20/05/2015

الهوية المتأزمة



ازعم ان الميل العميق للتمثل بالتاريخ ، سيما عند مسلمي الشرق الاوسط ، يمثل انعكاسا لهوية متأزمة. تقديس رجالات التاريخ واعتبار مجرياته معيارا يقاس عليه الحاضر ، يؤدي بالضرورة الى انكار الحاضر واعتباره نكسة. رغم ان التحليل الواقعي يؤكد عكس هذا تماما. 
صحيح ان المسلمين لم يعودوا سادة العالم ، لكن انتشار الاسلام اليوم ، وما يملكه اتباعه من علم وثروة وقوة يفوق كثيرا ما كان لديهم في ذروة مجدهم الغابر. اعتبار الماضي نموذجا ، يصدق في شيء واحد فقط ، هو تفوقنا السابق على غيرنا.
تصوير الاسلاميين والقوميين للغرب كعدو مطلق او كسبب لفشلنا الحضاري ، يعبر في احد وجوهه عن تلك الهوية المتأزمة ، التي لا تتشكل في سياق وصف مستقل للذات ، بل في سياق التناقض المقصود او العفوي مع "الاخر" الغربي الذي يوصف ايضا بالكافر. اما السبب المباشر لتأزم الهوية فيكمن في عجزنا عن المنافسة ، وهو ليس عجزا عضويا او تكوينيا. ان سببه كما اظن هو عدم الرغبة في دفع الثمن الضروري للتمكن من المنافسة. هذا الثمن هو ببساطة التماثل الاولي والتعلم ثم اعادة انتاج القوة ، تمهيدا لمنافسة الآخر على قدم المساواة وربما تجاوزه.
معظم النزاعات الدائرة حولنا تحمل هوية تناقضية. هذه نزاعات يحركها او يعمقها تناقض هوياتي ، يجري تبريره بمبررات دينية او قومية. ولذا فهي تسهم في تعزيز المفاصلة بين الدين والعصر ، وتشدد على ربط الدين بالماضي بدل الحاضر ، وبالتالي فهي تعزز اغترابنا عن عالمنا الواقعي.
من ملامح الهوية المتأزمة ايضا انها تحمل في داخلها ازدواجية مدمرة. تؤكد بحوث ميدانية ان معظم عرب المشرق يعتبرون "الغرب" سيما امريكا والولايات المتحدة عدوا حضاريا ، او على الاقل ، مصدر تهديد. لكن ارقام المبتعثين السعوديين مثلا تشير الى ان 67 بالمائة منهم اختاروا الدراسة في هذه الدول ، وعلى الخصوص الدول التي شاركت في حرب الخليج (1991) التي اعتبرها بعض الدعاة ذروة الهجوم الغربي (النصراني) على قلب العالم الاسلامي. ومن الطريف ان كثيرا من اولئك الدعاة رحبوا باختيار ابنائهم لتلك الدول بالذات للدراسات العليا. هذه الازدواجية تعني اننا نكره الاخر (الغرب) ونعتبره عدوا ، بل ونرحب بمن يقاتله.  لكننا بموازاة ذلك نحتفي به ونحب ان نكون مثله.
هذا يوضح اننا لا نشكل هويتنا ، اي معرفتنا بذاتنا وتصورنا لذاتنا بطريقة ايجابية تنطلق من الرغبة في ان اكون كما احب او كما يليق بي ، او - على الاقل – ان اكون كما استطيع. على العكس من ذلك فاننا نشكل هويتنا من خلال مناظرة الاخر ، اي في سياق التعارض معه والتباعد عنه ، ولو على المستوى الشعوري ، مع رغبتنا في تقليده على المستوى المادي.
خط التأزم هذا يحيل نقد الغرب الى مجرد كلام للتسلية وتبرير المواقف ، لكنه على اي حال يبقى فعالا في تعطيل التفاعل الايجابي البناء مع الغرب المعرفي والحضاري ، تفاعلا يقود الى التعلم العميق المؤدي للقدرة على المنافسة فالاستقلال.
من الناحية الواقعية لسنا قادرين على مناوأة الغرب ، ولا يوجد بيننا من يعتقد  - جادا – انه قادر على التحرر من الحاجة اليه في المدى المنظور. ومثل هذا الشعور المتناقض يحول التصارع الى جدل مؤرق داخل النفس ، الامر الذي يتطلب تنفيسا من نوع ما. ولسوء حظنا فقد استبدلنا المنازعة الملكلفة مع الغرب بمنازعة تبدو سهلة مع اطراف اخرى في المجتمع ، نختلف معها سياسيا او فكريا. العجز عن مناوأة الغرب يدفع دعاة الصراع الى مناوأة من يصفونها بالنخبة المتغربة او المتاثرين بالغرب اي – بعبارة اخرى – تحويل الصراع الخارجي المكلف الى صراع داخلي يبدو قليل الكلفة.
زبدة القول ان الهوية المتأزمة تفسر العديد من الصراعات الاجتماعية والسياسية ، التي يستعمل فيها الدين اوالقومية كشعار او كمبرر. انها تعبير عن ارادة للتحرر من "آخر" تجاوزنا ، ونشعر بالعجز عن مجاراته. لكن عجزنا عن دفع الثمن الضروري للمنافسة جعلنا ننشغل قاصدين او غافلين ، بصراعات داخلية بديلة ، تشير الى العدو لكنها لا تصل اليه.
الشرق الاوسط -  1 شعبان 1436 هـ - 20 مايو 2015 مـ
http://bit.ly/1LlwrlI

06/05/2015

بين هويتين



ليس من طبائع المجتمعات ان تتوحد "قلبا وقالبا" كما يقال في الادب. هذا خلاف سنن الحياة الطبيعية. في كل مجتمع ، صغيرا كان او كبيرا ، مصالح متفاوتة وتطلعات مختلفة واراء متباينة وتجارب متنوعة ، يمثل كل منها أرضية اختلاف. يتحدث الباحثون في علم الاجتماع عن "دوائر مصالح" متنوعة ، كل منها يمثل اطارا يجمع طائفة من الناس حول فكرة او عاطفة او مصلحة مادية.
بندكت اندرسون
تعبير "مصالح" المستعمل هنا تعريب مقرب للاصل الانكليزي interests. وقد حرصت على هذه الاشارة لأن لفظة "مصالح"  في العربية المتداولة تشير غالبا الى امور مادية ، بينما يشير التعبير الاجنبي الى نطاق أوسع ، يشمل مثلا كل موضوع يجتذب اهتمام الانسان أو يحركه. وهو في هذا التعريف الواسع يشمل مختلف العناصر التي تحرك مشاعر الناس او تدفعهم للاجتماع مع بعضهم او توحيد نشاطاتهم.
هذه اذن طبيعة المجتمعات وهكذا تعيش. ثمة من يجتمع حول نسب واحد فيشكلون عائلة او قبيلة. وثمة من يجتمع حول قضية واحدة فيشكلون شركة تجارية او نقابة او جمعية مهنية او حزبا سياسيا او جماعة دينية او ثقافية وهكذا. كل واحدة من هذه التجمعات هي دائرة مصالح ، اجتمعت فيها شريحة من الناس ، طمعا في ان تحقق بعض ما يريدون.
بنظرة عامة نستطيع القول ان دوائر المصالح هذه نوعان: اولها عمودي موروث ينضم اليه الانسان بالولادة لا بالاختيار. فالانسان لا يختار انتماءه الديني والمذهبي والعرقي والقبلي ، فهذا ينتقل بين الاجيال بالوراثة. اما النوع الثاني فهو الافقي الذي ينضم اليه الانسان اختيارا ، ويتركه اذا شاء ، وقد يطلق عليه التعاقدي. ينضم الانسان الى جمعية تجارية او حرفية او سياسية او خيرية اذا شاء ويتركها اذا شاء.
لاحظ دارسو علم الاجتماع ان النمط الاول هو السائد في المجتمعات التقليدية ، بينما تتسم المجتمعات الحديثة بانتشار النمط الثاني. احد الاسباب هو سيادة مفهوم الاختيار والتعاقد القائم على تقدير الفرد لنفسه ، و- بشكل عام – ارتفاع قيمة الفرد والمبادرة الفردية في المجتمعات المتقدمة ، بخلاف نظيرتها التقليدية التي لا تمنح الفرد سوى قيمة ثانوية.
لاحظ الباحثون ايضا ان النمط الاول هو الاطار الاكثر شيوعا للتعصب والصراعات الطويلة الامد. اذا جرى شحن الانتماء القبلي او الديني او المذهبي او العرقي بمضامين سياسية ، فانه سيشكل قاعدة لتنازع مزمن ، بخلاف النمط الثاني الذي لا يخلو – هو الاخر - من تعصب ولا يحول دون انفجار صراعات ، لكنها قصيرة الأمد وقابلة للتفكيك والمعالجة باجراءات غير مكلفة. هذا هو السبب الذي يجعلنا نقول بان منظمات المجتمع المدني توفر اداة فعالة لتفكيك البنية الثقافية – الاجتماعية للتعصب ، وتسويد لغة الحوار والتفاهم بين الشرائح الاجتماعية من جهة ، وبينها وبين الدولة من جهة اخرى.
يفسر التقسيم السابق ايضا اسباب تصاعد المشاعر القبلية والطائفية مع انتشار وسائل الاعلام واتساع التعليم ، مع ان المفترض هو العكس تماما. وهذه احدى المسائل الرئيسية التي عالجها بندكت اندرسون في كتابه المرجعي "مجتمعات متخيلة".
تشجيع الناس على صب تطلعاتهم في اطارات حديثة تعاقدية ، أي تحويل مفهوم المصلحة من الانتماءات الموروثة الى الانتماءات الحديثة ، سيؤدي تدريجيا الى تفريغ الانتماءات التقليدية من مضمونها السياسي واضعاف قابليتها للشحن السياسي. لهذا تهتم الانظمة السياسية الحديثة بتشجيع ودعم المجتمع المدني في مختلف تعبيراته وتمثلاته ، حتى لو اتخذ – في بعض الاحيان – مسارات غير متوافقة مع سياسات الدولة الرسمية.  الامر ببساطة اختيار بين من يعارض الدولة في مجال محدد وبين من يعتبرها كينونة غريبة بناء على تبرير ديني او أثني او قبلي.
الشرق الاوسط 6 مايو 2015
http://goo.gl/E0po9W

