29/12/2021

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

 

ذكرت في مقال سابق ان فقهاء الشريعة ، تختلف آراؤهم في الموضوع الواحد ، كما تختلف احكام القضاة في القضية الواحدة. وهكذا الأمر عند مفسري القرآن وعلماء الطبيعيات والهندسة ، بل كل علم يعرفه الانسان.

لولا الخلاف في المواقف لسادت الأحادية ، وتحول المجتمع البشري الى ما يشبه مجتمع النحل. ولولا تقبل العقلاء للاختلاف في الرأي والاجتهاد ، لانجبر الناس في طريق واحد ، ومات العلم. الخلاف والاختلاف هو الماء الذي تحيا به شجرة العلم.

حلقات الدرس في المسجد الهندي-النجف

هل ينطبق هذا المبدأ على علوم الدين أيضا؟.

نعم بطبيعة الحال. لكن لماذا هذا السؤال؟.

السبب الأول للسؤال هو الاختلاط المشهود بين ما هو علمي بحت وما هو مقدس ، الأمر الذي يجعل البحث العلمي المحايد في غاية العسر. ولهذا يواجه دعاة الاصلاح والتفكير الديني الجديد عنتا شديدا ، حين يحاولون استعمال المناهج الجديدة في البحث العلمي ، وهي مناهج تتعامل مع قضايا العلم وأدلتها من زاوية تقنية او وظيفية بحتة ، ولا تعبأ بالجانب المقدس في موضوع البحث. من عوامل التأخر في علوم الشريعة ، الخوف من خرق المقدسات. وهو قد يكون خوفا صحيحا ، او ربما مجرد وهم.

أما السبب الثاني  فهو اعتقاد كثير من عامة الناس ، بأن ما يسمعونه من الخطيب او الفقيه ، وما يقرأونه في كتب الفقه ، هو نفس ما قاله النبي او صحابته الذين سمعوا منه. وإذا كان ثمة اختلاف ، فهو قصر على الشرح والتوضيح ، ولا يخالف الأصل في كثير ولا قليل. وهذا غير صحيح طبعا.

ما يقوله الخطيب او الفقيه هو اجتهاده الخاص ، او اجتهاد من يرجع اليه. بديهي انه ليس كل حافظ للقرآن والحديث ، قادر على الاستدلال واستخراج الحكم الشرعي. ولو كان الاستدلال بهذا اليسر لما احتجنا الى متخصصين في علوم الشريعة ، ولاكتفينا بكتب النصوص المعتمدة والتي تتوفر لكل من يطلبها ، مع شروحها وتفاسيرها.

لكنا نعلم ان الاستدلال عملية مغايرة لقراءة النص وشروحه. الفرق هنا يماثل الفرق بين عالم الميكانيكا ، وبين شخص قرأ دليل الاستعمال او ربما اخذ دورة في صيانة المحركات. فالأول محيط بالقواعد العلمية التي تحكم عمل المحرك والتقنيات المستخدمة فيه ، وبالتالي فهو مؤهل لتعديل المحرك ان اقتضى الأمر. أما الثاني فحده الأقصى هو تنظيف المحرك او ربما إصلاح بعض اعطاله ، بمعنى المحافظة عليه كما هو.

حسنا.. لماذا لا يتكل طلبة العلم الشرعي على اجتهادات من سبقوهم ، بدل ان يعيدوا النظر فيها ويطرحوا آراء جديدة ، غير التي اعتاد عليها الناس؟.

الجواب بسيط: تخيل لو بقي الناس على الرأي القديم القائل بحرمة التصوير ، او حرمة المطبعة أو السفر الى البلاد الاجنبية او تعلم الجغرافيا والفلسفة واللغات الاجنبية وحرمة التعامل مع البنوك.. الخ .. كيف سيكون حال الناس وحال دينهم؟.

لولا الاجتهادات الجديدة ، لكان الناس في حرج شديد ، بل ربما تخلوا عن دينهم من اجل ضرورات الحياة. هذه امثلة بسيطة تظهر ان الاجتهاد ، اي نقد الآراء السائدة والبحث عن بدائل ، هو الطريق الوحيد لتمكين الناس من الجمع بين متطلبات دينهم وضرورات دنياهم.

