13/01/2016

واتس اب (1/2) أغراض القانون


|| غرض القانون هو تمكين عامة الجمهور من التمتع بحياتها وتحقيق حاجاتها في إطار القانون، وليس محاصرة الأقلية الفاسدة، ولو أدى الى محاصرة الأكثرية الصالحة معها||


ربما ترغب ايضا في قراءة واتس اب – 1 عتبة البيت


نشرت صحيفة مكة (6 يناير 2016) حديثا للمحامي عمر الجهني ، فصل فيه الحمولة القانونية لما يتداوله الناس على اجهزة الهواتف الذكية ، سيما عبر برنامج التواصل الشهير "واتس اب". وقد انشغل الناس كثيرا بالعقوبات التي ذكرها المحامي. وهي في المجمل غير واقعية ولا معقولة. تلك العقوبات ليست موضوع هذه المقالة. بل الارضية التي يبنى عليها القانون: هل هي ردع الفاسدين عن العدوان ام صون حرية الصالحين.

أما الداعي لهذا الحديث فهو قلقي من انزلاق – غير مقصود في الغالب – من التنظيم الى التضييق. دعنا اذن نبدأ من أول المسألة اي سبق الحرية للقانون وكونها أصلا سابقا عليه في القيمة والترتيب. وزبدة القول هنا ان المشرعين وواضعي القانون ينقسمون الى صنفين بحسب الخلفية الذهنية التي يبنون عليها رؤيتهم للحياة والناس. الصنف الأول يرى البشر خيرين بفطرتهم وطبعهم الأولي. فالاغلبية الساحقة من الناس يريدون العيش بسلام. وثمة أقلية صغيرة انحرفت عن هذا الطريق بالفكر او السلوك . اما الصنف الثاني فيؤمن ان البشر في طبعهم الأولي أميل للشر والعدوان. ولو تركوا دون رقيب او رادع ، لأحيوا  اسطورة "حرب الجميع على الجميع" التي جادل دونها الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز.
واجه الصنف الأول إشكالية تعارض المصالح بين اعضاء المجتمع ، الذين يتمتعون جميعا بنفس القدر من الحرية ، فركز على تنظيم الطرق التي يسلكونها ، كي يحصلوا على قدر متساو من الحقوق. وهذا هو مفهوم القانون عند من يؤمن بخيرية البشر. اي ان غرض القانون هنا هو تنظيم المجال العام على نحو يوصل جميع الناس الى حقوقهم ، ويصون حرياتهم ، ويمنع بغي بعضهم على بعض.
واجه الصنف الثاني نفس الاشكالية ، فركز على الثغرات التي تسمح للأقلية الفاسدة بالعبث والعدوان على الناس. ولهذا وضع القانون على شكل جدار ضخم فيه بعض الأبواب. اي ان الغرض الأول للقانون هنا ، ليس تمكين عامة الناس من التوصل الى حقوقهم ، بل منع الفاسدين من الفساد.
يتلخص خطاب الصنف الاول في العبارة التالية: من أراد الوصول الى حقه فالقانون هو أسهل الطرق. الجميع احرار في إطار القانون. بينما يتلخص خطاب الصنف الثاني في العبارة التالية: "امشي جنب الحيط" كما يقول اشقاؤنا المصريون. فالقانون بالمرصاد لمن يجرؤ على تجاوز الطريق المرسوم.
بعض الناس لا يرى فرقا جوهريا بين الخطاب الأول والثاني. أما فلاسفة القانون والسياسة ، فوجدوا في الأول أرضية فلسفية للتنظيم السياسي العادل ، كما وجدوا الثاني ارضية لمعظم الانظمة السياسية المستبدة.
بالعودة الى قصة عقوبات الواتس اب التي يتداولها الناس ، يحسن القول ان الاكثرية الساحقة من المواطنين الذين يستعملون هذا النظام لا يخطر في بالهم ، بل ولا يتخيلون مجرد تخيل ، ان يستعملوه ضد مصالح البلد او لخرق قانونها او تهديد أمنها. رغم ان هناك بالتأكيد بضع عشرات من الناس يفعلون هذا. فهل يصح وضع قانون يحجب حق الاكثرية الساحقة في التواصل ، لا لسبب غير سد الطريق امام أقلية صغيرة ، أي معاقبة الاكثرية بجرم الأقلية؟.
ان الجواب على هذا السؤال يكمن في التوصيف السابق. فهل الغاية من القوانين التي نضعها هو تمكين العامة ، أي الاكثرية الساحقة ، من التمتع بحياتها وتحقيق حاجاتها في إطار القانون ، أم غاية القوانين محصورة في محاصرة الأقلية الفاسدة ، ولو أدى الى محاصرة الأكثرية الصالحة معها؟.
ولنا عودة الى الموضوع من زاوية اخرى.
الشرق الاوسط 13 يناير 2016

http://aawsat.com/node/542821



06/01/2016

تأملات في حدود الفردانية

يبدو ان الفهم العام في مجتمعنا  ومعظم المجتمعات الشرقية ، يميل الى نبذ الفردانية كقيمة ، وإعلاء شأن الجماعة ، على نحو قد يلغي أي قيمة لوجود الفرد واستقلاله. في مجادلة هذه الرؤية ، ينبغي التمييز بين مقاربتين مختلفتين لمسألة الفردانية:

أ‌)        المقاربة الاخلاقية/القيمية ، التي تستهدف الحكم على المبدأ. نعرف ان عامة الناس ترى ان قيمة الفرد وهويته مستمدان من تمثله للتيار الاجتماعي العام واندماجه فيه. بينما يميل الفردانيون الى اعتبار الفرد كونا مستقلا ، وأن علاقته بالمجتمع عرضية. وبناء عليه فكلا من الاتجاهين يؤسس منظومته الاخلاقية والقانونية تبعا لاحدى القناعتين.

ب‌)   المقاربة العلمية التي تستهدف كشف العوامل المؤثرة في علاقة الفرد بالجماعة. حيث يتفق الباحثون على ان جانبا معتبرا من ذهنية الفرد وسلوكه اليومي هو انعكاس لتأثير علاقته بالمجتمع. لكنهم يختلفون في حدود هذا التأثير ، هل هو كلي ام جزئي ، وهل هو معروف للفرد وبالتالي طوعي ، أم انه غيرمدرك وينطوي بالتالي على نوع من الجبر.

تستهدف المقاربة العلمية كشف طبيعة الواقعة الاجتماعية ، وتحديد ما اذا كانت مجموعة افعال متشابهة لمجموعة افراد يمكن تفكيكها ، أو انها فعل واحد لكتلة اسمها المجتمع ، بغض النظر عن افعال الافراد وتمايزاتهم.

نعرف ان معظم الجدل الاجتماعي يتناول المقاربة الأولى. فالذين عارضوا الفردانية على اساس اخلاقي ، ركزوا على كونها غطاء او مبررا للانانية. وهم على حق في القول بأن الفرد لا ينمو وملكاته لا تتطور في معزل عن الجماعة. ولهذا فليس من الاخلاقي التنكر لها بعدما شب عن الطوق وبات قادرا على المساهمة في حياة الجماعة وارتقائها.

أما دعاة الفردانية ، فرأوا ان استقلال الفرد ذهنيا وروحيا عن الجماعة ضروري ، لجعل مساهمته في حياة الجماعة اكثر جذرية وتأثيرا. وهم يقولون ان اهم التطورات في حياة البشرية ، حققها أفراد تمردوا على الافكار والمسلمات السائدة. ولولا انهم تجاوزوا بخيالهم وطموحهم حدود المشهود والمتعارف ، لما ابدعوا جديدا. جميع المبتكرين والمفكرين وقادة الامم ، كانوا من هذا النوع من الافراد الذين تجرأوا على مخالفة السائد ، وذهبوا وراء ما اعتبره غيرهم تخيلات وأحلاما او ربما اوهاما سخيفة.

يرى هؤلاء ان مساهمة الفرد الذائب في الجماعة ، ليست سوى تكرار لما يفعله آلاف الناس وما فعلوه في الماضي. بينما يوفر استقلال الفرد بفكره وتطلعاته وقيمه ، فرصة لخيارات جديدة واحتمالات غير مألوفة ، وهذا ما ينتج التقدم على مستوى الجماعة ، وأحيانا على المستوى الكوني.

جوهر الاشكالية إذن هي كينونة الفرد القائمة بذاتها والمستقلة عن اي رابطة اجتماعية. هذا ليس انكارا لقيمة الجماعة ومساهمة الفرد في حياتها ، بل هو مجرد تأكيد على أهليته وحقه في إنكار ارادة الجماعة ، اذا قررت شيئا يتنافى مع قناعاته تنافيا حديا ، وحقه في اختيار ما يحقق تطلعاته من نموذج حياة او معتقد او منهج تفكير ، ولو كان غير متعارف.

نحن إذن نتحدث عن الحاجة لوضع خط واضح يميز بين ما نعتبره رابطة عقلانية تشد الفرد الى الجماعة ، وبين الانصهار الكلي الذي قد يقود لتبعية عمياء تذيب ذاتية الفرد وتلغيها. جوهر المسالة اذن هي القولبة والتنميط القسري الذي يلغي ذاتية الفرد ، ويحوله من رقم قابل لان يكبر وينتج ، الى صفر يضاف الى ارقام اخرى هي الدولة او الجماعة او الطائفة او السوق.

مقالات ذات علاقة

«21» الفردانية في التراث الديني

«22» الهوية الفردانية

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

الانسان الذئب

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

تلاميذ ارسطو

حزب الطائفة وحزب القبيلة

الحق أولا

حول الانقسام الاجتماعي

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

عن العالم المحبوب

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كيف تولد الجماعة

المسألة القومية واستقلال الفرد

مكانة "العامة" في التفكير الديني

 

 الشرق الاوسط 6 يناير 2016

http://aawsat.com/node/537421/

30/12/2015

انا المسؤول

 "القدر الأكبر من المساءلة حول حريق مستشفى جازان ، يقع  على المسؤول الأول عن قطاع الصحة. ولذا فالمساءلة تقع علي شخصيا قبل أي احد".

هذا تصريح لوزير الصحة السعودي المهندس خالد الفالح ، وأظنه أهم تصريح لوزير عربي خلال سنة 2015. هناك طبعا تصريحات كثيرة مهمة لسياسيين ووزراء حول مختلف قضايا الشأن العام. لكنا نادرا ما سمعنا قياديا في قطاعات الخدمة العامة يخرج الى العلن بعد حدث كارثي كالذي جرى في جازان ويعلن انه يتحمل المسؤولية عن التقصير الذي قاد الى الكارثة.

مثل هذا السلوك كان قصرا على المجتمعات المتقدمة. سمعنا مثلا رئيس فنزويلا يقول قبل ثلاثة اشهر انه سيحلق شاربه ، ان لم تنته الحكومة من بناء ربع مليون وحدة سكنية ، وعدت بها خلال هذا العام. وسمعنا عن وزير بريطاني استقال بعدما كشفت الصحافة انه قبل ضيافة على حساب احد السماسرة. وعن وزير ياباني انتحر بعدما انكشفت علاقاته العاطفية خارج اطار الزواج .. الخ.

اما في العالم العربي فيقضي العرف بان يعلق الوزير مسؤولية الكوارث على مشجب القضاء والقدر ، او تقصير المقاولين أو كسل الموظفين أو حتى جهل الشعب. هذا اذا لم يكن مؤدلجا فيحولها على احدى المؤامرات الدولية الكثيرة.

تحمل الوزير المسؤولية عن أخطاء وزارته تقليد راسخ في المجتمعات المتقدمة. وهو يكافأ عادة على انجازاتها ، فعليه بالمقابل تحمل المسؤولية عن عيوبها. والغرض من هذا التقليد هو مقاومة الفساد والتسيب في رأس الهرم الأداري. ان معرفة قادة الجهاز بانهم سيكونون الملومين على أي تقصير ، هو الذي يجعلهم حريصين على مقاومة الفساد والتسيب في المستويات الأدنى.

نعرف أيضا ان المسؤولية المقصودة هنا هي مسؤولية أخلاقية وسياسية وليست جنائية. وهي تعني قبول الوزير بمبدأ التحقيق المحايد (اي غير الخاضع لتاثيره أو تأثير العاملين تحت إدارته) في اسباب الخطأ ثم الاستعداد للاستقالة وتحمل اللوم ، اذا تبين انه كان قادرا على منع الخطأ لكنه تهاون او قصر في أداء الواجب. ومن ذلك مثلا وضع لائحة عمل خاصة بالسلامة المدنية في المباني والمشروعات التي تديرها وزارته ، ووضع برنامج للتفتيش الدوري للتأكد من التزام الادارات الفرعية بالمعايير واللوائح ، وتوفير الأموال اللازمة لضمان تطبيق هذه المعايير.

لقد اعتدنا على سماع "كليشيه" ان المنصب تكليف لا تشريف ، من معظم الذين تقلدوا مناصب رفيعة. لكنا وجدناهم لاحقا ، احرص على التمسك بالكرسي ، من حرص الطفل على حليب أمه. معنى التكليف ان تتخلى عنه اذا تبين فشلك فيه او عجزك عن القيام به.

لو تقبل كافة القياديين في الاجهزة الرسمية مبدأ المسؤولية السياسية والاخلاقية ، واعلنوا استعدادهم لترك مناصبهم في حال الاخفاق ، لتحولت الادارة الحكومية الى مصنع للقادة وخبراء الادارة ، ولأصبحت الخدمات العامة مضرب المثل في الكفاءة والانجاز.

بالعودة الى تصريح الوزير الفالح ، فاني ادعو جميع وزرائنا ومديري قطاعات الخدمة العامة في بلدنا ، الى الاعتبار بما فعله هذا الوزير الشجاع ، وتكرار مبادرته حتى تتحول الى تقليد ثابت في اجهزة الدولة وقطاع الأعمال. يجب ان يؤمنوا جميعا بان رأس الجهاز يتحمل كامل المسؤولية ، عن كل عيب في الادارات التابعة له ، مثلما يتقبل المديح حين يحقق انجازات ونجاحات. هذا طريق مجرب لترسيخ الانضباط وتعزيز قيمة الكفاءة.

الشرق الاوسط 30 ديسمبر 2015

http://aawsat.com/node/531686/

16/12/2015

التدين الجديد



لطالما عاد ذهني الى كتاب "الدين والطقوس والتغيرات"  لعالم الاجتماع الجزائري د. نور الدين طوالبي ، سيما حين افكر في التضخم الواضح للطقوس الدينية في المجتمعات العربية ، وخصوصا مجتمعات المدن. على خلاف ما عرفناه في الماضي ، حين كان الناس جميعا متدينين بالفطرة ، لكنهم أقل اكتراثا بالطقوس. يقدم الكتاب خلاصة لبحث ميداني في الاحياء المحيطة بالجزائر العاصمة ، سعيا وراء تفسير معنى ومبررات التدين المديني ، مقارنة بنظيره القروي التقليدي.
والحقيقة ان باحثين كثيرين لاحظوا الطبيعة المركبة للتدين المديني الجديد ، قياسا على التدين الريفي الذي يتسم بالبساطة. لعل ابرز سمات التدين الريفي هو ما تعبر عنه المقولة المشهورة "دع الخلق للخالق" التي تشير الى قدر من عدم الاكتراث بما يفعله الآخرون. ربما يرجع هذا الى شعور داخلي بالضعف. لكني أميل الى الاعتقاد بان سببه الرئيس هو بساطة "الحمل الديني" في الحقب السابقة ، قياسا الى ما يشهده عصرنا الحاضر من تضخم كبير في الخطاب الديني ، رغم انه لا زال سطحيا في ملامسة موضوعاته المفترضة ، ومركزا على ظواهر الحياة اليومية دون حقائق الحياة ومحركاتها الكبرى.
 أعلم ان كثيرا من الناس يضيق بموضوع كهذا. لأنه قد يرى مناقشة الواقع الديني من خارجه ، بابا للتشكيك في صدقيته وكونه خيرا كله. لكن علم الاجتماع لا يهتم كثيرا بالحكم على الظواهر والموضوعات التي يدرسها ، قدر اهتمامه بشرحها وتفسيرها. اما الحكم بكونها طيبة او سيئة فهي مهمة الأخلاقيين او علماء الدين أو غيرهم.
ان الغرض من هذه الاثارة هو توضيح بعض الاسئلة والاحتمالات المرتبطة بالموضوع. ومن بينها خصوصا طبيعة التدين الجديد. وقد أشرت في مقال الاسبوع الماضي الى  رأي المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه الذي رأى في الاتساع الملحوظ للمشاعر الدينية بين الجيل الجديد ، محاولة لتشكيل هوية فردية مستقلة ، وهي بهذا المعنى دليل على ان تيار التحديث يحقق اختراقا عميقا في البيئة الاجتماعية المحافظة.
نعرف ان "الايمان" هو العنصر الجوهري في الدين. وهو تعبير عن تحول روحي عميق في نفس الانسان ، ينطوي – من بين أمور أخرى – على انتقال اهتماماته من دائرة المصالح التي هو جزء منها ، الى الكون الذي يشكل في مجموعه مشهدا لتجلي الخالق. بخلاف التدين الهوياتي الجديد ، الذي يبدأ كسعي لتشكيل هوية مستقلة ، لكنه يعود ثانية لتحويل الانتماء المحلي الى هوية اضيق نطاقا منه.
من حيث المبدأ ، فان الايمان في الحالة الاولى مثل التدين في الحالة الثانية ، ينطوي على تعريف للذات ، اي هوية فردية. لكنه في الأولى منطلق من رغبة في التعارف والتواصل مع الكون ككل ، يقود الى انفتاح على الخلق جميعا وسعي للمشاركة في عمران الارض ، دون نظر للتمايزات الثقافية والاجتماعية بين الناس. اما في الحالة الثانية فهو ينطلق من تعارض مع المحيط القريب ، ولهذا يتسم بالصلابة والرغبة في الزام الغير بالامتثال والتماثل.
يعتقد طوالبي مثل غوشيه ان التدين الهوياتي يؤدي – دون قصد – الى علمنة الحياة. لأن اشتغاله المتضخم بالدين ، يحول الدين في نهاية المطاف الى دائرة مصالح حادة الاطراف او ربما مشروع هيمنة ، لا يختلف كثيرا عن الايديولوجيات السياسية العادية التي تستهدف الهيمنة بشكل صريح. هذا يعني تجريده من المضمون القدسي الذي يؤلف القلوب والارواح ، وتحويله الى واحد من تجليات الحياة الاعتيادية ، التي يتصارع الناس حول تفاصيلها ومكاسبها وخسائرها في كل يوم من أيامهم.
الشرق الاوسط 16 ديسمبر 2015

