23/02/2009

الانصاف .. لا شيء سوى الانصاف


ابسط ما نتوقعه من الوزراء والمسؤولين الذين تولوا مناصبهم اخيرا هو ارساء مبدأ الانصاف في التعامل بين اداراتهم وبين المراجعين. لا نطالب الوزير بمتابعة المعاملات ، وحتى لو اراد فلن يفعل الكثير . 99 بالمئة من المعاملات الحكومية تجري في المستويات الوسطى والدنيا من الادارة ، ولهذا فان تحسين مسار العلاقة بين الوزارة والمراجعين يتركز في هذين المستويين .
ما ندعو اليه ببساطة هو ان يصدر الوزير قائمة بحقوق المراجعين تقابل بالتحديد ما هو مطلوب منهم . لا نتحدث هنا عن قائمة بالنصائح الاخلاقية والاداب المتوقعة من الموظفين ، بل بالحقوق المستندة الى وصف قانوني واضح . حين تعترف للمراجع بالحق في شيء ، فانت تجرم كل من خرق هذا الحق وتفرض عليه عقوبة ، وتحدد جهة مرجعية تتولى تطبيقه. دعنا نأخذ مثالا : حين تتقدم الى المحكمة طالبا اثبات ملكية ارض او بناء مثلا ، فهم يفرضون عليك معايير محددة يعرفها المهندسون والمحامون ويجتهدون في الالتزام بها قبل تقديم المعاملة . لكنك تجد فيما بعد ان هناك مطالب اخرى مثل موافقة البلدية وربما وزارة الزراعة والمالية واذا كنت في المنطقة الشرقية فسوف يطلبون منك موافقة شركة ارامكو وربما غيرها ايضا .

 يتوقع المراجع ان تجرى هذه الامور كلها في ظرف شهر او شهرين خاصة اذا كان ذا همة وذهب بنفسه لمراجعة هذه الدوائر. لكنه يكتشف لاحقا ان الوقت مفتوح ، بمعنى انه قد يستغرق عاما في الحد الادنى وقد  تتضاعف حتى يخسر المراجع من الوقت والجهد ما يعادل قيمة الملك الذي يريد اثباته . الطريف في الامر ان بعض الدوائر مثل البلدية لا تكلف نفسها عناء الموافقة او الرفض رجوعا الى دفاترها الخاصة ، بل تطلب ارسال لجنة من ذوي الخبرة يعينهم عادة عمدة المحلة او القرية ، وهذا يتطلب دفع مبالغ  لهؤلاء ، غير محددة ولا يوجد لها اساس قانوني ، وتتناسب عادة مع حجم الملك وقيمته في السوق. لا تستطيع التملص من هذه الفقرة الا اذا كنت مستعدا لشكاوى ومناقشات تطول شهورا اضافية .

اذا عارضت هذه الاجراءات فسيرد عليك مسؤولو الدوائر بان هدفها هو حماية حقوق الدولة ، وهذا تبرير حسن . لكن ماذا عن حقوق المواطن صاحب المعاملة ؟. وماذا عن القيمة الاقتصادية للزمن والجهد الذي يبذله؟. نحن نجد ان الاصل عند كل دائرة هو ضمان حقوقها كاملة واجبار المواطن على الالتزام بما تقرره لضمان تلك الحقوق ، فماذا عن واجباتها ؟. اذا كنا نتحدث عن الانصاف ، فان الانصاف يقتضى الموازنة بين الطرفين ، بالغاء الاجراءات والمطالب غير الضرورية وتقديم بديل عن المطالب المكلفة . والاهم من كل ذلك هو تحديد وقت لانهاء المعاملات . يستطيع الوزير مثلا ان يقرر ان رخصة البناء يجب ان تصدر في موعد اقصاه اليوم السابع من تاريخ تقديمها . او ان اثبات الملك يجب ان لا يتاخر عن ثلاثة اشهر وان على الدوائر الاخرى ان تقدم سلفا المعايير التي تريد تطبيقها في الموافقة والرفض بحيث لا يضطر المواطن الى اللهاث وراء هذه الدائرة وتلك.

اصدار قرار من هذا النوع ربما يكون عسيرا في ظل التقاليد الادارية السائدة ، لكنه سيكون ممكنا وسهلا لو بدانا بمراجعة الاجراءات وحذف ما هو غير ضروري منها . وهناك قطعا الكثير من الاجراءات في معظم الدوائر لا داعي لها اصلا ، ومنها ما هو تكرار لاعمال يقوم بها اخرون ، ومنها ما يرجع الى ازمان قديمة ولم يعد له موضوع ولا فائدة.

اتمنى ان يبدأ الوزراء الجدد بحصر جميع التعليمات واللوائح الخاصة بمعاملات المواطنين واعطائها الى لجنة خبراء مهمتها المحورية هي حذف الزوائد والمكررات والاجراءات المعطلة ، ثم اصدار لائحة بحقوق المراجعين والجهة المكلفة بالبت فيها عند الشكوى . ستحقق هذه الخطوة قدرا من الانصاف في التعامل بين الوزارة والجمهور ، واذا نجحت فسيكون للوزير الحق في الفخر بانه كان حقا رجل التغيير 
.
عكاظ 23 فبراير 2009

19/02/2009

على الدولة ابقاء الامل في التغيير


 لا يتوجب على الدولة ان تعطي كل فرد ما يريد ، ولا يتوجب عليها ان تضمن الرضى الشخصي لكل مواطن عن اعمالها . لكن يتوجب عليها بالتاكيد ان تبذل الغالي والنفيس كي تحافظ على الامل في التغيير . الامل في التغيير هو الذي يجعل عامة الناس مستعدين للتعاون مع الدولة وراغبين في تحمل مسؤولياتهم كمواطنين مهما كانت ثقيلة او بغيضة. حين يتلاشى الامل ويحل اليأس في نفوس الناس تخرج الدولة من قلوبهم ، وتصبح القلوب جاهزة لتلقي بدائل اخرى ، لان الانسان لا يستطيع العيش من دون انتماء او من دون امل في شيء ولو كان خرافة.
في بعض الحالات يتولد اليأس لان مواطنا فشل في استعادة حقه من خلال الاطارات القانونية. وينتج عن ذلك تلاشي هيبة القانون والدولة ، وتنامي الشعور بان البلاد قد تحولت الى غابة لا يستطيع العيش فيها الا من يأخذ حقه بيديه . حين يشعر الناس بان الامر على هذا النحو سيبحثون عن مصادر قوة خاصة ، فمنهم من يلجأ الى قوة المال ، كأن يدفع رشوة للوصول الى حقه . واذا نجح في ذلك فسوف يدفع رشوة ثانية لاستلاب حق الاخرين.

