28/07/2021

حول الاجماع الوطني

 جادلت في مقال الأسبوع الماضي ، بان معظم النزاعات الدائرة في محيطنا ، نتاج لأمراض في البنية الاجتماعية والسياسية ، فتحت الباب للايادي الاجنبية للتاثير في الشأن الوطني.

يهمني الإشارة أولا إلى ان المجتمعات والاوطان ، ليست كائنات مادية بحتة ، بل هي في المقام الأول كائنات اعتبارية ، بمعنى ان ما يعطيها صفة المجتمع او الوطن ليس الأرض او المباني ، بل اقرار البشر الذين يسكنونها بانها تحمل هذا الاسم وتنتمي لهذه الجماعة ، وان سكانها يعيشون معا في اطار اتفاق (ضمني او مكتوب) تضمن  استمراره ثقة متبادلة ، محورها ان جميع الاطراف يسعون لخيرهم المشترك ، ويلتزمون بالمسؤوليات التي يولدها ذلك الاتفاق.

ولعل القراء الأعزاء يذكرون الصور التي تنشرها الصحف أحيانا ، عن قرى يقسمها خط الحدود بين دولتين ، نظير قرية بارلي ناسو التي يقع نصفها في هولندا والنصف الاخر في بلجيكا ، ومثلها قرية لاكيور التي تقتسمها فرنسا وسويسرا. فهذه القرى وأمثالها تسكنها عائلات متقاربة في النسب وطريقة العيش ، لكن بعضها يتبع هذه الدولة ، والآخر يتبع الدولة الثانية. بل قد تجد في بعض بيوتها أخوة يحمل أحدهم جنسية هذا البلد تبعا لامه ، ويحمل الثاني جنسية البلد الآخر تبعا لابيه. فهذا المثال ونظائره يوضح بان المجتمعات والاوطان ، بل كل اجتماع بشري ، روابط اعتبارية (أي انها موجودة وثابتة بقدر ما يعتبرها الناس كذلك). ومن هنا فان قوة تلك الروابط وضعفها ، مشروطان بمدى ترسخ الثقة والايمان بالعلاقة الجامعة في نفوس أعضاء المجتمع او سكان البلد.

الايمان بالجماعة الوطنية والثقة في النظام الذي يربط الجميع ، هو ارضية ما اسميناه الاجماع الوطني ، الذي يتناول موضوعين رئيسيين: أ) القانون - او العرف - الذي يحدد ويضبط العلاقة بين كل طرف والآخر. ب) الطريقة المتفق عليها لحل الخلافات المحتملة بين الشركاء ، والتي يلتزم الجميع بالقبول المسبق لنتائجها.

لا يمكن ان يتعايش اناس مختلفون دون توافق على المصالح المشتر كة والحقوق المتقابلة ، التي اوجبت اجتماعهم ، واتفاق مواز على طريقة لعلاج خلافاتهم ، لتلافي الانشقاق والتنازع. هذا ببساطة هو جوهر "الاجماع الوطني".

تتسبب الازمات الكبرى في نشوء ارتياب متبادل ، بين الكتل التي يتألف منها المجتمع الوطني. وعندئذ تتلاشى القوة الجمعية التي تسند البناء السياسي والأمني والقانوني للبلاد ، أعني بها القوة التي تتجسد في الثقة المتبادلة التي ذكرناها ، وفي توافق كافة المواطنين على أن يعيشوا معا في ظل نظام قانوني واحد ، أسمه الوطن ، وانهم جميعا يتحملون المسؤولية عن صيانته.

انظر الى مثال أفغانستان أو ليبيا في الوقت الحاضر. سوف تجد ان المشكلة في كلتا الحالتين هي انعدام الثقة  المتبادلة بين اطراف النزاع. انعدام الثقة يعني - حسب تعبير البروفسور ديفيد ميلر - ان كل طرف يشعر في داخله بانه لو تخلى عن مصادر قوته الخاصة او تنازل للطرف الثاني ، فمن يضمن له ان يحصل على حقوقه المتفق عليها في القانون؟.

