09/03/2006

د. توفيق السيف: ولاية الفقيه نظرية ادت غرضها وحان الوقت لتجاوزها

حوار مع د. توفيق السيف حول كتاب "نظرية السلطة في الفقه الشيعي"
حاوره الاستاذ وسيم الرجال - 9.03.2006 - 03:31 am
شبكة أقلام الثقافية
  ظل مفهوم السلطة يراوح مديات الباحثين  الرحبة ويشغل حيزاً  تدور على رحاه اشتغالاتهم المعرفية الدؤوبة  للوصول إلى أفضل الصيغ المرنة التي تتناسب زماناً ومكاناً وتنبثق شرعيتها من النواميس الربانية ، وذلك لأن مفهوم  السلطة لم يعد منحصراً بشكل الهياكل أو الصيغ التوافقية بقدر ما هو مرتبط  بماهية الأسس التعاقدية والقانونية (أصل الحاكمية) التي تضمن انسيابية العدالة  لما من شأنه بناء روح وجوهر الحياة ومن أجل ذلك كان هذا الحوار مع الباحث الدكتور توفيق السيف الباحث المتخصص في الشئون السياسية والمشتغل منذ أمد بعيد بالبحث والتحقيق ، حصل  على درجة الدكتوراه من جامعة ويستمنستر بالمملكة المتحدة وكانت رسالة الدكتوراه تحت عنوان "Religion and the  Legitimation of the State"  وهي تدرس من زاوية سوسيولوجية تطور الفكر السياسي الشيعي في ظل الدولة  ورغبة في سبر أغوار أحد كتبه الشيقة التي صدرت مسبقاً وهو نظرية السلطة في الفقه الشيعي.
   هذه مجموعة من التساؤلات انقدحت في الذهن بعد الفراغ من قراءة كتاب ( نظرية السلطة في الفقه الشيعي) ، نوجهها للمؤلف والباحث الدكتور توفيق السيف .
1-  ذكرت في المقدمة أن الغرض من البحث هو اختبار إمكانية عرض نظرية جديدة لشرعية السلطة في الإسلام ، فما هو الدافع وراء هذا الاختبار واستنباط نظرية جديدة بالرغم من وجود نظرية نرى ثمرتها العملية على أرض الواقع في كيان يحكمه منظرو وأصحاب الأطروحة أنفسهم إضافة إلى وجود نظريات أخرى لم تطبق على أرض الواقع لكنها تطرح كبديل يسد الثغرات في النظرية المقابلة؟  هل في ذلك إشارة إلى عدم نجاح نظرية – ولاية الفقيه – والتنبؤ بفشل –  شورى الفقهاء – لو طبقت وأصبحت واقعاً عملياً ؟   أم أن الأمر لا يعدو كونه تجديداً في الفقه الشيعي في حقل الأطروحات السياسية ؟