أظن ان هذا يوضح بما يكفي الحقيقة التي يعرفها كل العقلاء ، وهي ضرورة المراجعة المستمرة للخطاب الشرعي ، من اجل تكييفه مع ضرورات الحياة الجديدة ، كي لا يقع الناس في الحرج. هذه الضرورة هي التي تملي علينا قبول الاختلاف والمخالفة ، حتى لو تعلقت بما نعتقد انه من الاساسيات والثوابت.

الشرق الأوسط الأربعاء - 25 جمادى الأولى 1443 هـ - 29 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15737]

https://aawsat.com/node/3383581

مقالات ذات صلة

 "أحدث من سقراط"

الاسلام في ساحة السياسة: متطلبات العرض والتطبيق

تأملات في حدود الديني والعرفي

التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

نقد التجربة الدينية

نموذج مجتمع النحل

الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله

22/12/2021

في علاقة الزمن بالفكرة

 

دفعني لهذه الكتابة مقال للمفكر المعروف الدكتور عبد الجبار الرفاعي ، خلاصته ان تفاسير القرآن لا بد ان تتمايز عن بعضها وتختلف ، لأن كلا منها يعكس فهم المفسر لعالمه. بعبارة أخرى فانك ترى بين ثنايا التفسير ، روح الزمان والمكان الذي عاش فيه المفسر.

عبد الجبار الرفاعي
وقد مر بنا زمن سادت فيه الدعوة لما أسموه تفسير القرآن بالقرآن. ومرادهم ان معنى الآية ، يدرك من خلال رصفها مع مجموع الآيات المماثلة في اللفظ او المعنى والموضوع. وقريبا من هذا الدعوة  لتفسير القرآن بالروايات ذات الصلة بآية بعينها او موضوع بعينه. ومثلها التفسير الموضوعي ، الذي يذهب أصحابه الى تصنيف الموضوعات الواردة في القرآن ، وجعلها موضوعا واحدا للدراسة والتحليل.

وقد مال عامة الفقهاء الى منهج التفسير بالروايات ، لأن مرادهم هو الحصول على حكم أو إشارة لحكم في النص ، كي لا يضطروا للأخذ بالدليل العقلي المحض. ونعلم ان غالبية الفقهاء المسلمين من كافة المذاهب ، يرجحون الحكم الوارد في النص على نظيره المستند لدليل عقلي ، حتى لو كان غريبا أو منافيا لعرف العقلاء. ومن ذلك مثلا قول بعضهم ، ايام محنة الايزديين في العراق (2014م) بأن سبي النساء واسترقاقهن والمتاجرة بهن ، لا ينافي شريعة الاسلام. وان من ينكر جوازه فهو ينكر معروفا من الدين.

واعلم ان هذا الرأي موجود في كتب التراث ، وفيه روايات وآيات. لكني اجزم انه قول لا يصح في هذا اليوم ، لأن جمهور المسلمين لا يقبل به ، كما ينكره انكارا مطلقا كل العقلاء ، أيا كانت ملتهم.

ضربت هذا المثال كي يأخذنا الى محور هذه الكتابة ، أي دور "الأفق التاريخي" في تحديد الصحيح والسقيم من الأحكام والقيم والمستهدفات الشرعية. "الافق التاريخي" هو مجموع العوامل التي تؤثر على ذهن الانسان لحظة تفكيره في شيء. وتشمل تطلعاته وتوقعاته ومصادر قلقه ، المستوى العام للمعرفة ، نوعية القيم والمعايير الاخلاقية السائدة ، والمشكلات التي يتعلق بها التفسير او الحكم الفقهي.

كل من هذه العناصر يؤثر على ذهن الانسان ، لحظة تلقيه للنص او الفكرة الدينية (بل اي فكرة اخرى) ويشارك في تحديد المعنى النهائي للنص ، اي ما نسميه فهم المتلقي. ومن هنا اشتهر التمييز بين النص وفهم النص او بين الدين والمعرفة الدينية. يختلف الناس في نوعية العوامل التي تؤثر على أذهانهم. وهو اختلاف يؤثر في فهمهم للنص والدليل ، بل يؤثر حتى على التجربة العملية ، التي نتخذها دليلا على صحة المدعى او بطلانه.

