12/10/2022

الخوف من التغيير

ربما تسألني: ما السر في حرص المجتمع التقليدي على اختلاق القيود والضوابط ، التي تفرغ الحرية من أي مضمون؟.

السر في رايي هو ادراك الجميع لحقيقة ان الحرية تسهل التغيير في الثقافة والقيم الاجتماعية. الخوف من التغير هو الدافع الأقوى لمقاومة الأفكار الجديدة. هذا ليس السبب الوحيد بطبيعة الحال ، فهناك أيضا حالة الكسل الذهني التي تجسدها المقولة الشهيرة "ليس في الإمكان ابدع مما كان". وللمناسبة فهذا القول المنسوب لابي حامد الغزالي أثار جدلا واسعا. والمفهوم انه استهدف التأكيد على كمال النظام الكوني وعجيب صنع الله. لكن معارضيه اعتبروه تحديدا لقدرة الله وتعطيلا. وصدرت رسائل عديدة بين مؤيد للغزالي ومعارض.

أما استشهادنا بذلك القول ، فبعيد عن هذا الاطار ، وناظر الى ما يقوله عامة الناس ، من أن الانسان قد وصل غاية العلم ، وأن ما سيأتي لن يكون اختراقا جديدا ، بل مجرد تكميل لما يعرفه الناس فعلا. كانت هذه الفكرة قوية في القرنين الماضيين. وينقل في هذا الصدد ان هنري ايلزورث ، المفوض الرسمي لتسجيل براءات الاختراع في الولايات المتحدة ، قد كتب للكونغرس عام 1843 بأن العلم والفن يواصلان التقدم عاما بعد عام ، بحيث يبدو اننا نقترب فعليا من نهاية الطريق. وقد تم تداول هذه الفكرة لاحقا في صيغة ان "كل ما يمكن اختراعه قد اخترع فعلا".

الخوف من التغيير يولد عادة في البيئات الثقافية التي ترى الماضي حصنا يحمي هويتها ، وتشرط قبول الفكرة الجديدة ، بكونها منسجمة مع فكرة حالية او قديمة. وعلى العكس من ذلك فان الرغبة في التغيير ، تنطلق من ذهنية تميل لتجاوز المألوف ، والبحث الدائم عن الجديد والمجهول. وهي تنمو – عادة – في البيئات التي تربي أعضاءها على حب المغامرة وكشف حجب الغيب. دعنا نأخذ مثالا من الفتوحات الكبرى في الجغرافيا مثل اكتشاف القارات والطرق البحرية والغابات الكبرى والصحارى.. الخ ، فمعظم هذه الكشوف حققها افراد مغامرون ، انطلقوا من دون علم دقيق بما سيصلون اليه ، لكنهم آمنوا بأن وراء حدود المعرفة القائمة ، ثمة عوالم أوسع تستحق ان نحاول كشفها. نفس المثال صحيح بالنسبة للكشوف في مجالات العلوم الطبيعية والاختراعات ، فقد انطلق جميعها من قناعة أصحابها بأن ما يعرفونه ليس كاملا ولا نهائيا ، وان عالمهم ليس سوى واحد من الممكنات ، وثمة ممكنات كثيرة غيره لاتزال غير مكشوفة. لولا ثقافة المغامرة لما عرف الانسان أمريكا ، ولا الطريق البحري الذي يلتف حول القارة الافريقية ، ولا حفرت قناة السويس. ولولا ثقافة المغامرة ما صنعت الطائرة وأنواع الادوية والأجهزة والأدوات ، التي جعلت انسان العصر حاكما في الكون ، بعدما كان محكوما بالظواهر الطبيعية وما نسج حولها من أساطير.

عودا على ما بدأنا به ، نقول ان شعور الناس بانهم أحرار في حياتهم ، احرار في تفكيرهم وفي تعبيرهم عن تلك الأفكار ، هو العامل الأعظم للتقدم ، لأنه ببساطة يجعل جميع الناس شركاء في صناعته. ثمة رأي مشهور يتفق فيه المحافظون والليبراليون ، فحواه ان الأمان والاستقرار شرط للنهوض الاقتصادي والعلمي. دعنا نفهم هذا على ضوء رؤية نيقولو مكيافيلي ، المفكر الإيطالي الشهير ، الذي يقول ان الناس لا يسعون للحرية من اجل الاستيلاء على السلطة ، فهم يدركون ان مقاعدها محدودة العدد ، وغالبا ما تكون محجوزة لآخرين. انما يسعى الناس الى الحرية لانها توفر لهم الأمان حين يتكلمون وحين يعملون.