لا يوجد حل طويل الامد للمشكلات ، ولا سد يحمي البلد من تاثير القوى الاجنبية سوى بناء الثقة وتجديد الثقة باستمرار ، وهي مهمة سهلة بشرطين ، اولاهما ان لا ينظر للسلطة كغنيمة ، بل كوظيفة مؤقتة ، وثانيهما ان يكون كل طرف مستعدا لتقديم تنازلات ، تتناسب حجما وموضوعا مع الغاية المستهدفة ، حتى لو كانت مؤلمة.  

الشرق الاوسط الأربعاء - 18 ذو الحجة 1442 هـ - 28 يوليو 2021 مـ رقم العدد [15583]

https://aawsat.com/node/3102256/

 

مقالات ذات علاقة

 

احتواء التحدي وتحييده

استنهاض روح الجماعة

اعادة بناء الاجماع الوطني

انهيار الاجماع القديم

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

العراق: المهمة الكبرى بعد الموصل

كي نتحاشى امارات الطوائف

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

21/07/2021

البلاد بوصفها "مسرح العرائس"

 

اسهل الكلام هو اتهام الأفغان بانهم دمى تحركهم اياد اجنبية ، وان صراعاتهم كلها حروب بالوكالة. ومثله في السهولة اتهام السوريين والليبيين. اني لا انفي وجود اياد اجنبية في أي مكان. ولا أنفي انها تؤثر ، ولولا انها مؤثرة لما التفت اليها احد. لعل بعضنا يعرف ان القضاء الأمريكي لازال يحقق في "أياد روسية" حاولت التاثير في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فاذا وصل الامر الى واشنطن فان كابل ايسر مؤونة.

رغم هذا فان اطلاق القول على هذا النحو مدعاة للسخرية. ولهذا يميز طلبة العلوم السياسية ، سيما الذين تدربوا على دراسة الحقل المشترك بين العلاقات الدولية وإدارة الازمات ، بين قيام الأجنبي ب"خلق ازمة" وقيام الأجنبي ب "استثمار أزمة ، نشطة او خاملة".

أعرف حالات قليلة جدا ، شهدت نجاح الايادي الأجنبية في خلق أزمات أدت الى صراع اهلي. لكن معظم حالات الصراع الأهلي تطور عن تأزمات داخلية ، فشل أطرافها في معالجتها على نحو سليم ، فنشأ فراغ أمني او فراغ سياسي ، مهد الطريق للتدخل الأجنبي.

ما الداعي لهذا الحديث اليوم؟

اعلم ان انسحاب القوات الامريكية من أفغانستان ، والتوسع المفاجيء لحركة طالبان ، سوف يجتذب اهتمام القراء. ولابد أنه سيحرك الكثير من النقاشات. فأردت استثمار المناسبة لكشف ما اظنه عيبا جوهريا ، في الثقافة السياسية السائدة بين العرب المعاصرين وبعض جيرانهم المسلمين. هذا العيب هو ببساطة احتقار الذات ، الذي يتغطى بعباءة تفخيم الذات او تبرئة الذات.

حين تقول ان كل الأطراف المتصارعة تقاتل بالوكالة عن قوى اجنبية ، فانت تشير ضمنيا الى ان الأطراف المحلية ، عاجزة عن اتخاذ القرار في أمور بلدها ، وحتى في تحديد دورها الخاص ومستقبلها ضمن هذا البلد. اذا قلت هذا الكلام ، فسوف تجد من يلقي الكرة في ملعبك سائلا: وهل انت واحد من هؤلاء العاجزين.. وهل قبيلتك او اهل ديانتك او قريتك ممن تحركهم الايادي الخارجية ، كما يفعلون في مسرح العرائس؟.

