حين تسمع عبارة "الثابت
والمتغير في احكام الشريعة" فان المعنى الذي يتبادر الى ذهنك هو "الدائم
والمؤقت". ويقول اللغويون ان التبادر علامة الحقيقة. اول المعاني المتولدة في
الذهن هو المعنى الحقيقي للكلمة. وهذه القاعدة معتمدة ايضا عند دارسي الفقه.
لاباس بالاشارة الى ان الفقهاء
قيدوا هذه القاعدة ، فقالوا ان التبادر المعتبر هو ما يفهمه المختصون ، وهم يعنون
انفسهم دون عامة الناس. لكن هذا التقييد لا يضر ما ذكرناه ، فالمختصون مثل عامة
العقلاء يصرفون مفهوم الثبات والتغيير الى تأثير الزمان والمكان في موضوع الحكم. اشير
ايضا الى ان غالب الأحكام المقصودة هنا ، تخص التعاملات بين الناس ، اي ما يتعلق
بالفرد بوصفه عضوا في مجتمع.
ونعني بالزمان والمكان مجموع
العناصر المؤثرة في تشكيل موضوع الحكم. فحين نناقش احكام المعاملات المالية مثلا ،
ناخذ بعين الاعتبار مصادر الانتاج وتكوين كلفته ، ودورة راس المال ونظام المعيشة..
الخ. ونعلم ان هذه تختلف بين بلد وآخر وبين زمن وآخر.
اشير أيضا الى ان مسألة
الثبات والتغير لم تناقش الا نادرا في بحوث الفقه وأصوله. ربما لانهم اعتبروها
تحصيل حاصل ، لا يستدعي مزيد بحث. لكنهم يقبلون في العموم بتغير الحكم تبعا لتغير
موضوعه أو بيئة الموضوع. مثل اعتبار النقد وعاء زكويا بديلا عن الوعاء المتعارف في
الماضي ، اي الذهب والفضة والحيوانات والحبوب ، لأن هذه لم تعد وسيلة تبادل ولا
مصدر معيشة.
بعد هذا التمهيد أصل للنقطة
التي اردت أثارتها هنا ، وهي قيمة الحكم السابق ، ومعنى ان يكون لدينا حكم شرعي
قابل للاستبدال بعد زمن. فالذي يبدو لي ان اصل فكرة الثبات والتغيير ، تشير ضمنيا
الى ان بعض احكام الشريعة مرحلي أو مؤقت. وسبب كونها مؤقتة انها جاءت للتعامل مع
ظرف قائم. فاذا زال هذا الظرف ، لم يعد للحكم موضوع ولا حاجة.
من أوضح الامثلة على هذا ، أحكام
الرق التي أقرها الشرع زمن الوحي ، على نحو يضيق مداخل العبودية ويوسع مخارجها.
لكن لسبب ما ، لم يتخل المسلمون عن هذا العرف ، رغم تعارضه الصريح مع العدل وخلوص
العبودية لله وتساوي كافة البشر في هذا.
لكن لو سألت أي فقيه اليوم ، عن
امكانية العودة الى نظام الرق وسبي نساء الكفار مثلا ، كما هو مشروح في المدونات
الفقهية ، لأنكر هذا السؤال كل الانكار ، مع انه بحسب الفقه التقليدي ، امر مشروع.
ان سبب الانكار هو ان عرف العقلاء في هذا العصر ما عاد يتقبل ممارسة كهذه. كما ان
النظام القانوني في كل بلاد العالم يمنعها. بعبارة اخرى فان الاحكام الخاصة بالرق
لا تعتبر صالحة او قابلة للتطبيق في هذا الزمان.
لن يحتج أحد بان انكار الرق
تحريم لحلال الله. مع انهم يذكرون الأثر المشهور "حلال محمد حلال الى يوم
القيامة وحرامه حرام الى يوم ا لقيامة". لكن الواضح انهم فهموا اباحة الرق
كحكم مرحلي أو مؤقت.
ليس من السهل – وفقا لمعايير
الفقه التقليدي – تقبل امكانية ان يكون الحكم مرحليا او مؤقتا. لأن أهله يخشون
ان يكون مبررا لتعطيل او تهميش جانب معتبر
من الاحكام المتعلقة بالمعاملات. ولهذا فاني اقتصر على الدعوة للتأمل في هذا
المسألة ، التي أظنها مفتاحا لفهم بعض الاشكالات العسيرة في علاقة الشريعة بالحياة
المعاصرة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 20
شوال 1439 هـ - 04 يوليو 2018 مـ رقم العدد
[14463]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق