لسبب
ما فان المسلم يعيش منقطعا عن عالم اليوم ، قد لايعني هذا كل المسلمين ، لكن
الكثرة الكاثرة منهم كذلك ، والقليل المتصل ، منفصل ـ لاسباب أخرى ـ عن عالم
المسلمين الخاص ، يتجسد هذا الانقطاع بصورة حادة في اننا نتأثر ولانؤثر ، نأخذ
الكثير ونعطي القليل ، اي ان تفاعلنا مع المحيط الانساني احادي البعد او سلبي ،
وانما يعطي الانسان اذا كان بيده مايستحق العطاء ، اما المقل فيبحث عن عطاء الغير
.
هذا
الانقطاع تسبب في انقطاع آخر اكثر خطورة ، عن الاصول الثقافية ، اي قواعد واطارات
المعرفة ، التي تطورت خلال الحقب التاريخية ، التي عاشتها الامة الاسلامية ، منذ
ان ظهرت الى الوجود اثر البعثة النبوية .
وقد
يكون هذا القول مثار عجب ، فقد جرت العادة على ان يستبدل الانقطاع عن الخارج ،
بتواصل مركز مع الداخل ، بما فيه من حاضر وتاريخ ، لكن ماجرى عندنا لم يتبع هذه
القاعدة ، التي تنفع ـ عادة ـ من ينقطع عن الخارج استغناء بما عنده ، فانقطاعنا عن
عالم الاخرين ، حدث جبرا ، وكانعكاس للقلق المشروع على الذات .
القلق
على الذات
ان اضطرارنا لممارسة دور المتلقي والمتأثر ،
وبالتالي العيش في ظرف يصنعه الغير ، ويحدد شروطه واطارات العمل الفعالة ضمنه
، قد اوجد عندنا قلقا مضاعفا على الذات ،
وتمسكا متشددا بالهوية الخاصة ، التي يتهددها انعدام التوازن في العلاقة ، بالتفتت
او التهميش .
والحق
ان اشد فئات المجتمع المسلم تمسكا بتجسيدات الهوية الخاصة ، هي تلك الفئات الاكثر
تعرضا للتهديد الخارجي ، وعلى وجه التحديد المجتمعات المفتوحة على المؤثرات
الثقافية النقيضة .
وتتضح
العلاقة السببية بين القلق على الهوية ومنتجاته ، وبين الانقطاع عن التراث الثقافي
، في حقيقة ان الانسان الذي يشعر بالتهديد ، اشد حساسية تجاه حدوده ، والحدود انما
تكون كذلك ، لانها الاشد وضوحا بين غيرها من العناصر ، التي تمثل مانسميه بالهوية
.
وبسبب
هذا القلق وبسبب هذه الحساسية المفرطة ، اصبحنا عاجزين عن النظر في ثقافتنا ،
اصولها وفروعها ، بمنظار عصرنا ، اي من خلال حاجاتنا الحقيقية ، التي ظهرت او
تبلورت كنتاج للتطورات المختلفة ، التي افرزتها حركة الحياة حتى الساعة التي نعيش
.
كل
زمن ميدان
ان
تراثنا الثقافي هو بصورة او باخرى نتاج زمنه ، فكل جزء منه يمثل حصيلة لتجربة ،
جرى خلالها تفعيل للافكار والمجردات في الواقع الحياتي ، باخراجها من صورتها المتعالية الى صورتها
الميدانية ، لكن تلك الميادين لم تعد موجودة اليوم ، فكل زمن هو ميدان ، او ان لكل
زمن ميادينه الخاصة ، فاذا اردنا اليوم ان نعيد انتاج ثقافتنا في زمننا بالذات
فينبغي ان نعيد التجربة ، فنقوم كما قام الذين من فقبلنا ، بتفعيل الافكار
والمجردات في ميدان اليوم .
على
ان هذا التراث الضخم ليس عينا واحدة ، فمنه ماهو اصول وقواعد ومنه ماهو تجارب ، او
نتائج لتجارب يرتبط تقييمها بظرفها الخاص ، الزمني او المكاني ، ولذلك فان التفكير
العملي ، ومحاولة التفعيل الميداني ، هو الذي يمكن ان يخبرنا عن القيمة الحقيقية ،
لكل جزء من اجزاء التراث ، ليس القيمة العلمية المجردة فحسب ، انما وبصورة خاصة
القيمة العملية والتطبيقية ، فلكل علم قيمة ، لكن ماهو مؤكد النفع والفائدة في وقت
محدد ، هو الاكثر قيمة في ذلك الوقت .
ولكي
نستطيع القيام بتجربة حقيقية ، فلابد من
نظر موضوعي في التراث ، اي التعامل معه كعلم قابل للتطور ، وقابل لاعادة التقييم ،
خلافا لما نفعله حاليا بتراثنا ، الذي ننظر الى معظمه كمجردات متعالية ، معصومة عن قابلية التطور
واعادة النظر .
عندما
نتأمل في آيات القرآن ، وهو كتاب الله الذي لايأتيه الباطل ، من بين يديه ولا من
خلفه ، تواجهنا دعوة ملحة لقراءة تراث الماضين ، الى جانبها تنديد لايقل شدة
والحاحا ، بالذين توقفوا عند ماضيهم ، فحولوه الى مجردات ، معصومة عن التقييم
الموضوعي .
ليس
تسلية
والواضح
لكل ذي بصيرة ان دعوة القرآن الى قراءة
سير الامم الماضية ، لايستهدف تسلية المسلم بأخبار ما كان وما جرى ، بل للتأكيد
على ان حياة الامم والمجتمعات ، لاتتحول
من حال الى اخرى بصورة عبثية واعتباطية ، هذه التحولات هي تجسيد لفاعلية النظام
الكوني ، الذي يحكم حركة الحياة ، وهو ماتعبر عنه الاية المباركة (فهل ينظرون الا
سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) .
ان
النظر في تراث الماضين ، يستهدف بصورة محددة ، معرفة اسرار التحولات التي مرت
عليها ، ومراحل التحول ، فجميع الامم التي سبقتنا ، وامتنا نفسها ، بدأت من الصفر ، ثم اقامت حضارات عظيمة بمقاييس
زمنها ، استمرت فترة ثم ضعفت وانهارت .
هذا
التحول العظيم لم يجر اعتباطا ، ولذلك فان قراءة تفاصيل التحولات قراءة موضوعية ، وبذل الجهد في معرفة القوانين
التي نظمتها ، ربما يكشف لنا عن الطريق الذي نحتاجه ، لاكتشاف العلل الكامنة في
حياتنا ، والتي اعاقت ـ حتى الان ـ محاولاتنا للخلاص من التخلف ، والعيش على هامش
العالم .
ان انهيار الحضارة الاسلامية بعد ان بلغت اوجها
، هو نتاج لانهيارات داخلية ، هي في الجوهر انفراط للنظام الذي قامت هذه الحضارة
في اطاره ، كما ان قيامها من قبل ، كان تعبيرا عن اخلاص اهلها ، في التكيف مع
متطلبات ذلك النظام .
لقد بدأ اسلافنا من الصفر ، اقتصاديا وثقافيا
وسياسيا ، فاصبحوا في القمة على كل هذه الاصعدة ، لم يكن هذا صدفة ولم يحدث عفوا ،
بل هي سنة الله في الذين خلوا من قبل ، سنة الله في كل أمة.
يتجسد
انقطاعنا عن تاريخنا وتراثنا ، في اننا لانقرأه بحثا عن سنن التحول ، بل ـ في
الاعم الاغلب من الحالات ـ لتبرير واقع قائم او للتفاخر ، وفي بعض الاحيان لمجرد
التسلية ، وارضاء نوازع النفس القلقة ، بينما يدعونا القرآن لقراءة ، تستهدف ـ على
وجه التحديد ـ الدراسة والاعتبار (لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب) واخشى ان
بعض الذين يقرأون القرآن ، لايلتفتون الى مسألة كهذه ، سيما اذا كان همهم ان
ينتهوا من قراة الاجزاء الثلاثين قبل ان يداهمهم العيد .
فليكن
عيدا مباركا على الجميع ، من اتيحت له فرصة التأمل ، ومن كان همه مجرد تلاوة
الثلاثين جزءا ، وكل عام وانتم بخير .
نشر
في (اليوم) 11شوال 1415 (12 مارس1995)
مقالات ذات علاقة
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق