في مجمله ، يشبه هذا المسار. تجاذب
وتدافع بين عوامل الاستمرار وعوامل التغيير ، تقود عادة الى غلبة الثانية
واستقرارها ، ولو بعد حين. ان التغيير لا يتوقف أبدا ، انما تختلف المجتمعات عن
بعضها في سرعة الاستجابة والتكيف مع الجديد او العكس.
قد يبدأ التغيير في مكان محدد ، مثل الشمس التي تشرق
في مكان ، فيراها الناس في أبعد النقاط ، فتولد فيهم الأمل وتبعث الحماس ، ويتحول
الناس بالتدريج الى شركاء في النهضة ومساهمين في تيارها. قد تبدأ المناكفة بين
التجار ثم تنتقل الى المثقفين والساسة وغيرهم ، أو تبدأ بين رجال الدين ثم تنتقل
الى غيرهم ، وقد تبدأ وسط شريحة محددة كالنساء او الشباب ثم تظهر ارتداداتها في
شرائح أخرى ، وهكذا.
الانتشار جزء من طبيعة الحراك الانساني. ولذا لايستطيع
أحد أن يدعي اختصاصه بالنهضة أو يحجب ثمارها عن الآخرين. بواكير النهضة الاوروبية
، تمثلت في نزعات جديدة في الأدب والفنون ، وظهر تأثيرها في تصميم المدن ، سيما
المباني والجسور والقصور ، وفي الفنون التشكيلية والمسرح والموسيقى. ثم انعكست على
العالم الديني ، فتمثلت في حركة الاصلاح الديني وما تلاها من تبلور البروتستنتية ، كضد تاريخي للكاثوليكية وحليف للتغيير ، حتى جاء عهد الاختراعات ، وهيمنت
التكنولوجيا على حياة العالم ، فتحولت التقنيات الرقمية الى محور لهذه الحركة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 2 رجب 1441 هـ - 26 فبراير 2020 مـ رقم العدد [15065]
مقالات ذات علاقة