"كل انسان يحسب واحدا ، ولا احد يحسب اكثر من واحد"
هذه صياغة استعملت كثيرا من جانب الفلاسفة النفعيين. ويظهر لي انها تشكل قلب نظرية المساواة أو الحقوق المتساوية. وقد تركت بصمة واضحة في التيار العام للفكر الليبرالي والديمقراطي.
تبدو هذه العبارة بسيطة جدا. لكن لو أمعنت النظر ، فقد تجدها غامضة وملتبسة ، مثل كثير من العبارات المألوفة في الفلسفة السياسية. وقد تجد مؤدياتها مختلفة بين مفكر وآخر ، أو بين مجتمع وآخر. لكنها مع ذلك، تبدو حاوية - اكثر من اي صيغة اخرى – للحد الادنى الذي لا يمكن اختصاره من مبدأ المساواة.
هذه العبارة ليست من نوع المسلمات التي دليلها فيها ، كحال العديد من الفرضيات التجريبية البسيطة ، التي تبدو على هذا النحو. كما انها ليست من نوع العقائد الكونية ، أضف الى ذلك انها لا تنتمي لنظام فلسفي بعينه. فكرة ان "كل انسان يحسب واحدا" ليست فرعا عن الايمان بالحقوق ، سواء عنيت بها الحقوق الطبيعية أو الوضعية ، وسواء قصرتها على تلك المنسوبة الى مصدر غيبي أو نظيرتها المنبثقة من أرضية العرف.
بطبيعة الحال ، يمكن لعبارة "كل انسان يحسب واحدا" ان تفهم كثمرة للاقرار بالحقوق الطبيعية ، الثابتة لكل انسان، الحقوق التي هي جزء من انسانيته ، سواء قلنا بأنها جزء من تكوين الانسان ، أو قلنا انها منحت له عند الولادة بفعل غيبي. وبالتالي فهي عنصر لايمكن استبعاده من البناء الكلي للعالم الواقعي. على أي حال فان المساواة مبدأ قائم بذاته، قد تؤمن به على أرضية المباديء السابقة الذكر ، أو تؤمن به من دون المرور بأي تمهيد ميتافيزيقي من نوع ما أشرنا اليه.
اضافة لما سبق ، ربما نعتبر المساواة قاعدة كونية ، تشمل كافة الناس والظروف ، أو ربما نحصرها في طبقات معينة من الاشخاص ، حيث تستمد صدقيتها من نظام حقوق قائم على قواعد قانونية محددة ، أو تقاليد أو مصادر إلزام اخرى معرفة.
لكن ينبغي القول مرة أخرى ، انها لا تتوقف على هذا. بامكان الواحد منا ان يتخيل مجتمعا جرى تنظيمه وفقا لآراء جيريمي بنثام أو توماس هوبز ، حيث لا يعترف للحقوق الفردية بالمكانة التي نعرفها اليوم ، أو يحصر دورها في نطاق محدود. لكننا – مع ذلك - سنرى امكانية لتطبيق ذلك المبدأ ، اي "كل انسان يعد واحدا وليس اكثر من واحد" باعتباره اداة عمل جيدة ، بناء على منظور نفعي ، أو بناء على ارادة حاكم مستبد ، أو إرادة أعضاء الهيئة التشريعية ، أو اي مالك للسلطة في مجتمع بعينه. بعبارة أخرى فان فكرة ان "كل انسان يعد واحدا" ليست فقط من الحقوق والفضائل ، بل هي – اضافة الى ذلك - ضرورة للعمل المنضبط والمنظم ، ولذا فان تطبيقها قد لا يكون مرجعه الايمان بحقوق الانسان ، بل الوفاء بحاجات النظام وضروراته.
ثمة حقيقة لا شك فيها ، وهي ان أبطال المساواة الاكثر حماسة ، كانوا في الاساس من اشد المؤمنين بحقوق الانسان. لقد آمن بعضهم ان لكل انسان روح خالدة ، وانها ذات قيمة مطلقة ، وان لها حقا لا يمكن اهداره أو تهميشه تحت أي مبرر أو لأي هدف أدنى قيمة من الانسان. بعض اولئك الأبطال آمن ، فوق هذا ، بان العدالة معيار مطلق ، مقرر من قبل الله ، وهو ذات المصدر الذي نستمد منه رؤيتنا الخاصة في المساواة .
وثمة بين المؤمنين بالمساواة ديمقراطيون ليبراليون ، بعضهم موحد وبعضهم ملحد أو متجاهل للتراث المسيحي – اليهودي ، أو حتى معارض له. هؤلاء يؤمنون بمبدأ المساواة كمبدأ أولي ، كقاعدة في الخلق ذاته ، تكشفت لنا بنور الطبيعة ، أو من خلال مصدر اخر للمعرفة أو منهج للكشف ، يمكن اعتباره موثوقا وراسخا. هذا كان معتقد الفلاحين الذين تبنوا اعلان حقوق الانسان في الثورة الامريكية (1776) ثم الفرنسية (1789) ولعله كان العنصر الفريد الاقوى في عقيدة المساواتيين ، منذ اصلاحات الاخوة غراشي وحتى ظهور الاشتراكية ثم الأناركية في العصر الحديث.
ثمة من يميل الى ربط هذه المقولة "كل انسان يحسب واحدا" بالتراث الديني المسيحي ، أو باعمال مفكري عصر التنوير الفرنسيين (القرن 18) ، وربما بهذه الرؤية أو تلك عن العقل أو الطبيعة. واقع الأمر ان هذه النسب كلها تاريخية أو سيكولوجية ، اكثر مما هي منطقية.لهذا سيكون مفيدا ان ننظر كيف سيبدو هذا المبدأ ، مبدأ المساواة ، حين يفصل من تموقعاته التاريخية أو النفسية المعتادة ، كي نرى هل ينطوي بذاته على مصداقية مستقلة عن تلك الانتماءات ، تجعله ذا جاذبية عند مختلف اصناف البشر في مختلف الأزمان.
التماثل كأساس للمساواة
بودي تقديم اقتراح يعين على استيضاح مصدر القيمة الذاتية للمساواة ، وهو ان المعادلة المساواتية تمثل تطبيقا لمبدأ محدد ، فحواه ان القضايا المتماثلة تستدعي معاملة متماثلة ، اي أن التماثل في المعاملة هو الجزء الثاني الضروري للمعادلة. ومن هنا ، ومع الاخذ بعين الاعتبار ان البشر يشكلون صنفا واحدا ، اي ان كلا منهم انسان في حقيقته ، فان اللازم – وفقا للمبدأ المذكور– ان يجري التعامل مع كافة افراد هذا الصنف ، بطريقة متماثلة وموحدة ، على كل صعيد ، مالم يكن ثمة "سبب كاف" يسمح باستثناء هذا الفرد أو ذاك من هذا المبدأ الأولي.
من الواضح ان هذا المبدأ صعب أو ربما مستحيل التطبيق بشكل حرفي. ليس من الممكن – واقعيا – ضمان معاملة جميع الناس ، في كل الظروف ، على نحو متماثل. هذا غير ممكن لأسباب عملية واجرائية ، فضلا عن الاسباب المبدئية. ما يمكن ضمانه لن يتعدى قدرا محددا ، يزيد أو ينقص بحسب الظروف.
أخذا بعين الاعتبار هذا التحفظ ، فان صون المبدأ من الابتذال ، يستدعي اتباع منهج يقوم على ترتيب الأولويات ، فيقدم الاكثر ضرورة وأهمية على ما سواه. وفي هذا السياق فان الأولوية ستكون لتطبيق القاعدة على تلك الجوانب من تعاملات الناس ، التي تترك أثرا عميقا في حياتهم ، اي تعزز أو تكبح تطلعاتهم ومصالحهم بدرجة معتبرة. الفرضية المطروحة هنا ، هي ان الطبيعي أو العقلاني هو ان تعامل كل عضو في صنف محدد (الانسان في المورد الذي نناقشه) كما تعامل اي عضو آخر دون أدنى فرق ، ما لم يكن ثمة "سبب كاف" للعدول عن هذا الاصل الى غيره.
اقرار المبدأ على هذا النحو يترك قضايا اساسية معلقة ومفتوحة لاحتمالات متباينة. ولهذا فانه لن يكون خلافا للانصاف ، لو اعترض أحدهم قائلا بانه مالم يتوفر تفسير محدد لعبارة "سبب كاف" ، فان المبدأ الذي يبدو في النظرة الأولى عظيما ، سوف يختزل في الواقع الى مجرد حشو لفظي غير ذي أهمية. انه أشبه بالقول مثلا "انه لمن العقلاني ان تتصرف على النحو ( أ ) فيما عدا الظروف ( ب ) حيث لا يكون عقلانيا ، وكذا أي ظرف يمكن ان يكون ( ب )". ان فتح الباب لعدد غير محدد من الاستثناءات ، يجعل القاعدة المفترضة غير جامعة ولا مانعة.
علاوة على هذا ، فان اعتبار التماثل معيارا مرجعيا للمعاملة المتماثلة ، قد يتسبب في تفريغ القاعدة من محتواها الدلالي. بيان ذلك ان كل شخص يشارك الاخرين في هويات/انتماءات عديدة. ان كل نمط معيشة يمكن اعتباره اساسا لتصنيف اجتماعي. بل لا نبالغ لو قلنا ان كل فرد ، عضو في عدد من الاصناف/الانتماءات ، يصعب عده وحصره ، من الناحية النظرية على الاقل (مثال: الانسان عضو في طبقة ، جماعة لغوية ، ثقافية ، دين ، مذهب ، اصل عرقي ، تيار سياسي ، هواية ، مدينة ، حي ، حرفة ، مدرسة ، مجموعة عمرية .. الخ). وبموجب القاعدة العامة ، التي تقضي باعتبار التماثل (في مثالنا : التماثل في الانتماء الى جماعة واحدة او اكثر) مبرر المعاملة المتساوية ، فان أي معاملة ستكون قابلة للتبرير بناء على تماثلها مع ما تتلقاه احدى الفئات التي ينتمي اليها الفرد. (كمثل: يمكن ان يتعرض الفرد لتمييز ، اي معاملة غير مساوية لما يتلقاه أهل مدينته ، لكن هذه المعاملة مساوية ، مثلا ، لما يتلقاه العمال الاجانب في بلده. ولأنه عامل ، فانه يمكن – بناء على هذا - القول انه منح معاملة متساوية). بكلام اجمالي ، يمكن القول ان كل تمييز في المعاملة ، يمكن تبريره بانه مماثل لما يتلقاه فريق او فئة اخرى من المجتمع. فاذا قبلنا بكون التماثل معيارا ، فان هذه المعاملة التمييزية ، ستكون مبررة.(مثال: الشخص أ ينتمي الى المجموعات ب ، ج ، ح ، خ. يتلقى معاملة غير متماثلة مع المعاملة التي يتلقاها اعضاء المجموعة ب ، اي انه يتعرض للتمييز ، لكن هذه المعاملة مبررة بانها تماثل ما يتلقاه افراد المجموعة ج ، وهذا التماثل صنف سلفا بانه "سبب كاف" لانه من نفس جنس المعيار الاساس للمساواة). ان الأخذ بهذه القاعدة الى نهاياتها ، سيؤدي – منطقيا – الى افراغها من اي قيمة وتحولها الى مجرد حشو فارغ.
ليس لدينا طريقة متينة لتلافي الانزلاق المحتمل الى السخافة. لعل الطريقة الوحيدة التي نعول عليها هي اعادة صوغ الفكرة موضع الاحتجاج ، اي فكرة "السبب الكافي" ، على نحو يوضح بجلاء ما هي تلك المبررات (ما ينطوي تحت عنوات السبب الكافي) ، ولماذا اختيرت دون سواها ، وما هي الابعاد أو الاوصاف التي تعتبر ذات صلة مباشرة ومؤثرة بالموضوع ، وما هي مبررات هذا التصنيف ، علما بان هذه الخيارات لن تعتمد على وجهة نظر شخصية ، بل على تطلعات وموازين قيمية لاشخاص مختلفين ، وعلى الأغراض المحددة لجمعية أو منظمة بعينها ، في ظرف لا يسمح لغير المباديء العامة بنيل اي قدر من الاهمية ، على اي من المستويين النظري أو العملي.
عقلانية الفكرة وعقلانية المنهج
في القضايا المتينة ، نهتم بتمييز الاسباب القوية عن نظيرتها الرخوة. كما نميز السمات الأساسية ، من تلك الضعيفة الصلة ، أو التي لا صلة لها اصلا بجوهر الموضوع. نحن نستنكر بعض اشكال التفاوت (مثل تفاوت مكانة الافراد بحسب اختلاف آبائهم) باعتبارها تعسفية وغير عقلانية ، فهي لا تستند الى قاعدة أو اعتبار متوافق عليه. لكن أنواعا اخرى من التمايز لا يمكن استنكارها (نذكر مثلا تلك القائمة على الجدارة والاهلية). هذا التباين يشير الى ان هناك قيما اخرى ، غير المساواة ، تتدخل فتؤثر على تطبيقات المثال أو القيمة ، على نحو لا يعارضه حتى الاشخاص الاكثر حماسا بين المساواتيين.
حين نصف فكرة أو قولا أو اعتبارا ما بانه "عقلاني" فان جانبا من هذا الوصف يتعلق بفن تطبيق الفكرة أو القول ، التطبيق الذي يشمل ايضا جمع الفكرة مع الافكار المزاحمة أو الموازية ، كما يشمل التسوية بين الافكار أو ، على الأقل ، الجوانب المتعارضة في الافكار موضع الاهتمام ، اضافة الى الاختيار الدقيق بين المباديء العامة ، على نحو لا يمكن دعمه بتبرير أو تفسير نظري كامل.