29/04/2015

أمين معلوف... الهويات القاتلة




بين ملايين البشر الذين عايشوا تجربة اصطراع الهويات في حياتهم ، ثمة عدد  ضئيل جدا حول هذه التجربة الى مختبر للتفكير والتأمل العلمي والابداعي. كان أمين معلوف واحدا من هذه الاقلية. ولد معلوف في جبل لبنان ، وحين اندلعت الحرب الاهلية هاجر الى فرنسا حيث اصبح واحدا من أعلام الادب فيها. "كثيرا ما سألني الناس: هل تشعر انك فرنسي ام لبناني ، وكنت اجيب: هذا وذاك". هكذا افتتح معلوف كتابه الشهير "الهويات القاتلة". لكن الامر لا يقف عند هذا الحد. بالنسبة لمفكر وأديب مثل معلوف ، فالقضية تتجاوز وصف الذات او تحديد المكان الاجتماعي ، الى التأمل العميق في معنى ان تكون اثنين في واحد ، او ان تنتمي لاثنين في آن واحد. ذلك ان الاثنين مجرد عنوان لسلسلة من التنوعات تختفي احيانا تحت عباءة الثنائية المدعاة ، لكنها تصارعها في احيان اخرى.

 وجد معلوف صراعا كامنا في داخل عائلته التي انقسمت بين من يتبع  الديانة الكاثوليكية ومن اختار نقيضها البروتستنتي ، في ظرف الصراع الشديد بين الفريقين. ثم وجد نفسه مثقفا عربيا يستند الى تاريخ ثقافي يشارك فيه مليار مسلم ، لكنه ليس واحدا منهم على وجه الدقة. فلو صادفه احد هؤلاء اثناء الحرب الاهلية التي ابعدته عن لبنان ، فلربما قتله على الهوية. لكن الناس في اوربا والعالم لا يعرفون هويته المسيحية قدر ما يعرفونه كمفكر عربي. هذا يجعله بالضرورة مصنفا ضمن العالم الاسلامي واطاراته المعرفية والثقافية.

عالج معلوف اشكاليات الهوية وأزماتها في العديد من أعماله البحثية والابداعية ، وركز خصوصا على العوامل السلبية في تشكيل هوية الفرد ، اي تصنيف الاخرين للجماعة التي ينتمي اليها ، والتي قد تكون دينا او عائلة او قبيلة او عرقا او لونا ..الخ. ينتمي هذا التصوير الى حقل التحليل النفسي الذي يعد اليوم واحدا من المقاربات الرئيسية في الابحاث الخاصة بالهوية. وهو يمزج – عمدا – بين ما يختاره الفرد ولو مرغما ، وبين ما يتسرب الى اعماقه دون وعي منه.  حسب اريك اريكسون ، عالم النفس الامريكي الشهير ، فان تشكل الهوية لا يتخذ مسارا مستقيما. تتفاعل خلفية الفرد الاجتماعية/العائلية مع ما يواجهه في محيطه ، فتنتج تعارضات وتأزمات ذهنية او نفسية في بعض الاحيان ، وتنتج  نجاحات في احيان أخرى. يمكن القول ان الامر يتعلق بهويتين تتصارعان ، هوية يريدها المجتمع وهوية يرفضها ، وعلى الفرد ان يتحمل عبء التوفيق بين الهويتين على نحو يجعله قادرا على الاندماج في عالم ذي معنى.

تاثير العوامل السلبية يزداد قوة حين يكون الفرد او الجماعة التي ينتمي اليها في ازمة او صراع مع الاطراف الاخرى ، سيما حين تضعه اقداره في الجانب الضعيف الذي يتعرض للعدوان. في ظروف الازمة يميل الناس الى استبعاد المختلفين عنهم ، حتى لو لم يكونوا مخالفين لهم. هذا يؤدي بالضرورة الى بروز الانقسامات الاجتماعية على نحو لا يكون ملحوظا جدا في الظروف الاعتيادية.

السؤال الذي طالما شغل أمين معلوف هو: الى أي حد يستطيع الفرد التحكم في تشكيل هويته. بعبارة اخرى: الى اي حد نصوغ شخصياتنا والى اي حد يصوغنا المجتمع والمحيط. وهل نستطيع فعلا كشف وتحديد الصفات والسلوكيات والمتبنيات التي تشكل – في نهاية المطاف – هويتنا الشخصية ، اي كشف ما اذا كنا نختارها بوعي ام انها تتسرب الينا من محيطنا الاجتماعي ونحن غافلون. ما ندعي اننا نريده ونعمل له ، وما ندعي انه مثالنا الذي نريد ان نكونه ، هل هو اختيارنا ام هو الذي اختاره لنا الاخرون وسربوه الى عقولنا؟.

نعلم بطبيعة الحال ان هوية الفرد غالبا ما تكون متحولة ، تتغير عناصرها بين زمن وآخر. لكن السؤال المهم هو: من يتحكم في هذا التحول ، وهل يجري في الوعي ام اننا نتحول تبعا لتحولات المحيط.

الشرق الاوسط 29 ابريل 2015

 http://goo.gl/WJbfkU

22/04/2015

اسطورة الحرب النظيفة


لا اعرف اسم الذي ابتكر مصطلح "الحرب النظيفة". لكن الشركات المنتجة لما يسمى بالقنابل الذكية والصواريخ الموجهة ، بذلت جهدا كبيرا لترويج الفكرة في العقد الاخير من القرن المنصرم. كان صامويل كوهين مخترع القنبلة النيوترونية قد اطلق عليها اسم "القنبلة النظيفة" فهي لا تدمر جسرا ولا سيارة بل تكتفي بقتل البشر والحيوانات والشجر وكل كائن حي يتعرض لشعاعها. انها ببساطة تخلص الدنيا من الاحياء (ربما كان كوهين يعتبرهم قذرين او سببا لقذارة العالم).
كانت حرب الخليج الثانية (1991) اول حرب حقيقية تشهد استعمالا فعليا للقنابل الذكية. ثم ظهرت كسلاح رئيسي لدى القوات الامريكية في اجتياحها للعراق عام 2003. وقد اجتهد صناعها يومئذ في الترويج لفكرة انها نظيفة بمعنى انها تصيب الاهداف المحددة على نحو دقيق يحول دون اصابة المدنيين والمنشآت غير المستهدفة سلفا. كان هذا الاسم ردا على الصحفيين وناشطي المجتمع المدني الذين حاولوا ثني البيت الابيض عن تكرار ما جرى في حرب فيتنام من تدمير كارثي للغابات والمدن فضلا عن المباني الحكومية.
لكني اظن ان مصطلحات مثل قنبلة ذكية وحرب نظيفة تحمل من السخرية اكثر مما توحي بأساطير القوة وعظمة التكنولوجيا. لا توجد حرب نظيفة في واقع الامر. السلاح الاكثر ذكاء هو السلاح الاكثر تدميرا. ربما يكون نظيفا بمعنى انه لا يؤذي مستعمله او لا يستتبع اعباء اخلاقية فيما لو انحرف عن هدفه. لكن الحرب هي الحرب ، يكفي ذكر اسمها عن وصفها او شرح ما تحمله في طياتها من مآس وآلام.
قد يكون هذا الكلام مفيدا قبل ان تبدأ الحرب. أما وقد اشتعل اوارها ، فهو انشاء غير ضروري ولا يستحق التوقف.  ما يهم فعلا في ظرف الحرب هو التأمل في نهايتها. ربما كان وينستون تشرشل ، الزعيم البريطاني ، هو الذي قال يوما ان الحرب اداة للتفاوض مع الخصم ، وليست هدفا بذاتها. هذه الفكرة اصبحت اليوم من بديهيات السياسة. فالحكومات تحارب كي تعيد تشكيل المشهد السياسي في البلد المستهدف ، او كي تفرض على خصومها تعديل مواقفهم على النحو الذي ينسجم مع خطة سلام جرى اعدادها سلفا.
المسألة المهمة اذن تتعلق بالغايات المستهدفة من وراء الحرب. فيما يخص عاصفة الحزم ، فالواضح الآن انها قد انجزت هدفها الابرز ، الذي افترض انه تعديل موازين القوى على الساحة اليمنية ، على نحو يسمح باطلاق حوار سياسي متكافيء بين الاطراف المتصارعة على السلطة هناك.
