12/03/1995

قـطيعـــــة



لسبب ما فان المسلم يعيش منقطعا عن عالم اليوم ، قد لايعني هذا كل المسلمين ، لكن الكثرة الكاثرة منهم كذلك ، والقليل المتصل ، منفصل ـ لاسباب أخرى ـ عن عالم المسلمين الخاص ، يتجسد هذا الانقطاع بصورة حادة في اننا نتأثر ولانؤثر ، نأخذ الكثير ونعطي القليل ، اي ان تفاعلنا مع المحيط الانساني احادي البعد او سلبي ، وانما يعطي الانسان اذا كان بيده مايستحق العطاء ، اما المقل فيبحث عن عطاء الغير .
هذا الانقطاع تسبب في انقطاع آخر اكثر خطورة ، عن الاصول الثقافية ، اي قواعد واطارات المعرفة ، التي تطورت خلال الحقب التاريخية ، التي عاشتها الامة الاسلامية ، منذ ان ظهرت الى الوجود اثر البعثة النبوية .Related image
وقد يكون هذا القول مثار عجب ، فقد جرت العادة على ان يستبدل الانقطاع عن الخارج ، بتواصل مركز مع الداخل ، بما فيه من حاضر وتاريخ ، لكن ماجرى عندنا لم يتبع هذه القاعدة ، التي تنفع ـ عادة ـ من ينقطع عن الخارج استغناء بما عنده ، فانقطاعنا عن عالم الاخرين ، حدث جبرا ، وكانعكاس للقلق المشروع على الذات .

القلق على الذات
 ان اضطرارنا لممارسة دور المتلقي والمتأثر ، وبالتالي العيش في ظرف يصنعه الغير ، ويحدد شروطه واطارات العمل الفعالة ضمنه ،  قد اوجد عندنا قلقا مضاعفا على الذات ، وتمسكا متشددا بالهوية الخاصة ، التي يتهددها انعدام التوازن في العلاقة ، بالتفتت او التهميش .

والحق ان اشد فئات المجتمع المسلم تمسكا بتجسيدات الهوية الخاصة ، هي تلك الفئات الاكثر تعرضا للتهديد الخارجي ، وعلى وجه التحديد المجتمعات المفتوحة على المؤثرات الثقافية النقيضة .
وتتضح العلاقة السببية بين القلق على الهوية ومنتجاته ، وبين الانقطاع عن التراث الثقافي ، في حقيقة ان الانسان الذي يشعر بالتهديد ، اشد حساسية تجاه حدوده ، والحدود انما تكون كذلك ، لانها الاشد وضوحا بين غيرها من العناصر ، التي تمثل مانسميه بالهوية .
وبسبب هذا القلق وبسبب هذه الحساسية المفرطة ، اصبحنا عاجزين عن النظر في ثقافتنا ، اصولها وفروعها ، بمنظار عصرنا ، اي من خلال حاجاتنا الحقيقية ، التي ظهرت او تبلورت كنتاج للتطورات المختلفة ، التي افرزتها حركة الحياة حتى الساعة التي نعيش .
كل زمن ميدان
ان تراثنا الثقافي هو بصورة او باخرى نتاج زمنه ، فكل جزء منه يمثل حصيلة لتجربة ، جرى خلالها تفعيل للافكار والمجردات في الواقع الحياتي ،  باخراجها من صورتها المتعالية الى صورتها الميدانية ، لكن تلك الميادين لم تعد موجودة اليوم ، فكل زمن هو ميدان ، او ان لكل زمن ميادينه الخاصة ، فاذا اردنا اليوم ان نعيد انتاج ثقافتنا في زمننا بالذات فينبغي ان نعيد التجربة ، فنقوم كما قام الذين من فقبلنا ، بتفعيل الافكار والمجردات في ميدان اليوم .