هذه الدعوى تثير اسئلة اخرى ، يحتاج مسلمو هذا الزمان لمجادلتها بشجاعة وتجرد. بعض تلك الاسئلة يتعلق بالمنهج ، مثل السؤال البديهي: هل يمكن لنا أن نحدد العوامل المذكورة اعلاه ونتحكم في تاثيرها؟. ومنها السؤال المتعلق بدور المسلم العادي في التشريع: هل له الحق في قبول او رفض حكم ما ، ام يجب عليه التسليم دون نقاش؟. ومنها ايضا قيمة الاجتهادات والتفسيرات التي انتجها فقهاء سابقون ، هل نتعامل معها كسوابق حكمية يبنى عليها ، ام كخيارات علمية ، نظير المراجع العلمية الاخرى. ومثلها الاجتهادات المتعارضة التي تظهر في وقت واحد: هل ننظر اليها كتعبيرات مختلفة عن حقيقة واحدة ام كاحتمالات ذات صفة شخصية؟.

سأعود في كتابة أخرى بعون الله لبعض تلك الاسئلة لاسيما فكرة الاحتمالات وعلاقتها بالزمن.  

الشرق الاوسط الأربعاء - 18 جمادى الأولى 1443 هـ - 22 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15730]

https://aawsat.com/node/3371966/

 

15/12/2021

"أحدث من سقراط"

 

كثيرا ما واجهني سؤال التفاضل بين ما ورثناه من اسلافنا ، وما عرفناه من أهل عصرنا. في الاسبوعين الماضيين كتبت عن فكرة الشرعية السياسية ومصادرها ، فواجهت سؤال: لماذا نستعير مفاهيم ابتكرت في الغرب مع وجود نظائر لها في تراث الأسلاف؟. وقبل ذلك قال احد القراء ساخرا: انت تدعو للقطيعة مع التراث ، ثم تستشهد بآراء سقراط الذي مات قبل 2400 عام. اليس فلاسفة المسلمين (احدث) من سقراط؟.

مركز الطب الاسلامي - الكويت

هذا النوع من الاسئلة لا يعتمد معايير النقد العلمي ، فالعلم لا يعترف بالهويات والجغرافيا. أهل العلم يبحثون عن أدلته حيثما كانت ، في الماضي او الحاضر ، عند سقراط او ابن سينا ، بلا فرق على الاطلاق. لكن صاحب السؤال  والكثير ممن يقرأونه لا ينظرون لهذه الزاوية او لا يقبلونها ، لاسيما لو  ظنوا ان الفكرة المطروحة ذات صلة بالدين او أن لها ظلالا دينية.

وفي سنوات سابقة حظيت هذه المسألة باهتمام كبير ، حين اتسعت الدعوة لما أسموه "أسلمة العلوم" ، واقام بعض الأدباء رابطة للأدب الاسلامي واخرى للقصة الاسلامية ، وعقد غيرهم نقاشات لتمييز العلوم الفاسدة ، وقرروا على سبيل المثال ، ان علم الاجتماع الحديث فاسد ، لأنه قام على أسس معادية للدين الحنيف ، وان كبار منظريه ملحدون. كما سمعنا متحدثين عن طب اسلامي ، بمعنى احياء أساليب علاج تطورت في العصور الاسلامية القديمة ، وسمعنا أحاديث عن عسكرية اسلامية ، وسياسة إسلامية الخ.

بدأت هذه الدعوة بغرض محدد هو تحييد البحوث العلمية المخالفة لقيم الدين واخلاقياته ، نظير أبحاث الهندسة الجينية والجرثومية. لكنها أثارت حماسة بعض الناشطين البعيدين – من حيث التخصص – عن حقل العلوم البحتة. هؤلاء بدأوا يتحدثون عن منظور ايديولوجي ، محوره "سبق" المسلمين في مجال العلوم ، وعدم حاجتنا للغرب فيها.

اظن ان المحرك الاقوى لانتشار الفكرة ، هو الفرضية التبسيطية القائلة بانه "اذا كان لدينا منتج ، فلماذا نستورده من الخارج؟". ويزداد تأثير هذه الفرضية حين يشار – كما يحصل دائما – الى ان تلك العلوم قد تطورت في ظرف ديني.

