يمكن تنظيم العلاقة بين المجتمع
والدولة على واحد من وجهين:
1- تبعية المجتمع للدولة ، اي كون
الدولة سيدا على المجتمع وحاكما فوقه
2- تبعية الدولة للمجتمع ، اي كون
الدولة وكيلا عن المجتمع وممثلا له ، باعتبار المجتمع مصدرا للسلطة.
تشرح السطور التالية ان الوجه الثاني
هو الوحيد المشروع ، استنادا الى نظرية " شراكة التراب " التي ادعو
اليها. |
لويس الرابع عشر: الدولة أنا |
من المفهوم ان الدولة لم تخلق ارض
الوطن ولا سكانها ، ولم تجلبهم من أماكن أخرى ، وتعمر أرضهم وتسكنهم فيها. الأرض
التي تخضع لسلطان الدولة هي ملك أصلي للذين يعيشون فوقها. وبموجب هذا الملك فإنهم
وحدهم أصحاب الحق في إدارة مواردها والتصرف فيها. الدولة لا حق لها في أي شيء من
تلك التصرفات إلا إذا اتفق أولئك المالكون على تفويضها هذا الحق. ملكية الأرض أعلى
وأسبق - من حيث قابليتها لتوليد حقوق التصرف- من الدين والقانون والتوافقات، وإنما
تصبح أحكام الدين والقانون سارية إذا وافق المالك على الخضوع لها.
وعلى هذا الاساس فان الدعوة للمساواة
والعدالة في توزيع الموارد، ليست مجرد دعوة أخلاقية أو ضرورة سياسية. بل هي أولاً
وقبل كل شيء تعبير عن حق أصلي ثابت ، سابق للدولة والدين والقانون. وإنما تأتي
القوانين والأحكام لتنظيم القيام بهذا الحق وتمكين كل فرد من أن يحصل على نصيبه
العادل منه.
والحق ان العالم كله يأخذ اليوم
بمفهوم الشراكة هذا. الدول العربية تقع ضمن شريحة صغيرة جدا ضمن 194 دولة عضو في
الامم المتحدة ما زالت تعيش على النظم والقيم القديمة التي تنكر شراكة الجمهور
وملكيته لارضه وما يترتب عليها من حقوق سياسية. نتحدث احيانا عن عالم ما قبل قرنين
، فنستنكر ما جرى فيه ، لكن ذلك العالم مازال قائما – ولو بتمثيلات مصغرة – في
الدول العربية المعاصرة . نتذكر مثلا مقولة ملك فرنسا لويس الرابع عشر «الدولة هي
أنا» التي تختصر واقع الحال في الأكثرية الساحقة من أقطار العالم يومذاك. ولعلنا
نتذكر ما نقله مؤرخو العالم الإسلامي عن تحول الناس عن الدين أو المذهب الغالب في
بلدهم إذا تولى الحكم ملك يتبع مذهباً مختلفاً. يمكن القول بكلام مجمل: إن الخضوع
والتسليم لشخص الحاكم كان المضمون العام لعلاقة المجتمع مع حكومته.
تغيير تلك المفاهيم بدأ في اوربا خلال
القرن السابع عشر ، متاثرا بالأفكار السياسية الجديدة التي أطلقها فلاسفة عصر
النهضة. كما اكتسب التغيير زخماً إضافيًّا بعد الحروب الأهلية والنزاعات الدينية
والحركات الثورية، لا سيما الثورتين الفرنسية (1789) والأمريكية (1783). جوهر
التغيُّر المذكور هو تحول صفة الدولة من حاكم فوق الشعب إلى حكم بين أفراد الشعب وممثل
للمجتمع ، تستمد سلطتها منه. وترتب عليه نزع الصفة المتعالية للدولة، وتحديد
سلطتها واعتبارها مسؤولة عن أعمالها وعما يجري إجمالاً في الإقليم السياسي الخاضع
لسلطانها.
وصل
التغيير في الدول الصناعية إلى مرحلة متقدمة من النضج ، فرسخت مفاهيم مثل الحقوق
الطبيعية والمدنية والمساواة بين المواطنين، وحاكمية القانون وكون الدولة ضامناً
للحقوق الدستورية لكل مواطن. ولهذا فإن الاختلاف المذهبي أو الديني بين أبناء
الوطن الواحد لم يعد مشكلة أو مولداً لمشكلة. فعدا عن الحق الأولي في المساواة بين
الأفراد بغض النظر عن معتقداتهم، فإن النظام السياسي يوفر آليات قانونية محددة
وموثوقة لمعالجة التمييز والعدوان فور حدوثه.
سار
العالم الإسلامي في طريق مختلف. فبعد استقلال أقطاره، هيمنت على الحياة السياسية نخب
اوتوقراطية تفهم الدولة والمجتمع في نفس الإطار الذي كان متعارفا في القرون الوسطى
، أي اعتبار الدولة هيئة مستقلة عن المجتمع ، تتمتع بسلطات مطلقة. لا يمكن بطبيعة
الحال إفراد النخب الحاكمة باللوم على ما جرى. فالمجتمعات المسلمة وقادة الرأي من
أهلها يتحملون نصيباً من اللوم على افتقارها إلى ثقافة سياسية تُعلي شأن الإنسان
الفرد وحقوقه، وتسمح بالتفكير في سلطة تمثيلية منبعثة من المجتمع. اغفلت الدولة والمجتمع
العربي حقيقة كون الناس مالكين لأرضهم، بل واعتبروها -صراحة أو ضمناً- ملكاً
للدولة المستقلة عن المجتمع والحاكمة فوقه. وانطلاقاً من هذا الفهم أهملت الدولة العربية
مسألة العدالة في توزيع الموارد . ثم انكرت على عامة الشعب حقه في المشاركة
الكاملة في صناعة السياسات التي تؤثر على حاضره ومستقبله. في بعض الحالات وجدنا
طبقات أو طوائف أو قبائل بعينها تستأثر بمعظم خيرات البلد ومناصب الدولة ، حتى
اصبحت هي والدولة شيئا واحدا ، بينما اكثرية الناس لا حظ لهم ولا حصة ولا صوتا.
على المستوى النظري فان جميع دساتير
الدول العربية – عدا اثنين او ثلاثة ربما - يقرر ان الشعب هو مصدر السلطة. الا ان
هذا لا يكشف عن حقيقة الحال. كي يتحول هذا المفهوم الى واقع ، فاننا بحاجة الى
التاكيد على قاعدته الفلسفية ، اي كون الشعب مالكا للاقليم الارضي الذي هو وطنهم. هذا
يعني ان جميع اعضاء المجتمع، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا، شركاء في ملكية
الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه. ويقترب هذا المفهوم الى حد كبير
من فكرة "الخراج" المعروفة في الفقه الاسلامي القديم، التي تؤكد على
ملكية عامة المسلمين للموارد الطبيعية ملكا مشاعا.
بناء على مفهوم الشراكة فان المواطنين
يولدون متساوين متكافئين ويبقون كذلك طيلة
حياتهم. سواء نص القانون الوطني على هذا ام سكت عنه. ومن هنا فان اي عضو في هذا
النظام لا يستطيع الغاء عضوية الاخر ، بنزع
الجنسية مثلا . الوطن في هذا المفهوم لا يتكون من اقلية واكثرية ، بل من مواطنين
متكافئين في الحقوق والواجبات ، بغض النظر عن اصولهم العرقية وجنسهم وانتماءاتهم
الثقافية والاجتماعية. هذه الحقوق لا يمكن حجبها لأنها منبثقة عن ملك شرعي صحيح
وكامل الاركان.
موقع المقال 9 مايو 2012
لتفصيلات حول الخراج واحكامه واستخدامه في تاسيس
مبدأ الشراكة ، انظر توفيق السيف : نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، الباب الثالث