جادلت في مقال الأسبوع الماضي ، بان معظم النزاعات الدائرة في محيطنا ، نتاج لأمراض في البنية الاجتماعية والسياسية ، فتحت الباب للايادي الاجنبية للتاثير في الشأن الوطني.
يهمني الإشارة أولا إلى ان المجتمعات والاوطان ، ليست كائنات مادية بحتة ، بل هي في المقام الأول كائنات اعتبارية ، بمعنى ان ما يعطيها صفة المجتمع او الوطن ليس الأرض او المباني ، بل اقرار البشر الذين يسكنونها بانها تحمل هذا الاسم وتنتمي لهذه الجماعة ، وان سكانها يعيشون معا في اطار اتفاق (ضمني او مكتوب) تضمن استمراره ثقة متبادلة ، محورها ان جميع الاطراف يسعون لخيرهم المشترك ، ويلتزمون بالمسؤوليات التي يولدها ذلك الاتفاق.
ولعل القراء الأعزاء يذكرون الصور
التي تنشرها الصحف أحيانا ، عن قرى
يقسمها خط الحدود بين دولتين ، نظير قرية بارلي ناسو
التي يقع نصفها في هولندا والنصف الاخر في بلجيكا ، ومثلها قرية لاكيور التي
تقتسمها فرنسا وسويسرا. فهذه القرى وأمثالها تسكنها عائلات متقاربة في النسب
وطريقة العيش ، لكن بعضها يتبع هذه الدولة ، والآخر يتبع الدولة الثانية. بل قد
تجد في بعض بيوتها أخوة يحمل أحدهم جنسية هذا البلد تبعا لامه ، ويحمل الثاني
جنسية البلد الآخر تبعا لابيه. فهذا المثال ونظائره يوضح بان المجتمعات والاوطان ،
بل كل اجتماع بشري ، روابط اعتبارية (أي انها موجودة وثابتة بقدر ما يعتبرها الناس
كذلك). ومن هنا فان قوة تلك الروابط وضعفها ، مشروطان بمدى ترسخ الثقة والايمان
بالعلاقة الجامعة في نفوس أعضاء المجتمع او سكان البلد.
الايمان بالجماعة الوطنية والثقة في
النظام الذي يربط الجميع ، هو ارضية ما اسميناه الاجماع الوطني
، الذي يتناول موضوعين رئيسيين: أ) القانون - او العرف - الذي يحدد ويضبط العلاقة
بين كل طرف والآخر. ب) الطريقة المتفق عليها لحل الخلافات المحتملة بين الشركاء ،
والتي يلتزم الجميع بالقبول المسبق لنتائجها.
لا يمكن ان يتعايش اناس مختلفون دون توافق
على المصالح المشتر كة والحقوق المتقابلة ، التي اوجبت اجتماعهم ، واتفاق مواز على
طريقة لعلاج خلافاتهم ، لتلافي الانشقاق والتنازع. هذا ببساطة هو جوهر
"الاجماع الوطني".
تتسبب الازمات الكبرى في نشوء ارتياب
متبادل ، بين الكتل التي يتألف منها المجتمع الوطني. وعندئذ تتلاشى القوة الجمعية
التي تسند البناء السياسي والأمني والقانوني للبلاد ، أعني بها القوة التي تتجسد
في الثقة المتبادلة التي ذكرناها ، وفي توافق كافة المواطنين على أن يعيشوا معا في
ظل نظام قانوني واحد ، أسمه الوطن ، وانهم جميعا يتحملون المسؤولية عن صيانته.
انظر الى مثال أفغانستان أو ليبيا في
الوقت الحاضر. سوف تجد ان المشكلة في كلتا الحالتين هي انعدام الثقة المتبادلة بين اطراف النزاع. انعدام الثقة يعني
- حسب تعبير البروفسور ديفيد ميلر - ان كل طرف يشعر في داخله بانه لو تخلى عن
مصادر قوته الخاصة او تنازل للطرف الثاني ، فمن يضمن له ان يحصل على حقوقه المتفق
عليها في القانون؟.
لا يوجد حل طويل الامد للمشكلات ،
ولا سد يحمي البلد من تاثير القوى الاجنبية سوى بناء الثقة وتجديد الثقة باستمرار
، وهي مهمة سهلة بشرطين ، اولاهما ان لا ينظر للسلطة كغنيمة ، بل كوظيفة مؤقتة ،
وثانيهما ان يكون كل طرف مستعدا لتقديم تنازلات ، تتناسب حجما وموضوعا مع الغاية
المستهدفة ، حتى لو كانت مؤلمة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 18 ذو الحجة 1442 هـ -
28 يوليو 2021 مـ رقم العدد
[15583]
https://aawsat.com/node/3102256/
مقالات ذات علاقة
التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية
الخلاص من الطائفية
السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة
شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية
الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن
العراق: المهمة
الكبرى بعد الموصل
من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ
العقد الاجتماعي