 هذه هي طبيعة العلم . لا توجد في العلم نظرية نهائية  كل نظرية هي واحد من الاحتمالات ، وكل مساهمة علمية هي خطوة صغيرة أو كبيرة على طريق التكامل (الذي لا يصل إلى نهاية أبدا)   فيما يتعلق بنقد نظرية ولاية الفقيه ، فهناك بالفعل نقاش واسع في مجامع العلم الديني ، ولا سيما في إيران حول هذا الموضوع ، وهناك أطروحات مختلفة   بعضها ينطلق من نفس الأساس الفلسفي أو الفقهي لولاية الفقيه إلى صيغة أرقى من الصيغة الحالية للنظرية . وبعضها ينكر جدوى ولاية الفقيه وقابليتها للاشتغال في الدولة الحديثة . في اعتقادي ان الدين الإسلامي يتسع لأكثر من نظرية وأكثر من ممارسة سياسية ، وعلينا أن نسعى لاكتشاف الإمكانات التي يتيحها النص الديني والعقل الجمعي للمسلمين في كل عصر ، وطريقنا في ذلك هو الاجتهاد بمفهومه الواسع . وقد عرضت في الكتاب المراحل المختلفة التي مر بها التفكير الفقهي في مسألة السلطة حتى وصوله إلى مرحلة ولاية الفقيه . ومثلما حلت هذه النظرية محل غيرها ، فسوف يأتي المستقبل بغيرها في محلها . نظام القيادة السياسية وأرضيته الفلسفية ليس من الثوابت الدينية ، بل هو انعكاس لحاجات المجتمع وتطلعاته ومستواه الثقافي ونوعية التحديات المتوجهة إليه . ومع تغير هذه فلا بد أن تتغير مفعولاتها .
  فيما يتعلق بشورى الفقهاء ، فالذي يظهر لي أنها لا تقدم بديلا عن ولاية الفقيه في صيغتها المعروفة . الإشكالات المطروحة على ولاية الفقيه لا تتناول عدد الفقهاء القائمين على السلطة ، بل أدلة هذه الولاية ، وقابليتها لضمان العدالة ، وعلاقة الدولة بالمجتمع في ظلها.
2 -  إذا كان قوام النظرية التي تطرحها هو سيادة الأمة على الدولة ،
أ) هل يعني ذلك شرعية أي حكومة تقوم على هذا الأساس بشرط أن تكون في عصر غياب المعصوم – بعد الفراغ من ثبوت ولايته الإلهية –  توضيح : لو ابتدعت الدول والسلطات السنية أو الشيعية المتعاقبة في التاريخ أسلوباً ومنهجاً يعتمد على إشراك الناس في السلطة وجعل الأمة صاحبة السيادة على الدولة ،  فهل ستصبح هذه الدول شرعية بالمفهوم الديني الإسلامي بمعنى أنها منبثقة من تكليف الشارع ؟
 ب) هل تعتقد أن التجربة الإيرانية المعاصرة قائمة على أساس سيادة الأمة على الدولة باعتبار أن الشعب ينتخب مجلس الخبراء و أعضاء المجلس ينتخبون القائد (ولي الفقيه) وبالتالي يكون الشعب هو المنتخب الحقيقي ؟
  أشير أولا إلى أن كل ما نقوله لا يدخل في باب الفتوى أو المتبنى الديني ، بل هو محصور في إطار البحث العلمي ، ولا يخفى على اللبيب ما يميز بين الاثنين. بالنسبة للفقرة أ) : هناك نوعان من النقاش في شرعية السلطة : نقاش يدور حول مضمونها وعنوانه (ما هي السلطة الشرعية) ونقاش يدور حول شكلها وعنوانه (كيف تتحقق السلطة الشرعية) . القائلون بولاية الفقيه (سواء الفردية أو الجماعية) يرون أن رئاسة الفقيه للدولة هو مصدر مشروعيتها  وهذا الرأي مبني على فرضية أن الشارع قد وضع شكلا خاصا لنظام الحكم هو الشكل المعبر عنه برئاسة الفقيه العامة  والقائلون بسيادة الشعب يرون أن الانتخاب العام والنظامي للقيادة السياسية هو مصدر المشروعية ، وهذا القول مبني على أن مجال عمل الدولة هو نفوس الناس وحقوقهم وأملاكهم – بما فيها الأملاك العامة – وقد اثبت الشرع حقا للمالك  في اختيار من ينوب عنه في إدارة مصالحه (انظر بهذا الصدد رسالة العلامة النائيني في كتابي "ضد الاستبداد"). وكلا الرأيين كما تلاحظ يعالج الجانب الشكلي من المسألة . أما النقاش في المضمون أي (ما هي السلطة الشرعية) فهو نقاش فلسفي . وابسط الأجوبة عليه هو أن السلطة الشرعية هي السلطة العادلة  بكلمة أخرى فان القيام بالعدل وتحقيقه هو شرط المشروعية . إذا أخذنا بهذا الجانب من النقاش فانه يمكن القول أن السلطة العادلة مشروعة حتى لو لم يكن على رأسها فقيه ، والسلطة الظالمة غير مشروعة حتى لو كان على رأسها فقيه . لكن كما أشرت سلفا فان هذه مسألة فلسفية وجميع الناس أو أكثرهم يريدون تحديد "طريقة" لضمان العدل ، وبالتالي فان الاهتمام الأكبر في البحوث العلمية منصب على "شكل" الحكومة العادلة وكيفية عملها  من هذه الزاوية فان الفقهاء يأخذون برأي الفيلسوف اليوناني سقراط الذي يرى ان العالم (الفيلسوف حسب تعريفه) هو اقرب الناس إلى العدالة (لان سقراط وتلاميذه يربطون العدل بمعرفة الحقيقة) ، وهو الرأي الرائج في التراث الإسلامي .
أما إشارتك إلى "تكليف الشارع" فمن الصعب إثبات أن الشارع قد كلفنا بأي شكل من أشكال الأنظمة السياسية . بل ان النظرية السائدة أي ولاية الفقيه قد عورضت من جانب الأكثرية الكاثرة من فقهاء الشيعة حتى لقد ادعى الشيخ الأنصاري أن إثباتها على النحو المعروف "دونه  خرط القتاد". نحن إذن لا نتحدث عن شكل معين باعتباره تكليفا من الشارع ، بل باعتباره اقرب إلى تحقيق المشروعية المرادة ، أي كونه داخل الإطار الديني العام .
حول الفقرة ب) : انتخاب الفقيه من قبل مجلس الخبراء هو إعادة إنتاج لمفهوم (أهل الحل والعقد) الرائج في الفقه السني . أما انتخاب الخبراء من جانب الشعب ، مثل انتخاب مجلس الشورى ورئيس الجمهورية والمجالس البلدية ، فهو نقل للمفهوم الغربي للديمقراطية . وهذه كلها تتناقض فلسفيا ومفهوميا مع نظرية ولاية الفقيه . تقوم ولاية الفقيه على فرضية أن شرعية السلطة مستمدة من نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم ، والمعصوم يستمد شرعية حكمه (وحكم نوابه طبعا ) من السماء . أما الانتخابات فتعني أن الشرعية والسلطة موجودة في الأرض ، عند الناس ، وهي مستمدة منهم وليس من خالقهم . وقد عرضت الآراء المختلفة بهذا الصدد في كتاب جديد أرجو أن ينشر قريبا . قام الإمام الخميني رحمه الله بالجمع بين عناصر النظرية الشيعية التقليدية وعناصر من النموذج الديمقراطي الغربي بعدما رأى ان هذا التركيب هو الوحيد الممكن في دولة