لدينا دليل متين يثبت هذه الدعوى ، وهو المقارنة بين الدول التي توفر الحرية وتلك التي تحجبها كليا او جزئيا. ما نتح عن هذه السياسة في قرن او نصف قرن او ربع قرن ، برهان ساطع على ثمرة الحرية وعكسها.

 

الأربعاء - 17 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 12 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16024]

https://aawsat.com/node/3925741

مقالات ذات صلة

ابتكار المستقبل

اختيار التقدم

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

خطباء وعلماء وحدادون

ركاب الدرجة السياحية

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

كيف نتقدم.. سؤال المليون

ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

05/10/2022

الحرية والشر


معظم الذين يرفضون الحرية ، يبالغون في تضخيم الاستثناءات ، حتى تنكمش القاعدة او تتلاشى. وعلى العكس من ذلك ، يركز دعاة الحرية والمؤمنون بها على حقيقة كونها الأصل والقاعدة ، وأن أي تقييد ينبغي ان يتفرع من الأصل ويأتي كاستثناء من القاعدة ، فلا يتضخم الى القدر الذي يجعل القاعدة معدومة الأثر ، او يجعل الأصل أضعف أثرا من الفرع.

لا بد – على أي حال - من التأكيد على أن منكري الحرية ، مثل دعاتها ، ينطلقون من موقف فكري او اجتماعي سابق على طرح الفكرة للنقاش. ولهم بالتأكيد مبررات ترضيهم ، وان لم يقبلها الفريق المقابل.

مهسا اميني (2000-2022)

وقد أشرت في مقال سابق الى أن الشرائح المحافظة في مختلف المجتمعات ، تنظر للحرية كحاجة ثانوية للمجتمع الإنساني ، لا انها ضرورية للتقدم كما يدعي الليبراليون. ونعلم مثلا ان الماركسية الكلاسيكية اعتبرت الحرية لعبة بورجوازية ، وأن حاجة المجتمع الحقيقية ، هي ضمان القواعد المادية الأساسية للعيش الكريم ، حتى تحقيق المساواة بين الناس. أما المجتمعات المتدينة (على اختلاف الأديان والمذاهب) فتعتبر الحرية أداة سخرها أنصار الشيطان للتغرير بالأجيال الجديدة ، كي يتمردوا على النظام الاجتماعي الفاضل. واحدث الأمثلة على هذا ، الحادث الذي انتهى بمقتل الشابة مهسا أميني على يد "دوريات الاخلاق" في العاصمة الإيرانية طهران. وقد برر ما جرى بعد ذلك بأنه مؤامرة اجنبية ، بينما كان المؤمل أن تعتذر الحكومة عن هذا الخطأ الكارثي.

كتبت سابقا انك لن تجد بين السياسيين والمثقفين او الزعماء الدينيين من يعلن صراحة انه ضد الحرية. لكن الذي يحصل عادة ، هو التركيز على الاستثناءات والحواشي واكثار الكلام فيها ، حتى تتضاءل القاعدة الاصلية وتضيع في الزحمة. حين تتحدث عن الحرية او فوائدها ، ستأتيك عشرات الردود ، من كل طرف ، حتى ليخيل اليك انها دفاع منسق. الواقع انها ليست منسقة ، لكن المجتمعات المحافظة جاهزة دائما للتعبير عن رفضها للتغيير وكافة مداخله ومؤدياته ، بل كل ما يرتبط به من قيم وأفكار. ستجد مثلا:

أ‌-        ردود تقول ان الحرية طيبة ، لكنها مستحيلة. لا توجد حرية في العالم الواقعي. الرسالة الداخلية لهذا الموقف هي: الكلام عن الحرية عبث لا طائل تحته.

ب‌-  ردود تقول ان الحرية طيبة ، لكن تطبيقها مشروط ومحدد بالحدود التي يضعها المجتمع او الدين. فحوى هذا الموقف اننا لا نريد حرية تأتي بفكرة مختلفة او تدعو لعلاقات اجتماعية جديدة.

ت‌-  ردود تركز على مخاطر الحرية المطلقة ، فلو ترك الناس من دون ضابط لارتكبوا كبائر الآثام. فحوى هذا الموقف ان الانسان بطبعه فاسد ، وأن ما يمنعه عن الفساد هو خشية العقاب ، وان الحرية تحرره من هذا الخوف.

ث‌-  ردود تركز على تجارب البلدان التي قبلت بالحرية. لا سيما السلوكيات التي يعتبرها عامة الناس نموذجا لسقوط الأخلاق ، مثل اللباس غير المحتشم ، والعلاقات غير المتناسبة مع التقاليد التي نعرفها ، وتمرد الأبناء على الآباء.. الخ. فحوى هذا الموقف ان الانسان سيخسر ابناءه لو قبل بمبدأ الحرية.

كل من هذه المواقف تقول ببساطة: نحن نريد الحرية ، لكن الحرية لا تريدنا ، فهي لا تأتي دون ان ترافقها الشرور. الأفضل إذن التخلي عن هذه المغامرة المجهولة العواقب. هذا يوضح المخادعة التي يقوم بها العقل التقليدي ، حين يدفع الاستثناء كي يزيح القاعدة ، ويستولي الشرح على المتن ، "الاستحواذ على النص الأصلي المشع ، بعد تغطيته بنصوص الهامش المعتمة" حسب تعبير اخي د. معجب الزهراني

الشرق الأوسط - الأربعاء - 10 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 05 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16017]

https://aawsat.com/node/3912301

 

مقالات ذات صلة

 ان تكون عبدا لغيرك

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بوصفها مشكلة

الحرية بين مفهومين

الحرية عند أهل الفقه

الحرية والانفلات

 الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

العلاقة الجدلية بين الحرية ورضا العامة

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

في تمجيد الحرية

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

ملاحظات على حديث قصير – غريب

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

يحبون الحرية ويخشونها

 

 

 

 

28/09/2022

منهجان في فهم الحرية


أي حديث عن الحرية في مثل مجتمعنا ، يستدعي التذكير بأنها حق أصلي لكل انسان بما هو إنسان ، أي قبل ان يكون عضوا في جماعة ، او مؤمنا بدين ، او خاضعا لقانون. لا بد من التذكير أيضا باننا لا نتحدث في فراغ ، بل عن الحرية في مجتمع يحترم نفسه ويحكمه القانون. مقصودنا إذن هو الحرية التي يضمنها القانون ، وليس الحرية المضادة للقانون.

-         ما الحاجة للتذكير بهذا ، مع انه من قبيل البديهيات؟

واقع الأمر ان "الحرية" ليست من الأمور البديهية في المجتمعات المسلمة ، بل في عامة المجتمعات التقليدية. من المفهوم طبعا ان الحرية قيمة عليا ، وهي من المسلمات التي لا يجادل العقلاء في ضرورتها وحاجة الانسان والجماعة اليها ، وفي كونها من أسباب التقدم والقوة. هذا كله أمر مفهوم. لكنني مع ذلك أدعي دون حرج ، ان مجتمعاتنا لا تعتبر الحرية قيمة عليا ، ولا تصنفها بين المسلمات. وهي تقول ذلك صراحة ، او تقوله مداورة ، حين تدعي انه لا يوجد معنى دقيق للحرية ، او حين تشدد على الربط بين الحرية والانفلات السلوكي او انتشار الفساد الاخلاقي.

هذا يظهر غالبا حين يعيق المجتمع رغبة الافراد في التعبير عن انفسهم بطريقة غير مألوفة ، الامر الذي يكشف عن ارتباط عضوي بين الحرية والتمرد على حدود المجتمع وتقاليده.

التصادم بين الرغبة في الاستمرار ، التي يعبر عنها العرف الاجتماعي ، وبين إرادة التغيير التي تعبر عنها محاولات الافراد للتحرر من ذلك العرف ، يكشف عن منهجين مختلفين للتفكير في الحرية:

المنهج المحافظ: وينطلق من فرضية ان النظام الاجتماعي هو الأصل ، وان سعادة الانسان رهن بالمحافظة عليه. وينصرف هذا الى معنى احترام الاعراف والهوية المشتركة والتعريف الاجتماعي للمصلحة العامة. وفقا لهذه الرؤية فان للفرد حقوق يستمدها من عضويته في الجماعة ، ولذا فان تمتعه بها ، ومن بينها ممارسته لحريته ، يجب ان لا تعارض باي شكل العرف الاجتماعي او إرادة المجتمع.

اما المنهج الليبرالي: فينطلق من فرضية معاكسة ، فحواها ان الحرية حق أصلي للإنسان ، وهي من لوازم انسانيته وعقلانيته. في الوضع الأصلي كانت حرية الانسان مطلقة ، لكن حاجة الفرد للعيش في المجتمع أوجبت تحديدها ، كي يستطيع كافة أعضاء المجتمع ممارسة حريتهم ، من دون تزاحم. هذا التحديد استثناء من القاعدة او خروج عن الأصل ، فيجب تقييده بقدر الضرورة ، كي لا يتحول الى قاعدة بذاته.

فكرة التزاحم ، ولا سيما تبريرها لتقييد الحرية الفردية ، بدت في أول الأمر بسيطة ومعقولة. لكن تطبيقاتها العديدة كشفت عن تعقيد غير متوقع. كان جون ستيوارت ميل بين أوائل الفلاسفة الذين تنبهوا للحاجة الى معيار للفصل في تنازع الارادات بين الافراد ، أو بينها وبين اعراف المجتمع ومصالحه ، فوضع قاعدة اشتهرت فيما بعد باسم مبدأ ميل او مبدأ الضرر.

صنف ستيوارت ميل الأفعال الى نوعين: فعل يتعلق أثره بالفاعل دون غيره ، مثل التدين او الالحاد ، العمل او ترك العمل ، فهذه وامثالها أفعال لا ترضي بعض الناس ، لكنها لا تضر أحدا غير الفاعل. اما النوع الثاني فهو الأفعال التي تترك ضررا جسيما على الآخرين ، كالدعوة لكراهية الملونين او اتباع الاديان الاخرى. راى ميل ان الحال الأول لا يبرر للمجتمع ردع الفاعل ، حتى لو كان فعله مناقضا لاعراف الجماعة او ارادتها. بخلاف الحالة الثانية التي يعتبر فعل الفرد فيه (التحريض على الكراهية) نوعا من العدوان ، فلا يمكن تبريره بحرية التعبير.

الشرق الأوسط الأربعاء - 3 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 28 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [16010]

https://aawsat.com/node/3899176/

 مقالات ذات صلة

 

ان تكون عبدا لغيرك

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بوصفها مشكلة

الحرية بين مفهومين

الحرية عند أهل الفقه

الحرية والانفلات

 الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

العلاقة الجدلية بين الحرية ورضا العامة

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

في تمجيد الحرية

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

ملاحظات على حديث قصير – غريب

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

يحبون الحرية ويخشونها

21/09/2022

في يوم الوطن.. تأمل في الخطوة التالية


نحتفل هذا الأسبوع باليوم الوطني للمملكة العربية السعودية ، ذكرى مرور 90 عاما على توحيد البلاد ، التي كانت بقاعا مشتتة وامارات متنازعة ، فانعم الله على أهلها بالسلام والأمان والألفة. في مناسبة كهذه يستذكر الناس محاسن بلادهم ، كما يتأملون الطريق الى مستقبلهم. ولحسن الحظ فان بلادنا حزمت أمرها – بعد مكابدة طويلة - فانضمت الى ركب الحداثة. ورأينا ثمار هذه  الشجرة الطيبة ، ونأمل مزيدا منها في قادم الايام.

نعلم ان التحولات الكبرى تحمل في طياتها تحديات جديدة ، كما تكشف عيوبا مستورة. وقد شهدنا بعضها ، خلال السنوات القليلة الماضية. لكن الانصاف يقتضي القول انها مرت بسلام ، حتى ليظن الناظر من بعد أن الأمور  كانت هكذا على الدوام.

يهمنا ونحن نحتفي بالحاضر ، ان نلقي نظرة على المرحلة التالية والطريق اليها ، وما تقتضيه من مهمات ، أبرزها في رأيي الحريات الشخصية والمدنية وضمانها بالقانون. بديهي ان هذه لا ترتبط بالمناسبة لذاتها. لكنها جديرة بان تطرح في كل وقت ، وفي هذه المناسبة خصوصا ، لان إقرار الحريات العامة هو الجزء الجوهري في عملية التحديث. ان اختيارنا للحداثة يعني أن المجتمع والدولة يريدان الالتحاق بصف الدول الحديثة ، التي ابرز سماتها انها دولة الامة. دولة الأمة تعني ببساطة ان الإدارة الحكومية وما يتبعها من مؤسسات ، أي كل ما يندرج تحت مسمى "القطاع العام" قائم لخدمة المواطنين وليس للسيطرة عليهم.

في الدولة الحديثة ، الشعب هو محور عمل الدولة وهو غايتها وهو أداتها أيضا. المواطن في الدولة الحديثة شريك في ملكية تراب الوطن ، ولذا فهو مسؤول عن هذا التراب ، مكلف بعمرانه وكف الأذى عنه وعن ساكنيه. ملكية التراب الوطني هي مصدر الحقوق الثابتة للمواطن. ونعلم بطبيعة الحال ان كل حق يترتب عليه واجب. لا توجد حقوق لا تقابلها واجبات وتكاليف. لكن يجب التأكيد على ان الحقوق سابقة للواجبات في عالم السياسة والقانون.

نفهم ان إقرار الحريات المدنية والفردية ، قد يثير تعارضات في المجتمع. لاننا عشنا سنوات طويلة ضمن نسق ثقافي/مجتمعي لا يرى الفرد الا تابعا للجماعة وامتدادا لقناعاتها ، ولا يفهم الجماعة الا كامتداد لسلفها ، وتأكيد على حضورهم الثقافي والرمزي في كل العصور. ولهذا وجدنا المجتمع قلقا من كل جديد ، في الاقتصاد وفي العلم والتكنولوجيا والتعليم ، بل في كل جانب. وهو قلق ينصرف دائما الى تقييد الحريات الفردية. ربما يذكر القراء الأعزاء المعلم الذي يحمل المقص ، ويفحص "طول شعر" الطلاب في طابور المدرسة  الصباحي ، لقمع موضات الشعر الطويل في تلك الأيام. لم يعد "مقص المعلم" حاضرا هذه الأيام ، لكن الضيق بالمختلف والمبتدع والمتمرد على التقاليد ، لازال حاضرا بصور وأشكال متنوعة ، كلها تقود – موضوعيا - الى نتيجة واحدة ، هي التدخل الاعتباطي في حياة الأفراد والتضييق على حرياتهم.

اعلم ان الخلاص من التدخل الاعتباطي في حياة الناس ، يحتاج الى علاج ثقافي في المقام الأول. لاننا لا نستطيع الدعوة الى قمع المجتمع ، بينما ندافع عن الحريات الفردية. وليس من المناسب تكميم افواه شريحة من الناس ، كي تتمتع الشريحة الأخرى بحريتها. مفهوم أيضا ان العلاج الثقافي يحتاج الى زمن. لكن الخطوة الأولى قانونية وسياسية ، خلاصتها تبني الدولة لقواعد قانونية تقر صراحة بالحرية الفردية والمدنية لكل مواطن ، وحقه في الاستمتاع بحياته على النحو الذي يريد.

اعتقد ان اعظم انجاز لأي مجتمع سياسي ، سيكون في تعظيم مكانة الفرد ، أي حماية حقه في اختيار نمط الحياة الذي يريد.

الشرق الأوسط الأربعاء - 25 صفر 1444 هـ - 21 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [16003]

https://aawsat.com/node/3885876

14/09/2022

كيف تشكلت الهوية الوطنية


حين نشر بنديكت اندرسون كتابه المسمى "مجتمعات متخيلة Imagined Communities" أثار موجا من الأسئلة ، التي تراوحت بين السخرية والتعبير عن الاعجاب والدهشة. ومنذ طبعته الأولى في 1983 واصل الكتاب انتشاره ، وترجم الى لغات عديدة ، بينها العربية ، وتحول الى واحد من أبرز المراجع المتعلقة بالقومية وفكرة الأمة.



