بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتطلباته ، فما الذي يتوجب فعله كي ننجز هذه المهمة؟.
الواقع ان عددا من الاصدقاء قد وجه هذا السؤال فعلا. لكني لاحظت ان بعضهم استعمل عبارات توحي بالقلق من تحول كهذا. من ذلك مثلا ، قول من قال ان الانتقال للحداثة سيؤدي للتخلي عن الدين. ومثله قولهم ان الصين واليابان وكوريا وحتى بريطانيا ، لم تتخل عن تقاليدها القديمة حين قررت ركوب قطار الحداثة ، فلماذا نطالب نحن بالتخلي عن تلك التقاليد؟.
ويتراءى لي ان هذا النوع من الاسئلة ، يستبطن رغبة
قوية في التحرر من قيود الماضي. لكنه – من ناحية أخرى – يشير الى تخوف من الكلفة
النفسية والاجتماعية ، التي ربما تترتب على اتخاذ القرار. الذين يطرحون هذه
الاسئلة ، يحاولون القول بطريقة ضمنية: هل لديكم طريقة لتخفيف الكلفة ، نظير ما فعل
الصينيون او اليابانيون مثلا؟.
حسنا دعنا نقول من حيث المبدأ اننا لا نملك دليلا
نهائيا قاطعا ، على أن طريقة الحياة الحديثة او نظيرتها التقليدية ، خالية من
العيوب والنواقص. في كل من الحياتين فضائل وفيها نواقص. لكن الذي ندعيه ان فضائل
الحداثة اوسع واعمق من نظيرتها التقليدية ، كما ان عيوبها ايسر علاجا وأقل مؤونة. ومن
هنا فانه يصعب جدا اقناع الناس باختيار هذا الطريق او ذاك. انها مسؤولية فردية. بوسع
كل فرد منا ان يتأمل في حياته الخاصة والخيارات التي أمامه ، ثم يختار ما يراه
اقرب لمصلحته او تطلعاته. وفي كلا الحالين سيجد ما يكفي من المبررات لدعم هذا
الخيار او نقيضه.
ان التحرر من حياة التقاليد ليس صعبا جدا من
الناحية المادية ، لكنه – على أي حال – يحتاج الى تبني "رؤية
كونية" جديدة ، اي القواعد الكبرى التي يقوم عليها
فهم الانسان لذاته وعالمه ، وعلاقته بالبشر والاشياء في هذا العالم. من بين تلك القواعد
، اريد التأكيد على ثلاث:
الاولى: الانسان محور الحياة في هذا الكون ، ولحياته
وكرامته أولوية مطلقة على كل شيء آخر. وهو
- من حيث المبدأ - كائن عقلاني وأخلاقي. الانسان "الفرد" حر في
اختيار عقيدته وثقافته وطريقة حياته ومتبنياته القيمية وتطلعاته المستقبلية. وهو
مسؤول بصفة شخصية عن خياراته.
الثانية: لكل من الدين والعلم نطاق خاص في حياة الفرد
، لا يتعداه. يستهدف الدين توفير السكينة الروحية ، وتعميق صلة الانسان بالله
والنظام الكوني الذي سخره له. ويستهدف العلم استكشاف هذا النظام واستثماره ، ومن
ثم تطوير حياتنا ، وتعزيز ازدهارها المادي والاخلاقي. تشترك القيم الدينية
والعقلية البحتة في وضع المعايير التي تساعدنا في تعيين ما هو صالح وما هو فاسد ،
ماديا واخلاقيا.
الثالثة: الزمن عنصر جوهري في مفهوم الحداثة وتحديد
القيمة العلمية للافكار. التاريخ حركة دائبة الى الامام. ما يأتي أصح واكمل مما
مضى. التفاعل بين البشر وعناصر الطبيعة ، هو المصدر الاول للمعرفة. ومواصلة العقل
لتعامله النقدي مع الافكار والمعلومات ، يؤدي دائما الى فهم أفضل للانسان والكون
المحيط به. لا قدسية للزمن بذاته ، ولا تفضيل لحقبة على حقبة ، لكن بالنظر الى
محورية الجهد البشري في صناعة التقدم ، فان ما يأتي سيكون غالبا اكمل وأصح مما
مضى.
هذه القواعد الثلاث تحدد – في اعتقادي – الخط
الفاصل بين عصر التقاليد وعصر الحداثة. اعتناقها كرؤية حاكمة ومعيارية ، هو ما
يجعل الانسان منتميا الى العصر الجديد. لا يتعلق الامر بلباس قديم او جديد ، ولا
لغة محلية او عالمية ، ولا مصادر معلومات خاصة ولا ايديولوجيا او دين بعينه. يمكن للانسان
الحديث كما التقليدي ، ان يكون متدينا او ملحدا. ويمكن له ان يعيش في مدينة حديثة
او في اعماق الريف. ما هو مهم هو تكوينه الذهني ورؤيته للعالم ، هل تنتمي للعصر
القديم ام تتفاعل مع العصر الجديد.
الشرق الاوسط الخميس - 19 شَعبان 1445 هـ - 29 فبراير 2024 م https://aawsat.com/node/4883681
مقالات
ذات صلة
التواصل الثقافي ،
موديل السوبر ماركت
الحر كة الا سلامية ،
الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )