"لكن فكرة الاجماع الوطني ، واختها الهوية الوطنية الجامعة ، ليستا منزهتين عن التاسيس الايديولوجي". هذه خلاصة اعتراض على مقالة الاسبوع الماضي ، الذي ختمته بالزعم انه لا ينبغي للدولة ان تتبنى خطابا ايديولوجيا متمايزا ، وان واجبها هو تعزيز الاجماع والهوية الجامعة.
ديفيد هيوم |
في رايي ان هذا اعتراض غير وارد. فما يقال في
المجال العام ، لا ينبغي ان يؤخذ حرفيا ، بل ضمن السياق العرفي للفكرة او بيئة
التطبيق. فاذا ذكرت الأيديولوجيا في سياق النقد ، فالمقصود هو الوظيفة الابرز
للايديولوجيا وهي حجب الحقيقة ، وليس انكارها كليا ، أو اعتبارها باطلا مطلقا. لقد
قلت سابقا انه لا يوجد شخص واحد في العالم ، متحرر تماما من قيود الأيديولوجيا او
تاثيرها. الأيديولوجيا أداة للتواصل مع الطبيعة وجمالياتها ، ومع البشر في مشاعرهم
العميقة. وهذه وتلك ليست من الأشياء التي يمكن للعلم وصفه او تفسيره ، على نحو
يستغرق تمام ما يظهر منها وما يختفي تحت سطحها الخارجي. هذه وظيفة تشبه وظيفة الفن
، حيث استعان الانسان بأنواع التعبير الفني ، كي يقتنص الجوانب التي لا يمكن
التعبير عنها بالكلام المباشر. ولو تأملنا ما يقوله الشعراء وما يرسمه الفنانون والموسيقيون
، لوجدنا افضله هو المكرس لتصوير مشهد لايمكن شرحه او وصفه من دون التخييل الفني. عمل
الفنان هو تصوير الفكرة التي لا يمكن اثباتها بالدليل المنطقي او التجريبي ، تصويرها
للسامع او المشاهد حتى كأنه يراها ، فاذا رأى ما يظنه مشهد الفكرة ، فما الحاجة
للتدليل عليها؟.
ولو سألت: لماذا نحتاج الى تصوير الافكار والتخيلات
التي لا برهان علميا عليها ، لأجبتك بأن الافكار نوعان ، نوع يريده الانسان بما هو
، وبالكيفية التي يجده عليها ، ونوع يسعى لتفكيكه واعادة تركيبه. والأول اعمق أثرا
، حتى لو كان أضعف تاسيسا ، لأنه مرتبط بنظرة الانسان الى الحياة ، وهو سابق
للممارسة الحياتية. اما الثاني فيواجه الانسان في سياق حياته اليومية ، في المهنة
او المدرسة او في تعامله مع الناس. ولأن النوع الاول من الافكار سابق للممارسة ،
وان الانسان يتبناه بارادته (التي قد تكون عقلانية – علمية او لا تكون) فانه سيكون
– بالضرورة – حاكما على الثاني. بمعنى انه يحدد زاوية النظر الى الاشياء ، فيحدد –
تبعا لهذا – طريقة فهمها والتعامل معها ، أو ربما يتعايش مع الافكار التي يحصل
عليها الانسان في تجربته الحياتية اليومية
، حتى لو تناقض الاثنان. وقد ذكرت في مقال قديم قصة
جمع من اهل بلدنا يتعالجون في مستشفى اوروبي ، فصلوا الجمعة بامامة واحد منهم ، فدعا
بأن يهلك الله اليهود والنصارى صغيرهم وكبيرهم ، فقام اليه احدهم قائلا: توقف
يارجل .. فلو استجاب الله دعاءك الآن ، فمن يكمل علاجنا ومن يعيدنا الى بلادنا؟.
وكانت هذه اشارة الى الفاعلية المتوازية لنوعي الثقافة: النوع الذي يدعوه للعلاج عند
من يظنه عدوا ، والنوع الذي يدعوه للسعي في فنائه.
هذه الثقافة التي تتحكم في رؤية الانسان للحياة
والاشياء ، هي – في غالب الاحيان – قناعات موروثة او مكتسبة ، لا يسندها دليل قطعي
لا يقبل الشك والجدل. وهي تكوين ايديولوجي ، نريده وان دل الدليل على غيره. ان
فكرة الهوية
الوطنية الجامعة ، مثل اختها فكرة الاجماع الوطني
، من هذا النوع من الافكار التي لا يسهل اثباتها بأدلة لا تقبل الشك او النقض. لكننا
نعرف مئات الشواهد على منافعها ، وما يترتب عليها من صلاح لعامة الناس ، ومئات
الشواهد على المفاسد التي نتجت عن ضعفها او ضياعها ، في زماننا هذا ، في بلدان قريبة
منا. ربما نذهب مع الفيلسوف المعاصر ديفيد
هيوم في ان اقتران شيئين لايعني ان احدهما علة للثاني ، لكن الا يحكم عامة
العقلاء بان الاقتران المتكرر مدعاة للاعتقاد بان بروز الأول سيأتي – غالبا –
بالثاني؟.
الخميس - 30 ذو القِعدة 1445 هـ - 6 يونيو 2024 م https://aawsat.com/node/5028103