لكن اعتبارها يتلاشى اذا بان سقم مقولاتها وانعدام جدواها. خذ مثلا "الاقتصاد الاسلامي" الذي لم يستطع دعاته تطوير نموذج تنموي قادرة على مجادلة النظريات السائدة في عالم اليوم ، ومثله "المصرفية الاسلامية" التي اكتفى أصحابها بتغيير مسمى المعاملات ، واضافة اجراءات شكلية ، ادعوا انها كافية للخروج من اشكال الربا  ، ولم ينجحوا أبدا في تطوير نموذج للوساطة المالية خارج اطار المصرفية المعروفة في عالم اليوم.   

لم تعمر هذه الدعوة الا يسيرا ، لأنها فشلت في الاختبار. وظهر سريعا انها مبنية على أرضية هزيلة ، حولت الدين الى عباءة او صبغة ، بدل ان يكون مضمونا لرؤية كونية ، تنظم علاقة الانسان مع البشر الآخرين ومع الكون الذي يعيش فيه.

حقيقة الامر ان علينا التحلي بشجاعة الاقرار ، بان القرآن ليس كتاب طب او هندسة او اقتصاد ، وان الله اعطى لعباده عقولا كي يتفكروا ويتفاكروا ، وكي يتعاونوا مع بعضم لتدبير حياتهم على النحو الامثل. لا ينبغي ان نشعر بالقلق لو تركنا علوم الأسلاف ، الى ما هو خير منها عند غيرهم. ما يحدد افضلية هذا على ذاك هو التجربة الفعلية ، وليس اخبار الأولين او الآخرين ، ولا كونها ولدت في بلدنا ، ضمن اطارنا الثقافي ، او في بلدان الآخرين وضمن اطارهم. ان اعقل الناس – كما ورد في الاثر – من جمع عقول الناس الى عقله وليس من احتفى بأسلافه وكتبهم.

الشرق الاوسط الأربعاء - 11 جمادى الأولى 1443 هـ - 15 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15723]

https://aawsat.com/home/article/3359441/

مقالات ذات علاقة

اجماع العلماء ... الا ينشيء علما؟

تأملات في حدود الديني والعرفي

تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

كي لايكون النص ضدا للعقل

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

08/12/2021

نموذج لشرعية سياسية وسيطة

 

كان في ذهني حين كتبت مقالة الاسبوع الماضي ، ثلاث دول عربية ، افترضت انها جاهزة لاعادة تعريف مصادر الشرعية السياسية ، بالرجوع الى النموذج العقلاني - القانوني. هذه الدول هي العراق وليبيا وتونس.

د. جاسر الحربش

لكن استاذنا الدكتور جاسر الحربش ، وهو طبيب وكاتب رأي معروف في المملكة ، لفت انتباهي الى ان الصين وروسيا ، لا تزالان في حال تردد بين دائرتي الشرعية العقلانية/القانونية ونظيرتها التقليدية/الايديولوجية. تتمتع هاتان الدولتان باستقرار سياسي ونمو اقتصادي منضبط ، وبالتالي فهما اكثر استعدادا لتبني نموذج الشرعية العقلانية – القانونية الصافية. هكذا يفترض علماء السياسة. لكن واقع الحال يخبرنا ان غالبية الصينيين والروس ، صوتوا لصالح الزعماء الحاليين ، الذين يمثلون امتدادا للحقب السابقة بمحمولها الايديولوجي وتقاليدها. ويبدو ان في العالم العديد من النماذج المماثلة ، حتى في دول متقدمة أو شبه صناعية.

قد يشير هذا الى ميل عميق في التكوين الثقافي - النفسي للجماعات ، لم يخضع بقدر كاف للبحث والتحليل. سوف أسميه بالشرعية الوسيطة ، وهي مركب يجمع طرفا من المصدر التقليدي للشرعية السياسية ، مع مستوى متوسط من الانجاز الاقتصادي-السياسي.