05/12/2015

في الطريق الى المجتمع المدني



اصدار مجلس الوزراء السعودي لنظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية هو بالتاكيد أهم أخبار الشهر المنصرم. يشكل النظام  الاطار القانوني الضروري لقيام منظمات المجتمع المدني وتنظيم عملها ، سيما علاقتها مع الاجهزة الرسمية المحلية. انه خبر جدير بأن يبعث فينا التفاؤل بين سيل من الاخبار الموجعة حولنا.
من السابق لأوانه الحكم على تفاصيل النظام الجديد. لكن ما يثير اهتمامي هو المبدأ الذي صدر على ضوئه ، اي المشاركة الشعبية في إدارة المجتمع وتطويره ، التي قال د. ماجد القصبي وزير الشؤون الاجتماعية انها جزء من رؤية رسمية ترمي للتحول من الرعوية إلى التنموية.
شكل هذا النظام موضع اجماع في المجتمع السعودي. خلال العقد الماضي تحدث عشرات من المثقفين والشخصيات العامة وكبار المسؤولين الحكوميين في الدعوة اليه وبيان ضرورته. على أي حال فقد أمسى كل ذلك خلفنا. إقرار النظام يستدعي الحديث عن المرحلة التالية. ويهمني هنا توضيح نقطة محددة تخص العلاقة بين الجمعيات الأهلية التي ستقوم في ظله ، وبين الادارة  الحكومية. تكمن أهمية المسألة في حقيقة ان النظام الجديد يقيم منظومة تختلف فلسفيا ووظيفيا عن الاجهزة الرسمية ، لكنها تشاركها العمل في الفضاء العام.
نتيجة بحث الصور عن ‪civil society‬‏
تستمد المنظمة الحكومية قوتها ومبررات وجودها من ارتباطها بالطبقات العليا في الهرم الاداري. بينما يعتمد عمل المنظمات الأهلية وقوتها وخياراتها على ارادة اعضائها ودعم الجمهور ، أي قاعدة الهرم الاجتماعي. هناك بالتأكيد اختلاف بين الطرفين في طريقة التفكير والاولويات والامكانات ، الأمر الذي يقود بشكل طبيعي الى تزاحم في الارادات. ورأينا هذا التزاحم في تجربة المجالس البلدية والصحافة ، فضلا عن المنظمات الأهلية شبه التقليدية ، مثل الجمعيات الخيرية والنوادي الرياضية ، وفي تجربة المنظمات المختلطة (الرسمية/الأهلية) مثل النوادي الأدبية والجمعية الوطنية لحقوق الانسان.
يرجع التزاحم المدعى الى عاملين ، عامل ثقافي يشترك فيه الجميع ، الجمهور وموظفي الدولة ، وعامل يخص التشريعات القانونية التي تنظم عمل الادارات  الرسمية.
اشارة وزير الشؤون الاجتماعية الى "التحول من الرعوية الى التنموية" ترتبط بالعامل الأول. تشكل "الرعوية" محور الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية كافة. وفحواها ان الدولة مكلفة بحياة الناس كلها. هذه الرؤية تستدعي  – في الجانب المقابل – تدخلا غير محدود لأجهزة الدولة في حياة الناس وخياراتهم.
وعلى العكس ، فان فلسفة المجتمع المدني تعتبر المجتمع الأهلي ، كافراد وكمجموع ، مسؤولين تماما عن حياتهم وخياراتهم. وهي رؤية تستدعي في المقابل انصراف الدولة الى واجباتها الرئيسية ، أي ادارة البلد ككل ، وتقليص تدخلها في حياة الافراد الى أدنى حد ممكن. وبحسب تعبير أحد الفلاسفة فان قيام الدولة الحديثة كان ايذانا بتحول وظيفتها الجوهرية من مفهوم السلطة على اشخاص الناس ، الى مفهوم ادارة المصالح العامة وما يشترك فيه الناس.
تحقيق هذه الرؤية يستدعي مراجعة القوانين واللوائح التنفيذية التي تنطوي على مضمون تدخلي ، بما يؤدي الى تقليص هذا المضمون الى أدنى الحدود الممكنة. كما نحتاج الى "اعادة تثقيف" الموظفين المعنيين بتطبيق تلك اللوائح والقوانين ، أي تنويرهم بالتحول الذي نسعى اليه ، وصولا الى التطبييق الكامل لفحوى  الحديث الشريف "من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
تصنف الفلسفة السياسية  المجتمع المدني كواحد من ابرز أركان الدولة الحديثة. ونحمد الله ان بلادنا قد انتهت من الخطوة الأولى ، أي وضع الاطار القانوني ، ويحدونا أمل بأن تأتي الخطوات التالية بما يلبي هذا الأمل ويعززه.
الشرق الاوسط aawsat.com/node/510371
 2 ديسمبر 2015

02/12/2015

الحداثة كمحرك للتشدد الديني


أغلب الباحثين الذين كتبوا عن تصاعد المشاعر الدينية في السنوات الأخيرة ، اعتبروه نوعا ‏من الهروب الى الماضي ، احتماء به من تحديات الحداثة المؤلمة. بعضهم لاحظ ان التحولات ‏الاقتصادية التي جاءت في اطار التحديث أوجدت حالة من الضياع وانعدام التوازن النفسي للأفراد ‏، الذين ارادوا حجز مكانهم في النظام الاجتماعي الجديد ، لكنهم وجدوه محاطا بذات الأسوار ‏السياسية التي عرفوها في مجتمع ما قبل الحداثة. إقبال الافراد على الانضمام الى المجال الديني ، ‏يشكل - في رأي هؤلاء الباحثين - محاولة للتمسك بقطار لازالت سكته ممتدة بين الماضي ‏والحاضر ، ولازالت ابوابه مفتوحة ترحب بأي قادم. ‏