على ان هذا التراث الضخم ليس عينا واحدة ، فمنه ماهو اصول وقواعد ومنه ماهو تجارب ، او نتائج لتجارب يرتبط تقييمها بظرفها الخاص ، الزمني او المكاني ، ولذلك فان التفكير العملي ، ومحاولة التفعيل الميداني ، هو الذي يمكن ان يخبرنا عن القيمة الحقيقية ، لكل جزء من اجزاء التراث ، ليس القيمة العلمية المجردة فحسب ، انما وبصورة خاصة القيمة العملية والتطبيقية ، فلكل علم قيمة ، لكن ماهو مؤكد النفع والفائدة في وقت محدد ، هو الاكثر قيمة في ذلك الوقت .

ولكي نستطيع القيام  بتجربة حقيقية ، فلابد من نظر موضوعي في التراث ، اي التعامل معه كعلم قابل للتطور ، وقابل لاعادة التقييم ، خلافا لما نفعله حاليا بتراثنا ، الذي ننظر الى معظمه  كمجردات متعالية ، معصومة عن قابلية التطور واعادة النظر .

عندما نتأمل في آيات القرآن ، وهو كتاب الله الذي لايأتيه الباطل ، من بين يديه ولا من خلفه ، تواجهنا دعوة ملحة لقراءة تراث الماضين ، الى جانبها تنديد لايقل شدة والحاحا ، بالذين توقفوا عند ماضيهم ، فحولوه الى مجردات ، معصومة عن التقييم الموضوعي .

ليس تسلية
والواضح لكل ذي بصيرة ان دعوة القرآن الى  قراءة سير الامم الماضية ، لايستهدف تسلية المسلم بأخبار ما كان وما جرى ، بل للتأكيد على ان حياة الامم  والمجتمعات ، لاتتحول من حال الى اخرى بصورة عبثية واعتباطية ، هذه التحولات هي تجسيد لفاعلية النظام الكوني ، الذي يحكم حركة الحياة ، وهو ماتعبر عنه الاية المباركة (فهل ينظرون الا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) .

ان النظر في تراث الماضين ، يستهدف بصورة محددة ، معرفة اسرار التحولات التي مرت عليها ، ومراحل التحول ، فجميع الامم التي سبقتنا ، وامتنا نفسها ،  بدأت من الصفر ، ثم اقامت حضارات عظيمة بمقاييس زمنها ، استمرت فترة ثم ضعفت وانهارت .

هذا التحول العظيم لم يجر اعتباطا ، ولذلك فان قراءة تفاصيل التحولات  قراءة موضوعية ، وبذل الجهد في معرفة القوانين التي نظمتها ، ربما يكشف لنا عن الطريق الذي نحتاجه ، لاكتشاف العلل الكامنة في حياتنا ، والتي اعاقت ـ حتى الان ـ محاولاتنا للخلاص من التخلف ، والعيش على هامش العالم .
 ان انهيار الحضارة الاسلامية بعد ان بلغت اوجها ، هو نتاج لانهيارات داخلية ، هي في الجوهر انفراط للنظام الذي قامت هذه الحضارة في اطاره ، كما ان قيامها من قبل ، كان تعبيرا عن اخلاص اهلها ، في التكيف مع متطلبات ذلك النظام .
 لقد بدأ اسلافنا من الصفر ، اقتصاديا وثقافيا وسياسيا ، فاصبحوا في القمة على كل هذه الاصعدة ، لم يكن هذا صدفة ولم يحدث عفوا ، بل هي سنة الله في الذين خلوا من قبل ، سنة الله في كل أمة.
يتجسد انقطاعنا عن تاريخنا وتراثنا ، في اننا لانقرأه بحثا عن سنن التحول ، بل ـ في الاعم الاغلب من الحالات ـ لتبرير واقع قائم او للتفاخر ، وفي بعض الاحيان لمجرد التسلية ، وارضاء نوازع النفس القلقة ، بينما يدعونا القرآن لقراءة ، تستهدف ـ على وجه التحديد ـ الدراسة والاعتبار (لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب) واخشى ان بعض الذين يقرأون القرآن ، لايلتفتون الى مسألة كهذه ، سيما اذا كان همهم ان ينتهوا من قراة الاجزاء الثلاثين قبل ان يداهمهم العيد .

فليكن عيدا مباركا على الجميع ، من اتيحت له فرصة التأمل ، ومن كان همه مجرد تلاوة الثلاثين جزءا ، وكل عام وانتم بخير .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...