حديثة . وبناء عليه فان النظام الإيراني يقوم على تركيب من عناصر ديمقراطية تعالج بالقياس إلى أصلها المعرفي الغربي ، وعناصر دينية تعالج بالقياس إلى أصلها الديني . بالنسبة لبعض الباحثين فان هذا النظام هو نموذج معقول لديمقراطية دينية (ضمن الظروف الموضوعية الراهنة للمجتمع الإيراني) . وبالنسبة لآخرين فانه نموذج ناقص . كما أن بعض دعاة ولاية الفقيه (ومنهم بعض الحاكمين و النافذين حاليا) يرون أن الإمام الخميني قد ذهب بعيدا في التاكيد على دور الشعب ، وكان عليه أن لا يفعل ، لان الدور المحوري للشعب يتعارض مع نظرية الإمامة   وحسب تصريحات آية الله مصباح يزدي ، وهو من ابرز دعاة التيار التقليدي المحافظ حاليا ، فان الشعب لا دور له في الحكم الديني سوى مناصرة الفقيه ، وليس له حق انتخابه ، وهو يرى أن الجمهورية بالمعنى المعروف ، أي كونها إطارا لسيادة الشعب ، ليست من الدين في شيء.
خلاصة القول أن شكل النظام هو احد الصور الممكنة للحكم المشروع ، لكن تحقق الشرعية بالفعل مرهون بسعي النظام السياسي إلى تحقيق أغراض الحكم الديني وأبرزها العدالة والمساواة وحرية الإنسان.
 3 - هل وقعت قدم على موطئ قدم مصادفةً أم تمت الاستفادة من نكتة المفارقة بين لفظتي (دولة) و(state) من كتاب ( الفقيه والدولة) للمؤلف فؤاد إبراهيم ثم تم الرجوع إلى المصادر الأولية دون الإشارة إلى الكتاب؟  فإن هناك شبهاً كبيراً بين ما كتبته عن فكرة الدولة في الإسلام ص 32 وبين ما كتبه فؤاد إبراهيم ص 32 ، والطريف أن التشابه شمل رقم الصفحة أيضاً.
  استفدت كثيرا من آراء أخي د. فؤاد ، وهو واحد من أهم المفكرين الشيعة المعاصرين ، وكتاباته من أفضل ما ظهر في بابها  أما عن مصطلح الدولة بالشرح الذي عرضته فهو شائع في جميع كتب الفلسفة السياسية وهو من المفاهيم التي تصنف ضمن المسلمات التي لا تحتاج إلى نسبة .
4- هل يمكن القول إن التطور التاريخي لنظرية السلطة في الفقه الشيعي وانبثاقها في كل زمان من المعطيات الواقعية ومجريات الأحداث القائمة ينزع الصفة الإلهية عن جميع الأطروحات بمعنى أنها لا تعدو كونها نتاجاً بشرياً جرى تكييفه مع الدين ولا يتميز عن غيره بأنه قائم على أساس الوجوب والتكليف الإلهي ؟
 هناك ثلاثة آراء بهذا الصدد : الرأي الأول يقول أن السلطة شأن ديني باعتبارها مصلحة عامة ضرورية ، لكن المهم فيها هو قيامها على نحو يحقق الغرض منها ، وليس شكلها ، أما الشكل والكيفية والأولويات فهي أمور عرفية ترجع للمسلمين في كل زمن ومكان . ولو كان شكل السلطة ونظامها من التكليفات الإلهية لكانت من نوع التكليف بما لا يطاق وهذا خلاف الأصل الثابت بالتيسير . بل إن عددا من الفقهاء المعاصرين ومن بينهم آية الله منتظري يرى انه حتى  الرسول والأئمة المعصومين ، ولايتهم السياسية مشروطة بقبول الناس لهم كحكام . بخلاف ولايتهم الدينية الثابتة لهم بالنص . وهو يبني هذا الرأي على فرضية أن حاكمية الله مودعة في الأمة والأمة تفوضها إلى من تشاء ، وبناء عليه فهو يرى أن للأمة الحق في فرض ما تشاء من الشروط  على الحاكم لجهة تعيين مدة الحكم آو كيفيته أو نظام عمله الخ . أما آية الله صانعي فلا يجيز حتى إمامة الصلاة للفقيه إذا كان الناس غير راضين به ، فضلا عن رئاسته للدولة . وهذه الآراء قائمة على أرضية أن السلطة حق للناس وإنهم يقررون الشكل المناسب لحياتهم في كل عصر  . والشرط الوحيد هو أن يكون ذلك في إطار المفاهيم العامة للشرع (وليس بالضرورة فتاوى فقيه معين في زمن معين ) .
الرأي الثاني يرى أن لدينا نموذج ثابت للحكم الديني هو إمامة المعصوم ، وهذا النموذج منصوص عليه فلا يمكن تغييره ، وهو لا يرجع للناس بل للشارع المقدس ، وهو مصلحة دينية وليس مصلحة عرفية . وفي غياب المعصوم فان نائبه هو القائم مقامه وله جميع سلطات المعصوم وصلاحياته . وهذا هو الأساس في نظرية ولاية الفقيه .
هناك رأي ثالث يرى أن السلطة ليست شأنا دينيا ، بل هي من الأمور العرفية المتروكة للناس . والمرجع العلمي للبحث في مسألة السلطة ليس الفقه بل الفلسفة السياسية . فيما يتعلق بدور الدين في النظام السياسي ، فان هذا الرأي يوجب على الدولة الالتزام بالقيم العامة للدين ، والتي لا يختلف عليها العقلاء في كل العصور والأديان مثل قيمة العدالة والمساواة وقيمة النظام وعمومية القانون . بكلمة أخرى فهو ينظر إلى جوهر فكرة الدولة باعتبارها شأنا عقلائيا اقره الدين ، أما كيفية الإدارة وممارسة الحكم فهو يرجع إلى توافق المجتمع أو ما يسمى بالإرادة العامة  أما اتصاف الحكم بالإسلامي أو غيره فهو يرجع إلى قبول المجتمع له على هذا النحو ، أي انه نسبة إلى المجتمع وليس إلى النظرية .
وخلاصة القول أننا نفهم من التطور التاريخي للفكر الديني – بما فيه فكرة السلطة والنظريات المتعلقة بها – ان كل زمن يأتي بتحديات وأسئلة جديدة تتطلب إضافة أو تعديلا في فكرة السلطة ومفاهيم العمل السياسي . ومع مرور الزمن فان تراكم التطور يعطينا نظريات جديدة بالكامل مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في قرون سالفة . وهذا أمر طبيعي يظهر في كل جوانب الحياة الأمر الذي يحملنا على الظن بان الثابت في هذا الموضوع هو القيم الدينية الأساسية (وأعظمها النظام العام والعدالة) أما كيفية تطبيقها فتختلف عبر الأزمان والأمكنة والظروف . والله اعلم
5-  ما هو السبب – برأيك –  وراء حصر ولاية الفقيه بالمجتهد الموصوف بالقدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية أو غير ذلك من تعريفات الاجتهاد السائدة في الحوزات العلمية رغم أن الأدلة النقلية لا تسعف على فرض هذه القيود العرفية الحديثة نسبياً على مفهوم الفقاهة والاجتهاد، فالروايات لا تتضمن ما يتجاوز شرط رواية الحديث ومعرفة الأحكام و النظر في الحلال والحرام أما ماهية النظر ومقدار الرواية والمعرفة فهو أمر لا تبينه الأدلة النقلية ، وقد جاءت لفظة الفقهاء ( من كان من الفقهاء صائناً لنفسه) في رواية عن الإمام العسكري (ع) فلماذا قُُيدت رواية الحديث ومعرفة الأحكام والفقاهة بمفاهيم الحوزة الحديثة التي هي نتاج تطور تاريخي لتعريف الفقيه وتشخيص مواصفاته وهو أمر خارج عن دلالة الرواية ؟
