12/08/2015

التعليم الديني كمولد للعنف


منذ العام 1995 كانت ظاهرة الارهاب موضوعا ثابتا في الصحافة السعودية. وهو انشغال يتضاعف حين تقع اعمال ارهابية كالذي حدث في عسير الاسبوع الماضي. خلال العشرين عاما الماضية كتبت الاف المقالات واقترحت عشرات المعالجات. لكنك لو نظرت الى صحافة الاسبوع الماضي مثلا فسوف ترى نفس الافكار والمقترحات التي قيلت طوال السنوات الماضية. هذه المقالة تستهدف مساءلة التفسيرات الرائجة ، والمعالجات التي اقترحت على اساسها.
معظم هذه الكتابات يشير الى التشدد الديني كسبب وحيد لظاهرة العنف. وثمة تمايز في تحديد المسؤولية. فهناك من ينسب المشكلة الى الحضور المتضخم للدين في الحياة اليومية ، من المدرسة الى الاعلام فضلا عن النشاطات الرسمية والاهلية الاخرى. وهناك من يقصر المسؤولية على الجانب السلبي من ذلك الحضور ، اي ما يعتبره مزاحما او ناقضا لوجوه الحياة الاعتيادية الاخرى ، مثل الفن والترفيه والثقافة. وبينهم من يقصر المشكل على أحادية الحضور الديني ، اي انحصار الدعوة والتوجيه والثقافة في منهج واحد ومذهب واحد.
فحوى هذا التفسير ان التشدد نتاج للتثقيف الرائج في المحيط الاجتماعي. ومن هنا فالعلاج المقترح يركز على التعددية الدينية والثقافية ، الانفتاح الاجتماعي ، وتقليل الحضور الديني في الحياة اليومية. فهم يدعون مثلا الى تشجع الفنون واصلاح مناهج التعليم العام ، بما فيها تقليل ساعات التعليم الديني ، واستبدالها ببرامج اكثر علاقة بالحياة العصرية.
التيار الديني متفق في المجمل على معارضة التفسير السابق. وهو ايضا شديد الارتياب في علاجاته. لكنه ليس متفقا بنفس القدر على تفسير واحد. التيار العام التقليدي يرى في ظاهرة الارهاب انبعاثا مستجدا لفرق بائدة. ويشير خصوصا الى "الخوارج" الذين عرفتهم عصور الاسلام الاولى. بعبارة اخرى فهو يعتبر الظاهرة انحرافا عقيديا او فقهيا. وتبعا لهذا يقترح دواء من نفس الجنس ، يركز على النصيحة والمجادلة المستندة الى التعاليم الدينية ، بهدف اقناع الارهابيين بالعودة الى الطريق المستقيم. ويبدو ان الاتجاه الرسمي يميل الى هذا التفسير والعلاج. وفي السنوات الماضية كان الاسم الرسمي لجماعات الارهاب هو "الفئة الضالة". والصلة بين الاسم والتفسير واضحة.
في التيار الديني ايضا ثمة من يتهم جماعات دينية- سياسية محددة بالمسؤولية عن انبعاث ظاهرة التشدد. ويذكر عادة اسم الاخوان المسلمين ، باعتبارهم وراء ضخ المضمون السياسي في الثقافة الدينية المحلية. لكن فريقا آخر ، وبينهم كثير من المتأثرين بالاخوان ، يرى في تشدد الشباب وانزلاقهم الى العنف رد فعل على تفشي مظاهر الحداثة في المجتمع. بعبارة اخرى فهو يميل الى التفسير السيوسيولوجي الكلاسيكي للظاهرة المعروفة بصدمة الحداثة. ويقترح تبعا لذلك علاجا انسحابيا ، يتمثل في كبت تمظهرات الحداثة في المجتمع ، ولا سيما في الاعلام والسلوكيات الشخصية.
في العقد الماضي كان ثمة تيار يشدد على دور العوامل الخارجية في بروز ظاهرة الارهاب. فهو لا يرى في المجتمع المحلي قابلية لاستنبات توجهات متطرفة او عنيفة ، وان ما حدث هو ثمرة لنشاط خارجي يستهدف تصدير العنف الى المملكة على وجه التحديد. هذا التفسير لم يعد رائجا في هذه الايام ، لكنك ثمة من لازال يؤمن به ويضرب الادلة عليه.
واضح ان جميع هذه المقاربات تنظر للتشدد كمشكلة ذهنية/ثقافية ، وانها نتاج لعمل تربوي - تثقيفي في المحيط الاجتماعي او حوله. ضمنيا تنظر هذه المقاربات الى الظاهرة باعتبارها مشكلة افراد انفلتوا من النسق العام ، وليست ظاهرة عامة ، ولهذا فليس فيها قابلية لاحتواء جماعات على نحو يتجاوز الفروق الفردية داخلها.
غرضي من هذه الكتابة هو الاشارة الى ان الاعم الاغلب من النقاشات المتعلقة بالارهاب في المملكة لا يهتم بالعوامل غير الذهنية/الثقافية ، او انه لم يحاول مقاربة العوامل السابقة لتشكل الذهنية ، اي العوامل الاجتماعية ، الاقتصادية ، والسياسية التي تسهم في تشكل رؤية الانسان لذاته وللمحيط.
اهمال هذه العوامل ادى في تقديري الى قصور في فهم المشكلة. اني اظن ان تاثير العوامل التي اشرت اليها اكثر عمقا وثباتا ، وان العامل الذي جرى التركيز عليه ، اي التثقيف الديني ، له دور تسويغي وليس تأسيسيا في الغالب. اعتقد ايضا ان معالجة العامل الديني جزء اساسي من معالجة الظاهرة ، لكن وفق مسارات مختلفة عن تلك التي طرحت حتى الآن. ولعلنا نعود الى الموضوع في وقت آخر.
 الشرق الاوسط لأربعاء - 26 شوال 1436 هـ - 12 أغسطس 2015 مـ رقم العدد [13406]

29/07/2015

لا بد من تغيير المسار



توقع صندوق النقد الدولي ان تسجل ميزانية المملكة في هذه السنة (2015) عجزا في حدود 488 مليار ريال. وتم تاكيد سحب 244 مليارا من الاحتياطي العام حتى الان. محللون توقعوا ان يتكرر العجز في ميزانية العام القادم ، الا اذا خفضت بشكل كبير بحيث تقتصر على المصروفات الجارية والقليل فقط من المشاريع العمرانية.
هذا يعيد الى طاولة النقاش جدلا قديما حول حاجة المملكة للتحرر من الارتهان شبه الكلي لمبيعات البترول الخام. يتحدث الجميع تقريبا عن ضرورة التوسع في الصناعة ، حتى تصبح منافسا للبترول في توليد الدخل القومي.
 اعلم ان كثيرا من الناس ، وبعضهم في مواقع القرار ، غير متفائل بقدرتنا على التحول الى اقتصاد صناعي خلال وقت معقول. بعض الكتاب يشكك في قدرة العالم على الاستغناء عن البترول كمصدر رئيس للطاقة. احد المصرفيين كتب يوما ان الصناعة ليست ضرورية طالما كان لدينا المال. كل ما تحتاجه معروض في السوق ، في هذا البلد او ذاك. احدهم قال لي يوما "سمعنا الكلام عن الصناعة والتحذير من الارتهان لاسواق البترول منذ السبعينات ، لكننا – بعد اربعين عاما – ما زلنا اغنى واقوى من الذين حذرونا". هذا وذاك كلام صحيح ، لكنه يكشف نصف الحقيقة فقط. المشكلة اننا لن نستطيع رؤية النصف الثاني الا اذا وقعنا فيه. في الفترة بين 1983-1990 واجهنا نموذجا مصغرا لظرف من هذا النوع. والمؤسف اننا لم ندرس الانعكاسات الكارثية لما حدث في تلك الفترة القصيرة نسبيا. واعني بها الانعكاسات الثقافية والسياسية ، فضلا عن الاقتصادية ، لانخفاض عائدات البترول يومذاك. ولهذا لم نعتبر بما جرى.
لكن الصناعة ليست مسألة اقتصادية فحسب. ثمة جوانب ثقافية وعلمية وسياسية لا تقل أهمية عن جانبها الاقتصادي. كنت قد اشرت في مقال سابق الى دورها في تعزيز الهوية الوطنية والاعتزاز بالوطن. كلنا نعرف ان التطور الصناعي ينعكس على شكل فخر بالوطن والجماعة الوطنية وشعور بالاكتفاء الروحي والثقافي. وهذا يقود الى تعميق الاحساس الداخلي بالانتماء.
كما ان التحول الى اقتصاد صناعي سيوفر ارضية واقعية لانتاج العلم وتطوير التقنيات التي نحتاجها. نحن اليوم ننفق مئات الملايين لتعليم ابنائنا في مختلف الفنون. لكن ظهور مجتمع علمي ، اي توطين العلم والتقنية ، ليس ممكنا دون تحول العلم والتقنية الى مصدر معيشة قائم بذاته. في الوقت الحاضر يستهلك ابناؤنا المتعلمون حياتهم في تطبيق تقنيات طورها غيرهم. مع التحول الى اقتصاد صناعي سيشاركون هم في تطوير التقنيات التي يحتاجونها ، وبهذا يتحول العلم الذي تلقوه في جامعاتهم الى راسمال قابل للاستثمار ومصدر معيشة مستقل.
ثمة من يقدم رؤية متشائمة ، مبنية على قلة كفاءة مجتمعنا وصعوبة انعتاقه من تقاليده. يخبرنا بعضهم ان المجتمع الذي اعتاد الرفاهية السهلة وآمن بالاساطير والتقاليد الخرافية لا يستطيع التحول الى مجتمع صناعي.
وهذا الكلام مثل سابقه ، اقرب الى الهندسة العكسية. في حقيقة الامر هو يرى واقع الحال ،  ويفترض انه قائم بذاته او انه سبب لذاته. لو تأملنا بعمق لوجدناه نتيجة لما فعلنا خلال نصف القرن الماضي. لقد شارك اباؤنا في اقامة مؤسسة متقدمة مثل ارامكو ولم يعجزوا عن التعلم حينما اتيحت لهم الفرصة. اما اليوم فأمامنا فرص اكثر. اطفالنا الذين لا زالوا في على مقاعد الثانوية يملكون من المعلومات اضعاف ما عرفناه يوم كنا في اعمارهم ، وهم منفتحون على التكنولوجيا والتيارات العلمية بما يزيد على حصيلة معظمنا ، رغم فارق السن بيننا وبينهم.
صحيح اننا مجتمع استهلاكي ومتساهل. لكن هذا هو الحال الذي اوصلتنا اليه مقدمات سابقة. وهو قابل للتغيير ، سيما مع اجيالنا الجديدة ، اذا قررنا تغيير المسار.
اعلم ان تغيير المسار ، ليس قرارا سهلا. اعلم ان له تبعات كبيرة ، على الاقتصاد الكلي وعلى معيشة كثير منا. لكني اعلم ايضا ان هذا هو الخيار الوحيد لمستقبل آمن ، ليس فقط في مجال المعيشة ، بل ايضا كي نشعر باننا قدمنا شيئا للاجيال التالية ، قدمنا وطنا يستحقونه ويستحق الفخر به.
الشرق الاوسط  12 شوال 1436 هـ - 29 يوليو 2015 مـ رقم العدد [13392]
http://goo.gl/mCPOVW

22/07/2015

تأثير الاتفاق النووي على بنية السلطة في ايران



الاتفاق النووي مع ايران ، مثل اعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا ، يعتبران – في واشنطن تعبيرا عن سياسة جديدة فحواها تشجيع التحول داخل الانظمة المعادية بدل مقاطعتها او العمل على اسقاطها.
يوم الاثنين الماضي أقر مجلس الامن الدولي بالاجماع اتفاق لوزان النووي بين ايران والمجموعة السداسية ، كما أقره في اليوم نفسه مجلس وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي. وبهذا تبدأ مهلة التسعين يوما السابقة لدخول الاتفاق حيز التنفيذ.
منذ اعلان الاتقاق بدا ان العالم يتعامل مع نتائجه كموضوع على اهبة التحقق فعلا. الشروط الكثيرة التي تضمنها الاتفاق لن تغير من حقيقة ان ايران وشركاءها الدوليين قد فتحوا صفحة جديدة ، مختلفة بعمق عما كان عليه الحال منذ العام 2006.
في داخل ايران  ، ثمة مؤشرات قوية عن انبعاث جديد للتيار الاصلاحي الذي يتبنى الآن طروحات اكثر ليبرالية مما كان عليه في ظل الرئيس الاسبق محمد خاتمي. برز هذا التيار خلال عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني (1989-1997) وكان محور خطابه هو الانتقال الى مرحلة الدولة المدنية. حافظ التيار على وجود معقول في السلطة حتى 2005 ، لكنه كان على  الدوام هدفا لحرب ضروس من جانب تيار المحافظين ، الذي اعتبره تهديدا لمكاسب الثورة وقيمها.
انتخاب محمود احمدي نجاد رئيسا للجمهورية في 2005 حسم الصراع لصالح المحافظين. لكنه كان ايضا الذروة التي تخفي وراءها المنحدر. فقد تباطأ النمو الاقتصادي الذي عرفته البلاد في العقد السابق ، كما توترت علاقاتها مع دول العالم ، وخضعت لعقوبات شديدة ، سيما بعد قرار مجلس الامن رقم 1696  لعام 2006 ، فضلا عن ستة قرارات مماثلة في الاعوام التالية.
تباطؤ الاقتصاد اثمر عن تمرد اجتماعي غير مسبوق ، اجج التنازع بين حكومة نجاد وداعميها المحافظين. كان السلوك التحرري للرجال والنساء في شوارع طهران والمدن الكبرى مثيرا لانزعاج رجال الدين ، الذين رأوا فيها استمرارا لما كان يجري في ظل منافسيهم الاصلاحيين. بينما كانوا يطالبون برقابة اشد ، وقمعا صريحا لكل سلوك يتنافى مع تقاليد المجتمع الديني الخاصة بالمظهر واللباس.
في 2011 تحول المحافظون الى كتل مفككة متصارعة. وبدا ان عودة الاصلاحيين الى الحكم هي المخرج الوحيد من مسلسل الازمات. حين اعلن حسن روحاني ترشيح نفسه للرئاسة في 2013 قال انه استبق ذلك بعرض برنامجه السياسي على مرشد الثورة علي خامنئي ، وان هذا البرنامج يتضمن خصوصا ترميم علاقات ايران الدولية واطلاق مصالحة وطنية.
من المفهوم ان زعماء المحافظين وقادة الحرس الثوري ليسوا سعداء بخطوات روحاني. بل ان قائد الحرس الثوري قال صراحة ان قرار مجلس الامن الذي أقر اتفاق فيينا قد "خرق الخطوط الحمراء للجمهورية الاسلامية". من المتوقع ايضا ان يواجه وزير الخارجية مساءلة قاسية في مجلس الشورى الذي يسيطر عليه المحافظون حين يعرض عليهم الاتفاق. لكن الجميع في طهران يعلم ان المجلس سيوافق ، لأن المحافظين لا يملكون خيارات بديلة ، ولأن الحكومة ذات الميول الاصلاحية تراه حجر اساس في سياساتها الداخلية والخارجية.
هذا يعني اننا نقترب من تحول جذري في المشهد السياسي الايراني ، عنوانه انبعاث التيار الاصلاحي من جديد. اذا نجح روحاني في تثمير اتفاق فيينا على صعيد الاقتصاد ، من خلال اعادة تحريك المشاريع المجمدة ، وزيادة الاستثمار المحلي والاجنبي ، اي – بشكل عام – اخراج الاقتصاد الايراني من حالة الانكماش الحالية ، وتحسين مستوى المعيشة لعامة الناس ، فانه سيعزز صورة التيار الاصلاحي كخيار وحيد لقيادة البلاد. هذا سيؤدي بالضرورة الى تراجع النفوذ السياسي لرجال الدين المتشددين وقادة الحرس الثوري ، لصالح الصناعيين ورجال الاعمال.
بالنسبة للرئيس الامريكي باراك اوباما فان تشجيع تحولات مثل هذه ، حتى مع بقاء النظام ، يعتبر هدفا يستحق العناء. وهي سياسة اتبعها مع كوبا ايضا ، خلافا للاستراتيجية الامريكية السابقة التي تؤكد على تفكيك الانظمة السياسية المعادية وليس اصلاحها.
الشرق الاوسط 5 شوال 1436 هـ - 22 يوليو 2015 مـ رقم العدد [13385]
https://aawsat.com/node/412161/