في حالات اخرى يتولد اليأس لان الدولة لم تف بوعود سابقة للاصلاح . ومع تكرار ذلك او تطاول الفارق الزمني بين اصدار الوعد وبين الوقت المتوقع للوفاء به ، سوف يتبلور شعور بان الدولة تعاني من خلل بنيوي يمنعها من الوفاء بوعودها وان هذا الخلل ليس قابلا للعلاج . وبالتالي فان كل امر آخر يعتمد عليه سيبقى وعدا فارغا او مستحيل التنفيذ.  حين يشعر الناس بان الامر على هذا النحو فسوف يبحثون عن كبش فداء يلقون عليه بالمسؤولية عن العجز او الخلل . بعض الناس يركزون انظارهم على اصحاب القرار وسينظرون اليهم باعتبارهم غير متعاطفين مع مطالب المواطنين وحاجاتهم . او ربما سينظرون اليهم كاشخاص ضعفاء وجدوا انفسهم في مكان لا يستحقه غير الاقوياء.

في حالة ثالثة يتولد اليأس لان الدولة او بعض اجهزتها تمارس تمييزا واضحا وقابلا للملاحظة والاثبات بين الشرائح او الطبقات المختلفة . او حين تتباطأ الدولة في تصحيح الفوارق بين تلك المجموعات ، او تتهاون في منع التمييز الذي ربما تمارسه فئة قوية ضد الفئات الضعيفة .. الخ . ويحدث هذا عادة في الاقطار التي يتألف شعبها من مجتمعات متعددة ذات انتماءات عرقية او ثقافية او طبقية متفاوتة ، او حين يكون في البلاد اقليات لا تستطيع التمثل بصورة مناسبة في جهاز الدولة الاداري والسياسي ، بسبب الحواجز اللغوية او الدينية او المعيشية او العرقية التي تميزها عن الاكثرية.

 في كل هذه الحالات يتبلور الشعور الاقلاوي لدى تلك الشريحة من المواطنين التي تعاني من التمييز . الشعور الاقلاوي – نسبة الى الاقلية – ليس بالضرورة دليلا على ان هذه المجموعة او تلك تقل عن غيرها من حيث العدد ، بل هو حالة ذهنية مصدرها الاساس هو الانفعال بالمحيط ، لكنها تتطور الى حالة ثقافية وسلوكية متعددة الاوجه والمبررات ، قابلة للتمظهر في سلوكيات فردية او جمعية ذات طابع انعزالي او عدواني في العموم.

ربما تكون هذه الحالة هي اخطر الحالات الاجتماعية في الوقت الحاضر ، بالنظر الى الاتجاه السائد في العالم اليوم ، والذي يطلق عليه الباحثون الاجتماعية "انفجار الهوية". وهو تعبير عن اتجاه متعاظم لدى المجموعات البشرية المتمايزة عن غيرها بعرق او ثقافة او انتماء خاص ، الى التعبير المركز ، بل والمتشدد احيانا ، عن ذاتها وخصوصياتها ، والتركيز على الفوارق التي تفصلها عن غيرها . هذه الحالة خطرة جدا لانها قد تغذي يأسا من الوحدة الوطنية ينقلب الى رغبة في الانفصال الاجتماعي وتاكيد على التمثيل الخاص مقابل التعبيرات الوطنية او التمثيل ذي الطابع الوطني .

لكل من الحالات الثلاث مخرجات متفاوتة الخطورة ، لكن ابرز مخرجات الحالة الاولى هو شيوع الفساد المالي والاداري وتطبيعه . وابرز مخرجات الحالة الثانية هو تبلور الاتجاهات العنفية والانشقاقية المتطرفة ، كما ان الحالة الثالثة تنتهي عادة الى تطلع الى الخارج باعتباره مصدرا محتملا للتعاطف والتاييد.

كل هذه المخرجات خطيرة ومخربة ، لكنها جميعا قابلة للعلاج ، ليس بالوعظ والارشاد وليس بالشجب والتنديد ، بل باعادة الامل الى نفوس الناس . ربما يتوقف الامر على مبادرات فعالة او ربما يتوقف على اجراءات ذات قيمة رمزية ، تعيد للناس الامل بان حكومتهم لم تنسهم وانها ليست عاجزة ولا فاشلة.

12/02/2009

هل الديموقراطية فعلاً بضاعتنا التي رُدَّت إلينا؟



النموذج الإيراني بين ولاية الفقيه والقانون الوضعي والحكم الثيولوجي
ملاحظات على كتاب "حدود الديمقراطية الدينية"

بقلم معمر عطوي

ربما كان الكاتب توفيق السيف، موفّقاً أكثر في اختياره لعنوان كتابه «حدود الديموقراطية الدينية»، لو أنه أضاف عبارة «نموذج إيران». ذلك أن الحديث عن التجارب السياسية الثيولوجية، فضفاض بحجم ما تتّسع له من تجارب لكل منها خصوصيتها، واقترابها أو ابتعادها عن قيم الديموقراطية. وإذا ما اقتصرنا في بحثنا على معالجة الإسلام السياسي كتجربة دينية، لوجدنا أن التجربة الإيرانية فريدة من نوعها، لجهة توظيف صور الديموقراطية في المشهد السياسي بما يخدم «الفكرة الأسمى»، وهي الحفاظ على البعد الميتافيزيقي للحكم، وارتباط الحاكم بالمقدّس، كشرط إمكان ضروري لإسباغ المشروعية اللاهوتية على الأداء السياسي.

 
طبعاً، هناك العديد من التجارب الدينية التي تحاول إيجاد مساحة من التعايش بين حاكمية الله واختيار الشعب. وهناك من يحاول أن يجعل من مبدأ الشورى السائد في التراث الإسلامي، نمطاً شبيهاً بالديموقراطية. على ما يقول رئيس حركة النهضة الإسلامية في تونس الشيخ راشد الغنوشي «الديموقراطية... بضاعتنا رُدَّت إلينا».


لكن بأيّ حال، لا يمكن الحديث عن نظام إسلامي ديموقراطي أو نظام يدّعي أن السلطة للشعب، فيما يقف على رأس السلطة من يزعم أنه الحاكم بأمر الله وأنه الوصيّ على الملك، وأنه يحكم بما أنزل الله ولا مجال لمناقشاته «لأن القانون الإلهي أفضل من القانون الوضعي»، بما يساهم في دحض وتسخيف مقولات «حكم الشعب» و«اختيار الشعب».

لعلّ الميزة الأساسية التي أضاء عليها الكاتب بوضوح، كانت التحولات الجذرية التي شهدتها المؤسسة الدينية الشيعيّة على أيدي علماء خالفوا مفهوم «الحجّتيّة» الذي يشترط أن يكون الإمام «المعصوم»، وهو الإمام المهدي المنتظر، على رأس الدولة، والذي لا يجوز بنظر هؤلاء إقامة حكم إسلامي في غيبته.

يتوسّع الكاتب في فصله الأول، بالحديث عن «نظرية السلطة في المذهب الشيعي»، ليخلص إلى نتيجة مفادها أن الثورة الإيرانية قد توّجت نظريات عديدة في الحوزة الدينية، إضافة إلى تجارب سياسية متواضعة مثل تجربة الدولة الصفوية، وبعض الفتاوى التي كان لها تأثيرها في الواقع السياسي مثل فتوى الميرزا شيرازي بتحريم تداول التبغ واستعماله لمحاربة الشركة البريطانية التي كانت تحتكر تجارة التبغ. وذلك عام 1891 في إيران، حينها ظهر ما عُرف بثورة التنباك.

لذلك يقول الكاتب إنه «بناءً على اجتهاد الخميني، منح الدستور الفقيه الحاكم، جميع السلطات التي أقرّها علم الكلام والفقه الشيعي للإمام المعصوم، وأنهى بذلك النقاش حول العلاقة الشرطيّة بين العصمة ومشروعية الدولة».

ولطالما كان النموذج التقليدي يعتبر أن العدل الذي يُعدّ في التراث الديني، أساس الملك، أي الحكم، هو مفهوم مثالي لا يمكن إنجازه من دون تدخّل غيبي يتجسّد، بحسب قدامى المتكلمين، في إمام معصوم منصّب من قبل الله، بما يعني أن أي سلطة أخرى خارج إرادة «المعصوم»، ستكون عاجزة بالضرورة عن تحقيق العدل، وبالتالي فهي غير مشروعة.بيت القصيد هنا، أنّ الحكم الإيراني، بما يتضمنه من مؤسسات ذات طابع ديموقراطي، أرساها الإمام الخميني منذ أن أجرى استفتاءً شعبياً على الدستور الإسلامي، هو حكم يعود إلى بعده الغيبي رغم مروره في آليات عديدة. آليات ديموقراطية بكل معنى الكلمة، بيد أنها سرعان ما تصطدم بحدود الدين ومفهوم الولي الفقيه بما  يمتلك من سلطات لا يمكن أن تعارضها أيّ من هذه المؤسسسات المنتخبة ديموقراطياً: مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان ومجمع تشخيص مصلحة النظام ومجلس خبراء القيادة الذي يمكنه عزل المرشد الأعلى ومحاسبته ضمن آليات يحددها الأصوليون أنفسهم في إطار الشريعة. من هنا، يعرض الكاتب بموضوعية وإسهاب آراء عديدة حول «خطورة» الصلاحيات التي يتمتع بها الوليّ الفقيه، لكن هنا من منظور ديني بحت يضيء على جانب مؤيدي انتظار المعصوم، إذ يعتبر هؤلاء أن «حدود الصلاحيات القابلة للنقل من الإمام إلى  الفقيه، بقيت محل جدال يتركّز أساساً على قابلية الشخص غير المعصوم لاستعمال القوة القهرية التي قد تترتب عليها أضرار ماديّة أو جسديّة على الغير».

ينقل الكاتب عن الخميني في هذا الإطار قوله «إن سلطة الفقيه ينبغي أن تفهم في إطار الحكومة الإسلامية، ولا تصبح هذه السلطة فعلية إلا إذا حصلت على التأييد الشعبي» (ص77).

إزاء هذا المفهوم الذي يتحدث عنه الإمام الخميني، يرى الكاتب أن مؤسس الجمهورية الإسلامية نفسه، «أعاد سلطة الفقيه لتصبح ولاية مطلقة، كما عرّف قراره السياسي باعتباره حكماً ولائياً». ويشير إلى أن «فكرة الولاية المطلقة، تستهدف التشديد على الطبيعة الشاملة لسلطة الدولة، وخضوع جميع المواطنين لمقتضياتها» (ص 83).