اعانني هذا الكتاب على فهم نقاط غامضة في بحث الدولة القومية وبناء الأمة. كما أجاب على بعض الأسئلة المحيرة. أذكر مثلا سؤال المفكر المعروف د. محمد الرميحي عن سر تفاقم التعصب القبلي والديني ، رغم انتشار التعليم في مجتمعات الخليج. بينما كانت دراسات التنمية في المجتمعات التقليدية ، تتوقع تراجع الهويات الفرعية ، كلما تحسن مستوى المعيشة وانتشر التعليم والاعلام. وقد سمعت هذا السؤال نفسه من باحث امريكي ، بعدما لاحظ انتشار مواقع الانترنت والمنتديات الالكترونية الخاصة بالقبائل ، في أوائل القرن الجديد.

مسألة التعصب والتسامح لم تكن موضع اهتمام اندرسون. فالهدف المحوري لنظريته هو تفسير ظهور الأيديولوجيا القومية. إلا ان ملاحظاته العميقة القت ضوء كاشفا على العديد من الأسئلة المتصلة بالموضوع ، مثل دور الثقافة المكتوبة في توحيد الصورة الذهنية لتاريخ المجتمع (التاريخ الواقعي او المتخيل).

قدم اندرسون تفسيرا معقولا لظهور الهوية الوطنية في الدول الجديدة ، ومبررات تمايزها عن الشعوب/الدول التي تشاركها في الثقافة او التاريخ. أسئلة كهذه تعين على فهم المجتمعات العربية في الشرق الأوسط ، التي كانت ضمن الإمبراطورية العثمانية ، ثم استقلت وبات كل منها أمة منفردة او شعبا قائما بذاته.

يعتقد اندرسون ان المجتمعات الحديثة قررت ، في وقت ما ، ان تتحول الى أمم. في الماضى كان الرابط بين الناس هو الدين او اللغة او الجغرافيا. اما اليوم فان الرابط الواقعي الوحيد ، هو اسم الدولة والحدود الإقليمية التي يعترف بها العالم. ربما ينتمي هؤلاء الذين داخل الحدود الى دين واحد او اديان متعددة  ، ربما يتحدثون لغة واحدة او لغات مختلفة. ما هو مهم هو رغبتهم في تكوين جماعة سياسية وقانونية واحدة ، أي ما نسميه اليوم بالشعب او الامة. في بعض الأحيان تبدأ العملية باتفاق بين غالبية الناس ، وفي أحيان أخرى تبدأ بقرار من النخبة الحاكمة.

الهوية الوطنية ليست موجودا أزليا ، بل كائن يصنعه أصحابه من خلال تطوير فهم مشترك للذات والتاريخ. هذا الشرح يجيب اذن على سؤال: حين نقول اننا شعب
او أمة.. فما الذي جعل هذا الجمع من الناس شعبا او أمة واحدة. بعبارة أخرى: كيف تصنع الأمة نفسها ، كيف تربط بين الاف الناس الذين لا يعرفون بعضهم ولا يربطهم نسب واحد ، فتحولهم الى شعب واحد او امة واحدة؟.

وفقا لاندرسون فان كل أمة تصنع "اسطورة تاريخية" أي لقطات منتقاة من التاريخ ، تعزز الاعتقاد باننا "كنا دائما على هذا النحو ، متفقين ومنتصرين". وهنا يأتي دور الثقافة الموحدة (التي تلقن لتلاميذ المدارس مثلا) والتي يجري انتاجها على ضوء تلك الفرضية ، ثم تنشر عبر البلاد ، كي تؤسس فهما مشتركا للذات والمستقبل ، إضافة الى الموقف من المجتمعات الأخرى الواقعة خارج الحدود.

من النقاط التي أثارت اهتماما كبيرا ، قول اندرسون بان ظهور الطباعة التجارية قد ساهم في "صناعة" فهم مشترك وذهنية متقاربة ، كما وحد لغة التعبير عن الذات المشتركة ، أي اوجد شيئا يشبه ما نسميه اليوم "لغة الخطاب الرسمي". هذا يشير الى أهمية وجود جهة تخطط وتعمل لبناء هوية وطنية مشتركة ، فان لم توجد فسوف تتولى القبائل والجماعات الدينية صناعة هوياتها الخاصة. اظن ان شيئا من التأمل في آراء بنديكت اندرسون ، سيوضح اننا كنا نسير في الطريق الذي وصفه.

الشرق الاوسط الأربعاء - 18 صفر 1444 هـ - 14 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [15996]

https://aawsat.com/node/3872366

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...