15/07/2015

تمكين المجتمع .. الخطوة الاولى



يتفق الجميع فيما اظن على ان العدالة هي ابرز تطلعات الناس في مختلف بلاد العالم ، في هذا الزمان وفي سائر الازمنة. ويحفل تراثنا الثقافي بالكثير من القيم والمقولات التي تمجد العدالة وتدعو اليها. لكن نقاشاتنا الراهنة تبدو مشغولة بالمثال الاعلى ، اي العدالة في صورتها المجردة ، فقيرة فيما يخص التفصيلات القابلة للتطبيق والحساب.
التوزيع العادل للموارد والفرص المتوفرة في المجال العام ، هو – على الارجح - الموضوع الأكثر إثارة لنقاشات الفلاسفة وعلماء السياسة في القرن العشرين. السبب في ذلك هو ان هذا المفهوم يشكل جوهر الرابطة الاجتماعية ، والهدف الاعلى لأي نظام سياسي. لقد تباعد مفهوم العدالة التوزيعية الحديث عن جذوره الفلسفية النظرية التي ورثناها عن ارسطو ، واندرج بشكل متزايد في النقاشات المتعلقة بالاقتصاد والسياسة ، حيث اتخذ عنوانا اكثر خصوصية ، هو "العدالة الاجتماعية". التطور الاخر البارز في الابحاث الخاصة بهذا المجال ، هو التركيز على "تمكين" المجتمع والافراد ، باعتبارهم محور الجدل حول مسألة العدالة.
يدور مفهوم التمكين حول جعل الافراد ، ومن ورائهم المجتمع الاهلى ككل ، مساهمين فاعلين في تحقيق العدالة لأنفسهم ، بدل التعويل الكامل على الدولة ، كما كان الامر في الماضي. من المفهوم ان الدولة ستحتفظ بدور توجيهي في هذا المجال ، لكن المجتمع سيكون الحامل الرئيس لعملية توزيع الموارد. نجاح هذا التحول مشروط – على اي حال – بتقبل رجال الدولة لتحويل هذه المهمة الى المجتمع. وقد اشرت الى هذا الشرط بالخصوص لسبب واضح ، هو الميل الطبيعي عند الدولة للتمركز واحتكار مصادر القوة. وهو ميل يظهر بوضوح اكبر في الاقطار النامية والمجتمعات التقليدية مثل مجتمعنا.
وللمناسبة فان شرائح مؤثرة في النخب السياسية ، حتى في البلدان الصناعية ، لا  تظهر تعاطفا مع هذا الاتجاه ، سيما مع الربط العضوي بين تمكين المجتمع وتخلي الدولة عن مصادر القوة ، وبينها قوة التأثير في الاقتصاد. لعل ابرز النجاحات التي تحققت في هذا المجال ، في الولايات المتحدة مثلا ، هو تقبل الدولة بشكل نهائي لفكرة تخليها عن اي عمل ذي طبيعة تجارية ، وهو جزء من المهمة. بعض المفكرين يربط تلك المقاومة بمفهوم التمايز الذي يسم ثقافة النخب السياسية ، وبعضهم يربطه باعراض المجتمع نفسه عن تولي أمر نفسه ، وميل الغالبية ، سيما الطبقات الشعبية الى الاتكال على الدولة حيث استطاعوا الى ذلك سبيلا.
لهذه الاسباب فان تمكين المجتمع في صورته النهائية قد يأتي متأخرا جدا. لكن الخطوات الاولى ليست قليلة الاهمية والتأثير. نحن نتحدث عن تمكين الناس من تطوير حياتهم على النحو الذي يرتضونه لأنفسهم. هذا يتطلب مجموعة مقدمات تستطيع الدولة انجازها دون كلف سياسية كبيرة . من بين الخطوات الضرورية في هذا المجال ، نشير الى تطوير المنظومات القانونية بما يجعل الانطلاق سهلا على الافراد ، تعديل الانظمة الخاصة بحركة الرساميل ، وتمكين الافراد من الحصول على تمويل سهل ومناسب من المصارف ، أو السماح باقامة قنوات تمويل موازية.
 لكن كل هذه المبادرات قد لا تكون مؤثرة ما لم نبدأ بوضع استراتيجية وطنية لتشجيع ودعم المؤسسات الفردية الصغيرة والمتوسطة ، بحيث تصبح على المدى المتوسط (10 سنوات مثلا) مساهما ملموسا في الناتج القومي العام وتوليد الوظائف.
زبدة القول اننا بحاجة لاقناع الدولة بأن تتخفف من اعباء الاقتصاد ما استطاعت. لكن ليس بتركه هملا او تسليمه لاسماك القرش المفترسة. بل بمساعدة الطبقة المتوسطة على الانتقال التدريجي ، من هامش المنافسة الاقتصادية الى قلبها. ان الهدف المحوري لاستراتيجية كهذه هو تمكين عامة الناس ، الاذكياء والطامحين منهم خصوصا ، على الامساك بأقدارهم ، والتحول من ارقام هامشية في المجتمع الى قوة مؤثرة في تسيير الحياة الاجتماعية وبناء المستقبل. وفي ظني ان تحولا كهذا سيخلق دينامية جديدة تخدم الاستقرار وتقاوم الميول التأزيمية او الانقسامية.
الشرق الاوسط 28 شهر رمضان 1436 هـ - 15 يوليو 2015 مـ رقم العدد [13378]
https://aawsat.com/node/406781/

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...