بالعودة الى المبدأ في شكله الذي يظهر عادة عندما يطبقه الناس: اذا كان لدي قناة أشارك من خلالها في تقرير مصير مجتمعي (كمثل: صحيفة تنشر رأيي او عضو في البرلمان يمثل مصالحي) ، فاني اظن ان من الانصاف ان يكون لبقية اعضاء المجتمع قناة مماثلة. ليس من الانصاف ان يكون لي صوت ، وان يكون هذا الصوت مسموعا ومؤثرا في أقدار مجتمعي ككل ، بينما لا يحصل بقية أعضاء المجتمع على الفرصة ذاتها. المبدأ نفسه ينطبق على قابلية التملك. اذا كنت قادرا على ان املك شيئا ، وكان مسموحا لي ان أترك هذا الملك لأولادي ، يرثونه من بعدي ، فليس من الانصاف ان لا يحصل اعضاء المجتمع الاخرون على نفس الامكانية ، مع كونهم مماثلين لي في كل ما يتطلبه امتلاك الشيء المذكور. وإذا كان مرخصا لي ان أقرأ وأكتب وأعبر عن رايي بكل حرية ، سيكون من الخطأ بل من الظلم والاجحاف ، ان اكون الوحيد في هذا المجتمع الذي يملك هذه الامكانات ويحظى بهذه الفرص ، دون الآخرين الذين يشاركوني الحياة في هذا المجتمع.
دعنا نفترض ان هذا ما حدث فعلا. اي انني اتمتع بكل تلك الفرص والامكانات المذكورة أعلاه ، بينما يحرم منها غيري ، كلهم أو بعضهم. لو نظر أي عاقل في المسألة ، فمن البديهي ان يراها غير مقبولة ومخالفة لمنطق الأمور ، الا اذا توفر مبرر مناسب ، من حيث القوة والصلة بالموضوع ، يسمح باعتبار ذلك الحرمان أمرا معقولا وغير مخالف لمقتضيات العدالة.
لكن لو جرى الأمر على نحو معاكس ، أي ان بقية الناس حصلوا على ذات المنافع والفرص التي حصلت عليها. فهل يجب ان نقدم تبريرا او تفسيرا ، كي يصبح الأمر مقبولا او معقولا؟. بالطبع لا. بعبارة اخرى فان التوزيع المتساوي للفرص والمنافع لا يتطلب أي تبرير ، لأنه هو الأمر "الطبيعي" ، وهو أمر يسلم الجميع بكونه عادلا وصحيحا في ذاته ، فلا يحتاج الى تبرير.
لو رأيت مجتمعا يتساوى جميع اعضائه في املاكهم ، فلن تجد ما يدعو للتساؤل عن سبب هذا التساوي. لأن هذا هو الأصل والأمر الطبيعي. لكن لو رأيت الحال معكوسا ، اي رأيت المسافة شاسعة بين أناس يختصون باملاك طائلة وآخرين لا يملكون شيئا ، فلابد ان هذا سيبدو لك غريبا ، وسوف تتساءل عن سبب المفارقة. وكذا الحال لو وجدت اناسا في مستويات متقدمة من العلم ، يجاورهم اخرون لم يتعلموا اصلا ، أو وجدت قلة تمسك بمفاتيح القرار ومصادر السلطة والقوة في البلد ، واكثرية لا يسمح لها حتى بالمشاركة في القرار. ان التباين في درجة الملكية ، وتباين الفرص المتاحة لاعضاء المجتمع ، للوصول المتساوي الى مصادر الخيرات المادية والمعنوية ، واختلاف قدرتهم على ممارسة الحقوق المدنية ، هي ما نعتبره تمايزا أو انعداما للمساواة ، وهو الامر الذي يعتبره العقلاء مخالفا لطبيعة الامور ، ومستوجبا للتبرير.
خلافا لما سبق، فانه يمكن تخيل عشرات الحالات التي تنطوي على تمييز ، لكنه تمييز مبرر ولا يخالف مقتضيات العدالة. اذكر مثلا ان القائد في أي جيش ، سيحصل على سلطة تفوق كثيرا السلطات التي يتمتع بها جنوده. لو فكرت في هذه الحالة ، فسوف تدرك فورا ان هذه طبيعة النظام في الجيش. لا نتخيل جيشا من دون هذا التراتب. ولا يعتبر هذا التراتب وما ينطوي عليه من تمايز ، مخالفا للعدالة أو غير عقلاني. تخيل أيضا الحالات التي يتجلى فيها التمايز لصالح اعضاء المجتمع الأكثر احتياجا ، مثل تخصيص موارد مادية للمرضى وكبار السن ، تتجاوز المتوسط الذي يحصل عليه بقية الناس (لان حالتهم تتطلب فعليا موارد اكثر من المتوسط). كما يمكن تخصيص مكافآت أكبر من المتوسط المعتاد ، لأصحاب الكفاءات الباهرة (تمييزهم عن غيرهم مقصود وعمدي). هذه كلها تمايزات واردة ومتعارفة. لكن ، كما يلحظ القاريء ، فان كلا منها ينطوي على سبب معقول يقبله الجميع.
لو كنت ممن يؤمن بمجتمع منظم على اساس التراتب الطبقي ، فلعلي أجد تبريرا للقوة الخاصة أو الثروة أو المكانة المتمايزة ، للاشخاص الذين ينتمون الى عرق بعينه ، أو طائفة أو عشيرة أو طبقة اجتماعية ، أي الحالات التي يحصل فيها بعض الناس على موارد وخيرات من دون مبرر ، سوى كونهم مولودين في عائلة بعينها. لكن في كل من هذه الحالات سوف أكون مطالبا بابراز سبب مقبول عند الآخرين ، من قبيل السلطة الالهية أو النظام الطبيعي أو أمثالها.
يوضح الشرح السابق فرضية هامة ، خلاصتها ان المساواة لا تحتاج إلى سبب لتفسير أو تبرير وجودها. لكن عدمها هو الذي يحتاج الى تبرير. انها نوع من الانتظام والتماثل والتوحيد الذي يعكس الوضع الطبيعي للاشياء. ان العلاقة الوظيفية ، بين سمات معينة وبين حقوق مقابلها – وفق ما أشار اليه فولهايم – لا تحتاج الى احتساب أو ملاحظة استثنائية ، كحال الاختلافات والسلوكيات غير المعيارية أو التصرفات الخارجة عن المألوف ، التي تحتاج دائما الى تفسير. كمثال على هذا ، دعنا نفترض أن لدي كعكة ، وثمة عشرة اشخاص اود تقسيم الكعكة عليهم. المتوقع عادة هو ان اقسمها الى 10 اجزاء متساوية. وحينها لا يتوقع ان يعترض أحد أو يطلب تفسيرا. اما لو خالفت هذا المبدأ ، فانه سيكون متوقعا أو مطلوبا مني ان اقدم سببا خاصا لما فعلت.
ثمة معنى عميق في هذه المقارنات ، وان بدا غامضا نوعا ما ، هو الذي جعل المساواة مثالا رفيعا ، كما سمح بجعلها معروفة ، بل موضع اهتمام ، رغم ان تطبيقاتها المتطرفة لم تلق قبولا تاما ، سواء بين المفكرين السياسيين ، أو حتى عامة الناس ، عبر التاريخ المسجل للبشرية.
يبدو لي ان المساواة تنطوي على مفهومين على الأقل ، كلاهما يتعلق بحب النظام ، وقد أشار اليهما فلهايم من دون تسمية. هذان المفهومان هما فكرة القواعد و فكرة المساواة الحقة. وسوف اناقش في الصفحات التالية كلا من الفكرتين بشيء من التفصيل
( 1 )
القواعد:
كل قاعدة تنطوي – بالضرورة - على قدر من المساواة. بما ان القواعد هي تعليمات عامة تأمر بفعل شيء ، أو تنهى عن فعل شيء على نحو محدد ، في ظروف محددة ، وان الأمر والنهي فيها موجه لشريحة من الناس يجمعهم وصف معين ، فان المتوقع ان يؤدي الالتزام بالقاعدة ، الى نوع من السلوك الموحد في الحالات المتماثلة.
حين تخضع لقاعدة ، فانك تندمج – الى حد ما - في سياق pattern واحد. وحين تطبق القاعدة ، فأنت تسعى للتسوية والمساواة في السلوك أو المعاملة. هذا المفهوم ، اي التناظر بين القاعدة والمساواة ، يصدق عند تطبيق أي قاعدة ، سواء اتخذت شكل المباديء المعنوية والقوانين ، أو قواعد العمل في القانون الوضعي ، أو قواعد اللعبة أو انظمة العمل في الجماعات الاحترافية ، المنظمات الدينية ، الاحزاب السياسية ، أو غيرها من الجماعات ، وحيثما أمكن تقنين انساق السلوك والعمل على نحو نظامي أو متناغم.
القاعدة التي تعطي الاشخاص طويلي القامة ، حق التصويت بما يعادل خمسة اضعاف الاشخاص القصيري القامة ، تخلق – كما هو واضح – حالة تمايز وعدم مساواة بين الناس فيما يخص حقهم في التصويت. لكن لو نظرنا الى المسألة ضمن الحدود الضيقة للقاعدة ، اي لم نقارنها بما ينبغي ان يكون ، فسوف نجد انها هي الأخرى تقرر نوعا من المساواة في الامتيازات ، بين اعضاء كل شريحة من الشريحتين اللتين كانتا طرفا في هذه المعاملة. رغم انها قائمة على عدم المساواة ، الا انها – ضمن اطارها الخاص – لا تسمح لأي من الاشخاص طويلي القامة بتسجيل اكثر من خمسة اصوات ، اي ما يتجاوز حصة الاشخاص المشابهين له. كذلك الحال بالنسبة للاشخاص القصار القامة.
هذا يشير الى جزء جوهري في فكرة القاعدة. وهو المعنى الأول للمساواة وفق مقاربة ريتشارد فولهايم ، الذي رأى انه على رغم ان السلع والخيرات والفرص ، سواء كانت سلطة أو ملكية أو مكانة ، على رغم انها قد لا تكون مملوكة لكل شخص ، على نحو متساو أو الى درجة متساوية ، إلا ان كل عضو في كل طبقة أو شريحة اجتماعية ، لديه الحق في حيازة تلك الاشياء ، التي صنفت كحق للطبقة أو الشريحة ككل. هذا المفهوم للمساواة مستمد من جوهر فكرة القاعدة ، اي فكرة اخضاع الجميع لمسطرة واحدة وعدم السماح باستثناءات.
حين نتحدث عن "قاعدة" في مكان ما ، فان ما نعنيه حقا ، هو ان جميع المعنيين بها ، يجب ان يلتزموا بما تقتضيه. القاعدة توضع كي تنظم سلوك الناس على نحو محدد متطابق. وان اي تمايز ، اي عدم مساواة في هذا الالتزام ، سوف يصنف كاستثناء ، اي كمخالفة أو خرق للقانون أو القاعدة.
وجود القواعد ، والتزام الناس بمقتضياتها ، بقدر معين ، ضروري لاستقامة الحياة في المجتمع الانساني. ويبدو لي ان هذه الفكرة ، اي وجود القواعد والالتزام العام بها ، محل رضا وقبول عند كافة الناس في عالمنا. قد يكون من ضروب المبالغة ، اعتبار هذا القبول العام قائما على ارضية اخلاقية بحتة ، فالواضح انه – في جانب معتبر على الاقل – مقبول في اطار تجريبي ، أو لانه جزء من القانون.
يهمني الاشارة ايضا الى ان الاخلاقيات تفهم هي الأخرى باعتبارها قواعد ، أو باعتبارها تؤدي وظيفة مماثلة لوظيفة القواعد. وهذا الفهم يشمل تلك الاخلاقيات التي تمارس على المستوى الشخصي ، وكذا نظيرتها التي تطبق ضمن قواعد العمل السياسي العام.
مع فهم الاخلاقيات باعتبارها قواعد ، ومع الاخذ بعين الاعتبار ان المساواة تمثل واحدا من ابرز نواتج القاعدة ، فانه يمكن القول ان التطابق الافتراضي بين المساواة والالتزام العام بالقواعد ، يمثل واحدا من اعمق الحاجات والقناعات الراسخة عند بني آدم. وفي هذا المعنى فان المساواة توازي الاخلاقية الاجتماعية ، بقدر ما تفهم فيه الاخلاقية الاجتماعية كمنظومة من القواعد المتينة والمتناغمة الاجزاء.
انطلاقا من هذه الفكرة ، نستطيع القول ان الدعوة للمساواة ، تعادل المطالبة بحياة متوافقة مع القواعد ، ورفضا للتحكم الاعتباطي أو الخضوع للأهواء الشخصية ، لمن يصفون انفسهم بالقادة الملهمين. وبهذا المعنى أيضا فان قولنا بان اللامساواة خطأ ، يساوي – في التطبيق – القول بأنه من الخطأ ان لا تتبع أي قاعدة في ظرف بعينه ، أو ان تقبل العيش في ظل قاعدة معينة ثم تخرقها. اللامساواة تحكي أيضا قصة ظرف يعيش فيه الناس حياة متماثلة ، لكن بعضهم ، ومن دون سبب معلن ، ولا بالرجوع الى قاعدة ، ينال أكثر مما ينال غيره ممن يحملون نفس الصفات والمؤهلات ، ويعملون في نفس الظروف. ونعلم بطبيعة الحال ان هذا التفاوت لا يتلاءم مع معايير الانصاف.
حين يخرق أحدهم القواعد من غير سبب ، فان سلوكه يعتبر غير عقلاني. وحين يلتزم بالقاعدة ثم يقدم تبريرا لموقفه ، فان هذا التبرير سيعتبر غير ضروري. القواعد لاتحتاج الى تبرير خارجي لانها – بحسب التعبير المتعارف ، من الاصول والمسلمات التي دليلها في ذاتها =self-evident.
العيش في ظل القواعد لا يعني بطبيعة الحال انه لا يمكن خرقها أبدا. في نظام اخلاقي يتألف كليا من قواعد ، ويتم تعريفه وتحديد إطاره بواسطة مصطلحاتها الخاصة ، ثمة شريحة من الأفعال التي يجوز القيام بها ، رغم انها – من الناحية الشكلية على الأقل – تخالف بعض القواعد. في حالة كهذه ، يجب وصف الأفعال التي تنتمي الى هذا الصنف ، وتبريرها بالرجوع الى قواعد أخرى من نفس النظام الاخلاقي.
على سبيل المثال فان خرق القاعدة X يجب ان يكون مبررا بالرجوع الى القاعدة Y التي في ظروف معينة يمكن ان تتعارض مع القاعدة X وتبعا للقاعدة Z يجب ان تلغيها أو تعدلها ، أو – في اي حال – يكون مسموحا لها بذلك. ابسط الأمثلة على هذا: ان سيارة الاسعاف يسمح لها بخرق نظام المرور (القاعدة X) اذا كانت تنقل مريضا في حالة خطر (القاعدة Y) لان انقاذ حياة الانسان له اولوية على صون نظام المرور (القاعدة Z).
