17/01/2018

موعد الوفاة





أتأمل أحياناً في مسيرة أشخاص مثل سليمان الراجحي المصرفي السعودي المعروف، وجيف بيزوس مؤسس شركة «أمازون»، ومراد أوميدبار مؤسس منصة «إيباي»، وجاك ما مؤسس منصة «علي بابا» الصينية، وستيف جوبز مؤسس شركة «أبل». أتساءل: ما الصفة التي يشترك فيها هؤلاء الرجال، حتى فتحوا عالم المال والنجاح؟
سليمان الراجحي
قرأت عن كل هؤلاء واستمعت لحديثهم، فوجدتهم جميعاً يشيرون إلى الصفة التي سوف أسميها «اصطياد اللحظة». هذا تعبير يعرفه محترفو التصوير. لكنه قابل للتطبيق في مختلف مجالات الحياة. ثمة أشخاص يدركون الفرص التي تتاح في لحظة من اللحظات، فيقبضون عليها في وقتها، فتنقلب حياتهم رأساً على عقب. وثمة أشخاص تمر بهم عشرات الفرص، فلا يدركون قيمتها، فتذهب إلى غيرهم.
مناسبة هذا الكلام هو مقال الأستاذ خالد المالك، رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة»، الذي قال إن الصحف المحلية استنفدت خياراتها ولم تعد قادرة على الاستمرار، ما لم تحصل على دعم مالي من الدولة («الجزيرة» 11 يناير/ كانون الثاني 2018).
أثار المقال جدلاً كثيراً في الوسط الإعلامي. وقرأت حتى الآن أربعة مقالات في التعليق عليه.
نعلم أن الصحافة المحلية تواجه أياماً صعبة، فقبل أسابيع قليلة توقفت صحيفة «الشرق» اليومية، التي كانت تصدر في مدينة الدمام.
معظم الذين علقوا على مقالة الأستاذ المالك، ساندوا مطالبته الحكومة بدعم الصحف. انطلاقاً من تبرير رئيسي يدور حول استمرار حاجتنا إلى وسائل صنع وتوجيه الرأي العام.
في رأيي أن الصحافة المحلية فشلت في اصطياد اللحظة التاريخية التي أطلقتها ثورة الاتصالات، فانفصلت عن جمهور المستهلكين الجديد، وبالتالي فلم تعد أداة فعالة لتوجيه الرأي العام.
291072في 1989 نشر عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاسلز كتابه «المدينة المعلوماتية (The Informational City)»، الذي جادل بأن انتشار الإنترنت على مستوى العالم، سيغير أبرز النماذج المرجعية لحياة الإنسان المعاصر، أي نموذج المعرفة/ الذهنية، ونموذج الهوية/ الذات، ونموذج الإنتاج والاستهلاك/ العلاقة مع الغير. في أعماله اللاحقة قدم كاسلز نظرية متكاملة عن «المجتمع الشبكي»، أي المجتمع الذي يسير حياته من خلال الإنترنت، بوصفه عالماً جديداً، يستوعب مقومات العالم التقليدي، لكنه يتبع مسارات ومناهج عمل وقيماً مختلفة، وينتج تبعاً لهذا، نتائج مغايرة. 

نعلم طبعاً أن جميع الصحف لديها مواقع على الإنترنت. ونعلم أيضاً أن هذه المواقع مجرد صورة رقمية عن الصحيفة الورقية. فهي لا تنتمي لعالم الشبكات الجديد ولا تقدم شيئاً لمستهلكيه. لقد كانت مجرد خدمة إضافية للقارئ التقليدي الذي اعتاد على الورق.
أما الجيل الجديد الباحث عن مادة تحاكي نموذج المعرفة الجديدة، ونموذج الهوية الجديدة، ونموذج الإنتاج الجديد، فإنه بالتأكيد لن يجد مبتغاه في صحافة الورق الإنترنتية.
زبدة القول أن مشكلة الصحافة المحلية لا تكمن في الورق ولا الإنترنت. بل في انتمائها لنموذج حياة يوشك على الأفول.
تدهور الصحف ليس ناتجاً عن ارتفاع التكاليف، بل لأن العالم الذي تخاطبه قد أفل. ولذا فإن ضخ المال فيها لن يؤدي إلا إلى تأخير الوفاة الحتمية لبضعة أشهر أو بضع سنوات.
التنفس الاصطناعي ليس علاجاً. العلاج في تصميم نموذج جديد لأدوات صناعة الرأي العام، قادر على استيعاب التحولات العميقة في مجتمع اليوم والقيم المؤسسة له ومناهج عمله. هذه مهمة لا يستطيع أهل الصحافة القائمة إنجازها، لأنهم ينتمون إلى عالم مختلف عن عالمها.
الشرق الاوسط الأربعاء - 29 شهر ربيع الثاني 1439 هـ - 17 يناير 2018 مـ رقم العدد [14295]

مقالات ذات علاقة

 

10/01/2018

صدمة التراث الاسطوري



في الموقف من الفلسفة ودخالتها في تشكيل المفاهيم الدينية ، انقسمت المدرسة الدينية الشيعية الى فريقين: فريق اعتبر الفلسفة تهويما في عوالم بعيدة عن الطبيعة المباشرة والبسيطة للنص ، وفريق اعتبر العقل شريكا للنص في ادراك الحقيقة المركبة والمعقدة للوجود.

ملاهادي السبزواري
لازال الجانب الاعظم من نقاشات الفلسفة الدينية التقليدية ، يدور في إطار الرؤى التي وضعها صدر الدين الشيرازي (1571- 1640م) ، ولا سيما في كتابه الشهير "الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة". يعرف الشيرازي ايضا بالملا صدرا وصدر المتألهين. وقد كرس كتابه لتجسير الفجوة بين مقولات الفلسفة اليونانية ، والمفاهيم التي تطورت في الاطار المعرفي الاسلامي ، خاصة تلك التي تبدو متعارضة مع التفسير المادي للعالم.

نشر علماء كثيرون شروحا على الكتاب ، ابرزها حاشية الملا هادي السبزوراي ، المتوفى في 1873م.  

في حديثه عن نعم الله على عباده ، ذكر الشيرازي خلق الحيوانات: "وبعضها للاكل.. وبعضها للركوب والزينة.... وبعضها للنكاح". ويستفاد من العبارة ان النساء نوع من الحيوان. واستدل عليها بالاية المباركة (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا). وعلق السبزواري على هذا بقوله "ادراجها في سلك الحيوانات ايماء لطيف إلى أن النساء ، لضعف عقولهن وجمودهن على ادراك الجزئيات ورغبتهن إلى زخارف الدنيا ، كدن ان يلتحقن بالحيوانات الصامتة حقا وصدقا. أغلبهن سيرتهن كالدواب. ولكن كساهن صورة الانسان ، لئلا يشمئز عن صحبتهن ويرغب في نكاحهن. ومن هنا غلب في شرعنا المطهر جانب الرجال وسلطهم عليهن في كثير من الاحكام". (الحكمة المتعالية للشيرازي ، ط3 دار احياء التراث العربي-بيروت، 3/136 -الهامش)

تذكرت هذا النص وأنا أقرأ مقالا للدكتور ابراهيم المطرودي (الرياض 3 ابريل 2013) نقل فيه نصا مماثلا للمفسر الشهير الفخر الرازي ، في تفسير الآية (خلق لكم من أنفسكم أزواجا) حيث اعتبرها دليلا على أن "النساء خلقن كخلق الدواب والنبات ... خلق النساء من النعم علينا، وخلقهن لنا، وتكليفهن لإتمام النعمة علينا، لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا... لأن المرأة ضعيفة الخلق، سخيفة، فشابهت الصبي". 

ويستدرك المطرودي بأن الرازي "يسحب ثقافته التي كوّنها عن المرأة بنفسه أو شاعت في زمانه، ويجعلها جزءاً من النص الديني، فتتحوّل بفعله الكتابي التفسيري من موقف شخصي أو ثقافي اجتماعي إلى معنى ديني، يجد سنده في النص الديني نفسه، ويصبح بعد ذلك جزءا منه".

مضت قرون منذ كتب الاعلام الثلاثة تلك الكتب ، وتوالى عليها علماء كثيرون بالقراءة والشرح والتدريس. لكن احدا من هؤلاء – فيما نعلم - لم يوجه نقدا لمثل المقولات المذكورة أعلاه. وهي للمناسبة متكررة بصيغ شتى عند فقهاء ومحدثين آخرين.

صحيح ان فقهاء اليوم ما عادوا يكتبون اشياء كهذه. وصحيح ايضا ان المئات ممن قرأوها طيلة القرون الماضية لم يتعرضوا لها بالنقد ، لم يقولوا انها بعيدة عن روح الدين ، غريبة على الذوق الانساني السليم.

اعلم ان بعض الناس سيشعر بالصدمة حين يقرأ تلك النصوص. وبعضهم سيقول ان "لكل فارس كبوة" ولا يؤاخذ عالم بهنة هنا او هناك. لكن ما يهمنا بيانه هو ان تلك الأقوال نتاج لثقافة سادت في زمن ، ثم جرى تثبيتها وتمريرها عبر الأزمان ، فباتت جزء من تكويننا الثقافي ورؤيتنا للعالم حولنا. ان رؤيتنا المشوشة للطبيعة الانسانية ، حقوق الانسان ، حرية الاعتقاد والتفكير ، المساواة ، ومواقفنا في حالات الخلاف والاختلاف ، متأثرة بعمق بذلك النوع من الموروث الثقافي الذي استوعب قدرا غير قليل من التصورات الاسطورية ، وأعاد انتاجها كجزء من الرؤية الدينية للعالم.


الشرق الاوسط الأربعاء - 22 شهر ربيع الثاني 1439 هـ - 10 يناير 2018 مـ رقم العدد [14288]


مقالات ذات علاقة




اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...