في ماضي الزمان تحدث الفلاسفة عن الحرية في معنى الانعتاق والتحرر من الميول النفسية والشهوات، او ما يسمى بالنفس السفلى، وصولا الى السيطرة التامة للعقل على حركة الانسان وافعاله. هذا النوع من التحرر او الانعتاق، لا يناله غير قليل من الناس. وتسبقه رياضة ذهنية وروحية غرضها تمكين النفس العليا، او العقل، من تكييف نوازع الانسان الداخلية ومراداته وطريقة عيشه حتى تنسجم تماما مع قواعد الاخلاق، وتجسد طبيعة الانسان النقية. يركز هذا المفهوم على سبل لتطور الروحي والمعنوي للانسان، وليس الظرف الاجتماعي او القانوني الذي يعيش الانسان في اطاره.
التفكير في الحرية يتناول في العادة علاقة بين ثلاثة عناصر: أ) الفرد، ب) شيء يريده الفرد، ج) عامل خارجي (او داخلي) يمنع التقاء الاثنين او يسمح به. ويتركز الجدل في الغالب حول العنصر الثالث، اي العامل الخارجي (او الداخلي). حين يقول الفرد بانه حر او غير حر، فانه يشير الى ان العوامل الخارجية تسمح بتحقيق ارادته او تعيقها. لكنه ايضا قد يصف مشاعره الداخلية في لحظة محددة، فهو يقول انه حر او غير حر، بمعنى ان رغباته متدفقة وقابلة للتحقيق، او انها مكبوتة او مقيدة. الحرية هنا وصف للذات، بينما هي في الحالة الاولى وصف للعلاقة بين الذات والخارج. او وصف للواقع الخارجي فقط. حول كل من العناصر الثلاثة دارت نقاشات كثيرة جعلت موضوع الحرية واحدا من اغنى حقول المعرفة الانسانية، وهي لاتزال – وربما ستبقى – جذابة للمزيد من الباحثين والنقاشات. وحسب ايزايا برلين الذي تحدث في خمسينات القرن الماضي فقد سجل تاريخ المعرفة نحو 200 معنى للحرية اقترحها باحثون في حقب التاريخ المختلفة، تدل بالتاكيد على اهمية موقع الحرية ضمن تطلعات الانسان والمسار التاريخي للانسانية ككل.
اقترح كارل دوتش تعريفا موسعا لمفهوم الحرية ينطلق من مقارنة بين وضع الانسان في حالات مختلفة، يمثل كل منها فرصة او قيدا، وينتهي بمساواة مفهوم الحرية مع توفر خيارات متنوعة قابلة للتحويل الى افعال. الحرية في هذا التعريف هي "شريحة الخيارات الفعالة المتاحة لفرد او جماعة من الافراد. قدرة الجماعة على اختيار الافعال او السياسات يمكن ان تترجم عند الممارسة الى خيارات غير مباشرة للافراد". ينظر هذا التعريف الى اربعة ابعاد او شروط مسبقة :
1- غياب المعوقات التي تقيد حركة الفرد.
2- توفر الفرص الفعلية التي يجسد الفرد من خلال استثمارها ارادته ورغباته وطريقة العيش التي يطمح اليها.
3- قابلية الفرد الذاتية ، البدنية او الروحية او الذهنية، لفعل ما يريد.
4- وعي الفرد بالمحيط الذي يتعامل معه، بما فيها وعيه بحقوقه والفرص المتاحة له، وقدراته الشخصية.
تلخص هذه الابعاد معظم الاشكالات التي تعرضت لها التعريفات المختلفة للحرية. لكنها تكشف ايضا عن اشكالية هامة مصدرها هو التعارض المحتمل بين ما يريده الانسان وبين الوسائل المتاحة لتحقيق هذه الارادة. ينتمي بعض تلك التعارضات الى المجال السياسي كما في البعدين الاول والثاني، بينما تنتمي التعارضات في البعدين الثالث والرابع الى المجال النفسي والثقافي.
الجدل المعاصر حول مفهوم الحرية يدور في معظمه حول العوائق الخارجية. اي ضمن الدوائر الثلاث الاولى. الفرضية هنا ان الانسان له حق في اي يفعل شيئا، او انه يريد ان يفعل شيئا، لكن ثمة عائق خارجي يمنعه من انفاذ ارادته. هذا العائق قد يكون طبيعيا او ذاتيا مرتبطا بالفرد نفسه. وهذه ليست موضوعا للنقاش ، ولا تعتبر من نوع تقييد الحرية. بخلاف النوع الاخير من العوائق، اي تلك التي تتعلق خصوصا بذات الانسان (مثل الجهل والمرض) او بالامكانات المتوفرة في البيئة المحيطة (مثل الخدمات العامة الضرورية لتسهيل الحياة) ، والتي كانت موضوعا لنقاشات المفكرين الاشتراكيين الذين اعتقدوا ان اقرار القانون بحرية الافراد لا يجدي نفعا طالما لم يستطع الانسان استثمارها بسبب قصور ذاتي او بيئي. خلافا لهذا الاتجاه ركزت نقاشات الفلاسفة الليبراليين على العوامل الخارجية التي تقيد ارادة الفرد ، وبصورة محددة :
أ) التدخل الاعتباطي من جانب الاخرين حين يريد الفرد التمتع بما يعتبره حقا له .
ب) تضييق الخيارات المتاحة للفرد بحيث لا يبقى امامه سوى سبيل واحد للتصرف او العمل او التفكير او التعبير عن الافكار.
عكاظ 7 يونيو 2010
https://www.okaz.com.sa/article/336730