القواعد ليست مريحة دائما
حين يتقبل المجتمع القيم الاخلاقية ، على المستوى الشخصي أو الاجتماعي أو السياسي ، وحين تتحول هذه القيم من صورتها النظرية المجردة ، الى تطبيقات محددة نشطة في واقع الحياة ، أي تغدو مضمونا ومعيارا لمنظومات القواعد ونظم العمل ، التي توجه سير الحياة في مختلف جوانبها ، فمن المتوقع ان يتحقق قدر مرتفع من المساواة.
لكن مع هذا ، ستكون التجربة عرضة لثلاثة انوع من النقد ، على أقل التقادير:
(أ) كثرة الاستثناءات:
ربما اقبل القواعد من حيث المبدأ ، لكني اتبعها بالشكوى من كثرة الاستثناءات التي لا تستند الى تبرير يسمح بالاستثناء. إذا كنت ساقتصر على معارضة الاستثناء بذاته ، فهذا يعني ان شكواي تدور حصرا حول الالتزام بالقوانين الاجتماعية والاخلاقية أو خرقها ، وليس على مبدأ الالتزام بالقواعد بما هي.
دعنا نفترض ان الاستثناءات التي أعارضها ، تلبي رغبات لبعض الناس ، لكن على نحو يعيق تلبية رغبات لأناس آخرين. دعنا نأخذ مثلا الرغبة في حيازة السلع او الفرص النادرة بطبيعتها ، مثل بعض الممتلكات ، او سلطة ، او مكانة ، او ثمار للحضارة. وأمثال ذلك. من حيث المبدأ ، يجب ان يخضع التوزيع في هذه الحالات لقانون يضمن المساواة بين الجميع. حين لا يكون ثمة قواعد تنظم التوزيع ، او كانت هناك قاعدة لكن الاستثناء منها يتقرر على نحو اعتباطي ( اي دون ان يكون متلائما مع القاعدة الاصلية ، وليس مبررا او مقبولا ضمن قاعدة اخرى مقبولة) ، في حالة كهذه ، سوف اشكو أيضا من عدم الانصاف ، عدم الانصاف بمعنى ان الحالات المتماثلة لا تعامل على نحو متماثل ، خلافا للأصل الأولي في كل قاعدة ، الاصل الذي يقول ان كافة الحالات المتساوية يجب ان تعامل على قدم المساواة ، وخلافا لغرض القاعدة ، اي تفادي التعاملات المتباينة من دون مبررات او قواعد تسمح بالتباين.
(ب) قواعد قاصرة:
ربما اشكو من ان القواعد ذاتها سيئة أو باطلة. قد تأخذ هذه الشكوى عدة اشكال. من ذلك مثلا الشكوى من ان تطبيق قاعدة معينة ، ربما يقود الى انتهاك قاعدة اخرى أو مبدأ أراه أكثر أهمية أو أرفع قيمة. كمثل على هذا فان قاعدة ترجح - بصورة مستمرة – الاشخاص طويلي القامة في مقابل قصار القامة ، سوف تنتهك قاعدة أراها ارفع مرتبة ، وفحواها ان الصفات البدنية لا ينبغي ان تكون معيارا في منح المكافآت أو الالقاب على سبيل المثال. أو ربما تنتهك قاعدة تقرر ان جميع الرجال ، أو جميع الرجال الانجليز ، أو جميع اعضاء "الجمعية الارسطية" ، يجب ان يعاملوا باعتبارهم سواسية في هذا الخصوص.
لا ينتهي الامر عند هذه النقطة. ذلك ان احدا ما سيحتج على تخصيص أعضاء "الجمعية الارسطية" بالذكر ، عند الحديث حول المعاملة المتساوية ، لأنه يعتبر هذا انتهاكا للحق المماثل لكافة الرجال الانجليز ، ولعل أحدا آخر يأتي شاكيا من ان الاشارة الى الانجليز كمستحقين للمعاملة المتساوية ، ربما تنطوي على تهوين من قيمة الحق المماثل لكافة الاوروبيين أو لكل الرجال. بعبارة مختصرة ، فان القاعدة ربما تشجب بحجة خرقها لقاعدة اخرى اوسع نطاقا. وبالتالي فانها ستعتبر استثناء غير عقلاني.
اضافة الى ذلك ، ربما تتعرض القاعدة للنقد ، انطلاقا من تعارضها مع قواعد أخرى ، ليس لانها اوسع نطاقا ، بل فقط لانها غير متلائمة معها. في حالات التعارض بين القواعد ، مثل هذه ، يتبنى المساواتيون مبدا تقديم الاكثر على الأقل. بيان ذلك ان القواعد التي تضمن المعاملة المتساوية لعدد أكبر من الاشخاص ، أو عدد أكبر من الشرائح الاجتماعية ، ستكون على الدوام مرجحة على القواعد التي تضمن تلك المعاملة لأعداد اصغر من الاشخاص أو الشرائح الاجتماعية.
يمكن ان يكون المجتمع مساواتيا جدا ، او مساواتيا الى حد ما ، بناء على المدى الذي يذهب اليه في ترجيح المبدأ السابق الذكر ، أي ترجيح القواعد التي يستفيد منها عدد أكبر ، او شرائح اجتماعية أكثر ، على تلك التي يستفيد منها عدد أقل. وعلى نفس النسق ، فسوف لن يوصف بانه مساواتي ، اذا تاثرت صياغة وتطبيق القواعد المتبعة في حل تنازعات المصالح ، بمباديء اخرى غير الارادة الصريحة والصافية في المعاملة المتساوية ، لأكبر عدد من الاشخاص او اكبر عدد من الاصناف ، حتى لو كانت هذه المباديء مرغوبة من بعض الاطراف ، من قبيل الرغبة في تعظيم السعادة ، مع علمهم بانها قد تؤدي الى تفاوت جسيم.
يجب ان لا نغفل أيضا ، ان لكل مجتمع شريحة من الاستهدافات أو القيم الحياتية ، التي قد لا تسمح بتطبيق الرؤية المساواتية على نحو صارم وأحادي الاتجاه. من ذلك مثلا الرغبة في تشجيع الفنون والعلوم ، أو الميل العام لزيادة القوة العسكرية أو الاقتصادية للدولة ، أو شغف النخبة أو الجمهور باحياء التقاليد القديمة ، فضلا عن ميل بعض الشرائح الاجتماعية للتغيير وتجربة انماط حياتية جديدة.
بعض هذه الاستهدافات ، ربما يولد معايير أو قواعد معاكسة أحيانا للمساواتية الحازمة ، أي مبدأ ان "كل واحد يحسب واحدا ، ولا احد يحسب اكثر من واحد". من هنا نستطيع القول ان فاعلية هذا المبدأ ، مشروطة فقط بالقواعد المطبقة في نطاقات بعينها. بعبارة اخرى ، نستطيع القول ان تطبيق القاعدة يؤدي الى نوع من المساواة بين المشمولين بها ، فاذا طبقت قاعدة في إطار اجتماعي ما ، فانها – بذلك القدر – تحقق المساواة بين المشمولين بالقاعدة. واذا طبقت في مناطق متعددة ، فان الاشخاص الخاضعين لها في كل هذه المناطق ، سيكونون أيضا متساوين في المجال الذي تؤثر عليه تلك القاعدة.
هذا يعني – ضمنيا على الأقل – ان القواعد لا تضمن شيئا وراء نطاق اشتغالها الخاص. نعلم بناء على هذا ان قواعد اخرى ستكون مؤثرة في هذه النطاقات ، وهي قد تعمل بطريقة مختلفة عن تلك التي تعمل بها القواعد السابقة. وفي هذه الحالة فسيكون لدينا حالة عدم مساواة بين الاشخاص هنا والاشخاص هناك. نحن ، بعبارة اخرى ، إزاء تفاوت خلقته القواعد نفسها ، بسبب اختلافها.
حين نصف قاعدة – كما نفعل احيانا – بانها غير منصفة ، فاننا نعنى على وجه الدقة ، ان تطبيقها يؤدي لتعارض مع قاعدة اخرى ، تدعم التعامل المتساوي في نطاق أوسع من الأولى. بعبارة اخرى ، فان تطبيقها ربما يعيق تأثير القاعدة الثانية ، التي تحقق المساواة لعدد اكبر من الاشخاص ، أو عدد أكبر من الطبقات في ظرف معين أو مجال معين.
لكن الحديث عن قاعدة ما على النحو الذي سبق شرحه ، لا ينبغي ان يفهم منه أن التعارض بين القواعد ، مبرر لوصم أحدها بأنها سيئة أو خاطئة. فغاية ما يعنيه انها تتعارض مع قواعد أخرى أو مباديء ، تستهدف اهدافا اخرى ، لا تشمل بالضرورة مساواة أوسع.
لعل هذا القول يبدو مجردا أو صعب التصور. لهذا ساعيد عرضه على نحو أوضح. ويهمني الاشارة أولا الى انه على رغم ان مذهب جيريمي بنثام (1748—1832) القائل بان "كل شخص يحسب واحدا"، قد تجسد في تراث النظرية النفعية ، الذي كان أبرز رواده. لكن الواضح – كما يبدو لي - ان المساواة ذاتها ، ليست على ارتباط أو تلاؤم مع المذهب النفعي ، بل لا يبعد ان تتعارض معه في بعض الأحيان.
ومن هنا يمكن المجادلة أن المجتمعات الخاضعة لنظام هرمي/طبقي ، كحال بعض مجتمعات القرون الوسطى على سبيل المثال ، وكذا المجتمعات الثيوقراطية ، أو حتى المجتمعات التي قامت على أساس العبودية ، هذه النظم الاجتماعية ربما تقدم لأعضائها قدرا من السعادة (بغض النظر عن طريقة احتسابها) أعلى مما تقدمه تلك النظم التي يتمتع اعضاؤها بدرجة أعلى من المساواة الاجتماعية أو الاقتصادية .
نتذكر بطبيعة الحال ان مفكرين مثل مونتسكيو وروسو ، أعلنوا معارضتهم للرق. ليس لان الرق يجعل الناس تعساء ، فالأمر قد لا يكون هكذا في جميع الأوقات. ثمة عبيد لا يرون بأسا في وضعهم ، ولا يشعرون بالتعاسة ، بل ربما فضل بعضهم أن يبقى عبداً ، لأنه يعجز عن تخيل نفسه في حياة مختلفة. اولئك المفكرون وامثالهم لم يعارضوا العبودية لهذا السبب ، بل عارضوها لذاتها ، أي لأنه لا يجوز لأي شخص ان يستعبد شخصا آخر ، ولأنه ليس جديرا ببني آدم ان يعيشوا حياة العبودية ، أو ان ينشئوا علاقات استعباد لأخوتهم في الخلق. بعبارة أخرى فان اولئك المفكرين يدعون الى المساواة من اجل المساواة ذاتها ، وليس من أجل السعادة أو اي غرض آخر.
المعنى الفعلي لكلام هؤلاء المفكرين ، هو ان اي مجتمع تسود فيه قواعد أو قوانين تسمح بالعبودية أو تدعمها ، هو مجتمع يستحق الادانة والتنديد ، حتى لو قيل ان أعضاءه ربما يكونوا اكثر سعادة مما لو كانوا أحرارا. بل هو يستحق التنديد ، رغم اعتقادنا بان ارسطو قد يكون محقا في قوله ، انه ثمة أناس لا تتبلور قابلياتهم على أحسن وجوهها ، الا في ظروف الاستعباد. رغم ذلك كله ، هذا المجتمع يستحق التنديد والادانة. ليس لأنه يخرق القواعد التي يعيش في ظلها ، بل لأنه يطيع النوع الخاطيء من القواعد ، ويتابع النوع الخاطيء من القيم.
مقتضى هذه الرؤية ، الحازمة نوعا ما ، أن المساواة ، أي القاعدة التي فحواها ان "كل شخص يحسب واحدا" ، سواء في توزيع الممتلكات أو في عدد الأصوات التي يملكها في البرلمان والهيئات السيادية ، أو في فرص التعليم أو الترفيه ، بل في أي جانب أو مجال ، هي غاية في حد ذاتها. المساواة غاية في حد ذاتها ، مع انها قد تتعارض مع غايات أخرى ، لكنها أعلى من تلك الغايات ، وفي حالات التعارض الحدي سوف نرجح المساواة على أي غاية أخرى.
(ج) النقد الرومانسي:
أخيرًا ، فقد يتعرض نظام اجتماعي ما للنقد ، ليس لأنه خرق القواعد التي يفترض انها وضعت كي تحترم ، وليس لأن القواعد المتبعة فيه سيئة أو ظالمة ، أو انها في تعارض مع غايات أو مثل يصنفها الناقدون في مرتبة أعلى معنويا أو أخلاقيا. ليس لأي من هذه الأسباب ، بل لسبب آخر ، خلاصته ان هذا النظام شديد الالتزام بالقواعد الى حد الهوس.
لو قلت للناقد بان حدا أدنى من القواعد يعد ضرورة واقعية ، لا غنى عنها للحفاظ على درجة ما من النظام البشري ، فلعله يتراجع عن أصل الفكرة ، ويرد عليك بأن القواعد المطبقة فعليا في النظام محل النقد ، تتجاوز الحد الأدنى المزعوم. ربما يحتج ايضا بان المثال الاخلاقي ليس توليفا من قواعد ، بل يتشكل بطريقة عفوية تجمع بين التخيل والمكابدة ، خلال سعي الانسان في الاستجابة لتحديات حياته وتصميم حلول تتناغم مع تطلعاته الواقعية والاخلاقية ، تماما مثل النشاط الابداعي للفنان أو الملحن ، أو لعل الانسان يطور مثاله الاخلاقي من خلال ممارسات من التعبير الذاتي اقل انضباطا ، حيث تكون العفوية هي السياق الغالب ، مع حد أدنى من استعمال القواعد والاقرار بها على حد سواء.
من المفيد وقد وصلنا الى هذه النقطة ، ان أذكر القاريء ، بأن التطلعات السياسية والاخلاقية ، لا تتطابق بالضرورة مع القواعد الاخلاقية والسياسية ، او تسير معها في خط واحد.