لكن الكاتب هنا عاد ووقع في مغالطة الدفاع عن فكرة الخميني، حين ادعّى بأن «السلطات المطلقة للإمام لا يمكن أن تنتقل إلى الفقيه بالمعنى الشخصي، بل إلى مؤسسة الدولة التي هي جزء منها» (ص85). ويستدلّ الكاتب هنا بالبرلمان كـ«أبرز الإنجازات» التي تُحسب للنظام الإسلامي في إيران، ناسياً أو متناسياً دور مجلس صيانة الدستور (المؤلف من رجال دين وقانونيين على ولاء مطلق للمرشد الأعلى للثورة)، في تحديد شروط الترشيح للبرلمان، وحصره بأشخاص ملتزمين مبادئ الثورة ومدعومين من المؤسسة العسكرية المولجة بحفظ النظام (الحرس الثوري). بهذا المعنى، تصبح فكرة الديموقراطية في دولة دينية، فكرة منقوصة، حيث لا تزال السلطة تتدخّل من خلال شرطتها الدينية ومتطوعي «الباسيج» في قضايا تتعلق بالحرية الشخصية، مثل شكل ثياب المرأة والرجل وقصّات الشعر وما إلى ذلك من أمور تعدّ تافهة أمام ما يحتاج إليه الشعب الإيراني من ضرورات، مثل معالجة البطالة والتضخّم وصناعة البنزين (لا تزال إيران الدولة الرابعة في العالم من حيث إنتاج النفط تستورد 40 في المئة من حاجاتها من البنزين المكرر).
انطلاقاً من هذه النظرة الضيقة، التي يتبناها التيار الأصولي (المحافظ) فإن السلطة السياسية ليست من شؤون عامة الناس، وإن رضى العامة ليس مصدراً للشرعية السياسية. و«تعتبر سلطة الفقيه مطلقة ولا يمكن تحديدها بحدود القانون أو الدستور» (ص189). بما يعني بوضوح دحضاً لكلام الخميني حول أهمية التأييد الشعبي.

زبدة القول، إنّ الديموقراطية لا يمكن أن تجتمع مع سلطة غيبية تتحدث عن «إمام معصوم» وعن عدالة مطلقة في ظلّه، فيما يستغل الفقيه الذي ينوب عن «المعصوم»، سلطاته المطلقة ليتصرف على غرار الحاكمين بأمر الله أو ظل الله على الأرض، فيكتسب كل معاني العصمة حتى لو لم يكن ذلك معلناً.

وفي هذه العلاقة الجدلية بين الحاكم والوحي، تكمن خطورة «تقديس» الدستور والشخص على حساب العقل وإرادة الجمهور.
* من أسرة الأخبار



العنوان الأصلي
حدود الديموقراطية الدينية
الكاتب
توفيق السيف
الناشر
دار الساقي
جريدة الاخبار- الخميس ١٢ شباط ٢٠٠٩


عنوان المصدر:

19/01/2009

حان الوقت كي يتوقف الحجب الاعتباطي لمصادر المعلومات


 اود الاشادة باهتمام الجمعية الوطنية لحقوق الانسان برفع الحجب المفروض على مواقع انترنت تابعة لمنظمات حقوقية دولية . طبقا لما نشرته الصحافة المحلية فقد قالت الجمعية في خطاب لهيئة الاتصالات ان حجب هذه المواقع يتعارض مع حق المواطن في الاطلاع على المعلومات والارتقاء بثقافته الحقوقية .
اعلم ان معظم المثقفين واهل الراي في بلدنا منزعجون من سياسة الحجب التي تتم بمبررات غير معروفة اذا لم نقل اعتباطية ، ومن غياب اي آلية واضحة لمحاسبة الهيئة التي تقوم بالحجب. جربت شخصيا مخاطبة الهيئة طالبا رفع الحجب عن مواقع محددة او تقديم مبررات لقرارها ، لكني لم اتلق ردا رغم تكرار المحاولة مرات كثيرة . وطرحت المسألة على آخرين فابلغوني بانهم فعلوا الشيء نفسه ولم يتلقوا اي رد. والخلاصة ان الهيئة تفعل ما تريد ولا تجد نفسها مسؤولة او مطالبة بتقديم تبرير او كشف حساب .