من المفهوم ان حكومة الرئيس "شي جين بينغ" في الصين ، تتكيء على جدار متين من الانجازات الاقتصادية ، فضلا عن الاستقرار السياسي والأمني والمكانة الدولية. ومثلها حكومة الرئيس "فلاديمير بوتين" في روسيا ، الذي نجح ، الى حد ما ، في استعادة المكانة الدولية التي تمتعت بها موسكو ، قبل تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991.

هذا القدر من الانجاز ، يضاف الى عرف راسخ في الثقافات التقليدية ، يحبذ الاستمرارية والتواصل ويعرض عن التغيير ، ولاسيما التغيير الذي ينطوي على مغامرة او مفارقة صريحة للأعراف التاريخية. ان اهتمام الحكومتين بالتاريخ الوطني والرموز الثقافية ، يستهدف بشكل مباشر ومقصود ، تسليط الضوء على القيادة الحالية ، بوصفها وريثة امجاد الماضي المتخيلة ، القابضة أيضا على مكاسب العصر ومنجزاته.

 بعبارة أخرى فان النخبة السياسية في روسيا والصين ، تقدم مثالا ناجحا عن امكانية الجمع بين نموذج تقليدي محوره الاتصال بالماضي المجيد ، وانتقالي محوره الانجاز المادي الفعلي. أود أيضا اضافة المصدر القانوني الذي يتجلى في الدستور والانتخابات الدورية ، رغم ما يشوبهما من اشكالات.

اظن ان رؤية الدكتور جاسر صحيحة تماما ، في ان توليفا بين المصدرين: التقليدي والقانوني – العقلاني ، يمكن ان يشكل احتمالا مناسبا في الدول التي تمر بظرف انتقالي ، او تلك التي لا تملك ارثا ثقافيا يدعم النموذج الحديث للسلطة والسياسة.

وبالنسبة للدول العربية التي تعيش أزمات وجودية ، فان نموذجا مثل هذا او قريبا منه ، يمكن ان يشكل بديلا عن الفوضى الشاملة ، التي ربما يؤول اليها تحول ديمقراطي غير مؤسس على ثقافة عامة مساعدة ، كما هو الحال في ليبيا ،  كما انه بديل أسلم من بروز الاستبداد كمنقذ وحيد من الأزمات المستعصية والانسداد السياسي ، نظير ما نسمع عن العراق وتونس.

لقد اثبت النموذج الديمقراطي – الليبرالي نجاحا منقطع النظير ، بالقياس الى كافة التجارب التي عرفها تاريخ البشرية. لكننا نعلم ان هذا النموذج لم يهبط من المريخ ، بل كان ثمرة لبنية ثقافية تطورت بالتدريج. ولذا فقد يكون من الاجدى بالنسبة للبلدان التي تعيش أزمات ، او تلك التي خرجت للتو من أزمات ، ان تتبع النموذج الوسيط الذي طبقته روسيا والصين ، حتى تتبلور البنية الثقافية والاقتصادية الداعمة للتحول الى الحداثة السياسية الكاملة ، وعندئذ سيكون الانتقال سلسا وشبه اوتوماتيكي ، كما أظن.

الشرق الاوسط الأربعاء - 4 جمادى الأولى 1443 هـ - 08 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15716]

https://aawsat.com/home/article/3347061/

مقالات ذات صلة

الاسئلة الخطأ

تفارق الافهام بين المجتمع والدولة العربية

حاكم ملتح وحاكم يستحي

حدود الديمقراطية الدينية - عرض كتاب

الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية

الشرعية السياسية في حكومة دينية حديثة

01/12/2021

تفارق الافهام بين المجتمع والدولة العربية

 

أشعر ان غالبية الدول العربية ، سيما التي تعيش ظروفا متأزمة ، في حاجة لمراجعة الارضية التي تقوم عليها شرعية الحكم. مفهوم الشرعية السياسية ينطوي في جواب السؤال التالي: ما هو المبرر الذي يعطي شخصا ما او هيئة ما ، الحق في الأمر والنهي والتصرف في أموال الناس وأنفسهم ، وما هو المبرر الذي يحمل الناس على طاعة تلك الأوامر.

من الضروري مراجعة وتجديد مصادر الشرعية ، في ظرف الاسترخاء السياسي على وجه الخصوص. لكنه يبدو اليوم ضروريا ايضا ، بسبب ما يظهر في الميدان السياسي ، من تفارق في فهم هذا الموضوع بالذات ، بين الجمهور والنخبة السياسية.

