عرض المشاركات المصنفة بحسب التاريخ لطلب البحث السوبر ماركت. تصنيف بحسب مدى الصلة بالموضوع عرض جميع المشاركات
عرض المشاركات المصنفة بحسب التاريخ لطلب البحث السوبر ماركت. تصنيف بحسب مدى الصلة بالموضوع عرض جميع المشاركات

29/02/2024

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتطلباته ، فما الذي يتوجب فعله كي ننجز هذه المهمة؟.

الواقع ان عددا من الاصدقاء قد وجه هذا السؤال فعلا. لكني لاحظت ان بعضهم استعمل عبارات توحي بالقلق من تحول كهذا. من ذلك مثلا ، قول من قال ان الانتقال للحداثة سيؤدي للتخلي عن الدين. ومثله قولهم ان الصين واليابان وكوريا وحتى بريطانيا ، لم تتخل عن تقاليدها القديمة حين قررت ركوب قطار الحداثة ، فلماذا نطالب نحن بالتخلي عن تلك التقاليد؟.

ويتراءى لي ان هذا النوع من الاسئلة ، يستبطن رغبة قوية في التحرر من قيود الماضي. لكنه – من ناحية أخرى – يشير الى تخوف من الكلفة النفسية والاجتماعية ، التي ربما تترتب على اتخاذ القرار. الذين يطرحون هذه الاسئلة ، يحاولون القول بطريقة ضمنية: هل لديكم طريقة لتخفيف الكلفة ، نظير ما فعل الصينيون او اليابانيون مثلا؟.

حسنا دعنا نقول من حيث المبدأ اننا لا نملك دليلا نهائيا قاطعا ، على أن طريقة الحياة الحديثة او نظيرتها التقليدية ، خالية من العيوب والنواقص. في كل من الحياتين فضائل وفيها نواقص. لكن الذي ندعيه ان فضائل الحداثة اوسع واعمق من نظيرتها التقليدية ، كما ان عيوبها ايسر علاجا وأقل مؤونة. ومن هنا فانه يصعب جدا اقناع الناس باختيار هذا الطريق او ذاك. انها مسؤولية فردية. بوسع كل فرد منا ان يتأمل في حياته الخاصة والخيارات التي أمامه ، ثم يختار ما يراه اقرب لمصلحته او تطلعاته. وفي كلا الحالين سيجد ما يكفي من المبررات لدعم هذا الخيار او نقيضه.

ان التحرر من حياة التقاليد ليس صعبا جدا من الناحية المادية ، لكنه – على أي حال – يحتاج الى تبني "رؤية كونية" جديدة ، اي القواعد الكبرى التي يقوم عليها فهم الانسان لذاته وعالمه ، وعلاقته بالبشر والاشياء في هذا العالم. من بين تلك القواعد ، اريد التأكيد على ثلاث:

الاولى: الانسان محور الحياة في هذا الكون ، ولحياته وكرامته أولوية مطلقة على كل شيء آخر. وهو  - من حيث المبدأ - كائن عقلاني وأخلاقي. الانسان "الفرد" حر في اختيار عقيدته وثقافته وطريقة حياته ومتبنياته القيمية وتطلعاته المستقبلية. وهو مسؤول بصفة شخصية عن خياراته.

الثانية: لكل من الدين والعلم نطاق خاص في حياة الفرد ، لا يتعداه. يستهدف الدين توفير السكينة الروحية ، وتعميق صلة الانسان بالله والنظام الكوني الذي سخره له. ويستهدف العلم استكشاف هذا النظام واستثماره ، ومن ثم تطوير حياتنا ، وتعزيز ازدهارها المادي والاخلاقي. تشترك القيم الدينية والعقلية البحتة في وضع المعايير التي تساعدنا في تعيين ما هو صالح وما هو فاسد ، ماديا واخلاقيا.

الثالثة: الزمن عنصر جوهري في مفهوم الحداثة وتحديد القيمة العلمية للافكار. التاريخ حركة دائبة الى الامام. ما يأتي أصح واكمل مما مضى. التفاعل بين البشر وعناصر الطبيعة ، هو المصدر الاول للمعرفة. ومواصلة العقل لتعامله النقدي مع الافكار والمعلومات ، يؤدي دائما الى فهم أفضل للانسان والكون المحيط به. لا قدسية للزمن بذاته ، ولا تفضيل لحقبة على حقبة ، لكن بالنظر الى محورية الجهد البشري في صناعة التقدم ، فان ما يأتي سيكون غالبا اكمل وأصح مما مضى.

هذه القواعد الثلاث تحدد – في اعتقادي – الخط الفاصل بين عصر التقاليد وعصر الحداثة. اعتناقها كرؤية حاكمة ومعيارية ، هو ما يجعل الانسان منتميا الى العصر الجديد. لا يتعلق الامر بلباس قديم او جديد ، ولا لغة محلية او عالمية ، ولا مصادر معلومات خاصة ولا ايديولوجيا او دين بعينه. يمكن للانسان الحديث كما التقليدي ، ان يكون متدينا او ملحدا. ويمكن له ان يعيش في مدينة حديثة او في اعماق الريف. ما هو مهم هو تكوينه الذهني ورؤيته للعالم ، هل تنتمي للعصر القديم ام تتفاعل مع العصر الجديد.

الشرق الاوسط الخميس - 19 شَعبان 1445 هـ - 29 فبراير 2024 م   https://aawsat.com/node/4883681

مقالات ذات صلة

ابعد من تماثيل بوذا

الاسئلة الباريسية

الاسئلة التي تزيدنا جهلا

البديل عن نموذج السوبر ماركت

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

التواصل الثقافي ، موديل السوبر ماركت

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

الشيخ القرني في باريس

العقلاء الآثمون

العولمة فرصة ام فخ ؟

في بغض الكافر

في مستشفى الكفار

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

من القطيعة الى العيش المشترك

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

وهم الصراع بين الحضارات

اليوم التالي لزوال الغرب

15/02/2024

البديل عن نموذج السوبر ماركت

بعض الذين قرأوا مقال الاسبوع الماضي ، رأوه مغاليا في القول بامكانية التخلي عن ارثنا الثقافي لتجاوز حالة التخلف. وتساءل بعضهم صراحة: هل يعقل ان نتخلى عن ذاكرتنا الثقافية ، لمجرد ان المجتمعات الأخرى تجاوزتنا في الصناعة والتقنية والاقتصاد. فماذا لو لقيت شخصا أغنى مني أو أعلم ، فهل أتخلى عن ثقافتي كي الحق به أو اصير مثله. ولنفترض اننا تخلينا عنها ، فهل سيتبدل حالنا فنصبح مثل المتقدمين ونخرج فورا من مستنقع التخلف؟.

على ان السؤال الأكثر حرجا هو سؤال الالتزام بالدين او التخلي عنه ، فالمفهوم عند السواد الاعظم من الناس ، ان الدعوة للتخلي عن التراث او القطيعة معه ، ستؤدي بقصد او دون قصد الى انفصال المؤمنين عن ثقافتهم الدينية ، الضرورية للحفاظ على الدين نفسه.

دعني اجيب على هذه المخاوف التي اتفهمها واحترمها ، رغم مخالفتي لاصحابها. اتفهم ان لا احد سيقبل دعوة كهذه من دون توقف طويل. ولذا فقد يكون مفيدا شرح اثنين من العوامل التي تولد تلك الاسئلة القلقة ، وهما الخوف على الهوية والخوف من خسارة الذات.

ان ابرز العوامل التي تبرر الانعزال الثقافي ورفض النقد الذاتي ، هو الاعتقاد بأن الانفتاح على المخالفين ، سيثير الشك في صلابة الهوية ، والارضية التي تقوم عليها. الهوية هي الخيط الذي يربط اعضاء المجتمع او الأمة الى بعضهم ، فتضفي عليهم لونهم الثقافي الخاص ، اي شخصيتهم المتمايزة عن الآخرين ، كما تضفي الشرعية/القبول على طائفة من الأفعال والممارسات الاجتماعية ، وتنزعها عن طائفة أخرى ، فتجعلها مدانة او مرفوضة.

ومن هنا فان التشكيك في الهوية ومصادرها (الدين/التجربة التاريخية/الارث الثقافي/اللغة/سلاسل النسب) سيؤدي ليس فقط الى تغيير الثقافة العامة ، بل قد يصل أثرها الى تفكيك او اضعاف النظام الاجتماعي ومجموعة الاعراف المنظمة لسلوك الافراد.

اما الخوف من خسارة الذات ، فهو يشبه – في وجوه كثيرة – تجريد الشخص من جنسيته ، أي انتمائه القانوني الى بلد بعينه. فمع ان هذا الاجراء لا يغير شيئا في ذات صاحبه ، الا انه يفصله عن دائرة مصالح/انتماء تشكل محورا لتعريف نفسه ، ومن دونها سيشعر بالغربة وربما الضياع ، واذا كان ذا مكانة في قومه ، فان هذا التحول سيطيح بتلك المكانة او يضعفها كثيرا.

لهذين السببين ، فليس من السهل ان يقدم الانسان على حوار مع مخالفيه ، يؤدي – ولو من باب الاحتمال – الى استبدال ثقافته بثقافة المخالف ، او خروجه من دائرة المصالح/الانتماء التي ولد فيها وتربى في احضانها. هذا هو الذي يجعل نموذج السوبر ماركت ، اي الانتقاء من ثقافة الاخرين بناء على معايير ثقافتنا الخاصة ، يجعله الخيار الممكن لغالب الناس.

لكني أدعو الى خيار مختلف ، محوره هو تحكم الانسان في مكونات ذهنه ، اي ان يجعل عقله حاكما على ذاكرته ، فيمارس نقده لتلك المكونات بناء على معايير الاخر المختلف. في هذه الحالة نضع الآخر معيارا ، وننقد الذات ، بخلاف نموذج السوبرماركت الذي يضع الذات معيارا ويمارس نقده على الآخر.

ممارسة هذه العملية تحررك من قيود التاريخ والهوية ، تجعلك متحكما – الى حد ما – في الذي تقبله والذي ترفضه. لكنك مع ذلك ستبقى ضمن موقعك الثقافي القديم ، فتتحول الى متخارج عنه ، اي متفاعل معه من خارجه. في هذه الحالة ستنظر الى هذا التراث وتلك الثقافة من خارجها ، رغم انك – واقعيا – في داخلها ، اي ستعمل على وضح خط فاصل بين قناعاتك ومعاييرك وبينها ، فتختار منها ولا تغرق فيها. اذا نجحت في هذه المرحلة ، فسوف تكون كذلك بالنسبة لثقافة الاخر ، متداخلا معها ، لكنك لست في داخلها.

الشرق الاوسط الخميس - 05 شَعبان 1445 هـ - 15 فبراير 2024 م   https://aawsat.com/node/4855066

مقالات ذات صلة

ابعد من تماثيل بوذا

الاسئلة الباريسية

الاسئلة التي تزيدنا جهلا

ان تكون مساويا لغيركمعنى التسامح

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

التواصل الثقافي ، موديل السوبر ماركت

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

سجناء التاريخ

الشيخ القرني في باريس

العقلاء الآثمون

العولمة فرصة ام فخ ؟

في بغض الكافر

في مستشفى الكفار

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

وهم الصراع بين الحضارات

اليوم التالي لزوال الغرب

 

08/02/2024

التواصل الثقافي ، موديل السوبر ماركت

 


روى هذه القصة الدكتور ابراهيم البعيز ، الاستاذ الجامعي والخبير البارز في سياسات التواصل الثقافي. وهي تدور حول لحظة  اكتشاف الفجوة الثقافية التي تفصلنا عن مجتمعات الغرب. يقول انه انضم الى فصل يدرس العلاقات الثقافية ، مخصص لطلبة الدكتوراه بجامعة ولاية أوهايو الامريكية ، سنة 1983. وكان الطلاب ملزمين بكتابة تقرير اسبوعي عن قراءاتهم في الموضوع. واعتاد الاستاذ ان يحدد افضل تقرير وأسوأ تقرير ، كي يلقيه صاحبه على بقية الزملاء. في احد الاسابيع اراد البعيز ان يكتب عن تجربته الخاصة في التواصل مع الثقافة الامريكية ، فكتب ما خلاصته انه كان حريصا على مطالعة جوانب الثقافة الامريكية ، كي يختار منها ما يلائم ثقافته وقيمه العربية.

د. ابراهيم البعيز

سألني الاستاذ – يقول د. ابراهيم -: هل تستطيع حقا ان تختار ، وهل هذي هي الطريقة الأفضل في التواصل الثقافي مع العالم؟.

تلك الحادثة فتحت عيني على وهم شائع في مجتمعنا ، خلاصته اننا نتخيل علاقة مع العالم تشبه رحلة التسوق: تدخل الى السوبرماركت ، تختار ما تريد ، تضعه في العربة ، ثم تدفع قيمته وتخرج. وقد سألت نفسي كثيرا ، وسألت الزملاء: هل نستطيع حقا ان نطبق "موديل السوبر ماركت" ، ان نفكك ثقافة الاخرين الى أجزاء فنختار هذا الجزء ونترك ذاك؟. (سرد القصة د. ابراهيم البعيز في جلسة منتدى التنمية الخليجي  3 فبراير 2024 فندق انتركونتننتال – الرياض)

يرى د. ابراهيم ان الانفتاح على العالم يتطلب – من حيث المبدأ – استعدادا لتقبل التغيير ، اي التخلي عن المخزون الثقافي الذي ورثناه ، أو حشيت به أدمغتنا ، أو اخترناه في سياق تجربتنا المعيشية ، واستبداله بمنظومة جديدة قادرة على اثبات افضليتها ، ولا سيما قدرتها على استيعاب تحديات الحاضر ، والوفاء بحاجات المجتمع الثقافية والحياتية. هذا يعني – الى حد كبير – تبديل النظام الثقافي نفسه ، وليس استبدال عناصر محددة. اجزاء الثقافة الاجنبية التي ربما نفكر في انتقائها ، ليست قطعا صلبة قائمة بذاتها. إنها أشبه بأجزاء رواية او قصيدة ، تصمم ضمن منظور شامل يجمعها بسائر الأجزاء. تخيل انك اخذت فقرة من رواية فيكتور هيجو "البؤساء" واقحمتها وسط صفحة من رواية نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل" ، فهل ستندمج وتمسي جزء من نسيجها.

نحن نجادل كثيرا في ان الانتقاء هو الخيار الوحيد المتاح ، واننا لا نستطيع الأخذ بعناصر الثقافة والقيم الغربية ، اذا تعارضت مع ثقافتنا أو قيمنا. فهل هذا حقا هو الخيار الوحيد ، وهل هو الخيار المفيد؟.

قلت لصديقي د. ابراهيم ، اني انظر للمسألة من زاوية أخرى: التواصل مع الشعوب الأخرى ليس من الأمور المحبذة في موروثنا الثقافي. هناك شعور عميق بالخوف من ان يؤدي التواصل الى خلخلة الالتزام الديني ، لا سيما اذا كان الطرف الآخر في التواصل أقوى ماديا او ثقافيا. ونتذكر على سبيل المثال ان السفر للخارج لم يكن موضع ترحيب من جانب الزعماء الدينيين ، بل ربما تشدد بعضهم فاعتبره حراما ، ان لم يكن لحاجة ماسة. وكذا التواصل مع القادمين الينا من خارج اطارنا الثقافي ، ولا سيما ان كانوا غير مسلمين.

في وقت لاحق ، تراجع هؤلاء ، لأن الناس لم يطيعوهم ، فطرحت فكرة الانتقاء مما عند الآخرين كبديل معقول في تلك الظروف. وفي الوقت الحاضر يتحدث جميع الناس عن هذا النوع من التبادل ، اي "موديل السوبر ماركت" ، باعتباره الخيار الامثل.

حسنا ، اذا كنا سنختار ما يلائم ثقافتنا واعرافنا ، فهذا يعني ان ثقافتنا واعرافنا هي المعيار والميزان الذي نقيس عليه بضائع الاخرين. فهل نؤمن – حقا – ان ثقافتنا واعرافنا بلغت هذا المستوى؟

اذا كان الامر على هذا النحو ، فلماذا ناخذ مما عند الاخرين ، لماذا لا نكتفي بالذي عندنا؟.

واقع الامر اننا نأخذ بثقافة الاخرين ، لأن ثقافتنا متخلفة ، عاجزة عن استيعاب تحديات الحياة في عصرنا ، فكيف يكون الفاشل معيارا يوزن به الناجحون؟.

الشرق الاوسط الخميس - 28 رَجب 1445 هـ - 8 فبراير 2024 م              https://aawsat.com/node/4840596

مقالات ذات صلة

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

العولمة فرصة ام فخ ؟

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

الاسئلة التي تزيدنا جهلا

الاسئلة الباريسية

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

اليوم التالي لزوال الغرب

وهم الصراع بين الحضارات

 

03/10/2018

من القطيعة الى العيش المشترك


حوار الاديان او الحوار بين اتباع الاديان ليس من الشواغل البارزة للناس في هذه الايام. لكن الفكرة بذاتها كامنة في أعماق الغالبية العظمى من جمهور المؤمنين. نعلم طبعا ان بعض المؤمنين يستنكر الفكرة ويرفضها كليا ، لانه يرى في محاورة  الاخرين اقرارا بشرعية دينهم ، وهو ما لا يريده.
لكن هذا خطأ في التقدير. بديهي ان الحوار ينطوي بالضرورة على اقرار بحق الآخر المختلف في الاعتقاد. بديهي أيضا ان الاعتراف بحقوق الناس ، لا يساوي الاقرار بصحة افكارهم او افعالهم.
من يرفض الحوار مع الاديان الاخرى بناء على المبرر المذكور ، يرفض – للسبب ذاته – الحوار مع التيارات والمذاهب التي تشاركه نفس المعتقد ، على الاقل في اركانه الكبرى. ونسمع جميعا بالجدالات المزمنة بين المذاهب الاسلامية ، والجدالات المماثلة بين الكنائس المسيحية. ان كافة الاديان الكبرى منقسمة في داخلها ، تبعا لاختلاف الاجتهادات وتباين التكوينات الاجتماعية. وهذا ينطبق أيضا على المذاهب. فمن النادر ان تجد مذهبا يخلو من انقسامات.
قبل سنوات قليلة شهد العالم الاسلامي دعوات للتقارب بين المذاهب. وعارض فريق منهم هذا التوجه قائلا ان الممكن الوحيد هو التعايش. كنت قد ناقشت هذه المسألة مع المرحوم هاني فحص ، الذي تحل ذكرى رحيله هذه الايام. فاخبرني انه لا يتحدث عن التقارب (بالمعنى النظري المتداول) لانه بلا موضوع. ولا يتحدث عن التعايش ، لانه ينطوي على رسالة سلبية ، فحواها التسالم مع المتاركة. بدلا من ذلك ، يقترح فحص مبدأ العيش المشترك ، الذي يعني الاقرار بوجود مساحة للتعاون في أمور الدنيا. حين تعيش مع بقية خلق الله في بلد واحد او عالم واحد ، فسوف ينشأ بالضرورة مجال مشترك ، يمثل مصلحة لكل الاطراف. ان التعاون على انجاز هذه المصالح ، هو موضوع العيش المشترك. ولا اظن عاقلا ينكر هذه الحقيقة.
استطيع القول ان كل انسان على هذه الارض ، قد اقام في يوم ما مصالح مشتركة ، مع أشخاص من أديان او مذاهب مختلفة عن دينه أو مذهبه. الناس لا يسألون عن دين قائد الطائرة التي تحملهم في الاسفار ، ولا يسألون عن مذهب الطبيب الذي يعالج اطفالهم ، ولا عن البائع في السوبر ماركت الذي يتبضعون منه. كما لا يسألون بطبيعة الحال عن دين او مذهب صانع الاشياء التي يستهلكونها او يستعملونها في اعمالهم ومنازلهم.
ثمة في اعماق النفس الانسانية يقين مستقر ، فحواه ان الحياة لا تسير من دون القبول بهذا المفهوم. ولهذا فان أشد المتعصبين لا يتوانى عن التعامل مع مخالفيه في مثل تلك الامور.
الحقيقة ان كافة الناس يطبقون مبدأ الشراكة في المصالح الدنيوية. لكنهم في الوقت ذاته يتغافلون عن المحتوى الديني للعلاقة التي تقوم في اطاره. لهذا تجد العلاقات بين الناس اعتيادية ، قبل ان تشير الى اي دين او مذهب. فاذا ذكر الدين أو المذهب ، بدأ التعقيد وانفض الجمع بل ربما تحولوا من التعاون الى الخصام.
لدي تفسير لهذا التحول الغريب. ربما اعرضه في وقت آخر. لكني اضع امام القاريء سؤالا بسيطا: لو ارتدى كل منا حجاب الغفلة وفق تعريف جون رولز ، اي تناسى مخاوفه وانتماءه الخاص ، لدقيقة واحدة فقط ، وسأل نفسه: ايهما اقرب الى مراد الخالق سبحانه.. تعاون خلقه وتصافيهم ام تفارقهم وتنازعهم على امور الدنيا؟. وايهما أليق برسالة الدين: المحبة والتراضي بين كافة عباد الله ام الكراهية والخصام؟.  
الشرق الاوسط الأربعاء - 23 محرم 1440 هـ - 03 أكتوبر 2018 مـ رقم العدد [14554]

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...