هيئة الاتصالات هي واحدة من احدث الاجهزة الرسمية ، ومسؤولة عن احدث القطاعات الاقتصادية واكثرها تعرضا للتحولات ، وهو قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات. لكن خلافا لما نعرفه على المستوى النظري فان انشغالها بقطاع حديث لم يؤد الى تحديث في روحية القائمين عليها او اساليب عملهم . بل نجدها تحمل ذات الروح البيروقراطية التقليدية التي نعرفها في قطاعات الاقتصاد القديم ، اي تلك التي تعطي نفسها سلطة مطلقة وتعفي نفسها من اي حساب  او مساءلة.
كلما سئل احد اعضاء الهيئة عن سبب الافراط في حجب المواقع الالكترونية ، اخرج من جيبه الاسطوانة المعروفة ، اي التبرير الذي يتلخص في هوس الشباب بالمواقع الاباحية ، وكأن الشباب لا يعرفون من الانترنت الا هذه ،  او كأن الانترنت لا تحوي شيئا غيرا هذا ، او كأنه لا يستعمل الانترنت سوى الشباب المهووس بالاباحية .
 وسمعت هذا التبرير اخر مرة في مقابلة على قناة الاخبارية في الاسبوع الماضي . لكن المواقع المحجوبة لا تقتصر على تلك التي تعرض مواد اباحية او المواقع التي تشجع العنف والفساد والجريمة . ثمة مواقع لمجلات محترمة ومراكز ابحاث ونشرات خبرية محجوبة ايضا . واظن ان كثيرا من قرارات الحجب تتم بقرارات مزاجية وتتاثر بتوجهات او ميول الاشخاص الذين شاءت الاقدار ان يكونوا في هذا الموقع.
لدى السادة في هيئة الاتصالات ردا واحدا على كل سؤال ، هو انكار الحجب الاعتباطي. وهم يعتبرون انكارهم ذاك نهاية المطاف . لكننا نناشدهم ونناشد مرجعهم الرسمي اعتماد معايير العدالة والانصاف والتاكيد على روح المسؤولية . معايير العدالة تعني ان الحجب يجب ان يكون الورقة الاخيرة . والواجب ان يبدأ الامر بمخاطبة اصحاب المواقع وانذارهم بازالة الصفحات التي يراد حجبها ، قبل اتخاذ القرار الاخير. ثمة مواقع حجبت لانها نشرت خبرا او مقالة او صورة غير مرغوبة. فلنفترض ان ذلك الخبر او المقال او الصورة ازعجت القائمين على الهيئة ، فهل يعتبر رايهم او انطباعهم مقياسا لما هو حق وما هو باطل و ما هو صحيح وما هو فاسد ؟.
اجد احيانا ان موقعا قد حجب بعد نشره مادة معينة ، بينما تركت مواقع اخرى نشرت المادة نفسها. فهل يتقرر الحجب بناء على صدفة اسمها اكتشاف الرقيب لتلك دون هذه ، ام لان الهيئة تلقت طلبات من الناس لحجب هذا الموقع دون غيره ؟. واذا كانت الهيئة تستمع لطلبات الحجب من الناس ، افليس من العدل ان تستمع ايضا للطلبات المعاكسة ، اي تلك التي تدعو الى رفع الحجب ؟.
نعرف ايضا ان كل موقع انترنت يحتوي على عشرات الصفحات ، فاذا كانت الهيئة غاضبة من صفحة معينة فلماذا تحجب الموقع باكمله ؟ هذا يشبه تماما ان تمنع كتابا  لان احدى صفحاته احتوت على كلام غير مريح او تمنع مجلة لان صفحة فيها احتوت على صورة مزعجة ، بل هو اشبه بان تحكم بهدم منزل لان غرفة من غرفه حدث فيها تشقق او عطب .
لا نريد القول ان الناس قد ملت وسئمت كثرة الممنوعات والمحضورات – وان كان هذا هو الواقع - . لكننا نناشد من يملكون قرار التوسيع والتضييق الرفق بالناس والتوسيع عليهم فان الامعان في التضييق يدفع الى الياس ويحبط الثقة ويشجع على البحث عن طرق ملتوية او غير قانونية ، وربما يقود الى تفكير بعيد عن العقلانية.
اتمنى ان تواصل الجمعية الوطنية لحقوق الانسان محاولاتها وان تستهدف بالتحديد وضع قانون معلن يحدد مبررات الحجب وحقوق اصحاب المواقع المحجوبة وكيفية رفعه وتحديد الجهة المفوضة بمحاسبة القائمين على هذا العمل ، كي لا تكون مصالح عشرين مليونا من السعوديين واهتماماتهم ورغباتهم مرهونة براي شخص او بضعة اشخاص في هيئة الاتصالات.
عكاظ 19 يناير 2009

 

مقالات مماثلة


15/01/2009

الحرية وحدودها القانونية


نشر في نشرة مساواة – يناير 2009

شغل تعريف مفهوم "الحرية" جانبا عظيما من اهتمام الباحثين في علم السياسة . ولعل اكثرها انتشارا هو تعريف توماس هوبز الذي يقرن الحرية بعدم التدخل . فقد رأى هوبز واتباعه ان جميع القوانين تمثل قيودا على حرية الفرد . فالقانون بطبيعته اما محدد لحركة الانسان بمعنى انه يفرض عليه السير في طريق معين ، او كابح له من السير بحسب رغبته وارادته الخاصة[1]. ومال الى نفس الفكرة الفيلسوف الانجليزي جيريمي بنثام في القرن التاسع عشر فقرر ان كل حرية تعطى لفرد تنطوي ضرورة على تقييد لحرية غيره ، حتى القانون الذي تسنه الحكومة لحماية ملكي هو قيد عليك كما ان القانون الذي يحميك هو قيد علي ، بل ان القانون الذي تسنه الحكومة لحماية حريتي هو بشكل او بآخر قيد علي لما ينطوي فيه من الزامات ذاتية او متقابلة [2]. خلاصة هذه الرؤية اذن ان الحرية الحقيقية تكمن في صمت القانون.

اما جان جاك روسو فقد قرر ان جميع الناس يولدون احرارا متساوين ، لكن على الانسان ان يتخلى عن حريته الطبيعية لصالح الحرية المدنية . حرية الانسان في الحالة الطبيعية تكمن في قوته الجسدية التي تمكنه من فعل ما يشاء ، والاكثر حرية هو الاكثر قوة والعكس بالعكس . اما في المجتمع المدني فان حقوق الانسان وحريته محمية بالقانون والسلطة التي تنفذه نيابة عن المجموع . بعبارة اخرى فان ما يخسره الفرد حين ينضم الى المجتمع المدني هو حريته في استعمال قوته الجسدية لممارسة حرياته الاخرى ، وما يربحه هو اعتراف المجتمع بحريته المدنية وملكية ما يحوزه باعتبارها حقوقا ثابتة لا تحتاج الى قوة فردية تحميها. وحسب روسو فانه لا فرق بين الحريتين الطبيعية والمدنية من حيث الجوهر والمحتوى، انما  تختلفان في الارضية التي تقوم عليها والحدود النهائية لكل منهما . من هنا قد يمكن القول ان الحرية المدنية هي ذاتها الحرية الطبيعية لكن مع تاطيرها وتحديدها بالارادة العامة المتمثلة في القانون.

يقوم هذا المفهوم على التمييز بين الحرية والقدرة . "انا قادر على" هي شيء مختلف عن " انا حر في". يستطيع الانسان فعل ما يشاء حين تغيب الموانع التي تحول بينه وبين مقصوده او تزاحم فعله فيه . وما دام الفرد يعيش مع الاخرين فان تلك الموانع حاضرة ، ان الظرف الوحيد الذي تغيب فيه الموانع والمزاحمات للحرية الفردية تماما هو ظرف العزلة ، اي حين يعيش الفرد وحيدا وبعيدا عن اي فرد آخر ، لان مفهوم الحرية لا يكون له موضوع الا حين يوجد آخرون تتزاحم اراداتهم مع ارادات الفرد .

نستطيع اذن التمييز بين حرية خارج المجتمع المدني وحرية في المجتمع المدني ، او حرية طبيعية وحرية مدنية ، وابرز سمات الاخيرة هي كونها مضمونة ومحمية بالقانون الذي يمثل اجماع الجماعة وارادتهم العامة حسب تفسير جون لوك.

ترى .. هل يعني هذا ان القانون هو الذي يمنح الحرية ؟. اذا كان الامر كذلك فان القانون (اي ارادة الجماعة) اعلى من الحرية الفردية ؟.
اشرنا سابقا الى تقسيم الفلاسفة للحقوق الفردية الى صنفين : صنف ثابت للانسان بالولادة وهو ما يسمى الحقوق الطبيعية ، وصنف يثبت له بمقتضى العقد الاجتماعي ، اي كونه عضوا في المجتمع المدني . مرجع الصنف الاول هو قانون الفطرة وهو اعلى من كل قانون يضعه البشر ، بل هو مرجع كل قانون بشري وحاكم عليه . الحقوق الطبيعية - تبعا لهذا المبدأ - فوق القوانين الوضعية وحاكمة عليها ، بمعنى انه لا يجوز للمجتمع او الدولة اصدار قانون يخرق حقوق الافراد الطبيعية لانها جزء من جوهر انسانيتهم وضرورة لها . ولعل ابرز ما يدخل في تلك الحقوق هو حق الحياة ، اذ يحق لكل فرد فعل ما شاء للمحافظة على حياته ، بما فيها الهرب حين يحكم عليه القاضي العادل بالموت . ومنها المساواة مع الغير ، ويدخل فيها ايضا الحريات المرتبطة بالضمير مثل حرية الاعتقاد والدين ، وحرية التفكير والتعبير ، والحرية في اختيار نمط المعيشة واساليب العيش . كما يدخل فيها حق الملكية واستثمار الجهد الشخصي.

اما الصنف الثاني فيطلق عليه اسم الحقوق الدستورية او التعاقدية ، وهي حقوق يحددها القانون وترتبط بالوصف القانوني للفرد ، اي كونه مواطنا او عضوا في مجتمع مدني . من هذه الزاوية فان الصنف الاول سابق للقانون وحاكم عليه ، اما الصنف الثاني فهو تابع للقانون وخاضع له . وابرز ما يدخل ضمن هذا الصنف هو حق المشاركة المتساوية في الشؤون العامة للجماعة ، بما فيها حق الوصول الى المناصب العامة وانتخاب الغير لها . ومنها ايضا حق الاستفادة المتساوية من الموارد العامة المادية وغير المادية الخ . ويعتبر اعلان حقوق الانسان والمواطن الذي اصدره برلمان الثورة الفرنسية (1791) من بين الوثائق المبكرة التي حددت العلاقة بين الحقوق الطبيعية والدستورية التي يتمتع بها الفرد ، فقد اكد هذا الاعلان على تمايز النوعين لكنه اعتبر الحقوق الطبيعية ارضية واساسا للحقوق الدستورية للمواطنين ، واكد على الارتباط العضوي بين انسانية الفرد وتمتعه بالحقوق الطبيعية التي تشمل "حقه في الحرية ، الملكية ، الامان ، ومقاومة الظلم" ، انها حق له حيثما كان وفي اي ظرف عاش ، وليس للفرد التخلي عنها وليس لاحد حرمانه منها لان "الناس يولدون احرارا متساوين"[3]

من العسير في حقيقة الامر وضع خط فاصل يحدد بدقة اين تبدأ واين تنتهي الحقوق المنطوية في كل من الصنفين . ولعل اكثر صيغ التمييز بين الصنفين شهرة هي تلك التي توصل اليها ايزايا برلين في كتابه المعروف "مفهومان للحرية"[4] ، والذي يصف فيه النوع الاول كحريات سلبية والثاني كحريات ايجابية . طبقا لهذه الرؤية فان الحرية السلبية تساوي عدم التدخل من جانب الغير ، اي "الحرية من.." ، او المساحة التي يستطيع فيها شخص او جماعة ان يفعلوا ما يريدون دون تدخل من اي شخص اخر. بينما تساوي الحرية في معناها الايجابي القدرة على فعل شيء يتطلب مباشرة او مداورة موافقة الغير ، اي "الحرية في .." وينطوي هذا المعنى في جواب سؤال : من هو او ما هي الجهة التي يمكن ان تقرر ماذا يفعل شخص ما او كيف يكون على هذا النحو وليس سواه . اذا منعت من جانب الاخرين من فعل ما اشاء فاني الى ذلك القدر غير حر. واذا كانت المساحة التي استطيع التصرف فيها بحرية محددة من قبل اخرين فانه يمكن وصفي حينئذ بالمقهور coerced او يمكن ان اكون مستعبدا. القهر هو التدخل العمدي من جانب الافراد الاخرين في المساحة التي اريد ان اعمل فيها . انت محروم من حريتك فقط حين تمنع من الوصول الى غاياتك من جانب الغير. وليس مجرد العجز عن الوصول الى الغايات لاسباب تتعلق بعدم كفاية الانسان نفسه مثلا او لظروف طبيعية . بطبيعة الحال لا يمكن تصور هذه الحرية من دون حدود ، لان الحرية المطلقة تعني ايضا حرية الانسان في ان يخترق مساحات الاخرين ، وربما تقود الى فوضى اجتماعية ، تضيع معها فائدة الحرية ، ويستأثر بها الاقوياء على حساب الضعفاء[5]. المبرر الوحيد لهذا التقييد هو العدالة ، فالبديهي ان الحرية حق متساو لجميع الافراد ، وتقتضي العدالة ان يتمتع كل فرد بنفس القدر الذي يتمتع به غيره ، وهذا يؤدي بالضرورة الى تقييده.



[1] Pettit, Philip, Republicanism: A Theory of Freedom and Government, (Oxford, 1997), p. 41
[2] Pettit, Philip, ibid., p. 45
[3]  Macdonald,  M.,  “Natural Rights”, in Laslett, Peter (ed.),  Philosophy, Politics and Society, Basil Blackwell, 1970 , p. 40
[4] Berlin, Isaiah, Two Concepts of Liberty, Clarendon Press, 1958

12/01/2009

النموذج اللبناني في الصراع والتوافق


مهما كان رايك في النموذج اللبناني فانه يكشف عن عمل سياسي متقدم على معظم نظائره في البلدان الاخرى . واريد الاشارة خصوصا الى القدرة الباهرة على الانتقال من حالة الشقاق الى حالة الوفاق. قبل شهر تقريبا رأينا ممثلي حزب الله على طاولة واحدة مع زعماء سلفيين . مثل هذا التلاقي كان مفاجئا ومدهشا لانه جمع بين فريقين يقفان على طرفي نقيض . لم ينجح ذلك الاتفاق لكنه شكل اختراقا غير مسبوق.

 بعد ذلك بايام ، فوجئنا بمفاوضي حزب الله على طاولة واحدة مع ممثلي وليد جنبلاط ، الذي يعتبر المحرك الرئيس للصراع بين الموالاة والمعارضة . والواضح ان لقاء حزب الله مع السلفيين في طرابلس ومع جنبلاط في الجبل قد جعل اللقاء بين الحزب وتيار المستقبل الخطوة التالية المتوقعة . وهذا ما حدث فعلا . من يقارن الكلام الدائر في الساحة اللبنانية خلال الاسبوع الاخير من رمضان  بذلك الذي كنا نسمعه في اول الشهر سيصاب قطعا بالدهشة ، او سيفهمه كتعبير عن حيوية النموذج السياسي اللبناني وقدرة رجاله على الانتقال – من دون مقدمات احيانا – بين المواقف المتناقضة .

الامر يبدو محرجا بعض الشيء للمراقبين خارج لبنان وللسياسيين المهتمين بالشان اللبناني او المتعاطفين مع احد اطرافه. المتعاطفون مع المعارضة تكلموا عن رموز الموالاة كاعداء وعملاء ، والمتعاطفون مع الموالاة تحدثوا عن المعارضين كاطراف في مؤامرة تستهدف العرب باجمعهم . لكن السياسيين اللبنانيين كانوا ينظرون الى هذا الكلام كاوراق قوة يجمعونها كي يطرحونها في الوقت المناسب على طاولة التفاوض مع منافسيهم . بالنسبة للسياسيين اللبنانيين فان اي طرف من اطراف الصراع هو قوة سياسية محلية اولا واخيرا ، مما كان لونها ومهما كانت تحالفاتها الخارجية . وهم يتصارعون فيما بينهم من اجل كسب مواقع او تعزيز مواقف ، وهم يستثمرون الكلام الذي يقوله المراقبون والسياسيون خارج لبنان ، لكنه لا يهمهم جديا ولا يعتبرونه دليلا لهم .

استغل اللبنانيون فرصة رمضان المبارك لترتيب اوراقهم مع بعضهم البعض . تصالحت الموالاة والمعارضة ، او بدأوا مشوار المصالحة ، وتراجعت حملات التخوين والاتهام ، لتحل محلها ادبيات التوافق والسلام . جميع الفرقاء ينظرون الى استحقاقات العام القادم حين ياتي موعد الانتخابات النيابية ، ويحتاج كل طرف الى الاخر لضمان موقعه في الساحة السياسية .

في مقابل هذا التوجه الايجابي ، استغل الشيخ يوسف القرضاوي فرصة رمضان لاطلاق حملة تخويف عنوانها "الاختراق الشيعي للعالم السني" . كانت هذه فرصة لعدد ملحوظ من الباحثين عن فرصة لاسماع اصواتهم من الفريقين الشيعي والسني . الشيخ راشد الغنوشي الذي يكافح منذ سنين للحفاظ على اسمه في التداول السياسي علق قائلا ان جماعات شيعية استغلت غياب حركة النهضة التي يتزعمها لاختراق المجتمع التونسي .

بعض السلفيين السعوديين الذين كانوا يعتبرون القرضاوي عدوا لدودا ، اعاد النظر في هذه الاوصاف واكتشف انه رجل المرحلة وزعيم الحركة الاسلامية الذي لا ينازع. على الجانب الاخر ، استغل عدد من المشايخ والكتاب الشيعة تصريحات القرضاوي فاطلقوا حملة تشهير بالرجل واتهموه بالانزلاق الى مواقف منسجمة مع الصهيونية والامبريالية ، وما الى ذلك من الكلام المعتاد في ادبيات السجال الطائفي.

ما يدعو للعجب ان كثيرا من هذا الكلام كان تموجا لما سمعناه من سياسيين ورجال دين لبنانين اثر اجتياح المعارضة التي يتزعمها حزب الله لغرب بيروت في مايو الماضي. ويعتبر غرب العاصمة اللبنانية منطقة نفوذ لزعماء الطائفة السنية ، ولا سيما تيار المستقبل الذي يقوده سعد الحريري.

