خطاب العنف هو ايديولوجيا قائمة بذاتها. وهو - مثل سائر الايديولوجيات - يستثمر اللغة السائدة ورموزها ، ويعيد انتاجها في قوالب جديدة تبرر اغراضه وتعلي قدره. الايديولوجيا نظام مفهومي - قيمي يميل بطبيعته الى تعميم نفسه ، وادعاء القدرة على تفسير الانسان والاشياء والعالم ، باعتماد نموذج تحليلي صارم يطبق على الجميع .
في المقابل ، يميل التدين المدني
المعتاد الى تفسير كل عنصر من عناصر الحياة بصورة موضوعية ، اي من خلال النظر اليه
كموضوع خاص له معاييره وادوات التفسير الخاصة به. ولهذا يقال بان الايديولوجيا
حجاب الحقيقة . لانها ببساطة تصور الواقع على نحو افتراضي يخالف حقيقته. ونجد
ابرز تمثلات هذا في منظور دعاة العنف لمواطنيهم ، فهؤلاء لا يظهرون في ادبيات
المجموعات الايديولوجية كشركاء واخوة ، بل كعلمانيين ومتغربين ومبتدعة.. الخ ، اي
كأعداء. على رغم ان شراكة الوطن لا تسمح بغير علاقة الشراكة ، والا كان المصير هو
انهيار السلام الاهلي وطغيان العنف المتبادل.
تعيد الايديولوجيا بناء ذهنية
الفرد الذي يقع تحت تاثيرها ، فتحوله من فرد مدني ، او – حسب تصوير الفلاسفة -
كائن مدني بطبعه الاولي ، الى فرد ايديولوجي يهتم بالحدود التي تفصله عن الغير ، اكثر
من اهتمامه بالمشتركات التي تجمعه واياهم. ذهنية الفرد هي منظومة القيم والمفاهيم
التي على ضوئها يصف الفرد نفسه لنفسه، ويحدد المسافة بينه وبين الغير. تتشكل هذه
المنظومة بتاثير عوامل مختلفة اجتماعية وثقافية واقتصادية. تاثير الايديولوجيا
على الذهنية يتحدد في اعادة ترصيف تلك المكونات وربطها بمعايير الايديولوجيا نفسها
، وعندئذ فان الفرد يتناسى المعايير الموضوعية في تقييم علاقته مع الغير، اي يغفل
كون هذا الغير حسن الخلق امينا مهذبا متعلما ناجحا ، ويركز على موقفه من تلك
الايديولوجيا الخاصة ، اي مع او ضد.
خطورة خطاب العنف تكمن في قيامه
على ايديولوجيا لبست رداء الدين. وأقول انها لبست رداء الدين لان الناس لم يكونوا
كفارا فاسلموا ، بل ان التدين اتخذ نموذجا خاصا ، يمكن تمييزه بوضوح عن التدين
الاجتماعي ، الذي كان متعارفا قبل اوائل الثمانينات الميلادية. في هذا النموذج
يجد الانسان نفسه مسوقا الى تحديد هويته ، انطلاقا من معايير الايديولوجيا التي
تركز على تعريف الاخر كعدو ، وهذا هو الفارق الجوهري بين فكرة الولاء والبراء
الايديولوجية ونظيرتها الدينية.
تفكيك خطاب العنف يبدأ بتفكيك
الايديولوجيا التي توفر له المبررات ، وتحمله الى عقول الناس وقلوبهم . تكشف
تجارب العالم ان تفكيك الايديولوجيا لم يكن مهمة شاقة. سهولتها تكمن في اتكالها
على صور افتراضية عن الواقع ، ولهذا فان الخطوة الحاسمة لتفكيكها ، تتمثل في كشف
الواقع امام الناس ، بمن فيهم اولئك الذين يحتمل ان يقعوا تحت تاثيرها. ليست
ايديولوجيا الارهاب التي نواجهها اليوم اكثر قوة وتماسكا من الايديولوجيا
الشيوعية في اوربا واسيا . لقد تفككت هذه الايديولوجيا خلال زمن قياسي ، حينما
توفرت الفرصة للتعددية الثقافية وحرية التعبير ، والغيت القوالب القسرية التي
تقيد السلوك الاجتماعي للافراد. ينطوي المجتمع على امكانات ثقافية هائلة ومتنوعة
، يمثل كل منها تحديا جديا لخطاب العنف . كما يمثل – من زاوية اخرى – احد وجوه
الواقع الذي تنكر ايديولجيا الارهاب وجوده .
تحرير السلوك الاجتماعي من قيود
التقاليد والايديولوجيا ، سوف يؤدي هو الاخر الى اشاعة الخطاب الذي يؤمن بالحياة
المدنية الطبيعية ، ويميل الى التساهل مع الذات والغير . وطبقا للدراسات المتوفرة
عن تجارب التحول الاجتماعي في بلدان مختلفة ، فان ازالة القيود المفروضة على
الحريات الاجتماعية ، قد ادت مباشرة الى تعاظم الامل في المستقبل وازدياد الثقة
في النظام الاجتماعي. وكلا العاملين ، الامل في المستقبل والثقة ، يلعبان دورا
معاكسا تماما لما تبشر به ايديولوجيا الارهاب ، فهما يعززان الميل الى التصالح
والتساهل ويضعفان جانب المنازعة في شخصية الفرد . واظن ان جانبا كبيرا من التوتر
النفسي الذي يستثمره الارهابيون ، هو ثمرة لضيق مساحة الحريات الاجتماعية. ولهذا
فان اطلاقها سيكون الخطوة الاولى لاعادة غول العنف الى قمقمه.