  ولاية الفقيه هي امتداد طبيعي للمرجعية الدينية وهي قائمة على نفس أدلتها  ويطلق الفقه على المرجع الديني اسم الحاكم الشرعي . العنصر الإضافي الذي جاءت به نظرية ولاية الفقيه هو تمديد وظيفة المرجع إلى الجانب السياسي   أما التطور الذي حصل في نفس تلك الأدلة ، أي اشتراط الاستنباط للفقاهة فهذا يرجع إلى تطور مفهوم الفقيه . في زمن الرواية كان الفقه في الدين يساوي الرواية  عن المعصومين . أما بعد دخول منهج الاجتهاد والاستنباط في المدرسة الفقهية الشيعية فقد أصبح مساويا للاستدلال بالروايات والأدلة العقلية على الحكم ، ولعل أول من مارس الاجتهاد في هذا المعنى هو الحسن بن أبي عقيل العماني ومحمد بن الجنيد الاسكافي ، اللذين عاشا في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي (يرجح أن ابن الجنيد توفي في 381 هج (991 م)  بينما توفي الإمام العسكري قبل ذلك بمائة عام (260 هج - 874م) . بهذه المناسبة أود الإشارة إلى ضرورة النظر إلى النصوص والشروح في إطارها الزمني والموضوعي ، وأعظم مشكلات الفكر الديني  اليوم هو اجتزاء النصوص من سياقاتها الظرفية .
على أن سؤالك يقودنا إلى سؤال آخر : هل يكفي العلم بالفقه سواء في مفهومه الجديد أو القديم لإدارة الدولة ، أي القيام بوظيفة الحاكم ، لا سيما في ظل تغير مفهوم الدولة وصورتها وطبيعتها تغيرا كاملا في العصر الحديث ، ودخول العشرات من العلوم الجديدة البعيدة عن مجال الفقه ، دخولها كعامل أساسي في الإدارة السياسية ؟ .
6-  ص 265 من الإشكالات التي أوردتها على القول بان ضرورة السلطة راجع إلى طبيعة الأصل البشري الذي يدفع إلى التظالم والفساد ، أن ذلك متناقض مع كون السلطة نتاجاً لاتفاق عقلاء البشر، ولا يعقل أن من طبيعته الظلم يقرر تأسيس رادع يمنعه عما هو متطبع به، ولنا أن نسأل: من قال أن مَن طبيعته البغي والظلم هو ذاته قرر تأسيس رادع عن الظلم والجور مع إقراره بممارسته للظلم؟ فعند النظر إلى البغاة والظلمة نجد أنهم يقرون بضرورة وجود الرادع والحاكم بناء على أنهم عدول ولا يمارسون الظلم. ألا تعتقد أن الاستدلال ينظر إلى النوع والجنس البشري وليس إلى مصاديق معينة أو طائفة بعينها ؟
  هذا الاحتجاج هو رد على دليل ساقه بعض العلماء السابقين ، وفحواه أن النظام والدولة هي ضرورة اتفق عليها جميع العقلاء . الذين قالوا بهذا الرأي ، قالوا أيضا بان ضرورتها تنبع من أن اجتماع الناس بذاته مولد للتعارض وبالتالي الجور والظلم . واحتجاجهم هنا يرمي إلى تثبيت وجوب الإمامة بالأدلة العقلية . أي القول بان التدخل الإلهي ضروري لان التظالم طبيعة في الاجتماع البشري ، وان القول بالتظالم وبالتالي الحاجة إلى التدخل الإلهي هو من البديهيات العقلية . جدير بالذكر أن القسم الأول من الاستدلال ، أي تظالم الناس وقبولهم العقلي بضرورة الدولة ، يرجع أصلا الى الفلسفة اليونانية وقد قال به سقراط وأفلاطون . واعتمده بعد ذلك فلاسفة المسلمين وفقهاؤهم ، كما اعتمده الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز في كتابه المشهور "لفياثان". بطبيعة الحال فان المقصود بالعقلاء والمتظالمين هو جنس البشر وليس فريقا معينا منهم . وكان غرضي من ذلك الاحتجاج هو نفي الفكرة القائلة بان طبيعة البشر هي التظالم والجور ، فانا أميل إلى الاعتقاد بان طبيعة البشر هي الخيرية والعقلانية ، وبناء عليه فإنهم قادرون على التوصل إلى الطريقة المناسبة لإدارة اجتماعهم ولا يحتاج الأمر إلى تدخل من الباري جل وعلا . أو على الأقل فان التدخل الإلهي ليس سببه عجز البشر بل ربما لأسباب أخرى.
7-  ذكرت أن التأسيس على ضرورة السلطة بسبب طبيعة البشر الفاسدة يؤدي إلى نفي الإمامة في غير موارد الفساد و التظالم ... وبالتالي سقوط الولاية عن الفئة القادرة على العيش دون تظالم   لماذا خلطت بين الاستدلال على ضرورة الرئاسة الدنيوية و الإمامة الدينية ؟  فدليل الأولى يطلب من العقل أما الثانية فيطلب من النقل.  و قد ذكرت أن السيد الكلبايكاني يبرر ضرورة الرئاسة.
  قولي المشار إليه هو رد على القائلين بان الإمامة الدينية والرئاسة الدنيوية هي شيء واحد وان الثانية تستفاد من أدلة الأولى . لعلك لاحظت أن جانبا مهما من الباب الثالث من الكتاب قد كرس للاستدلال على تمايز الاثنين . فيما يتعلق بسقوط الولاية عن المحسنين ، فهو احتجاج لا يهمل ، واستدل البعض عليه بالآية المباركة "ما على المحسنين من سبيل"  ولا استبعد احتمال أن يشمل هذا الدليل كلا النوعين في حال عدم الحاجة إلى السلطة وعدم الحاجة إلى العلم . طبيعي أن هذا الاحتمال ضئيل لكنه غير مستحيل ومثاله شخص يعيش منعزلا في جزيرة ولديه علم خاص بما هو حق له وما هو واجب عليه وهو يقوم بأموره بنفسه .. فهل يحتاج هذا إلى ولي ، سواء كان إماما أو حاكما ؟ (انظر مثلا الدليل على عدم وجوب التقليد على المحتاط) . خلاصة القول أن الإمامة والرئاسة كلاهما تكليف إضافي ، فهو يحتاج إلى دليل ، وقد جرت عادة الفقهاء على الربط بين أدلة الاثنين ، أما رأيي فإنهما ينتميان إلى مجالين مفهوميين وموضوعيين مختلفين فيجب أن يكون لكل منهما دليله الخاص . والله  اعلم.
8- مع ملاحظة عدم إقرارك بأصل فساد الإنسان وطبيعة الظلم فيه التي يأتي الحديث عنها –  يرد على ما ذكرت أن هذه الفئة القادرة على العيش دون تظالم ، لا تبطل الأصل والطبيعة الكامنة في البشر التي قد تظهر وقد تستر وسقوط الولاية – على الفرض – عن هؤلاء بالخصوص يخرجنا من البحث حول الضرورة العقلية لأصل السلطة ويدخلنا في الحديث عن موضوع شرعي ديني افتراضي هو الإمامة الدينية على الفئات غير المتظالمة.  ونحن نعلم أن الإمامة الدينية لا تثبت بالدليل العقلي منفرداً فلا علاقة للتظالم وعدمه إلى في موضوع الإمامة.  ثم إن البناء على صلاح الإنسان يسقط ضرورة الرئاسة من رأس.
  رأيي أن وجود الاستثناء لا يثبت القاعدة كما هو المشهور بل يبطل اضطرادها ، وحينئذ فاننا نتكلم عن تطبيق نسبي للقاعدة المدعاة . أرى أيضا أن الأدلة النقلية هي العمدة في ثبوت الإمامة الدينية . أما موضوع التظالم فيرتبط – على فرض ثبوته - بالرئاسة الدنيوية . وقد توصلت في ذلك البحث إلى عدم علاقته بالإمامة ولا أدلتها . أما البناء على صلاح الإنسان فلا يسقط ضرورة الرئاسة . الذين قالوا بان ضرورة الرئاسة ترجع إلى فساد الجنس توصلوا إلى أن الدور الأبرز للحاكم هو حفظ النظام العام ، وأجازوا للحاكم أن يستبد بالأمر ويقهر الناس على الصلاح . وهو الرأي الذي مال إليه معظم فقهاء المسلمين القدامى. أما رأيي فان الدولة هي هيئة اجتماعية ينتخبها الشعب لتمثيل مصالحه وإدارة التعارض فيما بينها على نحو يقودها إلى التكامل بدل التناحر . الذين قالوا بالطبيعة الخيرة للجنس البشري يرون أن الناس لو تركوا وشانهم لكانوا اقرب إلى الصلاح ولهذا فلا يجوز قمعهم أو فرض حكم استبدادي عليهم . والفارق بين ما ينتج عن الرأيين لا يخفى على عاقل.
9-  ص265 ذكرت أن معرفة الدين والاهتداء بالتعاليم قابل أن يحصل عليه الإنسان بالطرق المختلفة الموصلة إلى العلم.  ما هي هذه الطرق التي توصل إلى تعاليم الدين والعبادات الإلهية؟  ألا يرى المسلمون أن إرسال الأنبياء ضرورة رغم كفاية الحجة الباطنة للوصول إلى معرفة الخالق ؟
  هذا رد على الربط بين أدلة الإمامة الدينية والرئاسة السياسية . فالإمام حسب هذا الرأي ضروري لهداية الناس إلى الطرق القويم لأنه وسيلة إلى معرفة أمور الدين  وفي رأيي إن هذا دليل ضعيف لأنه ببساطة يجعل ولايتهم مقصورة على من يحتاج إلى المعرفة دون غيره . فمثلا لو أن أحدا تعلم من الإمام أو قرأ كتابه ، ثم نقل هذا العلم إلى آخرين فان هؤلاء الآخرين لا يحتاجون إلى ولاية الإمام لان المعرفة المبتغاة منها قد حصلت . لو طبقنا هذا القول على زماننا الحاضر فان جميع روايات الأئمة موجودة في الكتب ويمكن لكل الناس الوصول إليها .. فهل يعني هذا إن لا حاجة إلى ولايتهم . إذا قلنا بان الولاية ضرورية من اجل المعرفة ، فان المعرفة تتوفر بطرق أخرى كما هو الحاصل اليوم . وهذا الاحتجاج واضح في امتداد الولاية إلى العصور اللاحقة لوفاتهم . وخلاصة القول أن توفير المعرفة ليس دليلا قويا على الولاية . وإذا دل عليها فان الدلالة محدودة في زمن حضورهم ومكانه وليس وراء ذلك . أما الإشارة إلى بعثة الأنبياء فهذا بعيد عن الموضوع لان البعثة غير الإمامة وأدلة البعثة غير أدلة الإمامة والربط بينهما غير صحيح البتة.
 10-  هل الاستدلال على ضرورة السلطة يسقط بشبهة عدم اضطراد أصل الفساد في بني البشر و وجود الاستثناء في القاعدة؟  إذا كان كذلك فإن الحكم بأن الإنسان عاقل و ناطق يبطل لوجود فئة من المجانين والبكم وذلك لشبهة عدم الاضطراد.
  نقاشنا ليس في أن القاعدة في جنس البشر هي الفساد وان الصلاح استثناء ، بل عكس ذلك تماما . وقد أشرت إلى أن أصل الاستدلال بفساد الاجتماع البشري ، هو استدلال باطل لعدم ثبوته من الأصل ولكونه خلاف المفهوم من القران الكريم وخلاف تجربة البشر على امتداد أزمانهم واختلاف أصنافهم . أما قياس القاعدة المدعاة على قواعد أخرى فهو نقاش خارج الموضوع ، فحتى لو صحت الثانية فما هو الدليل على صحة الأولى ؟.
 11-  قلت ( ليس بالوسع إثبات أن الإنسان طاغية بالفطرة )  فهل بالوسع إثبات أن الإنسان ليس طاغية بالفطرة أو إثبات أنه صالح بالفطرة؟   ماذا تقول في الآيات التي تشير إلى وجود النزعتين وتأصلهما في الإنسان{فألهمها فجورها وتقواها} الشمس 8 ،  { وهديناه النجدين} البلد 10 ،  والآيات{إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (34) سورة إبراهيم ، { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب ؟
  قال تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم/30 . والمعنى هو التوحيد أو الارتباط الروحي بين الإنسان وخالقه ، تلك هي الفطرة . فهل يكون الموحد الفطري طاغيا أو فاجرا . وهذه الآية لا تحتاج إلى مزيد بيان . لكن للرد فقط نقول أن الله سبحانه خلق الإنسان ومكنه من أتباع أي سبيل يشاء وحمله المسؤولية عن اختياره . فأتباع الطريق القويم هو احتمال أقوى لأنه اقرب إلى مراد الخالق وأتباع الطريق الفاسد هو احتمال ثان ممكن لان الله أراد للإنسان أن يكون حرا مختارا . ثم أن القول بان الإنسان طاغية بالفطرة معارض لأصل العدل الإلهي ، فإذا كانت فطرة الإنسان الأصلية هي الفساد ، فان دخول الجنة حق للفاسدين الذين لم يعلموا بالنبوة أو لم يصلهم خبر النبي ، لأنهم اتبعوا فطرتهم التي فطرهم الله عليها . ويجب أن نمتدحهم على فسادهم وبغيهم لأنهم اتبعوا الطريق الذي اختاره الله لهم .. فهل يصح هذا الكلام ؟ . ونضيف إلى ذلك دلالة الآية المباركة "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" فهل من حسن التقويم ، فساد طبيعته وفطرته الأصلية ؟.
12-  ذكرت ص267 أنه لم ترد آية واحدة تشير إلى أن البغي طبيعة في الإنسان، سابقة على وصول البلاغ إليه.  ما الفرق بين وصول البلاغ وعدمه؟  ما الأثر الذي يترتب على هذا التفريق؟  هل وصول البلاغ سيتسبب في طغيان المبلَّغ رغم سلامة فطرته وأصله؟
