اعلم – مثل كثير من
القراء – ان الدعوة المعاصرة للتجديد الفكري والفقهي ، لا تلقى ترحيبا في الوسط
الديني. بل لا أبالغ لو قلت انها تواجه بنوع من الارتياب والتشكك ، في مبرراتها
وتوقيتها والجهات التي تتبناها ، والقضايا التي تطرحها كامثلة عن الحاجة الى التجديد.
"تجديد الدين"
مصطلح مألوف في أدبيات المدرسة الفقهية التقليدية. لكنه مختلف عن المفهوم الذي
يثير النقاش في عالم اليوم. الاسئلة التي يطرحها المفهوم الجديد ، والشواغل التي تشغل
المهتمين به ، لاتماثل تلك التي تشغل رجال المدرسة التقليدية. دعاة التجديد في الفكر الديني اليوم
، لا ينتمي غالبيتهم الى طبقة رجال الدين ، بل الى نخبة ثقافية تشكلت قناعاتها أو
تطورت في إطارات العلم الحديث. ومن هنا فان مجالات اهتمامها تشكلت في سياق انتقال المجتمع
او الاقتصاد الى الحداثة. هذا يعني – ضرورة - أن هذه النخبة تنتمي ، من حيث التصنيف الاجتماعي ، الى
دوائر
مصالح حديثة نوعا ما ، متعارضة مع تلك التي تنتمي اليها المنظومة التقليدية.
تباين النسق
الاجتماعي/المعرفي ، واختلاف دوائر المصالح ، أضاف نقاش التجديد الى مسار الصراع
الذي لا يخلو منه مجتمع في طور النمو ، بين دعاة الحداثة وحماة التقاليد. وبالنظر
لهذا السياق ، فليس متوقعا ان ينحصر الجدل حول تجديد الدين في المستوى النظري ، او
صراع الافكار ، بحسب تعبير المرحوم مالك
بن نبي.
التقليديون يصفون دعاة التجديد بالعلمانية والتميع. كما ان دعاة التجديد
يتهمون التقليديين بالفشل في استيعاب جوهر التحدي الذي يواجه الاسلام المعاصر.
اني اتفهم الاسباب التي
تدعو المؤسسة الدينية التقليدية الى الارتياب في دعاة التجديد ، افكارهم واغراضهم وطرقهم. اعلم ان هذا يحصل
دائما ، لان نجاح الدعوة الجديدة ، يقود عادة الى تغيير التوازنات الاجتماعية ، ومعها
منظومات عريقة من مصادر القوة والنفوذ والقيم. اذا اردت التحقق من صحة هذا
الاستنتاج ، فابحث عن الاشخاص الذين كانوا اغنياء او وجهاء قبل اندماج مجتمعاتنا
في الاقتصاد الحديث ، وقارنهم بنظرائهم الجدد: اين أولئك وأين هؤلاء؟.
غرضي في هذه السطور هو
دعوة التيار الديني مجملا الى تقبل فكرة التجديد ، باعتبارها حراكا متواصلا لا
يتوقف في زمن ، ولا يرتبط بشخص بعينه او قضية بعينها. التجدد والتحول سمة للحياة
الطبيعية ، بل هو ضرورة لها. إذا اردنا للدين الحنيف ان يبقى فاعلا في حياة اتباعه
، متفاعلا مع حياة العالم ككل ، فهو بحاجة الى مواكبة التحولات التي تجري في هذا
العالم ، ولو اقتضى ذلك التضحية بالكثير مما ألفته النفوس ، واعتادت عليه أو
استراحت اليه. اريد توجيه هذه الدعوة بالخصوص الى عامة المؤمنين ، الذين يهمهم
إبراء ذمتهم من اي خلاف لأمر الله ، كما يهمهم – في الوقت نفسه – ان لا يتخلفوا عن
مسيرة المدنية المعاصرة ، ومن هنا فهم
أصحاب مصلحة في التجديد ، بل هم في حاجة ماسة اليه.
أعلم انه ليس سهلا على
المؤسسة الدينية الرسمية في أي بلد ، والقوى الاجتماعية التي تؤازر رجال الدين
عموما ، ليس سهلا عليها التنازل عن افكار ألفتها وارتاحت اليها ، وتشكلت في أفقها وعلى
أرضها علاقات ومصالح ومسلمات. بل ليس سهلا عليها ان تذهب الى هامش المجتمع ، بعدما
سكنت قلبه سنوات طويلة.
هذا ليس بالامر السهل.
لكني لا أظن ان أحدا يملك الخيار. يمكن تأخير التجديد سنة او سنوات. اما ايقافه
فهو رابع المستحيلات كما يقال.
الشرق الاوسط الأربعاء - 15 شوال 1440 هـ - 19 يونيو 2019 مـ
رقم العدد [14813]
مقالات ذات علاقة
التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب الجماهيري
في رثاء د. طه جابر العلواني
نقد التجربة الدينية