هجوم الرومانسيين على النظم الأخلاقية لكل من التجريبيين والعقلانيين ، اتخذ في بعض الأحيان هذا الشكل من انكار ما يعتبر في نظم الأخلاق التقليدية، فرضيات أولية وضرورات. . ليس لأنهم يعتبرون هذه الفرضيات والضرورات خاطئة أو ضارة ، بل لأنهم يعارضون دعوى عموميتها.
الفلاسفة الرومانسيون ، وخصوصا في ألمانيا [10] ، هاجموا أسلافهم ، لان هؤلاء فرضوا قواعد ، وخلطوا بين قضايا ، ماكان ينبغي ان تخلط ، وبينها سمات فردية وحالات اخلاقية أو افعال اخلاقية ، كانت بالضرورة فريدة ومتنافرة/غير قابلة للمقارنة=incommensurable بالرجوع الى معيار كوني واحد أو طريقة قياس جامعة.
لم يقتصر الهجوم الرومانسي على أسماء بعينها ، فقد شمل كل أولئك الذين بدا انهم يتقبلون التنميط القسري للقيم والقواعد الناظمة للحياة ، أي استبدال حالة التعدد والتنوع القائم في عالم الانسان ، بما يشبه سرير بروكرست الحديدي ، لا لشيء إلا لانهم يقدسون القواعد ، اية قواعد ، ويوجبون طاعتها ، بغض النظر عن الفروق بين الناس ، والاهمية النسبية للقواعد الاخرى المعارضة ، ومدى تاثيرها في حياة الناس وخياراتهم الخاصة.
لا بد من الاشارة هنا الى ان التغافل عن الفروق الفردية وتقديس القواعد ، بغض النظر عن اي جوانب أخرى جديرة بالنظر ، يقابله في مجالات موازية ، ابراز وتقدير لأوجه التشابه بين اجزاء الموضوع الذي تطبق عليه القاعدة ، واعتبارها وحدها ذات صلة بالموضوع. وقد تم احيانا الاستعانة بمقارنات مضللة ، مستمدة من ابحاث العلوم الطبيعية ، تتجاهل أو تسيء تصوير الفروق الفردية الحيوية أو تحرف معانيها. كل ذلك من أجل تبرير تصور خاص لمجتمع المساواة ، تصور يظهر اعضاء المجتمع كنسخة واحدة ، مكررة وفاقدة لأي تمايز أو فارق شخصي ، مجتمع يعيش وفق قواعد ثابتة ، تتعارض حديا مع كل تلك العناصر التي ، وحدها ، تعتبر في نظر الرومانسيين ، جديرة بان تبقى وتصان.
هذه اذن ثلاثة اوجه للهجوم على فكرة "القاعدة" التي اعتبرناها أدق وابسط تعريف للمساواة. يجب القول هنا ان اوجه النقد الثلاثة ، قد توصم بانها غير ذات صلة بقضية المساواة كمبدأ أو كمفهوم. لكن التأمل سيظهر لنا انها في واقع الأمر ، ذات صلة بالاعتقاد في المساواة وليست غريبة عنها. دعني أوجز هنا فحوى ما يبدو كمفارقة:
أ) ان الاعتراضات الثلاثة تقرر بعبارات مختلفة ، ما يعادل القول بان القواعد قد تعرضت للخرق ، دونما سبب كاف.
ب) انها تقرر ان القواعد نفسها سيئة أو خاطئة ، أو
ت) ان تلك القواعد سيئة ، لانها ببساطة قواعد.
بين هذه التصورات ، تمثل الاعتراضات المندرجة في البند (أ) أكثر الثلاثة صلة بفكرة المساواة. لأن أي احتجاج ضد الاستثناءات ، هو دعوة للالتزام بالقواعد التي قلنا ان المساواة تعبير من تعبيراتها. اما الاعتراضات التي تندرج في البند (ب) فصلتها بالمساواة قصر على الحالة التي يكون فيها نقد القواعد ، منبعثا من كونها متعارضة مع قواعد أخرى ، تستهدف تحقيق درجة اعلى أو اوسع نطاقا من المساواة. أما الاعتراضات المندرجة في البند (ت) فهي هجوم مباشر على أمثولة المساواة الاجتماعية في حد ذاتها.
الواضح ان امثولة المساواة الاجتماعية ، ليست بمفردها المساواة التي هي نتاج لازم لكل القواعد ، بما هي قواعد (هذا قائم مع انها قد تستمد قوتها ، من اتصالها الوثيق بنظم اخلاقية ، تتضمن في جوهرها عناصر مثل الكونية ، القواعد ، القوانين.. الخ) ، لأنه لولا هذا لما كان بالامكان الاعتراض على القواعد نفسها ، بمثل القول بانها تقود الى التفاوت. وقد سبق الاشارة الى ان هذا احتمال قائم.
فما هي اذن هذه الامثولة؟
( 2 )
المساواة الحقة
Equality Proper
اذا كنت تبحث عن أبسط اشكال المساواة الاجتماعية ، فان مثالها الكامل يتجسد في امنية فحواها: ان كل شيء وكل شخص ، ينبغي ان يكون شبيها قدر الامكان ، بكل شيء آخر وكل شخص آخر. هذا ما نسميه "المساواة المطلقة". كي نستوضح هذا المفهوم بصورة افضل ، دعنا نتخيل عالما يخلو من اي سبب لشكوى المساواتيين ، على اختلاف اصنافهم. دعنا نحاول التعرف على مواصفات هذا العالم التخيلي ، كي نصل الى جوهر مفهوم المساواة الاجتماعية.
اشك ان احدا قد رغب يوما في قيام مجتمع كهذا ، بل أشك في أن احدا افترض أو احتمل ان مجتمعا كهذا يمكن ان يقوم. لكن يبدو لي ان المطالبات بتساوي البشر التي عبر عنها فلاسفة وناشطون ، ركزوا على هذا المبدأ كمحور لاصلاح النظام الاجتماعي ، هذه المطالبات تشكل ما يمكن اعتباره صورة معدلة عن فكرة "المساواة المطلقة" تلك ، وهي فكرة تعتبر ، كما سلف ، مستحيلة وربما غير عقلانية.
في المجتمع المساواتي المثالي ، سوف تتقلص اللامساواة الى أدنى الحدود (اللامساواة ينبغي ان تعني في هذا النموذج ، عدم التماثل).
ان السبب الاعظم للشكوى ، هو التفاوت بين شخص وآخر في سماته الخاصة ، أو في الخيرات التي يستأثر بها دون بقية الناس ، مع انهم جميعا يحتاجونها أو يرغبون في حيازتها في معظم الأحيان. الجميع يرغب مثلا في حيازة الاملاك المادية كالعقارات والمساكن ، كما يرغب في الحصول على النفوذ السياسي والاجتماعي ، المكانة ، الفرص المساعدة على تطوير الكفاءات الذاتية والخبرات العملية (كالتعليم العالي والوظائف مثلا) أو فرص التمتع بالحريات الشخصية والحقوق المدنية والامتيازات من أي نوع .. الخ.
المجتمع الذي كان هدفا لهجوم المساواتيين ، هو ذلك الذي يقوم نظامه على التفاوت العميق بين اعضائه ، بحيث يكون بعضهم أغنى من الآخرين أو أقوى منهم أو أكثر حرية ، المجتمع الذي يملك بعض اعضائه قدرة على حيازة ما شاؤوا ، وحرمان الاخرين من نفس الفرصة. المجتمع الذي يستأثر بعض اعضائه بالسلطة أو النفوذ ، على نحو يضطر البقية لتقديم فروض الطاعة والولاء ، بل والتملق لهم ، بينما يعيش هؤلاء بحسب ما يشتهون ، متمايزين عن بقية الناس ، الذين لا يمكن لهم ان يرتقوا اليهم او ينافسوهم في مستويات العيش المحجوزة لهم دون غيرهم.
يعتقد المساواتيون ان مجتمعات مثل هذه ، تخرق مبدأ "الحقوق الطبيعية" الذي – طبقا لمعتنقيه – يتعلق بكافة البشر لكونهم بشرا وحسب ، أو انها تخرق بعض مباديء العقلانية ، التي يمكن ان تساعد في تبرير تلك الفروق ، مع ان تبرير هذه الحالات يحتاج الى أسباب قوية جدا ، قادرة على احتمال المؤونة الثقيلة لمخالفة الاصل المنطقي ، اي المساواة بين أعضاء المجتمع ، سيما بالطريقة المزعجة التي استعرضناها في السطور الماضية.
مقاربتان: معيار المساواة /اللامساواة بين مبدأ "الحقوق الطبيعية" و "السبب الكافي"
الاشارة الى "الحقوق الطبيعية" تستدعي خلافات واسئلة حول ماهية هذه الحقوق. وثمة خلافات ايضا حول ما يعتبر "سببا كافيا" وما لا يعتبر ، وحول ما اذا كانت الخصائص المذكورة ، من قبيل الاختلاف في الولادة او في لون البشرة او الدين او الثروة ، تعتبر مصادر حقيقية للحقوق المتفاوتة ، أو انها توفر اسبابا مناسبة لنشوء او ترسيخ التمايزات السياسية او الاجتماعية أو غيرها.
ثمة فرق كبير – بطبيعة الحال – بين هاتين الطريقتين في مقاربة الموضوع:
** المقاربة الأولى تنتمي للمؤمنين بالحقوق الطبيعية ، الذين يمتازون بتركيزهم على تثبيت تلك الحقوق ، ماهيتها وكيف نتحقق من وجودها ، ما اذا كانت جميع الحقوق متعلقة بجميع الناس ، أو ان بعضها متاح لبعضهم دون البقية ، كما يركزون على سؤال ما إذا كانت المساواة مرغوبة لذاتها ، بحيث تشمل أيضا حقولا اخرى ، غير تلك التي تعرفنا عليها من خلال نقاشات "الحقوق الطبيعية".
** المقاربة الثانية تنتمي لاولئك الذين يهتمون بالتفسير العقلي. اذا شاء اصحاب هذه الرؤية ان تكون متسقة ، يتوجب ان تؤمن بأن مبدأ المساواة ممتد ، ومنطبق على كافة أوجه العلاقات الانسانية ، من أقصاها الى أدناها. وان تعديل اي قاعدة في هذا الاطار ، ممكنة فقط اذا كان ثمة سبب كاف للخروج عن الأصل. لابد من الاشارة هنا الى ان وجهة نظر هذا الفريق ، قد تداخلت خلال مسارها التاريخي مع آراء دعاة الحقوق الطبيعية واختلطت بها ، بحيث لم يعد من السهل التمييز بينهما.
بالنسبة للمقاربة الأولى ، فليس متوقعا ان تعارض اشكال اللامساواة التي لا تخرق الحقوق الطبيعية ، طالما بقي أتباع هذه المدرسة ملتزمين بدعاواها الاصلية. بخلاف المقاربة الثانية التي ينبغي ان تعارض اي تمايز من أي نوع ، ما لم يقدم سبب كاف لتبريره. من هنا نستطيع القول ان الثانية ، هي التي حازت قصب السبق في الاقتراب من أمثولة المساواة الكاملة. وهو ما اريد التعرض له الآن باختصار.
السؤال الأكثر حرجا إذن هو المتعلق بما يعتبر سببا كافيا ، اي قادرا على تبرير التفاوت ، وما لا يعتبر كذلك. بخلاف هذا السؤال ، فانه لأمر واضح ان المعارضين سيركزون اهتمامهم على أمثلة مثل التفاوت في الثروة أو النفوذ ، اكثر من بقية التمايزات ، رغم وجود أمثلة كثيرة غيرها. لقد جرت العادة على اعتبار التمايز في الثروة والسلطة امثلة بارزة ، لانها تهم شرائح كبيرة من الناس ، وتؤثر على حياتهم بشكل عميق ، يتجاوز – بحسب منطق الأمور – اي نوع آخر من أنواع التمايز الكثيرة.
لكن هذا ليس ضروريا في كل الأوقات. فالأمور لا تجري دائما على هذا النحو. خذ مثلا مدير الاوركسترا ، الذي يتحكم عمليا في عمل كافة أعضاء الفرقة الموسيقية ، أي أنه يملك من السلطة قدرا لا يطاله اي منهم. مع ذلك فان دعاة المساواة الاجتماعية ، حتى أكثرهم تطرفا ، لا ينادون بالغاء سلطة مدير الاوركسترا أو مساواته ببقية أعضاء الفرقة. مع انه ليس ثمة سبب كاف يبرر هذا التفاوت. في الحقيقة ، فان هذه قد حصل فعلا ، اي ان بعض المساواتيين المتطرفين دعا فعليا الى الغاء امتيازات مدير الاوركسترا ، لكن هذا حصل في مناسبات قليلة ومتباعدة فحسب ، ولن نعتبره حجة ذات شأن.
الذين يتبنون فكرة ان المساواة هي القيمة الأعلى في العلاقات بين البشر ، سيعتبرون استعمال مثال الاوركسترا في تبرير التمايز ، مجرد خدعة. ربما يخبرك بعض الناس ان الغرض من عزف الاوركسترا لن يتحقق ، اذا منح العازفون جميعا ، سلطة تساوي سلطة المايسترو ، في تقرير كل خطوة وما يليها.
ان الغاية من عزف الاوركسترا هو ، على وجه التحديد ، انتاج اصوات معينة وفق تسلسل محدد ، وبطريقة معينة ، لا يمكن – في الواقع – التوصل اليه من دون قدر من الانضباط ، الذي ينطوي بذاته على درجة من التفاوت في توزيع السلطة. بعبارة اخرى فان الاختلاف المنضبط ، هو بذاته غرض من اغراض الاوركسترا ، وهو بذاته ينطوي على توزيع للسلطة على نحو غير متساو. اي ان التفاوت شرط لتحقيق الغاية المنشودة من اقامة الاوركسترا.
خيارات مستحيلة
رغم ان الجواب مقنع الى حد كبير ، الا انك لن تعدم مساواتيا شديد التعصب ، يرد عليك بجواب من قبيل: انه ربما يتقبل فكرة ان المساواة في السلطة بين العازفين والمايسترو ، قد يثمر عن معزوفة بائسة ، لكنها أقل بؤسا وسوءا مما يترتب على التفاوت بين الطرفين. واذا كان الحصول على سمفونية باهرة ، مشروطا بالتخلي عن مبدا المساواة ، فقد يكون الافضل ان نتخلى – بدل ذلك – عن الموسيقى نفسها ، كي نصون المساواة.