  أوردت هذا التمييز في الرد على من قال بان الإنسان طبيعته الفساد والبغي ، لان القران يقول "وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم" وهذا دليل على أن البغي طبع عارض في الناس وليس فطريا أصيلا . أما تأثير وصول البلاغ – أو العلم – كعامل إثارة للاختلاف وبالتالي التنازع ، فهو موضوع طويل يستوجب نقاشا سوسيولوجيا لا يتسع له المجال هنا . لكني أقول كخلاصة أن القرآن يشير إلى تجربة أو عبرة مستفادة من تجارب محددة . في هذه التجارب كان الناس على نسق واحد اجتماعي وثقافي ، فلما ظهر النبي انحاز إليه أقلية من الناس وعارضه الأكثرية وعلى رأسهم أصحاب الهيمنة والسلطان ومن لهم مصلحة جارية في النظام الاجتماعي القائم . وكافح الأنبياء كفاحا مريرا ضد هذا النظام ونجح بعضهم في الإطاحة به كما هو الحال في تجربة نبينا عليه الصلاة والسلام . الذين عارضوا الأنبياء لم يكونوا منصفين مع أنفسهم ولا مع قومهم ولا مع النبي بل عارضوه بغيا وعدوانا ، ولم يروا فيه إلا تهديدا لمصالحهم ، ولم ينظروا في المصالح الأعظم التي ستعود عليها في الدنيا والآخرة لو اتبعوا نبيهم . والخلاصة أن البلاغ النبوي يوجد هزة في النظام الاجتماعي القائم يؤدي إلى التطورات المشار إليها . والله اعلم.
13-  مما يستدل به الشيعة الأمامية على إمامة علي بن أبي طالب (ع) أن النبي (ص) لم يبين أحكام السلطة والحكم من بعده ، ولم يتطرق إلى سبل تنظيم الرئاسة وطرق اختيار وتنصيب وعزل الحكام والولاة رغم بيانه لكل صغيرة وكبيرة مما يخص شؤون الناس الحيوية وما ذلك إلا لأن تنصيب الإمام باعتقاد الشيعة ليس من صلاحيات البشر ، إذاًً كيف استطاع فقهاء الشيعة استلال نظريات وأطروحات سياسية تشرع عمل الحكومات وتدخل موضوع السلطة والحكم في الأحكام الفقهية باعتبار أن الإسلام دين شامل ولا يمكن أن يترك ثغرة أو منطقة فراغ في التشريع ؟ .
  هذه مجموعة أسئلة مختلفة . لكن فيما يتعلق بالأول فاني أرجح أن الإسلام دين كامل وليس بالضرورة شاملا ، والكمال يشير إلى النوعية بينما الشمول يشير إلى الكمية . وقد ورد في القرآن الكريم "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء - النحل ـ 89" وآيات أخرى شبيهة في المعنى أو الدلالة . وقد استدل بها بعض العلماء على أن القرآن جمع كل علم وكل بيان  ويرد على هذا الرأي أن احتواء القرآن على كل شيء لا يدل ضرورة على أن هذه الأشياء كلها من باب التعيين أو التكليف أو الوجوب ، فالكثير من آيات القران فيها فائدة الإرشاد والاعتبار وتثبيت القلوب . ولهذا فان مجرد ورودها عن الخالق سبحانه لا يدل على أنها مورد تكليف وتعيين . يضاف إليه ما أشار إليه النراقي من أن المقصود من تبيان كل شيء هو تبيان كل شيء مما يجب بيانه ، وليس الكل المطلق . فبديهي إن هناك أشياء كثيرة مما نعرفها في هذا العصر لم ترد في القران . وذلك لان القران ليست مهمته جمع علوم البشر بل دلالتهم على الطريق القويم بشكل عام ، أما تفصيل ذلك الطريق فمتروك لعقولهم . ولو أحصى القران كل تلك الأمور لكان تكلفا في غير ضرورة . أما القول بان الإسلام لم يترك منطقة فراغ فهذا غير صحيح البتة ، بل إن منطقة الفراغ - حسب تعبير المرحوم الصدر – أو منطقة البراءة حسب تعبير بقية الأصوليين هي المساحة الأكبر وهي الأصل في كل الأفعال . وإنما يأتي التكليف بالوجوب أو الحرمة في بعض الأفعال كعرض لاحق ، أما الأصل في كل شيء فهو البراءة من الحكم أي الإباحة . أما الآراء الفقهية المتعلقة بالتعامل مع الحكومات ، تحريما أو إجازة ، فهي كلها مستمدة من أدلة عقلية وتابعة لتقدير المصالح والمفاسد العرفية في زمنها الخاص . صحيح أنهم يوردون أدلة من الكتاب والسنة ، لكنها في الغالب بغرض الاستئناس وبيان الإمكانية ، وإلا فالعمدة هو تقدير المصالح والمفاسد .
14-  ص290  إذا كان العدل هو الغرض الأساس من المعالجة الدينية لمسألة السلطة ... والتأسيس عليه هو التجسيد لإسلامية الحكومة .... والحكومة تعتبر مشروعة طالما كانت قائمة على أساس العدل،  فما هو تقييمك وما هو الحكم لدولة تحقق فيها هذا الغرض على يد حاكم أو حكومة غير مسلمة، أو حاكم أو حكومة فاسدة في نفسها ولا تلتزم بالتعاليم الدينية على الصعيد الشخصي ؟
  العدل شرط لشرعية أي سلطة سواء كانت سياسية أو غيرها  أما بالنسبة للحكومة فإنها تحتاج إلى شرط إضافي وهو تمثيلها لشعبها على نحو صحيح ونظامي فإذا كان شعبها مسلما ويريد الحكم بالإسلام فعليها أن تفعل ذلك . أما بالنسبة للمجتمعات غير المسلمة فلا موضوع لهذا الشرط . والله اعلم .
 15-  إذا كان العدل هو مصدر الشرعية فمن هو المعني بإيجاده على أرض الواقع ؟  على أي فئة من الناس تقع مسؤولية تحقيق هذا الغرض ؟
- هي على الأرجح مسؤولية أخلاقية مدنية وليست تكليفا إلهيا . والمسئول عنها هو صاحب المصلحة فيها اي عموم الناس .
16- لو قامت دولة على أساس الجور ثم جنحت للعدل ثم عدلت عنه إلى الظلم فهل ستكون فاقدة للشرعية أولاً ثم تصبح شرعية ثم تنزع منها الشرعية حسب التزامها بإقامة العدل؟  هل يصلح هذا التأسيس لغير الدراسات الذهنية المجردة ؟
  على القول بان شرعية الحكومة ترتبط بعملها الفعلي فان بقاء شرعيتها مرهون ببقاء عدلها على أن المسائل نسبية لان القيام بالعدل ومفهومه التطبيقي أمر نسبي ولذلك فقد يكون كاملا أو ناقصا أو متدرجا ، والذي أرى أن رضا الناس عن حكومتهم هو جزء من مفهوم المشروعية  ، وهو يعوض نقص العدالة في بعض الأوقات ، بل قد يمكن القول أن التطبيق العملي لمفهوم العدالة راجع إلى العرف العام ( أو ما يسمى اليوم بالرأي العام) وبالتالي فانه يمكن النظر إلى المكونات الجوهرية للعدل الاجتماعي بشكل متزامن ومترابط مع رضا الناس عن حكومتهم وتمثيلها لمصالحهم باعتبارها جميعا أجزاء من منظومة الشرعية . وأريد الإشارة أخيرا إلى ضرورة التمييز بين المفهوم الفقهي والمفهوم الفلسفي للشرعية السياسية ، فهما لا يتطابقان بالضرورة . حين ندرس المسألة من زاوية فقهية فالمفهوم الذي نستعمله هو الفقهي أما حين نتحدث عن الجانب العملي فإننا نستعمل المفهوم المستفاد من الفلسلفة السياسية .
مقالات ذات علاقة

07/03/2006

طريق الحزب الى السلطة



يعتبر الحزب ضرروة للتنمية السياسية لانه الاطار الاكثر فعالية لتدريب واعداد النخبة التي ينتظر ان تساهم في ادارة الشأن العام . تتمايز الانظمة الديمقراطية عن غيرها بالتجديد الدائم لبنيتها الادارية والسياسية. ومع التجديد تتعزز شرعية النظام وتتسع قاعدته الاجتماعية ويتعزز استقراره .

 والحزب السياسي ضرورة لترسيخ التعامل السلمي بين اطياف المجتمع المختلفة من جهة وبينها وبين الدولة من جهة اخرى . لا يخلو مجتمع من دواع للتوتر ومبررات للازمة . وتنشأ معظم التوترات بسبب قصور الموارد البشرية او المادية – واحيانا المعرفية – التي تملكها الدولة عن استيعاب الحاجات والمطالب الاجتماعية . من نافل القول ان الحاجات وبالتالي المطالب لا تتناهى ، بينما الموارد بطبيعتها محدودة مهما عظمت . ولهذا فهناك دائما ضغط من المجتمع على الدولة ، صارخ او مكتوم . يمثل الحزب قناة حوار ممكنة بين المجتمع والدولة ، تعمل على عقلنة وتركيز مطالب المجتمع والكشف عن الخطوط التي تربطها الى المصلحة الوطنية العامة ، ومن ثم تحويلها من اسباب توتر الى مشروعات عمل اعتيادية.

ولد الحزب السياسي بصيغته الحديثة في اوربا ، اما اكثر الصيغ انتشارا في العالم العربي فهي تقليد على النسخة التي تطورت في امريكا اللاتينية في ستينات القرن الماضي وانتقلت الينا من خلال التفاعل بين تيارات اليسار العربي ونظيرتها الاجنبية . وخلال العقدين الماضيين بذل بعض المفكرين والاحزاب العربية جهدا طيبا لاعادة انتاج هذه الصيغة القديمة في اطار احدث واكثر استجابة للمعطيات الرهنة في المجتمع العربي . ونتيجة لهذا فان اكثرية التنظيمات السياسية العربية تميل الان الى عمل سياسي سلمي ، علني ، يعتمد في المقام الاول على تفعيل طاقات الجمهور وكسب دعمه .

لكن هذه الاحزاب ما تزال بحاجة الى التخلص من احدى العلل الكبرى الموروثة عن النموذج اللاتيني ، تلك العلة هي الانشغال بالتكتيك السياسي بدل المشروع السياسي . يضع كل حزب في بيان تاسيسه قائمة من الاهداف ، تبدأ من الدفاع عن الحريات العامة وتعزيز المشاركة الشعبية ، الى حماية البيئة ، مرورا بتطوير الاقتصاد والتعليم والامن الوطني .. الخ . لكنك لا تجد الى جوار هذه الاهداف بيانا باستراتيجيات العمل ، اي الوسائل التي سيعتمدها الحزب في الوصول الى هذه الاهداف . بديهي ان الوصول الى السلطة يوفر امكانية كبيرة لتحقيق تلك الاهداف . لكن من المبالغة بمكان الادعاء بان مجرد امتلاك الادوات التنفيذية ، اي المال والقوة السياسية ، كاف لتحقيقها . والدليل على ذلك ان الحكومات القائمة نفسها تدعي سعيها لنفس الاهداف او بعضها على الاقل . واذا لم تكن مخلصة في كل ادعاءاتها فلا شك انها صادقة في بعضها ولو بنسبة معينة . لكنها مع ذلك لم تحقق نجاحا يتوازى مع الفرص التي اتيحت لها من حيث المورد والوقت . كما ان الاحزاب التي شاركت في السلطة لم تحقق نسبة كبيرة من تلك الاهداف .

يشير هذا الى حقيقة ان المشكلة تكمن في مكان آخر ، وفي ظني انها تكمن في الانشغال المكثف بالتكتيك ، اي اعتبار الوصول الى السلطة ، سواء الحكومة او المجلس النيابي هو الهدف الاول وربما الاخير للحزب . في ظل هذا الانشغال ، يتمحور العمل اليومي للحزب حول تعبئة الشارع وراء اهداف بعضها ثانوي او على الاقل غير استراتيجي  ، فائدتها الوحيدة هي التاكيد على خطوط الانفصال – واحيانا الصراع – بين الدولة والمجتمع . حين ينحصر جهد الحزب في هذا النوع من النشاط ، فان اعضاءه وانصاره لا يتعلمون السياسة ولا يتعلمون فن ادارة الدولة ، بل يتعلمون فنون الصراع والتعبئة فقط  ، ويتخرجون كخطباء مؤثرين لا كقادة سياسيين.