كثير من الذين تناولوا ذلك الحادث بالتحليل او اتخذوا مواقف منه ، اعتبروه انقلابا شيعيا على السنة او اختراقا موسعا للمجتمع السني وما الى ذلك . وهذه الاوصاف والتحليلات جاءت اولا على لسان سياسيين لبنانيين . لكن هؤلاء سرعان ما تجاوزا هذا الكلام وانصرفوا لترتيب البيت من خلال الحوار مع من كانوا اعداء .
لكن جماعتنا لا زالوا يكررون الكلام الاول الذي قيل في مايو ويونيو . اللبنانيون نجحوا خلال اربعة اشهر في تغيير سكة القطار من التصارع الى التفاهم . اما الجماعة الذين حجزوا مقاعد المتفرجين فالواضح انهم لازالوا مشغولين بانهاء فروض الصراع . ولعلهم يريدون استنفاذ ذخيرته قبل ان ينتهي زمنها .

خرج اللبنانيون من رمضان وهم اقرب الى بعضهم ، وخرجنا من رمضان ونحن ابعد عن بعضنا ، فكرمى لهم ونعم ، واسفا علينا وعلى شيوخنا وزعمائنا . اني آمل ونحن في العيد ان نستعيد معناه الابرز ، اي التراحم والتعاطف وان نتحدث حديث المحبة والسلام ولو تكلفا وتصنعا . في نهاية المطاف فان الكلمة الطيبة تطيب الخواطر والنفوس حتى لو كانت مصطنعة ، بخلاف كلمة الفراق المؤذية والمؤلمة ، حتى لو صدرت عن فم مخلص.
يناير 2009

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟


قلنا في مقال سابق إن عدالة النظام الاجتماعي رهن بتوفر الضمان القانوني للحريات الفردية. وهذا يتعارض إلى حد كبير مع النظريات التي ترى أن القانون بطبعه قيد على الحرية. من المفهوم أن القانون ضروري لسلامة الحياة الاجتماعية مثلما الحرية ضرورية لانسانية الانسان. الاشكالية اذن تكمن في الموازنة بين متطلبات هذه ومتطلبات ذاك. وهذا يقودنا بالضرورة إلى التساؤل عن كيفية ضمان القانون للحرية.
Image result for "the spirit of the law" montesquieu
في الحقيقة فإن العدو الأول للحريات الفردية هو التدخل الشخصي والاعتباطي في خصوصيات الناس ومصالحهم وإرادتهم.
في المقابل يتميز القانون بالثبات وعدم التمييز بين شخص وآخر أو بين حالة وأخرى. وحسب تعبير مونتسكيو الفيلسوف الفرنسي الذي اشتهر بكتابه «روح الشرائع» فان الحرية هي أن «لاتكون مجبرا على فعل شيء لم يأمر به القانون، وأن لا تمنع من شيء لم يمنعه القانون. ذلك لان القانون هو الحاكم، نحن أحرار لاننا نعيش تحت قانون مدني».
في أي نظام اجتماعي ثمة فرص لتدخل الأقوياء في حياتك. وفي غياب القانون فأنت مضطر لاستخدام قوتك الجسدية أو المال أو العلاقات الشخصية لتحييد أو اعاقة التدخلات الاعتباطية والشخصية. لكن كم من الناس ياترى يملك المال أو القوة أو العلاقات، أو يستطيع استخدامها لضمان مصالحه ؟. في الحقيقة لا يمكن الاعتماد على هذه الوسائل في إقامة نظام اجتماعي سليم. وجود القانون هو الضمان الوحيد لمصالح الجميع بغض النظر عن قوتهم الشخصية.
عمومية القانون هي أبرز الفوارق بينه وبين التدخلات الشخصية التي تصاغ عادة في صورة أوامر ادارية. تصدر هذه الأوامر لمعالجة حالة خاصة، أما القانون فهو يقوم على مبدأ عام ويتوجه للجميع دون النظر إلى أشخاص بعينهم أو حالات بعينها. ولهذا فان القانون يبقى ساريا إلى أن يلغى بقانون مماثل، بينما ينتهي مفعول الأوامر الادارية فور انتهاء موضوعها الخاص.
من ناحية أخرى فان القانون هو تقرير للأغراض المستهدفة. فهو يصدر بعد دراسة متأنية ويشرح في ديباجته العلل التي اوجبت صدوره. ولهذا قيل إن القانون لا يطاع إلا إذا كان معلنا ومعروف المبررات. أما الامر الاداري فيعبر عن إرادة المدير، وربما يصدر في لحظات انفعال ومن دون دراسة متانية أو من دون أن تكون متوقعة من قبل عامة الناس. كما لا يتضمن تعليلا قانونيا مفتوحا لنقد العامة وتدقيقها.
وقد تقرر في نظام أثينا القديمة أن فهم الناس للقانون هو ما يوجب طاعتهم له. وكما يقول هانز- جورج غادامر الفيلسوف الألماني، فإن أحد الأركان الكبرى في فكرة النظام القانوني هو أن أحكام القاضي قابلة للتنبؤ مسبقا لأنها تقوم على مبررات وقواعد قانونية معروفة للجميع. وهذا هو الذي يجعل القانون علة للاستقرار. كل محام أو مستشار قادر من حيث المبدأ على إعطاء مشورة صحيحة، أي أنه قادر على التنبؤ بشكل صحيح بقرار القاضي بناء على القوانين الموجودة.
يتميز القانون أيضاً بأنه ضامن للحقوق والالتزامات التي أنشئت في ظله حتى بعد إلغائه. ذلك لأن القوانين العادلة لا تكون رجعية، بمعنى أن مفعولها يسري منذ لحظة إعلانها، فلا تلغي حقا جرى اقراره في ظل قانون سابق. فاذا حصل مواطن على حقوق أو مصالح أو التزامات في إطار القانون، فإنها تبقى قائمة محترمة حتى لو صدر قانون جديد مختلف. ومن هنا يستطيع الناس التخطيط لمستقبلهم بثقة واطمئنان، لأن أحداً لن يستطيع نقض مكتسباتهم.
عكاظ 12/ يناير /2009  العدد : 2766

مقالات ذات علاقة 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...