دعنا ناخذ تطبيقا اكثر جدية. ان التفاوت في المواهب الطبيعية ، أي الصفات البدنية أو الذهنية التي يحصل عليها الانسان بالولادة ، هي عائق معروف للمساواة الاقتصادية. وحتى في المجتمعات التي يتمتع اعضاؤها بمستوى عال من المساواة في الفرص الاقتصادية ، نعرف ان الاشخاص الأكثر قدرة على نيل الفرص أو تحويلها الى مال أو سلطة ، هم اولئك الذين يتمتعون بالقوة والتمكن والطموح ، اضافة الى ذوي الحيلة. هؤلاء على الارجح سياخذون الفرص قبل غيرهم أو اكثر من غيرهم ، بل ربما – في بعض الاحيان على الاقل – يستأثرون بها دون غيرهم.
حين يدرك المساواتي المتعصب هذه الحقيقة ، فسوف يصاب بالذعر. ان المواهب الطبيعية تسببت دائما في توليد تمايزات وحالات من عدم التساوي. هذا أمر يتناقض مع الاعتقاد الراسخ في اولوية المساواة على سائر القيم العليا. ولهذا فهو يتمنى لو استطاع ان يعالج كافة الفوارق ، بمسحها في مصادرها ، أي قبل ان تمسي فعالة على مسرح الحياة.
يعلم المساواتي المتشدد ، بل يعلم العقلاء جميعا ، ان التخلص من كل اسباب التفاوت ، سواء في مصادرها أو في اي موقع آخر ، ليس بالأمر الممكن في واقع الحياة. ولذا فربما اختار حلا يظنه ايسر منالا ، مع انه مستحيل هو الآخر. ربما يفكر -مثلا - في تكييف البشر على نحو يحقق اقصى ما يمكن من التماثل في الخواص الطبيعية ، ومعه الدرجة الارفع من التماثل ، بل التماثل التام ، في السمات البدنية والذهنية ، فهذا هو السبيل الوحيد – وفقا لرؤية المساواتي المتطرف – لصون النظام الاجتماعي من المخاطر التي يتسبب فيها ظهور ونمو عوامل التفاوت ، من أي نوع كانت.
لن نصل الى المساواة الحقيقية في اي نظام جتماعي ، الا اذا انجزنا الدرجة العليا من التماثل بين اعضاء المجتمع ، ليس فقط في المكانة النسبية ، بل في جذور التفاوت ، اي الخصائص البدنية ، الملكات الذهنية ، الحالة العاطفية والعصبية ، والسلوك. حين نصل الى الحد الاعلى من التماثل ، وتنخفض درجات الاختلاف والتمايز بين الناس الى الحد الادنى الممكن ، على كل صعيد شخصي أو اجتماعي ، حينئذ يمكن القول ان المساواة الحقيقية باتت سهلة المنال.
اذا استطعنا اقامة نظام اجتماعي تنعدم فيه الاختلافات ، أو تنخفض الى مستويات قليلة جدا ، عندئذ سيكون ممكنا انهاء أو تقليص اللامساواة في معاملة الناس ، وفوارق القوة والنفوذ ، والتمايز في المكانة أو في الخصائص الطبيعية والمكتسبة. اذا بلغنا هذا الحد ، سيمكننا القضاء على كل أو معظم العوامل ، التي تدفع الناس الى الشكوى من ان غيرهم يملك ما لايملكون ، ومطالباتهم بتقديم اسباب وتفسيرات مقنعة لهذا التفاوت.
مجتمع كهذا سيبدو متماثلا وموحدا. لكننا لا ندري ان كان الناس يرغبون في اقامة نظام اجتماعي من هذا النوع أو لا يرغبون. لا نعلم حقيقة ، لانه لم يقم في اي مكان في العالم في اي وقت ، ولم يسع احد – بشكل جدي – الى اقامته.
- لكن ، بغض النظر عن رغبة الناس في اقامته أو عدمها ، فهل يمكن فعليا اقامة نظام من هذا النوع ، اي هل يمكن انجاز المهمات المذكورة في السطور السابقة؟..
- الارجح انه ليس ممكنا في ميدان الحياة الواقعي ، بغض النظر عن رغبة الناس فيه أو اعراضهم عنه.
المساواتي المتطرف يعرف على الارجح هذه الحقيقة. لكنه ربما يقول: دعنا نصمم مقاربة متحفظة ، كي نبقى على مقربة من القيم الانسانية الضرورية. لكن هذا مجرد امنية. ان تنظيما من النوع السابق الذكر ، غير ممكن من دون اعادة هيكلة للنظام الاجتماعي ، وهذا امر لا يتحقق دون سلطة مستبدة وشديدة التمركز. ونعلم ان سلطة من هذا النوع ، تشكل بذاتها مولدا لدرجة عالية من التفاوت واللامساواة.
يعرف الجميع ان بعض المساواتيين "الجذريين" يتقبلون ، على المستوى العملي ، سلطة من هذا النوع ، باعتبارها أمرا لا مفر منه. وقد برروا – في حالات معينة – سياسات تؤدي لتفاوت فاحش ، وقمع شمولي للعديد من المطالب الانسانية ، واعتبروها تمهيدا ضروريا لانشاء مساواة مطلقة.
ايا كان الامر ، فان الكلفة الاخلاقية والمادية لاقامة مجتمع موحد ، ليست على صلة جوهرية بنقاشنا الحاضر. الذي يستحق التأكيد على الارجح ، هو انه طالما كان البشر مختلفين في خصائصهم وطرق حياتهم ، فسوف يكون ثمة قدر من التفاوت والتمايز فيما بينهم. وهذا يدعونا الى استذكار انه ليس من المتوقع ان يكون المرء مساواتيا صافيا ، ثم يقف موقف المتفرج تجاه اي نوع من انواع التفاوت. بل المتوقع ان يعلن رفضه ، ايا كان العامل المتسبب في ذلك التفاوت. بالنسبة للمساواتي الصافي ، فانه لا يوجد سبب للتساهل مع اللامساواة ، ليس ثمة حجة تبدو له اقوى وامتن من الحجج التي تدعم المساواة ، المساواة التي لا يعتبرها مجرد غاية في ذاتها ، بل الغاية القصوى ، والهدف الاسمى لحياة البشر.
بحسب علمي فان أي مفكر جاد لم يتبن مفهوما للمساواة ، يطابق النموذج المتطرف الذي عرضناه في السطور السابقة ، حيث المساواة تعني أو تستدعي قدرا اقصى من التماثل بين افراد المجتمع البشري. لقد عرضناه في سبيل ايضاح النهاية القصوى للمفهوم ، حين تجرده من أي شرط أو قيد أو قيمة مزاحمة ، كما هو الحال في اي مفهوم قبل ان ينزل من حالته المجردة الى العالم الواقعي.
الغرض من النقاش السابق هو بيان ان كافة أمثولات أو نماذج المساواة ، التي طرحت على المستوى العلمي أو السياسي كمورد للمطالبة أو النقاش ، كانت في حقيقة الأمر تعديلات محددة على ذلك النموذج المطلق. ومن هنا فسوف ترى على الدوام عناصر تشير الى النموذج الأمثل ، اي المساواة المطلقة ، كامنة في كل نماذج المساواة المطروحة في العالم الواقعي. وهو ما يبرز الموقع المركزي لمثال المساواة المطلقة في قلب التفكير المساواتي بكل مساراته.
خيارات ممكنة ، لكنها عسيرة
دعنا الآن نفحص بعض التعديلات ، التي نقول انها ادخلت على نموذج المساواة المطلقة. وسنبدأ بالاشارة الى مبرر هذه التعديلات.
فريق من المفكرين رأى ان السمات الطبيعية للبشر ، ليست مما يمكن تبديله ، بل لا ينبغي التفكير في تبديله ، حتى لو كان التبديل ممكنا. المساواة الضرورية للحياة الانسانية ، ليست في تماثل السمات الشخصية ، بل في الحقوق السياسية والقانونية التي يجب ان يتمتع بها كافة الاشخاص على قدم المساواة.
يحصل المواطنون على حقوقهم المتساوية ، اذا كان النظام الاجتماعي قائما على اساس القيم الديمقراطية ، من قبيل المساواة امام القانون ، ومبدأ المشاركة المتساوية في الحياة السياسية ، المسمى "فرد واحد/صوت واحد =one man one vote "، وحين تستمد الحكومة القائمة سلطتها من الرضا الشعبي العام ، الكاشف على نحو صريح أو ضمني ، عن رأي كافة المواطنين ، أو اكثريتهم على اقل التقادير ، اضافة الى توفر حد اساسي من الحريات المدنية ، التي تعد ضرورية لتمكين الناس من التعبير الحر عن اراداتهم ، واستعمال الحقوق السياسية والقانونية التي يفترض انها توفرت لكل منهم ، في إطار النظام الاجتماعي الضامن للتكافؤ بين كل منهم والآخر.
اذا امكن تحقيق هذا القدر من المساواة ، فانه لا ينبغي السماح للدولة بالتدخل في مجالات الحياة الأخرى (المجال الاقتصادي على سبيل المثال). وهذه الرؤية هي الشائعة بين اتباع المدرسة الليبرالية خلال القرن العشرين.
هذه الرؤية تبدو واقعية الى حد كبير. لكنها لن تسلم من الشكوى والمعارضة. احد الاعتراضات الشائعة ، هي القول بانه في ظل نظام اجتماعي ، يضمن لكافة اعضائه قدرا عاليا من المساواة في الحقوق السياسية والقانونية ، ربما يتمكن الأذكى والأقوى والأكثر طموحا ، من جمع ثروات ضخمة أو تكوين نفوذ في الحياة السياسية "على حساب بقية أعضاء المجتمع". هذا الكلام يعني على وجه التحديد ، ان نجاح هذا الشخص سيؤدي بنحو ما ، الى ابعاد هذه السلع أو الفرص عن متناول بقية الاعضاء ، وان هذا سيقود بطبيعة الحال الى تفاوت صريح بين هؤلاء واولئك.
خلاصة رد الليبراليين على هذا الاعتراض ، ان ذلك القدر من التفاوت أمر لا مفر منه ، ان أردنا نظاما يكفل تساوي الجميع في الحقوق السياسية والقانونية. ان الوسيلة الوحيدة لمنع التفاوت الاقتصادي والاجتماعي ، هي تخفيض مستوى الحريات السياسية أو المساواة القانونية التي يتمتع بها كافة اعضاء المجتمع. الخيار الذي اخذنا به ، يعادل القبول بحقيقة اننا نواجه خيارا صعبا: علينا ان نختار واحدا من طرق عديدة ، في "معاملة الانسان باعتباره واحدا" ، تستطيع "معاملة الانسان كواحد" في مجالات معينة ، اذا اخترتها ، فان مجالات أخرى ستخرج من دائرة الاختيار. بعبارة أخرى فان هناك أكثر من طريقة لتطبيق فكرة ان "كل فرد يحسب واحدا ، وليس أكثر من واحد". وعلينا ان نختار واحدة منها.
اما سبب هذا الخيار العسير ، فهو ان لدينا دلائل تجريبية معتبرة ، تؤكد ان احتساب الانسان واحدا لا أكثر ولا أقل ، في كل مجال ، وبغض النظر عن اي قيد ، هو أمر غير ممكن من الناحية العملية. ذلك ان الدرجة الكاملة من المساواة (دعنا نقول المساواة السياسية والقانونية كمثل) غالبا ما تؤدي الى اشكال من التفاوت في المجال الاقتصادي ، وربما غيره أيضا.
اما سبب هذه النتيجة التي تبدو مثل الحتمية ، فهو اختلاف المواهب والقدرات بين الناس. الحقيقة انه لا يمكن الغاء هذا التفاوت بين البشر ، الا إذا حولت اعضاء المجتمع الى مايشبه الكائنات الآلية (الروبوت) التي تصنع كلها على نسق واحد ، وبرنامج تشغيل واحد ، وتخلو جميعا من الارادة الخاصة والذوق الفردي. ونعلم ان مثل هذا المجتمع لا يريده أحد ، ولا يحلم به أحد بشكل جدي ، مهما كان مقدار المساواة الذي يحققه أو يتمتع به.
المنادون بهذا الرأي (اي المساواة الناقصة)، يقولون ان التفاوت الوحيد الذي ينبغي تلافيه ، هو التفاوت المنبعث من خصائص لا يمكن للأفراد التحكم فيها أو في تأثيراتها. من ذلك مثلا اللامساواة القائمة على اختلاف الخصائص التي يرثها الانسان بالولادة ، مثل اسم العائلة ولون البشرة والجنس والانتماء الاجتماعي .. الخ. فهذه خصائص لم يخترها الانسان بارادته ، ولن يكون قادرا على تغييرها لاحقا حتى لو أراد. من هنا لا يمكن ان نحدد قيمته أو مكانه في المجتمع أو حقوقه بناء عليها.
تؤمن المدرسة الليبرالية بان حرية الحركة قيمة عليا في حياة البشر. وهذه الفكرة بذاتها تتضمن ان الناس جميعا يبدأون في نقطة واحدة ، أي في ظرف سياسي واجتماعي يوفر حقوقا متساوية ، يتنافسون على الارتقاء المادي المتجسد في زيادة الاملاك ، والارتقاء الاجتماعي المتمثل في اتساع شبكة العلاقات الاجتماعية ، وما يترتب عليها من قدرة تأثير. وفقا للرؤية الليبرالية ، فان كافة الافراد يملكون فرصة متساوية للتنافس ، ونيل ما يريدون من خلال استخدام كفاءاتهم الشخصية ، في منافسة حرة. ويؤمن الليبراليون ايمانا عميقا ، بأن الخصائص الطبيعية للافراد ، اي السمات والانتماءات التي تتحدد بحسب ولادتهم ، لا ينبغي أن تؤثر على حقهم في خوض المنافسة ، أو نيل الحقوق أو استثمار الفرص المتاحة في المجال العام.
