29/06/2009

الانتخابات الايرانية وعالم السياسة المتغير



الاحتجاجات التي اعقبت اعلان نتائج الانتخابات الايرانية التي عرفت باسم جنبش سبز=الحركة الخضراء) تكشف عن حقيقة السياسة كعالم متغير : كل خطوة فيها تولد نقيضها واسباب نهايتها المنتظرة .
في هذه الانتخابات سجل المحافظون هدفهم الاهم فاحتفظوا بالرئاسة . لكنهم دفعوا ثمنا غاليا جدا ، ربما ستظهر انعكاساته في الانتخابات النيابية بعد عامين . 
يتألف التيار المحافظ بشكل رئيسي من فريقين ينتميان الى تصنيف طبقي – سياسي مختلف ، اي مصادر نفوذ مختلفة واحيانا متعارضة . جاء الرئيس نجاد من جناح غالبه من متوسطي العمر ينتسب الى الطبقة الوسطى ، وتبلورت تجربته السياسية من خلال العمل الاداري في مؤسسات الدولة . اما الجناح الاخر الذي يوصف بانه تقليدي فقد تبلورت تجربته السياسية من خلال العمل الاهلي في مؤسسات دينية او في السوق ويستمد قوته من نفوذه في الشارع ومن دعم الهيئات الدينية. تاريخيا كان الفريقان على طرفي نقيض ، فالاداريون يميلون الى توسيع نفوذ الدولة وضبط المؤسسات الاهلية ، وهذه تمثل بذاتها مصدرالقلق الرئيس عند الفريق التقليدي الذي يميل بشدة الى الاستقلال عن الدولة وانظمتها الضيقة .
رغم التفارق السياسي والاجتماعي ، يحمل الجناحان المحافظان ايديولوجيا سياسية متماثلة الى حد كبير. عنصر الاجماع هذا هو الذي وحد انشغالاتهم بعدما اكتسح الاصلاحيون الشارع بين 1997 الى 2005.  يحمل الاصلاحيون ايديولوجيا سياسية مختلفة تماما ويسعون الى اهداف يعتبرها المحافظون عائقا امام نموذج الدولة التي يحلمون بالوصول اليها . في العام 2003 وحد المحافظون صفوفهم ونجحوا في ثلاث جولات انتخابية كبرى ، بدأت بالانتخابات النيابية ثم المحلية وتوجت بفوز مرشحهم بالرئاسة ، احمدي نجاد ، في 2005. لكن السياسة ابت ان تغادر طبيعتها كعالم متغير ، فكل نجاح حمل معه تناقضات اضافية اعادت تفكيك التيار الذي نجح بعد لاي في توحيد صفوفه .

 ويبدو لي ان الفوز الاخير هو ايضا نهاية التشكيل الكلاسيكي للتيار المحافظ. خلال الحملة الانتخابية شن الرئيس المرشح احمدي نجاد وانصاره حملة شرسة على عدد من زعماء المحافظين ابرزهم ناطق نوري الذي ادار عملية توحيد الاجنحة المحافظة في 2003 وكان قبل ذلك مرشح التيار للرئاسة في 1997 ، كما شملت الحملة هاشمي رفسنجاني الذي يقف في منتصف الطريق بين المحافظين والاصلاحيين لكنه يعتبر حليفا اساسيا للمحافظين التقليديين.

كان المتوقع بعد فوز احمدي نجاد بالرئاسة ان يبادر الجميع الى الاحتفال ، لكننا لاحظنا ان ابرز زعماء المؤسسة الدينية في مدينة قم قد تجاهلوا الامر بشكل مثير للانتباه ، فلم يبادر اي منهم بتهنئة الرئيس الجديد ولا اعلنوا تاييدهم لاجراءات الحكومة في مواجهة غضب الاصلاحيين. كما ان رئيس المجلس النيابي ونوابه قاطعوا الاحتفال الذي اقامه الرئيس احمدي نجاد لمناسبة فوزه. 

ثمة انباء عن جهود يبذلها الرئيس السابق رفسنجاني ورئيس المجلس النيابي علي لاريجاني للتوصل الى تسوية . ويسعى رفسنجاني الى ضمان دعم المراجع الدينية في قم فضلا عن اقطاب الجناح التقليدي. واذا نجح هذا المسعى  فهو سيكون بالضرورة على حساب المحافظين الشباب والرئيس المنتخب . فالمفهوم ان هذه المحاولة لا تستهدف دعم الرئيس بل استعادة المحافظين التقليديين للمبادرة ، وبالنظر لما يشهده الشارع من احتجاجات وغليان فان حصة الاصلاحيين في الحل المنتظر ستكون بالتاكيد معيارا لقبول او رفض هذا الحل. فالقلق الذي ولدته الاحتجاجات لا يتعلق بدور الجناح التقليدي بل بمطالب الاصلاحيين . في الحقيقة فان كل مسعى للحل بحاجة الى استثمار الغضب الذي عبر عنه انصار الاصلاحيين كي يبلغ غايته.

الحل الذي يسعى اليه رفسنجاني هو تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة نجاد تضم اصلاحيين ومحافظين تقليديين . لكن هذا مستبعد في ظني اذا لم تتغير التوازنات الحالية ، اي اذا لم يجد مرشح الجمهورية سلطته ومكانته مهددة بشكل جدي . مرشد  الجمهورية لا يفضل مثل ذلك الحل لانه سئم من السياسيين المحترفين (بمن فيهم رفسنجاني ولاريجاني)، وهو يميل الى حكومة تكنوقراط يلعب فيها الوزير دور مدير اعلى لا دور رجل سياسة . لكن في كل الاحوال فان الموقف المعترض للتقليديين ، والموقف المعارض للاصلاحيين سوف يلقي ظلالا قاتمة على مكانة وعمل الرئيس في السنوات الاربع القادمة. ومن المؤكد انه سيكون اقل قوة واندفاعا مما كان عليه خلال الفترة الرئاسية الاولى.

عكاظ 29 يونيو 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...