صحيح ان السلطة الرسمية لم تستطع حتى الان استعادة موقعها في الميدان. لكن الأطراف الاخرى ، واعني خصوصا الحوثيين وحزب المؤتمر والحراك الجنوبي استوعبت على نحو واضح الحدود القصوى لقوتها الميدانية وما يمكن ان تنتجه من وقائع سياسية او مكاسب سياسية. فكرة "حدود القوة" هي احدى التعبيرات المشهورة التي تساعد في تفسير العلاقة بين الوزن الميداني والوزن السياسي لكل طرف. وفحواها ان ما يهم في نهاية المطاف ليس عدد الجنود الذين تحركهم ، وليس مساحة الارض التي تسيطر عليها ، بل اعتراف الاطراف الاخرى المنافسة بحقك في استعمال هذه العناصر كخلفية ومبرر لمطالبك السياسية. ما لم يعترف الاخرون بان هذه مبررات مقبولة فانها لا تنتج اية مفاعيل سياسية.
المفاوضات هي الطريق الوحيد لترجمة المكاسب الميدانية الى مكاسب سياسية ، اي حصة في سلطة يعترف بها الاخرون. نعلم ان تحالف عاصفة الحزم لا ينوي حكم اليمن ، وهو لا يستطيع ذلك على اي حال. ان الغرض الوحيد الذي يبدو معقولا هو اعادة تشكيل المشهد السياسي على نحو متوازن ، يسهم في تحييد المخاطر التي يمكن ان تنجم عن انفراد طرف معين بمصادر القوة والقرار ، المخاطر على البلد نفسه وعلى الامن الاقليمي.
من هنا فان التحالف مطالب باطلاق خطة تحول سياسي ، تستثمر منجزات الحرب في اعادة بناء يمن جديد اكثر استقرارا وقدرة على النمو ، وحكومة قادرة على التحكم في مجريات الاوضاع على ارضها. هذا يعني على وجه التحديد مشروعا تأسيسيا تتفاوض عليه اطراف الصراع كي تنتقل الى مرحلة السلم واعادة البناء.
من المهم ان يبادر التحالف الى طرح خطة من هذا النوع ، لأن الظرف مناسب لاستقطاب الدعم الدولي. لو تأخر الامر فربما تطرح مشروعات موزاية من جانب قوى اقليمية او دولية ، قد لا تلبي بالضرورة الحاجات التي تسببت في اطلاق الحرب.
ربما نتحدث عن "الحرب النظيفة" في معنى اختصار المسافة بين بداية الحرب وبداية المفاوضات. اي في معنى اختصار الخسائر المادية والبشرية ، والتعجيل في ترجمة المنجز الميداني الى مساومة سياسية ، تعيد السلم الاهلي والاستقرار الاقليمي. هذا لا يجعل الحرب نظيفة تماما ، لكنه – على اقل التقادير – يخفف من أكلافها الانسانية.
الشرق الاوسط 22 ابريل 2015
http://goo.gl/xcz5XH


15/04/2015

مخيم اليرموك


اتفق تماما مع الامير الحسن بن طلال في حاجة العالم العربي لمنظومة جديدة لادارة ازماته. هذه الحاجة ظهرت باجلي ما يكون في ازمة مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين ، التي تفاقمت الاسبوع الماضي بعدما سيطر عليه تنظيم "داعش".
ما حصل في المخيم الواقع جنوب العاصمة السورية مثال واحد على افتقار العالم العربي لأخلاقيات الحرب ، رغم كثرة ما يقال على الورق وفي المنابر من مواعظ اخلاقية.
تشكل اتفاقيات جنيف الاربع لعام 1949 والبروتوكولات الملحقة بها منظومة اخلاقية – قانونية تنظم التعامل مع المدنيين في زمن الحرب. وقد توافق عليها عقلاء العالم بعدما اختبروا الكوارث التي حلت بالبشر والعمران في الحربين العالميتين. وتعتبر هذه الاتفاقيات جزء من القانون الدولي وتعبيرا عن الضمير الانساني واخلاقيات الانسان الطبيعي.
ربما كانت حرب رمضان المجيدة (اكتوبر 1973) الوحيدة خلال نصف القرن الاخير التي تشهد التزاما عربيا بقواعد التعامل الاخلاقي اثناء الحرب. لكن هذا الالتزام لم يظهر ابدا ، او ربما لم يكن واضحا في الحروب التالية.
قصف القرى الكردية بالسلاح الكيمياوي (العراق 1988) وتدمير المطارات ومنشئات البترول الليبية في الاشهر الماضية ، وبينهما فضائع الحرب الاهلية اللبنانية والسودانية والسورية، وصولا الى مأساة مخيم اليرموك الحاضرة ، تدل جميعا على ان حملة السلاح لا يميزون اصلا بين جندي في دبابة وطفل يبحث عن فتات على قارعة الطريق. يستوي في هذا التقدير الحكومات التي تزعم حماية مواطنيها والعصابات المسلحة التي تدعي السعي لتحريرهم. المعركة واحدة عند هؤلاء ، ومن وجدوه في ارضها فهو هدف مشروع لحقدهم ورصاصهم.
قبل 2011 كان مخيم اليرموك يحتضن 100 الف لاجيء فلسطيني ، يكدحون ويكافحون ويتغنون بالعودة الى قراهم السليبة ، وكانوا جميعا - كسائر فقراء العالم – طيبين ، رغم مخزون الالم في قلوبهم. كان حديثهم الوحيد هو فلسطين ، آمالهم ونزاعاتهم وأيامهم تدور حولها. لم يتخيل احدهم يوما انه سيوجه بندقية الى جيرانه او يلقي قنبلة على سطحهم.
تبدل الامر كليا مع انحياز حركة حماس الى المعارضة السورية ، فأصبح المخيم جزء من الحرب الاهلية. وبالتدريج تحولت شوارعه وازقته الى مقرات او ممرات للمقاتلين والجنود ومعهم العصابات المسلحة وتجار الحرب والمغامرون والحمقى ونهازوا الفرص والمساكين.
لم يكن النظام رحيما بالمخيم ، ولا كانت الجماعات المسلحة رحيمة بأهله. شوارعه الضيقة وازقته تحولت الى اطلال وركام يفت القلب منظرها فضلا عن معايشتها. أما اهله فقد تفرقوا شذر مذر ، كثيرهم ضاع ، وقليلهم رحمته الاقدار. لم يعد في المخيم اليوم سوى بضعة الاف ممن عجز عن النجاة بنفسه ، وكأني بكل منهم يتوقع رصاصة من مسلح احمق او ربما يموت  فريسة الجوع والمرض والحزن.
الا نبدو في هذا الحال اكثر الناس كلاما عن الرحمة في الرخاء واكثرهم قسوة ووحشية عند الشدة؟. اترانا نستطيع الفخر بايماننا واخلاقنا وشجاعتنا بينما يقتل المدنيون وتهدم بيوتهم في صراعات على السلطة والفخر بالذات الخائبة وغرور القوة القبيح؟.
نعم. نحن بحاجة الى منظومة قيمية ثقافية قانونية جديدة تجعلنا قادرين على رفض الاقتتال وتدمير العمران وابادة الحرث والنسل من أجل شعار ديني او سياسي او غيره. اسوأ الاشياء ان تحتقن بالألم ، فاذا أنكرت الفضائع ، وجهت اليك اصابع الاتهام بالعجز والانهزام وربما الخيانة والكفر برب العالمين. نحن بحاجة الى اطار قانوني يسمح لنا بادارة ازماتنا وحروبنا على نحو يحصر الخسائر في حدها الأدنى ، ولا يسمح بتدمير ما انفقنا العمر في بنائه حجرا فوق حجر ، كما يفعل الاطفال بعد ان يفرغوا من العابهم الصغيرة. نحن بحاجة الى اطار قانوني – ثقافي يمنع المغامرين وطلاب السلطة والاقوياء من استغلال ارثنا الثقافي ومصادر قوتنا في حروب تهلك البشر والشجر والحجر.
قد لا نستطيع منع الصراعات ، لكننا – مثل سائر عقلاء العالم – قادرون على ادارة ازماتنا على نحو يضمن الحد الادنى من اللوازم الاخلاقية التي تميزنا عن البهائم والوحوش. نحن بحاجة الى تأسيس ثقافي – قيمي يستهدي بما يشبه اتفاقيات جنيف عربية ، كي نتعلم انكار الحرب والدمار ، ايا كانت اطرافه وأهدافه.

 http://goo.gl/tEq9eL

01/04/2015

حرب تلد حلاً



«حرب تلد أخرى» هو عنوان كتاب للإعلامي العراقي سعد البزاز حول حرب الخليج. وأظن كثيرا من الناس يتداولون الفكرة باعتبارها حقيقة. لكن لا شك أن بعض الحروب قد تفتح الباب أمام حلول مرحلية أو طويلة الأمد.
بطبيعة الحال، فإنه لا يوجد حل سحري أو منفرد لأي مشكلة سياسية. لا الحرب وحدها تحل المشكلات ولا المفاوضات. عالم اليوم أكثر تعقيدا وأسرع تغيرا، مما يجعل الدواء الواحد فعالا في حادثة محددة في زمن محدود. ما إن تمر الأيام حتى يبرز جانب آخر للمشكلة، ثم جانب ثالث.. وهكذا.
أزمة اليمن، مثل عشرات الأزمات السياسية التي شهدتها المنطقة، مثال واضح على الطبيعة المتحولة للمشكلات. المبادرة الخليجية التي بدا أنها كانت استراتيجية خروج مناسبة من أزمة اليمن أواخر 2011، سرعان ما استبدلت باتفاق السلم والشراكة في سبتمبر (أيلول) الماضي. لكن هذا الاتفاق انهار بدوره قبل أن يدخل حيز التطبيق. ليس ثمة عيب جوهري في المبادرة، وليس ثمة عيب جوهري في الاتفاق. يكمن العيب في الطبيعة المتحولة للمشكلات مقارنة بالطبيعة الاستاتيكية للحلول.
ربما كانت القمة العربية الأخيرة في شرم الشيخ واحدة من أنجح القمم، لأنها - على الأقل - خلت من الاستقطابات والتنازعات التي كانت سمة ملحوظة في معظم القمم السابقة. وقد اتفق الزعماء العرب على تشكيل قوة عسكرية موحدة، تبدو في إطارها العام شبيهة بتلك التي تشكلت في إطار منظمة الوحدة الأفريقية، ونعرف أنها تدخلت بفاعلية في الصومال.
يمكن اعتبار هذه المبادرة طموحا عاليا بالقياس إلى أوضاع العالم العربي الراهنة، وبالقياس إلى تاريخ طويل من الاتفاقيات الشبيهة التي لم تنجح. ومن هنا فإني أخشى أن تتبدد الفكرة مع مرور الوقت أو ظهور خلافات حول آليات التنفيذ والكلف السياسية الضرورية لإنجاح مشروع طموح من ذلك النوع.
في ظني أن مشروعا شبيها بمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي قد يكون أنسب وأسهل منالا. وأعني به تحديدا المرحلة الأولى من حياة هذه المنظمة، أي منذ تأسيسها في 1975 حتى 1990. أنشئت هذه المنظمة في ذروة الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن بهدف تخفيف انعكاس هذا الصراع على الأمم الأوروبية، من خلال تشجيع شراكات المصالح بين جزئي أوروبا الشرقي والغربي، والعمل على منع تحول الخلافات الثنائية إلى صراعات محاور، وتبريد نزاعات الحدود المحتملة، وتعزيز اتجاهات التسالم على مستوى القارة.
في المرحلة التالية، سيما بعد 1991 نجحت المنظمة في تعزيز موقعها كوسيط قوي وموثوق في النزاعات الإقليمية والثنائية، وحتى النزاعات التي تنشأ داخل دول القارة. وظهر تأثيرها بوضوح في الصراعات المتنقلة التي نشبت في البلقان بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، فأثبتت أنها أكثر مرونة وفاعلية من المنظمة الدولية الأكبر، أي الأمم المتحدة، وأكثر موثوقية من المحاور الأحادية الاتجاه مثل الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، رغم أنها استعانت على الدوام بموارد وإمكانات هذه المنظمات.
انطلقت منظمة الأمن والتعاون الأوروبي من مبادئ بسيطة يتفق عليها الجميع، من بينها مثلا اعتبار الحدود القائمة نهائية، وعدم تغييرها بقرارات منفردة، والحيلولة دون الاستعمال المفرط للقوة في حل النزاعات، بما فيها النزاعات الداخلية، واعتبار المشكلات البينية مسؤولية جماعية، والبحث عن بدائل تعويضية - اقتصادية وسياسية - لإغراء الأطراف الخاسرة في النزاعات بعدم اللجوء إلى العنف من جديد.
ظروف أوروبا لحظة قيام المنظمة تشبه من نواح كثيرة ظروف العالم العربي الراهنة. ولهذا لم تقرر أهدافا طموحة ولم تستعجل في وضع ميثاق نهائي. ويذكر أن المفاوضات حول النسخة الأولى من اتفاقية المنظمة استغرقت عامين، وجرى تطويرها على 4 مراحل حتى الآن.
من الناحية السياسية تصنف «عاصفة الحزم» كحرب محدودة الأهداف، إلا أنها فتحت الباب لنقاش جدي حول إمكانية تطوير التعاون العربي في مجالات أوسع وأهداف أكثر. لكن الانتقال إلى مرحلة العمل يتوقف على إعادة صياغة الأهداف المرحلية دون مبالغة في الطموح، وإقامة نظام مؤسسي للإشراف على تنفيذ المشروع. ويبدو لي أن تصميم نموذج شبيه لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي في مرحلتها الأولى قد يكون الأنسب في الظرف العربي الراهن.

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...