يبدأ الناس في نقطة واحدة لكنهم يفترقون في الطريق ، فيصل كل منهم الى نهاية مختلفة. هذه طبيعة الأمور. المتوقع طبعا ان بعض الناس سوف يتجاوزون غيرهم. ربما يكونوا اكثر ذكاء أو حرفية من غيرهم ، وربما يتمتعون بمواهب طبيعية لا يتمتع بها غيرهم ، أو ربما يساعدهم الحظ فيكسبون أموالا أكثر ، أو نفوذا أوسع ، أو موقعا أعلى ، بحيث يكونوا في موقع يؤهلهم للتأثير في حياة الآخرين ، أو حتى للسيطرة على مسارات حياتهم (كما هو حال رجال الدولة أو صناع الاقتصاد مثلا). حين يكون هؤلاء في موقع كهذا ، فان الكثرة الكاثرة من اعضاء المجتمع الآخرين ، لن يكونوا في نفس الموقع. وهذا يوضح انه حتى لو بدأ الناس جميعا في النقطة ذاتها ، فانهم سيفترقون في مسارات الحياة ، فيصعد بعضهم ويهبط آخرون.
الحقوق العامة والحقوق الخاصة
يقول المؤمنون بهذه الرؤية أنها لا تتعارض مع مبدأ المساواة. طالما لم يتضمن القانون الأساسي للمجتمع ما يعطي اشخاصا بعينهم أو بصفاتهم ، حق التقدم على غيرهم ، أو يمنع أيا من الاشخاص الآخرين ، من التنافس المتكافيء على اي موقع أو منصب أو مال أو مكانة ، فانه لا يمكن القول ان مبدأ المساواة قد تعرض للخرق ، لأن بعض الناس تفوقوا على غيرهم في الثروة أو السلطة أو غيرها.
هذه صيغة صافية من مجتمع "المبادرة الحرة laissez-faire" الذي يقر مؤيدوه انها يمكن ان تقود الى قدر من التفاوت بين أعضائه. لكنهم يعتبرون الصيغة المذكورة مبررة ، بما توفره من فرص متساوية للجميع ، لكي يفعلوا الشيء نفسه ويحصلوا على الاشياء ذاتها. في مجتمع المبادرة الحرة يستطيع كافة المبدعين اظهار كفاءاتهم ، والتعبير عن طموحاتهم وتحقيق ما يمكن منها ، بما يحقق لهم الارتقاء الوظيفي أو المادي أو غيره.
وفي المقابل فان المحاولات الرامية للاقتراب من المساواة المطلقة ، بدعوى انها تحقق مستوى اعلى من المساواة ، سوف تفتح الباب - شئنا أم أبينا - لمداخلات ربما تخرق مبدأ الفرص المتساوية للجميع.
على المستوى العملي ، يمكن اعتبار هذه المعادلة (المساواة في اطار مجتمع المبادرة الحرة) مساوية للدعوة الى إقرار الحرية على حساب المساواة الشاملة. نتقبل هذا لأن فرضية التوافق بين الحد الاعلى من الحرية والحد الاعلى من المساواة ، في كافة المجالات الرئيسية ، غير ممكنة واقعيا ، ولا يؤمن بها أحد سوى الفوضويين المتطرفين pure anarchists. هذه الفرضية تعتبر خاطئة أو يوتوبية ، وقد تم تفنيدها بالتجربة العملية.
يبدو ان هذا المعتقد على صلة بفكرة التمييز بين الحقوق العامة والحقوق الخاصة ، التي تحدث عنها هربرت ل. هارت ، واشار اليها ريتشارد فولهايم. يمكن لكل منا أن يتصور مجتمعا يصنف أي حق خاص ، باعتباره مثالا عن الحقوق العامة ، أو باعتباره حالة محددة منها. من ذلك مثلا الحقوق المؤسسة على التعاقد ، وتلك الناتجة عن الارث. اما مبرر الفكرة فهو ان مجتمعا كهذا ، يمكن لكل عضو فيه ، في المستوى النظري على الأقل ، ان يدخل في تعاقد ، كما يمكن لاي عضو ان يكون ابا ، أو ان يجمع المال حتى يغدو ثريا. بناء على هذا فان أي حق يمكن ان يحوزه فرد ما ، بناء على خصائص بعينها ، مثل الولادة أو القرابة أو لون البشرة ، هذا الحق قابل لأن يحوزه أي فرد آخر بناء على ذات الخصائص. ومن هنا فان تطبيق هذا المبدأ ، سيؤدي بشكل مؤكد الى إزالة عدد من انواع التفاوت التقليدية.
مثل هذا المجتمع لن يكون بالتأكيد النموذج الذي يتطلع اليه المساواتي المتطرف. سيكون نوعا من المغالطة لو قلنا غير هذا. بيان ذلك: لو سأل أحد من الناس ، لماذا يحمي هذا النظام بعض اشكال المساواة (مثل المساواة الاولية حيث جميع الناس يبدأون – نظريا على الاقل – في نفس النقطة) ولا يحمي الاشكال الاخرى (مثل المساواة الاقتصادية والاجتماعية ، تساوي الناس فيما يحصلون عليه كثمرة لجهدهم الخاص؟.
الجواب هو ان معيار المساواة يقع – بشكل صريح – تحت تاثير عوامل اخرى غير الرغبة الخالصة في المساواة بذاتها. فهو يتأثر بعوامل مثل الرغبة في الحرية ، أو في التنمية التامة للقابليات الانسانية ، أو بسبب الاعتقاد بان البشر يستحقون ان يكونوا أثرياء أو اقوياء أو مشهورين ، بقدر ما يمكن لهم ان يفعلوا لانفسهم. هذه بطبيعة الحال ، اعتقادات وعوامل لا صلة لها بالرغبة في المساواة على نحو مباشر. لكنها – مع ذلك – تلعب دورا مؤثرا في تحديدها وفي كيفية تطبيقها.
هذه هي النقطة التي يتضح عندها ، كيف يتحول مفهوم المساواة من فكرة عامة في الاذهان ، الى حقيقة قائمة في الحياة الاجتماعية. حين يسأل الناس انفسهم: اي نوع من المجتمعات يريدون ، أو ما هي الاسباب الكافية للمطالبة بالمساواة أو العكس ، هل ينبغي لهم ان يطالبوا بصيغة معدلة لهذا المبدأ ، أو يطالبوا بدل ذلك بتجاوزه ، ولو في حالات معينة. هذه التساؤلات واجوبتها ، تكشف كيف ان أمثولات وقيما موازية للمساواة ، لكنها غير ذات صلة بالرغبة فيها ، تلعب دورا محوريا في تقرير الصيغة العملية ، التي ستعطي لفكرة المساواة جسدها المادي الواقعي.
بعبارة اخرى ، فان ما نحصل عليه في غالب الاحيان ، سيكون نموذجا ترسم حدوده على ضوء التزاحم بين تلك القيم والمباديء وبين المساواة التامة.
يمكن رؤية هذا الاتجاه واضحا ، حتى في كتابات الدعاة الأكثر حماسة لنموذج المساواة المطلقة ، أو على الاقل المساواة في أوسع نطاق ممكن. وهو ظاهر بطبيعة الحال في كافة المجادلات المؤيدة للمساواة ، وبالخصوص الفرضية القائلة بان كل ما هو نادر وعزيز المنال ، فينبغي ان يوزع على نحو يضمن أقصى قدر ممكن من المساواة ، ما لم يكن ثمة سبب قوي يستدعي عدم الالتزام بهذا المبدأ. هذي هي الرؤية التي تراها في كتابات المركيز كوندورسيه ، الفيلسوف والسياسي الفرنسي (1743-1794م).
في الحقيقة فان مبدأ المساواة الذي اختاره واضعو إعلان حقوق الانسان والمواطن ، كي يشكل أحد المباديء الكبرى للثورة الفرنسية ، يدين بالفضل لتلك الرؤية ذاتها ، في الصيغة التي اقترحها كوندورسيه ، اذا لم يكن بشكل تام ، فان تاثيرها لا يقل – في أدنى التقادير – عن تأثير جان جاك روسو وبقية المفكرين.
رأى كوندورسيه ان المساواة مبدأ عظيم وضروري للحياة الانسانية الكريمة ولنظام المجتمع على السواء. لكن – مع عظمتها - فهي ليست القيمة الوحيدة ، التي يحتاجها المجتمع الانساني كي ينتظم. من ذلك مثلا انه لاحظ ضرورة ان يكون في البلد حكومة ، يقوم عليها اشخاص متنورون ، وفوق ذلك خبراء ، اشخاص منفتحون على العلوم الجديدة ، بما فيها العلوم التي لم تكن – حينئذ – معروفة ، ولا سيما العلوم المختصة بسلوك البشر مثل علم الاجتماع ، الانثروبولوجيا ، وعلم النفس. وحدهم الحكماء من هذا النوع ، يمكنهم بناء نظام اجتماعي ، يوفر الظرف المناسب لميول العقلاء ورغباتهم كي تتفتح وتعبر عن نفسها ، بدل ان تقمع فتنشر الاحباط ، كما حصل حتى الآن ، بسبب الانحياز والاحكام المسبقة والخرافة والسياسات الغبية.
من البديهي ان النخبة التي تمسك بأزمة الحكم في البلد ، ستكون في موقع يتيح لها التحكم في حياة الآخرين ، اي انها لن تكون متساوية معهم. ولا يختلف الحال لو كانت النخبة الحاكمة عالمة وقريبة من قلوب الناس وهمومهم ، أو انها حصلت على سلطاتها بتفويض من المجتمع. فالسلطات التي بيدها ستكون ، على اي حال ، اوسع واعلى بكثير مما يملكه اي شخص آخر في البلد.
قد يقال انه لا مفر من هذا التفاوت ، ان ابتغينا انشاء نظام يضمن المساواة الحقيقة لأغلبية المواطنين. لكن هذا ليس السبب الوحيد. فثمة غايات أخرى يتوجب انجازها من خلال النظام الاجتماعي ، وهي تزاحم – بنحو من الانحاء – المساواة المطلقة. من تلك الغايات على سبيل المثال: السعادة ، الفضيلة ، العدالة ، التقدم في الفنون والآداب والعلوم ، تلبية الارادات المختلفة المرتبطة بحاجات روحية واخلاقية. المساواة تقف بطبيعة الحال في مقدمة الغايات ، لكنها – في نهاية المطاف – احدى غايات النظام الاجتماعي وليست غايته الوحيدة ، مع علمنا بعظمتها واهميتها.
لا يبدو كوندورسيه منزعجا من السؤال عما اذا كان السعي للمساواة التامة ، سيؤدي الى تزاحم مع المساعي الموازية التي تستهدف الغايات الأخرى. لأنه ، مثل العديد من المفكرين البارزين في هذه الأيام ، اعتبر التسوية بين هذه الغايات أمر ممكنا وبسيطا. لأن الطيبات كلها متوافقة وقابلة للانسجام مع بعضها البعض. بل لعلها تكون – في حقيقة الأمر – متشابكة ومتكاملة.
لا نحتاج للخوض في العوامل الكامنة وراء هذا الاعتقاد الغريب ، الذي هيمن على التفكير الغربي في كل الاوقات. لكن تلك الفكرة تقوم على فرضيتين رئيسيتين هما:
أولا: الرؤية القائلة بان اسئلة السياسة والاخلاق ، تتعلق بقضايا حقيقية factual في جوهرها. ومن هنا فان لكل منها جواب واحد ، منطلق من فرضية حقيقية واحدة (ما لم تكن كذلك فهي ليست اسئلة حقيقية).
ثانيا: بناء على الفرضية الأولى ، فانه لايمكن تقديم جوابين متعارضين على سؤال واحد. ومن هنا فان كافة الاجوبة أو المقترحات ، التي تشرح ما ينبغي وما لا ينبغي فعله ، يجب ان تكون – في الحد الأدنى – متوافقة مع بعضها البعض. بل يجب ان تكون متناغمة تماما بقدر ما تتناغم مع طبيعتها. بعبارة اخرى ، فان الاجوبة المتعلقة بقضية حقيقية ، لا يكفي ان تكون متوافقة فيما بينها ، بل يجب ان تكون مترابطة ومتداخلة مع بعضها ، لأنها تعرف نظاما ، يفترض ان الطبيعة هي التمهيد السابق لقيامه. الطبيعة نظام متناغم متكامل ومتداخل ، واي نظام يبنى على ارضيتها ، يجب ان يكون امتدادا للمنطق نفسه.
قد يكون الشرح السابق عرضا صحيحا لما قلنا انه اعتقاد مهيمن على التفكير الغربي ، وقد لا يكون كذلك. في كلا الحالين فان كوندورسيه لم يفسح مجالا لاحتمال التصادم بين الغايات الانسانية المتعددة. ولعل المهمة تركت للآخرين ، كي يركزوا على حقيقة ان الحياة الواقعية لا تعاش على نحو واحد ، في كل مكان أو كل زمان. الحياة بطبعها تنطوي على تزاحمات بين المثل الاخلاقية المتباينة للمجتمعات المختلفة ، بل ربما تزاحم بين مثل المجتمع نفسه ، اي المثل التي تختلف بين زمان وآخر ، أو ربما بين العناصر والخيارات التي تنطوي في التجربة المعنوية والاخلاقية لفرد واحد.
مثل هذه التباينات والتعارضات لا يمكن حلها دائما ، من حيث المبدأ ، فضلا عن الواقع الفعلي. انها تعارضات ترجع – لو بحثنا عن جذورها العميقة – الى اسباب تجريبية ترتبط بالتبادلات القائمة في المجتمع ، وليست ثمرة لرؤى لاهوتية ، مثل نظرية الخطيئة الاصلية أو المعتقدات القريبة منها مثل النظريات البوذية ، بل ولا تتصل بتلك الرؤى التي تشكك في صلاح الطبيعة الانسانية ، مثل رؤية توماس هوبز أو آرثر شوبنهاور أو ايديولوجيات اللاعقلانية الحديثة.