 يعلم الانسان بانه سيواجه هذا السؤال ، ولهذا فهو يستبق الأمور بتفخيم الذات وتنزيهها ، من خلال رمي المشكلة على الغير (الذي يكون في غالب الأحيان غائبا ، او غير قادر على المجادلة والرد). كمثال على هذا: يقول الليبيون انه لم يكن لديهم أي مشكلة قبل ان يأتي أناس من الخارج ، نفس الشيء قاله بعض العراقيين والافغان وربما غيرهم. بعبارة أخرى فان المسالة تتدرج على مرحلتين: الأولى الادعاء بان اهل الداخل أدوات تحركها قوى اجنبية (المضمون ان شعبنا عاجز عن القرار والفعل) ، الثانية: التحليل: لان اهل الداخل عاجزين فهم لن يرتكبوا خطأ (المضمون: طالما لم تتسبب في المشكلة فلا لوم عليك ، حتى لو انخرطت فيها لاحقا).

هذا كلام ينطوي على استهانة بالذات وبالمحيط الاجتماعي ، وان تلبس عباءة البراءة وتنزيه الذات. لانه حتى لو افترضنا جدلا انه صحيح ، فسوف يعود السؤال: هل كنتم مجرد قطيع يسوقكم راع هبط عليكم فجأة ، فاطعتموه من دون ان تعرفونه... اما كان الالاف منكم قادرين على التوقف لحظة والتفكير فيما يجري واكتشاف "المؤامرة" المدعاة؟.

الواقع ان معظم النزاعات الاهلية التي نعرفها ، في محيطنا العربي والإسلامي وصولا الى بقية قارات العالم تفجرت لوجود علل وأمراض في البنية الاجتماعية او السياسية. ان وجود هذه العلل في الاصل مؤشر على تقصير اهل البلاد ، وكان يتوجب عليهم المبادرة في علاجها يوم اكتشفت ، قبل ان يمسي العلاج مستحيلا ويصبح التفكك خيارا وحيدا ، كما جرى في السودان وقبلها في يوغوسلافيا السابقة.

يتعلق الموضوع في الجوهر بمسألة "الاجماع الوطني". ولهذا حديث آخر نعود اليه قريبا ان شاء الله.

الشرق الاوسط الأربعاء - 11 ذو الحجة 1442 هـ - 21 يوليو 2021 مـ رقم العدد [15576]

https://aawsat.com/home/article/3090701/

 

مقالات ذات صلة

المؤامرة والسياسة

حكومة العالم الخفية

تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

الشيعة في زمن جديد

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

07/07/2021

العدالة الاجتماعية: رؤية جون رولز

 

"العدالة الاجتماعية" هي الموضوع الأكثر إثارة للجدل السياسي على امتداد العالم. ربما لا يذكر كثير من الناس هذا العنوان ، لكنهم يتحدثون عن التفصيلات التي تندرج تحته. خذ مثلا مسألة السكن: هل هي مسؤولية الدولة ام مسؤولية الافراد؟. خذ أيضا كفاءة الخدمات العامة كالتعليم والرعاية الصحية والمواصلات وتوليد الوظائف.

لم يكن هذا الموضوع محل نقاش جدي حتى الحرب العالمية الأولى ، التي شهدت نهاياتها انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا ، وإعلان الحكومة التزامها بتأمين الحاجات الأساسية للمواطنين ، ومن بينها كافة الخدمات العامة المذكورة أعلاه ، من دون تمييز بين سكان المدن والقرى ، او بين من يدفعون الضرائب ومن لا يدفعون.

وقد كان لهذا النموذج انعكاس قوي جدا في المجتمعات الأوروبية ، حيث تحول المنظور الاشتراكي الى ملهم للطبقات الفقيرة. ومنذ ذلك الحين ، اتسع النقاش حول "واجب" الدولة في تأمين حد أدنى من ضرورات المعيشة لمواطنيها ،  وكون وفائها بهذا الواجب معيارا لشرعيتها السياسية ، أي حقها في الأمر والنهي والتصرف في الشأن العام.

ثمة فلاسفة انكروا ان تكون "العدالة الاجتماعية" موضوعا حقيقيا او شيئا يستحق النقاش. ابرز هؤلاء على الأرجح هو الاقتصادي والفيلسوف النمساوي فريدريك فون هايك ، الذي رأى ان العدالة وصف للفرد وليس للفعل ، خاصة الأفعال التي يشارك في انشائها مئات الأشخاص (كما هو الحال في الخطط الحكومية). لكن الاتجاه العام في  الفلسفة السياسية الحديثة ، يدور حول النظرية التي طورها الفيلسوف الأمريكي جون رولز ، والتي يطلق عليها اختصارا اسم "العدالة كانصاف".

وفقا لرؤية رولز ، فان العدالة الاجتماعية تسمح بتوزيع للمنافع ذي طبقات متعددة. فهناك منافع اجتماعية يجب ان توزع بالتساوي ، ومنها الحقوق الأساسية للإنسان كحرية التعبير والاعتقاد والتقاضي والعمل والانتقال وتكوين العائلة ، وكذلك الحقوق المرتبطة بالمواطنة ، لا سيما حق الوصول الى الوظائف العامة ، والاستفادة المتساوية من الأموال العامة والتساوي امام القانون.

وثمة منافع ينبغي توزيعها تبعا لحاجة المتلقين ، ومنها الدعم المباشر لمحدوي الدخل ، وتوفير السكن والرعاية الصحية لمن تقصر مداخيلهم عنها. والغرض من هذا هو ضمان حد أدنى من لوازم العيش الكريم لكافة المواطنين ، بمعنى ان الأكثر حاجة قد يتلقى منافع أكثر من غيره.

أخيرا ، ثمة منافع يمكن توزيعها بشكل متفاوت ، شرط ان يتاح لكل المواطنين فرص متساوية للحصول على نصيب أكبر منها. مثل مكافأة ذوي الإنجازات والمبتكرين ، والموظفين الذين يقدمون خدمات نادرة.. الخ. يمكن تبرير هذا التمايز اعتمادا على مبدا الاستحقاق والجدارة. كما يمكن تبريره بأن منح الأشخاص المنتجين حوافز مادية ، سوف يعزز قيمة الابداع والعمل الجاد ، ويشجع على توسيع إنتاج السلع والخدمات التي تحتاجها السوق ، الامر الذي ينعكس إيجابيا على معيشة أعضاء المجتمع كافة.

زبدة القول ان النظام الاجتماعي العادل ، يتسم – وفقا لهذه النظرية - بثلاث خصائص:

الأولى: يجب أن يحصل كافة الافراد على منظومة شاملة من الحريات الأساسية والمدنية المتساوية.

الثانية: الوظائف العامة التي يتمتع شاغلوها بمزايا أكبر (الوظائف الأعلى أجرا ، على سبيل المثال) يجب ان تكون متاحة لجميع الأفراد على أرضية مبدأ تكافؤ الفرص.

الثالثة: يسمح بعدم المساواة في الدخل والثروة ، إذا كانت ستفيد أفراد المجتمع الأقل حظا. ومن ذلك أيضا الحوافز التي تزيد الإنتاجية الإجمالية للمجتمع ، وبالتالي تسمح بتوجيه مزيد من الموارد المادية إلى الطبقات الأقل دخلا.

الشرق الاوسط - الأربعاء - 27 ذو القعدة 1442 هـ - 07 يوليو 2021 مـ رقم العدد [15562]

https://aawsat.com/node/3066306

مقالات ذات علاقة

 "شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

الغول

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

مجتمع العقلاء

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

مفهوم العدالة الاجتماعية

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

نحن مدينون لليسار المكافح

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...