قدم المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه تفسيرا معاكسا. وهو – على خلاف المتوقع – أكثر ‏انسجاما مع المفهوم الكلي للتحديث وانعكاساته الثقافية. تحدث غوشيه في كتابه "الدين في ‏الديمقراطية" عن الميل المتفاقم للتدين بين الاجيال الجديدة ، كمؤشر على ان الحداثة قد شقت ‏طريقها فعلا في جميع الشرائح الاجتماعية. وهو يعتقد ان جوهر هذا التدين هو التعبير عن الذات ‏وتشكيل هوية فردية مستقلة. ‏

الفرد المتأثر بموجات الحداثة ما عاد يرى نفسه مجرد صورة عن الجماعة التي ينتمي اليها ، بل كائنا مستقلا يختار صورته وهويته. تطور التفكير في الذات على هذا النحو ، أدى الى انفصاله عن التدين الجمعي التقليدي. بمعنى انه تحول من التبعية المطلقة لتلك الصورة/الهوية الدينية ، الى امتلاك تدينه الخاص/هويته. ونتيجة لهذا اصبحت الهوية الدينية فردانية ، أي اكثر تصلبا وتسلطا مما كانت عليه يوم كان صاحبها تابعا لـ "دين الاباء". تحول الدين الى خيار فردي جعل حامله مهموما بالعمل على فرض تصوره/هويته كحقيقة وحيدة في العالم. انها – في هذا المعنى – وسيلة لتحقيق الذات في عالم متصارع.

هذا الرأي يقدم – من زاوية واحدة على الأقل – تفسيرا للتباين الذي يشار إليه أحيانا ، بين التدين القديم ، اي ما يسميه غوشيه "دين الآباء" والتدين الجديد ، أو دين الأبناء. لم يتنازع الآباء في أغلب الأحيان ، لان تدينهم كان تعبيرا عن ارتباط راسخ مع الجماعة ، اي هوية مستقرة. بينما يمثل تدين الأبناء هوية لازالت في طور التشكل. وهي متفارقة ، أو على الأقل مستقلة عن أي جماعة. صحيح ان كثيرا من أفراد الجيل الجديد منتمون الى جماعات منظمة او تيارات نشطة ، الا انه انتماء مختلف في المضمون والاغراض عن انتماء الاباء الى الجماعة او التيار العام.

 ينتمي الشاب الى الجماعة الدينية وفي ذهنه فكرة اكتشاف ذاته ثم تحقيق ذاته. وفي ظروف قلقة ومتحولة كالتي تمر بها المجتمعات العربية ، فان صناعة النفوذ الشخصي تتحول الى دينامو تحقيق الذات. الميل الى تلبس دور الداعية هو التمظهر المعتدل لهذا التوجه ، لكنه في حالات أخرى ، وان كانت قليلة ، يظهر في صورة ميل الى السلاح ، تدربا وامتلاكا واستعمالا.

التوتر الذي أصبح سمة عامة في التيار الديني قد يعطي دليلا على المضمون الهوياتي للتدين الحديث. وهو توتر ينعكس أحيانا في صورة تنازع بين التيار وخارجه ، كما يتجسد في ميل شبه دائم الى الانشقاق في داخل التيار نفسه ، اي توترا بين الاطياف المتعددة داخل نفس التيار ، فضلا عن التوتر الذي يسم السلوك الشخصي للاعضاء. وهو ما يتجسد في الخشونة النسبية لطروحاتهم وفي ميلهم الى فرض مراداتهم على الغير.

الشرق الاوسط 2 ديسمبر 2015

25/11/2015

الاسئلة الباريسية



احداث مثل الهجوم الدموي في باريس قبل اسبوعين ، تعيد الى الحياة أسئلة جالت كثيرا وجودلت كثيرا ، لكنها بقيت حائرة. ليس لصعوبتها ، بل لأن إجاباتها تحيل بالضرورة الى مشكلة أكبر.
يتعلق السؤال برؤيتنا للغرب ، "هاجس الغرب " حسب داريوش شايغان. وجوابه يحيل الى سؤال أكثر تعقيدا عن رؤيتنا لذاتنا كمسلمين ودورنا في العالم ، اي الهوية "الكونية" التي نريدها لأنفسنا. ان اكتشاف الذات وتحديد المكان هو التمهيد الضروري لاكتشاف العالم وفهمه وتحديد المسافة بينك وبينه.
طبقا للمرحوم محمد اركون فان رؤية المسلمين للغرب تشكلت اولا في سياق محاولة جادة لفهمه والتعلم منه ثم منافسته. كان هذا مسار النخبة الصغيرة التي تنسب اليها بذور الوعي الأول ، بين أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. بعد مرحلة النهضة هذه ، حدث انتكاس قادنا الى مرحلة ثانية ، يسميها مرحلة الثورة ، شهدت تحولا من محاولة فهم الغرب والتعلم منه ، الى الرفض المطلق له ، ومحاولة إحياء القوة الذاتية من خلال التركيز على خطوط التفارق بيننا وبينه ، باسم القومية في أول الأمر ثم باسم الدين ، كما هو الحال حتى الآن.
كان المرحوم مالك بن نبي قد أشار الى نتيجة هذا الخيار ، في قصة يعرفها الجميع ، حين قارن بين موقف الياباني الذي ذهب الى الغرب تلميذا يتعلم كي يستغني عن معلمه ، وبين موقف المسلم الذي ذهب زبونا يشتري  منتجات جاهزة. ونعرف بقية القصة حين نقارن حالنا اليوم بحال اليابان.
طرف القصة الآخر أوضحه نجم الثاقب خان ، المفكر الباكستاني الذي سجل ملاحظات قيمة عن فترة عمله في طوكيو ، في كتابه "دروس من اليابان للشرق الأوسط". وهو يرى ان اخفاقنا في العلاقة مع الغرب سببه أننا اعتبرنا  هويتنا سدا ، اما اليابانيون فقد اعتبروها مجرد موضوع تمايز قابل للتدوير. الهوية في رأيه فرس جموح يمكن ان يقود عربة التقدم اذا ربط اليها ، لكنه قد يقلب العربة اذا اعترضها.
يعتقد شايغان ان موقفنا الملتبس من الغرب ، المندهش من تفوقه حينا والكاره له حينا اخر ، عرض لقلق عميق في داخل نفس المسلم ، سببه عدم استيعاب ظاهرة تاريخية كبرى هي الحداثة في معناها الواسع . نحن لم نحاول استيعاب الحداثة في دلالتها الفلسفية الخاصة ، كتجربة ابدعها الانسان من أجل تجاوز قيود الطبيعة ، وصولا الى السيطرة على عالمه ، بل تعاملنا معها من خلال تعارضاتها مع موروثنا النظري وتصوراتنا عن ماضينا. ولهذا فكل حكم عليها ارتدى منذ البدء رداء التقويم الاخلاقي ، مدحا او قدحا ، لا الموضوعي الذي يسعى للفهم ثم يشارك في تطوير الفكرة.
نحن اليوم مجرد مستهلك لمنتجات الحداثة الغربية. وكان حريا بنا ان نجتهد للمشاركة في بناء العالم وفي انتاج العلم الذي منح الغرب القوة والسيادة. المشاركة في صناعة عالمنا رهن باستيعابنا لديناميات هذا العالم وأسرار حركته. وهذا لن يتأتى ما لم نتعلم ، ولن نتعلم شيئا من العالم ما لم نتعارف معه. أول التعارف هو التواضع والانفتاح الكلي والصريح. مكونات هويتنا ، قناعاتنا وتقاليدنا ، منتج بشري ورثناه ، وقد كان مفيدا في زمن منتجيه. أما اليوم فليس سوى حجاب يمنعنا من فهم العالم الذي نعيش فيه تابعين متكلين على غيرنا.
يجب ان نضع جانبا مشاعر العداوة مع العالم ، ان نعيد صوغ هويتنا كشركاء في هذا العالم ، لا كفئة مصطفاة تنظر اليه من الأعلى ، ولا كجمع من المندهشين المستسلمين المنكرين لذاتهم. نحن قادرون على الفهم والمشاركة والمنافسة اذا اخترنا طريق الانفتاح والتفاهم  بدل الارتياب أو الكراهية.
الشرق الاوسط 25 نوفمبر 2015

24/11/2015

سؤال التسامح الساذج: ماذا يعني ان تكون متسامحا؟

||التسامح ببساطة هو ايمانك الداخلي بأن كل انسان له حق مطلق في اختيار طريق سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة. انت اخترت ما يناسبك من عقائد وغيرك اختار ما يناسبه. وعند الله تجتمع الخصوم||
ماذا يعني ان تكون متسامحا؟. سؤال كهذا قد يبدو مغاليا في السذاجة. لكني أجد احيانا أن مانراه بديهيا هو بالتحديد ما يحتاج الى توقف وتأمل. الحقيقة اني جربت توجيه هذا السؤال في وقت سابق الى عدد من الشبان ، فوجدتهم جميعا يشرحونه في معنى اللين والتلطف في معاملة الآخرين. وهو ذات المعنى الذي شرحه ثلاثة خطباء استمعت اليهم في أوقات مختلفة. وكانت أحاديثهم في سياق نقض الاتهام الموجه للدين الاسلامي بأنه يشجع العنف والشدة.
واقع الأمر ان التسامح في معناه العميق ، سيما المعنى الذي نتداوله في الجدالات السياسية ، شيء مختلف تماما. فهو المعيار الناظم للمواقف العامة والعلاقة مع المخالفين لك والمختلفين معك. التسامح يعني ببساطة ايمانك الداخلي بأن كل انسان ، انت وغيرك ، له حق مطلق في اختيار الطريق الذي يراه كفيلا بتحقيق سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة. انت اخترت ما رايته مناسبا لشخصك من أفكار او عقائد او نمط عيش او دائرة مصالح او موقف سياسي او رؤية للمستقبل. اختارها عقلك ، أو ارتاحت لها نفسك حين وجدتها شائعة في محيطك ، أو ورثتها عن أبويك.
غيرك أيضا مثلك. يختارون طريقة حياتهم ، ديانتهم ، مواقفهم السياسية والاجتماعية ، بحسب ما تمليه عليهم عقولهم ، أو بحسب ما تطمئن اليه نفوسهم ، وهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن خياراتهم. ليس لك حق في منعهم من الاختيار ، كما لم يكن لهم حق في منعك. ولن تحمل أوزارهم ، كما لم يحملوا وزرك.
مبدا الاختيار الفردي الحر يرتبط بجذر عميق في حياة البشر هو الايمان بعقلانية الانسان وحريته ، وكونه – لهذا السبب - قادرا على التقدير المسبق لعواقب قراراته وافعاله. لأن الانسان عاقل وحر ، فهو مسؤول عن أفعاله. ولو كان مجبرا على أي شيء ، فليس من العدل ان يتحمل مسؤوليته او يثاب او يعاقب عليه.
كل انسان يرى نفسه محقا في اختيار مبادئه ومعتقداته ومواقفه. ولولا هذه القناعة لما تبنى ايا منها. هذا هو الأمر الطبيعي. لكن الناس يختلفون في الموقف من خيارات الآخرين. فبعضهم يراها باطلة تماما وربما مثيرة للسخرية. وبعضهم يراها مبررا لقمع حاملها وحرمانه من بعض حقوقه ، بل ربما قتله. آخر النماذج التي رأيناها من مثل هذا النوع هو تنظيم داعش الارهابي الذي سبى النساء في سنجار لأنهن كافرات ، وجلد المسلمات في الرقة لأن حجابهن غير مطابق لما يراه سنة صحيحة ، وقتل المصلين في الكويت لانهم مبتدعة ، وقتل ابناء عشيرة البونمر في الانبار لانهم خونة ، وقتل عشرات المدنيين في بيروت وباريس لأن حكومتهم معادية. بعبارة أخرى ، فهو نموذج عن شريحة من المجتمع تريدك نسخة طبق الأصل عن النموذج الذي يرضاه التنظيم ، والا فأنت عدو أو ربما قتيل.
كي نتخلص من هذه المسارات الحرجة فعلينا ان نؤمن بأن ما توصلت اليه عقولنا هو احد احتمالات الحق ، وان ما توصلت اليه عقول الاخرين هو احتمال آخر للحق. أن نؤمن بأن الطريق الى الله ليس زقاقا ضيقا مثل ازقة قرانا القديمة ، بل هو شارع عريض يتسع لكل خلق الله.
مما تعلمناه في "أصول الفقه" ان الفقه هوالظن الغالب. فما يتوصل اليه الفقيه باجتهاده ، رأي علمي وليس بالضرورة مراد الخالق. ولذا فقد يتراجع الفقيه عن هذا الرأي ويستبدله بغيره في وقت لاحق ، او قد يخالفه غيره من الفقهاء وأهل النظر. في مناسبة سأل احدهم العلامة محمد حسين النائيني عن معنى هذا التغيير: هل هو انتقال من الحق الى الباطل او من الباطل الى الحق؟. فأجابه العلامة ببساطة: انه انتقال من أحد معاني الحق الى معنى آخر. بعبارة أخرى فان الحق ليس له صورة واحدة هي الصورة التي في ذهنك او في ذهني.
اذا آمنا بهذه الحقيقة ، فعلينا ان نراجع ما في انفسنا من استعلاء على الغير ، قائم على قناعة بأن غيرنا على باطل. ذلك ان ما عندنا قد يكون صورة من صور الحق ، وما عند غيرنا صورة أخرى ، قد تبدو لنا مناقضة او غريبة أو بعيدة الاحتمال. لكن هذه هي طبيعة العقل الذي يريك ما لا يري غيرك ، ويري غيرك ما لا يريك. واقع الأمر ان كل ما نعرفه وما نؤمن به من اعتقادات واراء ومواقف ، هي اجتهادات لبشر أمثالنا ، تقبلناها لاننا الفناها او تعلمناها ، فاستقرت في عقولنا او اطمأنت اليها نفوسنا. وهي قد تكون حقا كاملا او ناقصا.
جوهر التسامح ان تؤمن بحق الآخرين في مخالفتك ، مثلما أعطيت لنفسك الحق في مخالفتهم.
"النهار" الكويتية 24 نوفمبر 2015

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...