يترتب على هذا مايلي: حين يسعى الانسان لاقرار المساواة على مسرح الحياة الواقعية ، فسوف يواجه ما يوجد عادة في هذه الحياة من عوامل مزاحمة لارادته ، وبينها رغبات وميول متباينة ، ايا كانت درجتها في التقييم والأهمية ، من قبيل الرغبة في السعادة أو الاستمتاع أو العدالة أو الفضيلة أو حرية الاختيار كغاية قائمة بذاتها ، أو الانماء التام للملكات والقابليات الفردية. حين يواجه الانسان هذه العوامل المزاحمة ، وبينها كما سلف ميول له او حدود لقدراته ، فسوف يختار – وربما يضطر – لمساومة بين المجموع بتقديم الاولى وتأخير الثانية. بعبارة اخرى فهو سيقيم مقارنة بين هذه العوامل ورغبته الأولية في المساواة ، كي يقرر ما الذي سيعطيه الاولوية على غيره. عندئذ يمكن لنا ان نتصور ان غالبية الناس سيختارون غايات متنوعة ، وسوف يقدمون بعضها على حساب الآخر ، تبعا لما يميلون اليه ويفضلونه وقتها. وحده المساواتي المتطرف ، سوف يطالب بان يجري حل هذه التعارضات والتزاحمات ، على نحو يجعل المساواة في المقدمة دائما ، مهما كان الثمن ، ومهما كانت أهمية "القيم" والغايات الاخرى التي جرى تهميشها. اما بقية الناس فسوف يميلون – غالبا – الى تسويات وحلول وسطى.
( 3 )
المساواة والانصاف
زبدة القول هنا ان المساواة قيمة واحدة بين قيم عديدة ، تعتبر كلها ضرورية للحياة الانسانية السليمة والكريمة. مدى توافق المساواة مع الغايات الأخرى ، يعتمد بشكل تام على موقعها في اطار النظام الاجتماعي القائم. ولا يمكن تحديد محلها أو كيفية تموضعها الى جانب القيم المزاحمة ، في قانون عام أو قاعدة واحدة ، على نحو يغطي كافة الحالات. المساواة ليست اقل عقلانية وليست اكثر عقلانية من سائر المباديء المطلقة. بل لعله من الصعب في حقيقة الأمر ، ان نستوعب معنى القول بانها عقلانية أو لاعقلانية.
مع وصولنا الى هذه النقطة ، ربما يدور في ذهن بعض القراء ، اننا قد أحلنا الى الهامش المبدأ الذي دافعنا عنه في اول الامر ، اعني مبدأ أن "كل انسان يحسب واحدا ، ولا احد يحسب اكثر من واحد". لهذا فلعلنا نحتاج لبعض التأمل فيه ، قبل ان نتجاوزه.
ينبغي القول ان المساواة ، من القيم العليا التي لا تحتاج الى تفسير أو تبرير. بل هي مرجع للمباديء الاخلاقية والقواعد الأخرى ، حين تحتاج الى تفسير أو تبرير. مع ذلك فان مبدأ المساواة - مثل سائر المباديء الكبرى - لا يطبق كما هو في صورته المجردة. حين يتحول المبدأ من نظرية مجردة الى قاعدة للعمل في الحياة الواقعية ، فان البشر يتعاملون معه ، باعتباره غاية من الغايات التي يسعى اليها الانسان ، وليس غاية وحيدة ولا حاكمة على كافة الغايات الاخرى ، في جميع الاوقات. ونلاحظ في هذا الصدد ان تطبيق مبدأ المساواة (وبقية المباديء الضرورية للحياة الكريمة) ترتبط ارتباطا وثيقا بالايمان بقواعد عامة للسلوك والعمل ، وهذا الايمان يشكل اساسا للتسليم بما يأتي من التزامات ، في سياق المباديء سابقة الذكر.
قد يبنى هذا الايمان على أرضية دينية أو ميتافيزيقية أو حتى نفعية ، وربما يستمد من حب الانضباط والنظام بما هو. وحين يعبر الانسان عن رغبته في المساواة ، ضمن سياق متواصل مع الغايات والقيم الأخرى ، فان هذا التعبير يتخذ في غالب الاحيان شكل المطالبة بالانصاف. هذا يشير الى الحبل الوثيق الذي يربط بين فكرتي المساواة والانصاف.
دعنا نوضح هذه العلاقة: نفترض ان عددا من الناس يحصلون على منفعة ، مقابل ثمن يدفعه كل منهم بصورة متساوية. هذه اذن قاعدة ، سيحصل الجميع بمقتضاها على نفس المنفعة ، طالما التزموا بدفع الثمن. دعنا نفترض أن احدهم قرر ان يخرق القاعدة ، كي يحصل على المنفعة من دون التزام بالثمن المقابل. في هذه الحالة سيكون ممكنا له الحصول على المنفعة ، بشرط ان يواصل البقية التزامهم بواجبهم. لانهم لو توقفوا عن الدفع فسوف تتوقف الخدمة أيضا.
ربما يقدم الرجل تبريرا ما لخرق القاعدة. لكن مهما كانت طبيعة هذا التبرير ، فان ما فعله يعد عدوانا على مبدأ يحسن ان نسميه بالانصاف fairness. الانصاف هو شكل من النزوع للمساواة لذاتها وبذاتها ، المساواة بما هي قيمة مستقلة.
المثال الذي يوضح الفكرة السابقة ، معروف جدا ومتداول. دعنا نفترض انني دخلت حافلة النقل العام دون ان ادفع الاجرة . وقد تعمدت اخفاء هذه الحقيقة عن سائق الحافلة وعن الركاب الاخرين. لاحقا اعطيت المبلغ الذي احتجزته الى رجل فقير ، الامر الذي أثمر عن تحسن حالته المادية. ربما يقال في معرض المحاججة انه ايا كان الامر ، فان فعلي يعد صحيحا ، من وجهة نظر نفعية.
بيان ذلك: ان الشركة المشغلة للباص ، لن تعلم بما خسرته من عدم دفعي للاجرة (لانها لا تعلم انني لم ادفع). كما ان نقصا تافها في دخلها ، لن ينقص من سعادتها. من ناحية اخرى ، فانه لا ينبغي الخوف من ان اعتاد هذه العادة السيئة ، فلدي وعي بما افعل ، ولدي ارادة قوية ستحول دون تكرار الخطأ. كذلك الحال بالنسبة لسائق الباص ، فانه لن يعاني من الشعور بالاحباط ، لتقصيره في القيام بواجبه (نتيجة لعدم دفعي للاجرة ، لأنه لم يعلم في الاساس بهذه الحقيقة). كذلك الحال بالنسبة للركاب الذين لم يلاحظوا هم ايضا انني لم ادفع الاجرة مثلهم. فعدم معرفتهم بما يجري ، لا يفتح الباب امام السؤال عن امكانية تاثرهم السلبي بالفعل غير الاخلاقي الذي ارتكبته.
محصلة هذا الفعل ، هي ان المبلغ الذي توفر من عدم دفع اجرة الحافلة ، كان سببا في حصول الرجل الفقير على قدر عظيم من السعادة ، قد يتجاوز السعادة التي ربما تتولد لو دفعت اجرة الحافلة الى سائقها.
لكن ، بغض النظر عن الحقيقة الاخلاقية التي فحواها انني دخلت في التزام شبه تعاقدي ، يتضمن ان ادفع للسائق ، وانني أخلفت هذا الوعد. عدا هذا فان فعلي يستحق ان يوصم بانه نقيض للانصاف. لانه سيقال ان قدرتي على الحصول على منفعة (او قدرة الفقير على تحصيل المنفعة) مشروط باستمرار بقية الركاب في التزامهم بنفس السلوك القبلي (اي السلوك الذي خرقته عامدا). لانه لو قرر بقية الناس اتباع سلوك مماثل لما افعل ، فلن يدفع احد اجرة الباص ، وسوف تتوقف خدمة النقل العام تبعا لذلك ، فيتضرر الجميع ، انا وبقية الناس.
يمكن القول إذن ان منفعتي ، تعتمد مباشرة على حقيقة ان الاخرين يواصلون طاعة القواعد ، التي تنطبق علي بنفس القدر الذي تنطبق عليهم. ومن هنا فاني الوحيد الذي سيربح من الاستثناء الذي صنعته لنفسي ولمصلحتي. هذا التخفف من القاعدة لصالحي ، سوف يصنف كعدم انصاف (وعدم شرف ايضا).
يمكن بالطبع تصور احتمال فحواه ان التزامي بعهدي ، اي دفع اجرة الحافلة ، سيؤدي الى حرج اخلاقي كبير (ربما لان الفقير سيكون أسوأ حالا لأني لم اساعده) الامر الذي يجعل الغش أو نقض العهد اقل مؤونة ، من الناحية الاخلاقية. لكن الواضح ان شخصا يتمتع بقدر من الاخلاقيات الاعتيادية ، سوف يكون في قلق شديد حين تسول له نفسه الاقدام على الغش ونقض العهد على النحو المذكور. ليس فقط القلق الذي مبعثه حقيقة انه نقض عهده ، بل أيضا الشعور بأن ما فعله نقيض للانصاف. الواقع ان شعور الانسان بالقلق والارتياب في سلامة فعله في مواقف كهذه ، يمثل أحد المعايير الجوهرية لما نسميه بالحساسية الاخلاقية.
هذه حمولة اخلاقية ثقيلة للانسان السوي. لكن مع ذلك دعنا نفترض أن شخصا قرر تحمل هذا العبء واقدم على الغش. فما هو التبرير الذي سيبني عليه قراره؟.
التبرير الاخلاقي سيعتمد غالبا على الموازنة ، بين الدعاوى القائمة على ارضية المساواة ، وتلك القائمة على أرضيات قيمية بديلة. على أحد طرفي الموازنة سوف تجد قيما مثل وجوب الوفاء بالعهد ، الحاجة الاجتماعية لالتزام كل فرد بكلمته ، وجوب احترام النظام الاجتماعي وحاكمية القانون ، الكراهة الفطرية لعدم الانصاف ، وما الى ذلك.
اما على الجهة المقابلة من الميزان ، فقد ترى عوامل من قبيل افضلية تعظيم السعادة (سعادة الرجل الفقير في المثال المنظور) ، أو افضلية تحاشي البؤس والتسبب فيه ، دعوى الميل الى نمط رومانسي كأسلوب أو رؤية للحياة ، وما الى ذلك. هذا النوع من الاعتبارات نفسه ينطبق ايضا ، حين نقوم باستثناءات من القواعد ونبررها بأسباب غير كافية أو جيدة. ان جودة السبب أو كفايته ترجع الى مقدار ما نوليه من اهمية أو قيمة للاغراض والدوافع ، التي نعرضها كتبرير لتلك الاستثناءات. ولهذا فمن المتوقع أن تتنوع التبريرات ، بقدر ما تتنوع القناعات الاخلاقية لمختلف الأفراد والمجتمعات.
ربما اميل الى تفضيل القابلية والانجاز ، على الشرف ولطف المعاملة – من باب المثال – إذا وجدت هاتين الصفتين متلازمتين مع الغباوة أو الفشل أو الخيبة. لكن ليس من المستبعد ان يميل أناس غيري الى اعتبار هذا خطأ ، وان السلوك المناقض له هو الصحيح من الناحية الاخلاقية.
ربما يعتقد بعضنا ان من الحسن – اخلاقيا – ان نكافيء المتحدرين من عائلات عريقة ، وكذا حملة الالقاب النبيلة. وربما يظن هؤلاء أيضا انه من الافضل حرمان الزنوج ، من بعض الحقوق التي يحصل عليها بشكل تلقائي ابناء انجلترا. ولو سألتهم عن مبرر هذا وذاك ، فربما يخبرونك انهم يرون المجتمع الذي تقبل هذا العرف واعتاد عليه ، اكثر انسجاما واستقرارا ، بل ربما يعتبرون ذلك الفعل منسجما مع تعاليم دينهم ، أو مع قناعاتهم الغيبية حول بنية الكون أو سنن التاريخ.
في المقابل ، سوف تجد أشخاصا يستنكرون هذه الاعتقادات ، ويشجبون اي مجتمع يقرها أو يتقبلها ، باعتبارها نقيضة لمبدأ المساواة. حين تبحث عن العوامل الكامنة وراء هذا الموقف ، فقد تجد ان صاحبه ينطلق من رفض مسبق لديانة الفريق الأول أو انكار لقناعاته الميتافيزيقية ، أو ربما لأنه يرفض تفسيرات أولئك الناس لدينهم أو معتقداتهم ، اي انه يرى تلك التفسيرات خاطئة. أو لعله يعتقد ان مجتمعا بني على هذه المعتقدات سيكون سيئا في الجوهر ، أو مضطربا على المستوى السياسي ، أو ربما لأنه شديد الحماس لمبدأ المساواة بذاته ولذاته ، حتى مع علمه بان الاغفال التام لمبررات الفريق الأول ، ربما يقود الى عواقب سلبية ، يعتقد الفريقان انه من الافضل تفاديها.
لقد عرضنا أمثلة متطرفة نوعا ما ، من اجل توضيح الأبعاد النهائية للفكرة. اما على المستوى الواقعي ، فثمة طرق عديدة يمكن لهذا التباين في الرأي ان يتمظهر من خلالها: قد تجد شخصا أو طائفة أو حزبا ، يميل لقيمة المساواة حين تطبق في مجال معين من مجالات الحياة ، مثل العلاقات الاجتماعية أو القانونية أو المكانة القانونية للافراد ، لكنه يتجاهل ما قد يترتب عليها من عواقب اقتصادية. أو ربما تجد شخصا أو جماعة أخرى تعطي المساواة على مستوى البنية الاقتصادية ، الدرجة الأعلى من الأهمية ، لكنها لا تعير اهتماما لغياب المساواة في الجانب الاجتماعي أو القانوني ، طالما لم يتضرر البعد الاقتصادي. وبين هذا وذاك قد تجد من يتقبل الاستثناءات التي تمنح لأصحاب المواهب والكفاءات المتميزة ، لأنها قابلة للتبرير بناء على ما تولده من مكاسب للمجتمع.
بعض الناس يرون هذا مقبولا ، وبعضهم يعتبرونه غير منصف. لكنهم – مع ذلك – يؤمنون ببعض انواع التراتب الاجتماعي الطبيعي ، كما فعل ادموند بيرك. هؤلاء يدعون الى مساواة كاملة في التعامل مع الناس ، ضمن التراتبية القائمة: كل شريحة بحسب درجة السلم التي تقيم فيها. ويعتبرون هذا النموذج اكثر انسجاما مع النظام الطبيعي للعالم ، والفرصة الوحيدة لمساواة صادقة. ومن هنا أيضا فهم يرفضون بكل اصرار وجهة نظر المساواتيين ، التي تنكر وجود درجات أو سلالم ، أو اي تراتبية من هذا النوع في الطبيعة ، أو تعتبرها غير ذات صلة بالنظام الاجتماعي ، وبالتالي فهي لا تصلح كنموذج للتطبيق أو المحاججة.