قانون الندرة: الجميع يتنافسون على موارد محدودة

بيان ذلك: تحاول النخب السياسية العربية تبرير سلطانها بالرجوع الى القانون. فهي تقول انها تحكم في اطار قانون معلن ، وان  أوامرها ونواهيها صادرة وفق هذا القانون). أما الجمهور فما زال يعتبر صاحب السلطة مسؤولا – بصفة شخصية – عن الوفاء بما قطعته الحكومة من وعود ، وما توقعه الجمهور من تحسن لأوضاع المعيشة والامن الخ.

   لفتت هذه المسألة انظار المفكرين منذ القدم. لكن جان جاك روسو ، الفيلسوف الفرنسي ، هو الذي وضع مفهوم الشرعية في صيغة محددة ، وربطها بالتفاهم الضمني بين الجمهور والنخبة. أوضح روسو مفهوم الشرعية في مقولته الشهيرة " "الاقوى ليس قويا تماما ، حتى يقتنع الناس بان ولايته عليهم حق له ، وان طاعتهم لأمره واجب عليهم". "الشرعية السياسية" من ابرز مباحث علم السياسة المعاصر. ويبدأ بحثها عادة بشروحات ماكس فيبر ، مؤسس علم الاجتماع الحديث ، الذي عالج المفهوم كما هو في الواقع ، وبغض النظر عن تفضيلاته الخاصة.

تحدث فيبر عن نموذجين للشرعية السياسية: تقليدي وعقلاني. اما التقليدي فيدور غالبا حول شخص الزعيم ، الذي يراه الجمهور صاحب حق في السلطان ، بغض النظر عن ممارسته السياسية الفعلية. مع مرور الوقت وبروز اجيال جديدة ، يبدأ الناس بالتفكير في "انجازات" الزعيم ، بوصفها عاملا شريكا في استمرار شرعيته.

لكن "الانجاز" مفهوم قصير الأمد ، بسبب المسافة الواسعة بين توقعات الناس وقدرة الدولة على تحقيق تلك التوقعات. يخضع عمل الدولة ل "قانون الندرة" ، الذي هو في الوقت ذاته السر وراء صعوبة ارضاء الجمهور (رضا الناس غاية لا تدرك ، كما نقل عن لقمان الحكيم).

يطالب الناس بأكثر مما تستطيع الحكومة انجازه ، فتضطر الحكومة لتذكيرهم بالقانون ، وهو الاطار الحديث/العقلاني للشرعية السياسية. اي انها تتحول من التأكيد على الانجاز كمصدر لشرعية سلطانها ، الى التأكيد على القانون كاطار ناظم لهذه الشرعية ومبرر لاستمرارها.

من الناحية الواقعية بلغ العالم العربي مرحلة الشرعية العقلانية. لكنه - على المستوى الثقافي – ما زال في مرحلة الشرعية التقليدية ، التي تتراوح بين الكاريزما والحق الشخصي. وقد ذكرت آنفا ان مطالبات الجمهور تتجه للاشخاص الذين تتألف منهم النخبة السياسية ، ولاسيما شخص الزعيم.

في اعتقادي ان تركيز الجمهور على الاشخاص مرهق لهم وللدولة معا ، فضلا عن كونه غير عقلاني وغير مفيد. ان الصورة المثلى للادارة العامة تتجلى في الفهم المشترك بين الجمهور والنخبة لقدرات كل طرف وحدوده ، والاطار الناظم للعلاقة بين الطرفين ، كي لا تتحول ادارة البلد الى نوع من التجاذب وترامي المسؤولية ، بدل التعاون على حمل الاعباء المشتركة. هذا يعني بالتحديد تحويل مفهوم القانون والشرعية المستندة اليه ، الى جزء نشط في الثقافة العامة ، والتأكيد على خضوع الجميع ، حكاما ومحكومين لمقولاته ، سيما في البلدان التي تعيش ظروف أزمة.

الشرق الاوسط  الأربعاء - 26 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 01 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15709]

https://aawsat.com/node/3334541/

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...