الجدل الذي رافق الاعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية في ايران يكشف عن منطقين يتنازعان الراي العام : منطق يرى ان المجتمع هو وعاء السلطة ومصدر الشرعية السياسية. وبالتالي فان الرئيس الصالح هو ذلك الذي يحمله الجمهور الى سدة الحكم . بينما يرى المنطق الثاني ان الحكم وظيفة خاصة باصلح الناس وافضلهم. وان اهل الحل والعقد ، اي اقطاب النظام الاجتماعي ، هم الاقدر على تحديد الشخص المؤهل لاعتلاء سدة الحكم.
يقوم
المنطق الاول على ارضية فلسفية تطورت صورها الحديثة ضمن الاطار المعرفي الاوربي ،
ويلخصها مبدأ العقد الاجتماعي . وفقا لهذا المبدأ فان السياسة لا تعرف مفهومي الحق
والباطل (بالمعنى المتداول في الثقافة العربية) ، بل تدور قيمة الفعل السياسي بين
الصواب والخطأ . الصواب والخطأ ضمن هذا الاطار ليست مفاهيم مجردة او موضوعية ، بل
هي تعريفات عقلائية لوقائع قائمة على الارض ، وهي تتغير بين ظرف واخر . فالصحيح هو
ما اثبته العرف العام في البلد ، والخطا هو ما اعرض عنه العرف.
الرجوع
الى العرف العام يستند الى تراث ضخم من التجارب الانسانية منذ ظهور التفكير
السياسي حتى اليوم . وقد ناقشه الاصوليون المسلمون ضمن بحوثهم حول دور العرف في التشريع ، والادلة العقلية ، ولا سيما في جواز الرجوع الى بناء العقلاء ، والحسن
والقبح العقليين ، وهي من المباحث المشهورة في اصول الفقه.
اما في
اوربا فقد تطور المبدأ بعدما تخلى المفكرون عن التفسيرات الفلسفية القديمة للعلاقة
بين المجتمع والسلطة ، وبينها خصوصا الكاثوليكية التي تتحدث عن سياسة تستند الى
معايير سماوية معرفة ومحددة مسبقا ، وتلك التي ترجع الى الفلسفة اليونانية القديمة
ولا سيما فلسفة سقراط وتلاميذه التي فكرت في السياسة من خلال مفهوم غاية الخلق
وغرضه ، ونظرت الى السلطة باعتبارها مكانا لاعلم الناس الذين يتولون تربية المجتمع
وهدايته الى طريق الكمال.
يرجع
المنطق الثاني ، اي سلطة الافضل والامثل ، الى مفهوم "اهل الحل والعقد"
الذي تطور في اطار التجربة التاريخية الاسلامية ولا سيما بعد القرن التاسع
الميلادي ، وهو يقترب الى حد كبير من التفكير اليوناني المشار اليه ، بل يمكن
الجزم انه قد تأثر به بشكل عميق. وهو على اي حال يوافق هوى قويا عند النخبة
العلمية ولا سيما في مدارس العلم الشرعي . سوف تجد الربط الشديد بين العلم والسلطة
منتشرا عند معظم الفقهاء والمفكرين المسلمين ، ولا سيما في القرنين العاشر والحادي
عشر الميلادي ، كما تراه عند من نقل عن اولئك او تاثر باعمالهم من المعاصرين .
وتبدو
مبررات هذا الاتجاه مقبولة لدى كثيرين ، فهم يقولون ان السلطة حرفة تحتاج مثل اي
حرفة اخرى الى علم ، وهذا العلم موجود في مدارس العلم الشرعي وفي شروح النص الديني
وتفسيراته. ولهذا فان اهل هذا العلم هم الاقدر على ممارسة السلطة . كما ان السلطة
مظنة للفساد او الاستغلال فيلزم ان تعطى الى العادل الكامل . والعدالة ليست من
الصفات الفطرية في الانسان بل هي تنمو مع تربيته وتدريبه على الفضائل وطرق اكتشاف
الحقيقة وكسب المعرفة ، وهذا يوجد في الدين وينمو في نفس الانسان حين يكرس حياته
لدراسة علومه.
يميل
الدستور الايراني الى المنطق الاول اي اعتبار المجتمع وعاء للسلطة ومصدرا للشرعية
. بينما تميل النخبة الدينية الايرانية الى المنطق الثاني ، اي اعتبار السلطة السياسية
مكانا للامثل والافضل. من الناحية النظرية فان الانتخابات الرئاسية تدور وفقا
للاول ، لكن السلطة الحقيقية اديرت – على الاقل خلال العقدين الماضيين – وفقا
للثاني.
في
الانتخابات الاخيرة حاول الجمهور ، ولا سيما جيل الشباب ، قلب المعادلة والعودة
الى روح الدستور . لكن فشلهم يظهر ان مصادر القوة لا تزال في ايدي النخبة ، وانها
قادرة على التحكم في اتجاهات التغيير من خلال تحكمها في اتجاه الانتخابات
ونتائجها. الجدل حول سلامة الانتخابات سيؤدي بالتاكيد الى استقطاب اجتماعي متزايد
بين مؤيدي المنطقين ، واظن انه سيترك تاثيرا كبيرا على التفكير السياسي في الاطار
الاسلامي ، لا سيما في الاساس الفلسفي للسلطة والشرعية السياسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق