"سيجبرهم الواقعُ والمجتمعُ
على تقديم الصغيرة على الكبيرة ، والسكوت عن إنكارها ، وعلى تقديم الكبيرة على
التي هي أكبر منها ، من باب دفع المفسدة العظمى بالصغرى ، إذا استمروا في مقاومة
التيار بهذا الجهل والتنطع . وسيفهمون وقتئذ معنى تفريطهم في هذا التنطع والتشديد
ورفض الاختلاف المعتبر"
حاتم العوني |
هذا مقطع من حديث للفقيه السعودي
المعروف الشريف حاتم العوني ، يستنكر تشدد الدعاة في الاحكام الشرعية التي يستشعر
الناس حاجة الى التيسير فيها ، خاصة في موارد الاختلاف بين الفقهاء.
حديث العوني نموذج عن دعوة تكررت
هذه الأيام في المجتمعات العربية. وهي تشير الى أزمة كامنة في علاقة الجمهور بالتيار
الديني ، سببها الظاهري هو التعارض بين طروحات التيار وانشغالات الجمهور. لكن
جذرها يمتد الى إخفاق التيار الديني في تقديم حلول واقعية لما يواجه المجتمع من مشكلات.
كانت مكانة التيار الديني العربي
هامشية حتى أوائل الربع الاخير من القرن العشرين. ولم يكن خروجه من الهامش وتحوله
الى قوة مؤثرة ، ثمرة لتحولات في التيار نفسه ، بل لأن التيار القومي ، واليسار
بصورة عامة ، فشل في تقديم الحلول التي وعد بها خلال ستينات وسبعينات القرن
العشرين ، يوم كان القوة المهيمنة سياسيا وجماهيريا ، في معظم الدول العربية
والعالم الثالث.
تمحورت وعود اليسار حول الوحدة ،
العدالة الاجتماعية ، التحرر من الهيمنة الخارجية ، والاستثمار الأكفأ للموارد. لكن
السنين مرت دون انجاز يتناسب مع تلك الوعود. ربما بسبب ضخامة الوعود نفسها ، او
ربما الافتقار للكفاءة الادارية والسياسية المناسبة ، او بسبب تغلغل الفاسدين
الذين حولوا السلطة الى غنيمة ، أو غير ذلك من الأسباب. وفي اعتقادي ان هذه
العوامل ما كانت لتكلف اليسار ثقة الجمهور ، لو كان قد اهتم باشراك الجمهور في
سياساته وأعماله ، بل وفي تطوير رؤيته للواقع. كان تيار اليسار مثالا للجمود
الايديولوجي الذي انتج جمودا سياسيا ، يتجلى في الهوة الواسعة بين شعاراته
وسياساته ، وبين هموم الناس وانشغالاتهم.
أخشى ان التيار الاسلامي ، السياسي
منه والشعبي ، يواجه اليوم نفس التحدي. وأظن انه يعاني من نفس العوامل التي أطاحت
باليسار فيما مضى. وأهمها في رأيي الجمود الايديولوجي الذي ينتج جمودا سياسيا
وابتعادا عن هموم الناس وانشغالاتهم الحياتية. في كل الدول العربية ثمة جماعات
اسلامية نشطة في المجال العام. لكن معظمها يتحدث بنفس اللغة القديمة ، ويطرح نفس
التصورات والحلول القديمة ، التي تغفل التدليل العلمي ، وتركز على سلوكيات الافراد
، ومصارعة المنافسين ، بدل الانشغال بالقضايا الكبرى ذات التأثير الممتد زمنيا
وموضوعيا.
قبل سنوات قليلة فحسب ، كان
الاحترام والتبجيل سمة ملحوظة في كلام الناس عن الدين والجماعات الدينية ورجالاتها
ورموزها. لكن التشكك هو السمة الغالبة على حديث الناس هذه الايام. النقد الصريح
للآراء التي يدلي بها الدعاة والناشطون في المجال الديني ، قد تشير الى تراجع ثقة
الجمهور في كفاءة هذا التيار او مصداقيته.
لكن الجزء الخفي من القصة هو ان هذا
النقد يشي بان شريحة من الجمهور تنظر للتيار الديني كجماعة متخارجة عنها ، تدعمها
او تعارضها ، لكنها ليست جزء منها ولا تمثلها. مثل هذا الانفصال الشعوري والثقافي
هو الذي أطاح فيما مضى بالتيار اليساري ، وأخشى ان التيار الاسلامي لم يعد بعيدا
عن هذا المصير.
الشرق الاوسط 1 مارس 2017
http://aawsat.com/node/866311
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق