||التعددية الدينية تبدو غريبة على اسماعنا ، لأننا تعلمنا منذ نعومة اظفارنا على ان الدين مطابق للتعريف الفقهي||
نشرت هذا الأسبوع تدوينة
قديمة حول التسامح الديني. فأثارت نقاشا غير متوقع. وجدت الأسئلة
الرئيسية تكرارا لما عرفناه قبل عقد من الزمان ، مع انها تطرح الآن بلغة لينة.
وهذا يكشف عن
حقيقتين متزاحمتين نوعا ما: فمن ناحية نستطيع القول ان مجتمعنا يتحرك بصورة ملموسة
، نحو تقبل الاختلاف وتداعياته. لكنه – من ناحية ثانية – غير قادر على حسم بعض
الإشكالات الرئيسية في هذا الموضوع نفسه ، الأمر الذي يستدعي نقاشا اكثر تركيزا
على نقاط التوقف.
أبرز أسباب الجدل في ظني هو مبدأ
تعدد الحق. أي ان نكون على أديان أو مذاهب مختلفة أو حتى غير
متدينين ، لكننا نعيش جميعا في توافق وسلام. ولهذا سوف اخصص مقال اليوم لتوضيح
الفكرة ، وتمهيد ارضيتها لمن أحب المزيد من النقاش.
نفهم تعدد الحق على وجهين:
الوجه الأول: ان الحق في طبعه الاولي ، لا ينحصر في تطبيق واحد ، بل يتجلى
في صور عديدة ، يمكن لكل منها ان يكون طريقا الى الله. فالذي آمنت به هو أحد احتمالات
الحق او تجلياته. والذي آمن به غيري هو احتمال آخر للحق أو صورة ثانية. وهناك صورة
ثالثة ورابعة وخامسة.. الخ. بمعنى ان كل الناس متجه الى الحقيقة المطلقة ، وهي
الخالق سبحانه ، عبر الطريق الذي يراه أقرب وأوضح. وكل شخص مسؤول عن خياراته. لن
يقف أحدنا نائبا عن غيره يوم الحساب ، ولن يحمل أوزاره. وهذا هو مذهب ابن عربي ،
الفيلسوف والمتصوف المعروف.
الوجه الثاني: ان الحق هو الصورة المثلى للحياة الفاضلة ، وليس شيئا منفصلا
عن الحياة او مختلفا عنها. وهو يتجلى في كل فعل انساني خير. ان اختلاف الاعمال والمشارب
وسبل العيش ومصادر القوة والمعرفة ، هو الحيز الحيوي لتجلي قيمة الحق ، بوصفها
المستوى الارفع في كل مجال ، الارفع موضوعيا واخلاقيا. ان الاختلاف الطبيعي بين سبل
الحياة – وبالتبع تجليات الحق في كل منها - عامل مؤثر في ارتقاء الانسان والعمران.
في هذا المعنى ، يتطابق مفهوم الحق مع سعي
الانسان لاتقان عمله. ونعتبر هذا المسعى جزء من التجربة الدينية
الواسعة ، التي نسميها عمران الأرض. الفلاح يسعى الى الكمال من خلال توفير الغذاء
للناس ، والطبيب يسعى من خلال حمايتهم من الامراض ، وهكذا البناء الذي يبني البيت ،
والصانع الذي يوفر السيارات وأجهزة الاتصال ، والفقيه الذي يعلم الناس الشعائر ،
والفنان الذي يحول الفكرة الى مشهد للتأمل من خلال لوحة او مقطوعة موسيقى.. الخ.
جوهر الحق في الوجه الأول علاقة واعية بين الخلق والخالق. مركزها هو الخالق ،
والطريق اليه هو نية التقرب. اما في الوجه الثاني فالحق يتجلى في تفاعل البشر مع
بعضهم ، تفاعلا بناء واخلاقيا ، يؤدي – موضوعيا – الى تطور حياة الانسان وارتقاء
الجوهر الانساني ، اي العقل/العلم والاخلاق. وهذا – في اعتقادي – هو الغرض الجوهري
للرسالات السماوية وجهود المصلحين في كل المذاهب والمشارب.
كلا المفهومين يبدو غريبا شيئا ما ، لأننا تعلمنا منذ نعومة اظفارنا على ان
الدين مطابق للتعريف الفقهي. وهو تعريف ينطلق - بالضرورة – من التزام بمذهب محدد واطار
اجتماعي وعرفي خاص ، لا يتعداه من اراد السلامة. لكنه – رغم غرابته – ليس جديدا.
وقد اشار الى جانب منه غالبية
المفسرين حين وصلوا الى الآية المباركة "ولو شاء ربك لجعل
الناس أمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك
ولذلك خلقهم". وفحواها ان الاختلاف اصل في الخلق وضرورة للحياة. وهكذا
اراده الله. فهل ارادنا ان نقتتل مثل حيوانات الغابة ، ام نتسالم –
رغم اختلافنا – كما يحكم العقل السليم؟.
الشرق الاوسط الأربعاء - 27 شوّال 1444 هـ - 17 مايو 2023 م https://aawsat.news/y4mfr
مقالات ذات صلة
ايزايا
برلين ... حياته وفكره
اين
ينجح الاسلاميون واين يفشلون
الحق
الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولا؟
الخلاص
من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة
دعوة لمنهج جديد في الاجتهاد واستنباط الاحكام
الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع
كلمة
السر: كن مثلي والا..!
من
الراي الواحد الى التعددية الدينية