مثل ثان من زاوية مختلفة: يحدث غالبا ، ان شخصا ما يقر بأن القانون يطبق على نحو منصف ، اي انه يراعي مبدأ المساواة. لكنه في الوقت نفسه ، يشكو من ان القانون ذاته سيء أو جائر ، في حالة كهذه سيكون من العسير علينا ان نتأكد من حقيقة مراد الرجل ومقصوده.
ربما يرغب هذا الناقد في القول ، بأنه كلما كان تطبيق القانون المشار اليه أكثر انصافا ، كلما تراجع مبدأ المساواة الاوسع ، الذي يؤمن به. هذا يشبه تماما ان يطبق قانون مبني على قاعدة التمييز بين الملونين والبيض ، أي يحترم على نحو دقيق مبدأ المعاملة المتساوية بين أعضاء كل فئة ، ضمن إطارها الخاص. من هنا فان هذا القانون ، ولهذا السبب تحديدا ، يشكل بذاته سبب اللامساواة بين الاشخاص البيض ونظرائهم الملونين.
ربما تكون لدى الناقد اسباب اخرى للشكوى. قد يقول ان هذا القانون يخرق قيما أخرى غير المساواة ، أو أنه يتسبب في البؤس ، لأنه يحبط الموهوبين ، أو ربما يتسبب في اضطراب اجتماعي ، أو ربما لأن المساواة التي يهتم بها القانون تتجه لأمور لا يعدها الناقد ذات أهمية ، بينما يهمل المساواة في الأمور التي يعدها مهمة في الحياة (درجة الاهمية تتقرر بالقياس الى قيم غير المساواة) ، أو لأن القانون يغفل تعاليم الدين ، أو بالعكس ، لأنه يستجيب لتعاليم الدين ، أو لان القانون غامض أو عسير الفهم أو صعب التطبيق ، أو لأي سبب آخر من عشرات الاسباب المحتملة ، وربما – وهذا هو الشائع – لأن ذلك القانون يعتمد نوعا معينا من المساواة على حساب نوع آخر ، لا يختلف عن نظيره الا بقدر بسيط.
إشكال فولهايم: في المثال البارع الذي ضربه فولهايم ، نجد مجتمعا يضمن حقوقا متساوية لكافة أعضائه ، بما فيها حق التصويت المتساوي لكل شخص ، على قاعدة: شخص واحد ، صوت واحد. لكن الذي حدث ان كل شخص صوت لصالح غاية بعينها ، على خلاف تصويت كل شخص آخر ، ماعدا اثنين من اعضاء المجتمع صوتوا دائما لنفس الغاية (التي لم يصوت عليها غيرهما). في هذه الحالة سنجد – نظريا على الأقل - ان التصويت سيكون دائما في صالح هذين الشخصين ، لسبب بسيط وهو ان كافة الاعضاء الاخرين ، صوت كل منهم لغاية ارادها وحده ، ولم يردها احد معه.
في حالة كهذه ، فان ما نعترض عليه ليس عدم المساواة في هذا النظام ، فمن الواضح انه يضمنها تماما ، سواء في المعنى القانوني أو السياسي. عدم الانصاف الذي يتحدث عنه فولهايم ، ناتج عن ادراكنا بأن الاغلبية الساحقة من الناخبين ، سيجدون انفسهم خاسرين على الدوام. نحن نريد ان نرى درجة من المساواة ، ليس فقط المساواة في الاختيار ، بل ايضا المساواة في الرضا.
سوف نعتبر النظام اكثر انصافا لو تبنى طريقة لتنظيم الفرص مثل "القرعة" ، من اجل مساواة فرص الفوز بين مختلف الأطراف ، فهذا سيمنع على اي حال ذلك النوع من الاحباط المنتظم. ان نظاما يمكن كل فرد من ان "يصنع يومه" ، ينبغي ان نعتبره اكثر انصافا.
يكشف المثال إضافة الى ملاحظتنا ، عن نزاع نمطي بين نظامين ، يدعي كل منهما انه يستجيب لمعايير المساواة ويرسخها في الممارسة.لكنهما يختلفان اختلافا بينا في كيفية تحقيق هذه الغاية. الواضح ان النظام الاول (شخص واحد/صوت واحد) يحقق المساواة من خلال منح الجميع فرصة متساوية للتاثير في القرار العام. بينما يهتم الثاني بالتوزيع المتكافيء للخيرات ، اي ان يكون لكل فرد فرصة في الحصول على نصيب مما يتوفر ، وليس فقط فرصة المنافسة عليه. يهتم الأول إذن بالوسيلة بينما يهتم الثاني بالنتيجة.
على نفس النسق ، يتضح اننا امام تعارض بين فريقين: فريق يفهم المساواة باعتبارها عدم التمييز بين الناس في النشاطات الانسانية التي تعتبر مهمة ، والمقصود هو التمييز الذي مرجعه اختلافهم في الخصائص غير القابلة للتبديل ، مثل الأصول او السمات البدنية وأمثالها. من ذلك مثلا انهم يعارضون التمييز بناء على اختلاف الاصول العرقية أو الجنس او لون البشرة ، وأمثاله.
اما الفريق الثاني فينكر هذا المعيار باعتباره غير كاف ، ويدعو بدلا منه الى صون المعاملة المتساوية من أي تأثير لأي عامل ، وليس فقط الخصائص غير القابلة للتبديل. ومن هنا فهو يعارض التمييز بناء على الخصائص المتغيرة أيضا ، مثل الرؤى الدينية او السياسية أو العادات الشخصية وأمثالها.
حين نختار حلا ، فاننا نختار ما يبدو لنا حاويا لمزيج من الحلول الفرعية أو العناصر ، بعضها يعالج ما نحتاج اليه وبعضها يلبي مانرغب فيه ، أو يقصي عوامل أخرى غير مرغوبة. الحق ان دخول اعتبارات الانصاف في عمليات التحليل الدقيقة للنظم القانونية (وبالتالي تاثيرها على الاستنتاجات) تكشف عن رغبة في التزام مباديء العدالة ، التي لا نستطيع دائما تحليلها والتحقق منها على نحو دقيق. مثال ذلك اننا نعلم ان مبدأ "كل فرد يحسب واحدا" له دخالة مؤكدة في مجال التشريع القانوني ، لكننا لا نعلم حقا هل سيتجسد هذا المبدأ على هيئة حقوق متساوية لكل فرد ، ام على هيئة مسؤولية عن الأفعال ، ام كمساواة توزيعية (في الحصول على المنافع مثلا) أو في هيئات ومجالات أخرى ، مع علمنا بان تمثله في كل من هذه المجالات ، سيؤدي الى تعارض من نوع ما مع المجال الآخر .
بطبيعة الحال فانه حتى في موضوعات الانصاف ، فان مبدأ "كل فرد يحسب واحدا" لا يطبق دائما بشكل حرفي. في غالب الاحيان ، بل ربما في جميعها ، يتعرض المبدأ اثناء التطبيق ، لتعديلات تفرضها عقائد أو غايات أخرى ، بحيث لا يعود الناتج مبدأ مفردا ، بل مزيج أو منظومة ، تتناسب مع النظام الثقافي أو الاخلاقي الخاص بالمجتمع ، أو ربما تتناسب مع رؤية مفكر بعينه.
وأخيرًا ، يجب ألا ننسى الاشارة الى تلك الفئة ، التي يعارض افرادها أي قاعدة ، بما هي ، وبغض النظر عن طبيعتها وغرضها ، ويرغبون بدل ذلك في مجتمع لا يحكمه القانون ، بل يدار وفق الارادات الشخصية لزعيم ملهم ، أو ربما بحسب الحراك المتولد عن روح الشعب Volksgeist مما لا يمكن تقديره مقدما. أو رسالة العرق أو الدين أو الحزب.
هذا التوجه يساوي رفض القواعد التي تحدد سلفا ، ما الذي ينبغي فعله وكيف. ومن هنا فهي أيضا ترفض اعتبار مبدأ المساواة غاية سامية بذاتها ولذاتها. مع ما يبدو عليه هذا التوجه من غرابة ، فانه لا ينبغي الظن انه نادر الحدوث أو قليل التأثير ، كما افترض بعض المفكرين الليبراليين والاشتراكيين.
لقد نجحت اللاعقلانية الرومانسية ، بسهولة في بعض الاحيان ، حين نازعت المباديء السائدة في التقاليد الغربية ، كالمساواة والعدالة والحقوق الطبيعية ، أو الاصرار على حد أدنى من الحريات المدنية ، كضرورة لحماية الانسان من المهانة والاستغلال.
انني اذكر هذا لا لسبب ، سوى التحذير من النظرية القائلة بان المعاملة المتساوية لمن هم في حالة متماثلة ، لا تحتاج الى دليل مستقل لاثبات صحتها ، وان المعايير الصحيحة لتشخيص التماثل المشار اليه ليست مما يتطرق اليه الشك ، أو ينطوي على تعارض داخلي ، بل هي – بحسب اصحاب هذه الدعوى – مسلمات عند العقلاء ، أو هي من عمل العقل الطبيعي الذي لا يحتاج الى تبرير ، بل هو بديهي ، دليله في داخله ، وهو أحادي الوصف والجوهر ، يسهل تمييزه عن غيره ، مثلما نقول ان ذلك الشيء الأحمر مختلف عن الآخر الأبيض ، أي ان معيار التمايز هو الجوهر الخاص بكل منهما ، ولذا لا يحتاج التمايز الى اثبات. والحقيقة ان هذا أبعد ما يكون عن مدعاه.
وأغتنم هذه المناسبة للاشارة الى ان الافهام والمفاهيم المتعددة للمساواة ، هي انعكاس للتعددية القائمة في المدرسة الليبرالية ، وفي الفلسفة السياسية والاخلاقية بصورة أعم. ان هذا يكشف عن ثراء وتكثر النقاش والاستدلال في المسألة ، وليس العكس كما تصور بعض المفكرين. ان التقلبات المستمرة للمباديء الليبرالية ، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين ، ترجع – جزئيا فيما يبدو – الى الفرضية الهزيلة القائلة بان من يرفض مبدأ المساواة ، انما يرفضه بسبب جهله أو مراهقته الفكرية أو ضيق أفقه. لقد أوضحنا في هذه الورقة ان معارضي الفكرة ، مثل مؤيديها ، لديهم أدلة ، ولهم حق لا شائبة فيه في اتباع أدلتهم.
الإيمان بالمساواة - الإنصاف ، أي الرؤية التي فحواها أنه لا يجوز تفضيل فرد على فرد ، الا اذا كان هناك مسوغ قوي بما يكفي ، لتبرير الانحراف عن القاعدة ، هذا الايمان عميق الجذور في الفكر الانساني. وقد اندمج في العديد من النظم الفكرية ، من النظريات النفعية الى نظريات الحقوق الطبيعية ، مرورا بالعقائد الدينية المختلفة. رغم هذا الاندماج لم يخسر مبدأ المساواة قوامه الخاص. ولذا فمن الممكن القول ان بالامكان تشخيصه ، رغم اندماجه في هذا النظام الثقافي أو ذاك.
نشير أيضا الى ان دخول المبدأ في هذه الانظمة ، لايرجع بكليته الى عوامل منطقية. ثمة عوامل اخرى قد تكون أكثر تأثيرا ، من بينها الألفة النفسية ، أو لأن أتباع تلك النظريات آمنوا بمبدأ المساواة لذاته (ربما لأنهم يكافحون من اجل الوحدة والتماثل ، التي تتصل بجذور تلك المعتقدات) ، ومن هنا اعتبروا ان مجتمعا يتوسع في تطبيق مبدأ المساواة ، سيكون اعلى قيمة من ذلك الذي يضيق به.
لو أخذنا مذهب المساواتية الى نهاياته المنطقية ، فانه في الحد الأقصى يتطلب: أ) تخفيض كافة اشكال الاختلاف بين الناس الى الحد الأدنى. ب) وضع سقف لعدد التمايزات الممكنة فيما بينهم. ت) اعلى درجة ممكنة من التماثل والتوحد في نمط معيشي واحد. لأن اي اختلاف أو تمايز ، يمكن ان يسوغ أو يقود الى التمييز في المعاملة.
إن امثولة المساواة المطلقة غير مقبولة في عامة النماذج السياسية القائمة ، لسبب معروف ، خلاصته ان هذا المثال ، في اطلاقه ، يتعارض بشكل حدي مع قيم أخرى تماثله من حيث أهميتها أو ضرورتها للنظام الاجتماعي. الواقع ان معظم الرؤى الاخلاقية والسياسية التي نطبقها في حياتنا ، جاءت نتاجا لأشكال من المساومة الصعبة ، بين العديد من المباديء والقيم التي لا يمكن تطبيقها بمفردها ، أو لا يمكن ان تتعايش معا في صورها المطلقة. من المعتاد ان يلجأ الناس الى تسوية بين هذا المبدأ وذاك ، كي يتمكنوا من تكييف حياتهم مع الحد الأعلى الممكن من مجموع القيم والمباديء ، التي يؤمنون بفائدتها أو ضرورتها.
زبدة القول ان المساواة واحدة من أقدم وأعمق العناصر في الفكر الليبرالي. وهي طبيعية وعقلانية مثل بقية العناصر والقيم التي يتألف منها هذا الفكر ، لا تزيد عن البقية ولا تقل عنها في هاتين الصفتين. ثم ان قيمة المساواة ، مثل بقية القيم العليا والغايات الكبرى للبشرية ، لا يمكن تبريرها أو الدفاع عنها بذاتها ، بل هي – كما أشرنا في صفحات سابقة – مرجع ومعيار للبرهنة على صحة الافعال والوسائل التي تستهدف تحقيق الغاية ، اي المساواة.
ثمة كثير من السياسات العامة والرؤى الحياتية ، لا تتلاءم بذاتها مع المساواة. لكنها أفلحت في النفاذ تحت ردائها في بعض الاحيان ، مستخدمة – كما رأى فولهايم – قدرا من النفاق والتخليط ، حيث يختلط عرق مساواتي صاف باخلاط عديدة اخرى ، تجعله بلا فائدة. لا اعتزم تفصيل الحديث في هذا الجانب. ان اكتشاف وعزل عرق المساواة السليم عن باقي الاخلاط الضارة ، عمل يرجع الى مؤرخي الافكار ، وهو خارج اطار الغرض المحدد لهذه الورقة.