بدلا من ذلك فان الاحزاب العربية مدعوة الى وضع ثقلها وراء المشروع السياسي الذي تظهر معالمه في قائمة اهدافها . وهذا يستدعي وضع استراتيجيات متوسطة وطويلة المدى لتحقيقه ، ويشمل ذلك :

 1- وضع تصور تفصيلي عن معاني وحدود وتطبيقات كل واحد من اهداف الحزب ، وكيفية انزاله في الواقع المحلي ، بالاعتماد على موارد الدولة او بجهد اهلي ، والمعوقات التي سوف تواجهه ، سواء الثقافية او السياسية او غيرها ، والبدائل الممكنة للتغلب عليها .

2- تقسيم نشاطات الحزب وموارده المادية والبشرية على النشاطات الرامية الى تحقيق كل واحد من تلك الاهداف . يجب ان تركز شريحة من الاعضاء اهتمامها على قضايا التنمية السياسية بما فيها الحريات العامة وتعزيز المشاركة الشعبية ، ويركز فريق آخر على نقد السياسات الاقتصادية المتبعة وتطوير بدائل افضل وعقد نقاشات تخصصية او توعوية وتشجيع البحث حول هذه البدائل . ويركز فريق ثالث على قضايا البيئة ورابع على التعليم والصحة والامن.. الخ . سوف يكتشف اعضاء الحزب من وراء هذه النشاطات حقيقة الدولة كجهاز عمل شامل ، وسيتعرفون على السياسة كمفهوم يربط بين حاجات البلاد ومواردها ، وليس مجرد شعارات او مناصب او امتيازات . كما ستوفر للحزب ككل منصة للتعبير عن راي ناضج في مختلف قضايا البلاد في كل الاوقات وليس في المواسم الانتخابية وحسب .

3- اذا نجح الحزب في تحويل مشروعه السياسي الى موضوع عمل يومي ، فانه سيكون بمثابة حكومة ظل ، وسوف يفرض مواقفه واراءه على الحكومة حتى لو لم يكن شريكا فيها . ان وجود بدائل انضج عن السياسات الحكومية ، ووجود دعاة لهذه البدائل يمارسون النقد المتخصص ، هو اقوى وسيلة ضغط من اجل الاصلاح  . في حقيقة الامر سيظهر الحزب امام الراي العام باعتباره البديل الطبيعي عن الحكومة القائمة ، وهذا يرفع مكانة الحزب الى صف المنافس الرئيس ، بدل ان يكون واحدا من عشرات المتنافسين . 

الايام 7 مارس 2006

28/02/2006

في انتظار الفتنة


آية الله السيستاني
في الاسبوع الماضي ، كان العراق على وشك الانزلاق الى مذبحة ، لولا المبادرة السريعة لزعمائه وعقلانية الاكثرية الساحقة من جمهوره . التطورات التي اعقبت التفجير الاثم لمرقد الامامين العسكري والهادي في سامراء كشفت عن ظواهر جديدة تخالف ما قيل سابقا. 
من ذلك مثلا ان "تيار الصدر" الذي كان يعتبر فوضويا ومتطرفا ، اظهر انضباطا متينا وحرصا استثنائيا على منع الفتنة ، وادى دورا بارزا في الحيلولة دون تعرض مساجد الشيعة والسنة في بغداد لاعمال انتقام . في المقابل فان "هيئة علماء المسلمين" لعبت على وتر الاثارة الطائفية وحاولت استغلال التوتر لتصفية حسابات صغيرة ، بدل الانخراط في جهود التهدئة وتطييب الخواطر ، كما هو المتوقع منها . 
مثل كل المصائب فقد انطوت تلك الحادثة على عبر تستحق المطالعة والتامل . واولها خطورة العبث بالمشاعر الدينية للجمهور . بالنسبة لنا في الخليج فان هذه المسألة تنطوي على حساسية خاصة ، اذ يشكل الخليج اكثر المجتمعات العربية استهلاكا لمواد الاثارة الدينية والمذهبية واكثرها انسا بالجدالات التاريخية والعقيدية العقيمة ، التي لم نكسب من ورائها حتى اليوم سوى المزيد من الفرقة والتباغض وتعطيل الاصلاح السياسي  المنشود وبالتالي اطالة عمر الاستبداد ومعه التخلف . في كل بلد من بلدان الخليج هناك اشخاص يعيشون على تجارة الفرقة والاحتراب المذهبي ، حرفتهم الوحيدة هي البحث عن نص هنا او حادثة تاريخية هناك ، او عيب حقيقي او مفتعل ، وتغليفها في عبوة دينية ثم توزيعها على الغافلين من الناس باعتبارها حقيقة الدين وجوهر ما يسأل المؤمن عنه في يوم الحساب .
اتمنى ان يقرأ هؤلاء ما حدث في العراق باعتباره احتمالا قائما في كل مجتمع آخر . العبث بالمشاعر الدينية والرموز الدينية واهانتها ، قد يطلق تيارا من الغضب يستحيل ضبطه ، وعندئذ فان الخسارة لن تقتصر على الغير ، بل تنال ايضا اولئك الذين لعبوا على وتر الاثارة الدينية والمذهبية عن قصد ومعرفة بالعواقب او عن جهل وانسياق وراء العصبية او عن رغبة في الاستثمار المؤقت كما يفعل المضاربون في سوق الاسهم .
ويتعلق الدرس الثاني بعوامل تامين المجتمع من الانزلاق في تيار الفتنة .  واشير خصوصا الى عاملين : اولهما دور الحكومة والثاني دور الاحزاب والقوى الاهلية . كي تكون الحكومة عامل تامين ضد الفتنة ، ولا سيما الفتن المنبعثة من نزاعات دينية او مذهبية ، فان عليها ان تتعالى على هذا النوع من المجادلات وان لا تكون باشخاصها او مؤسساتها او سياساتها طرفا في الجدال او داعما لاي طرف فيه . لا يتعلق الامر هنا بحق او باطل ، بل يتعلق بالسلم الاهلي واستقرار البلاد . لو اعتقد فلان من رجال الدولة بان مذهبه هو الحق وان مذهب الاخرين باطل ، فلا يجوز له ان يتخذ موقفا على هذا الاساس ، واذا كان يرى ان واجبه الديني يقتضى منه اتخاذ موقف من هذا النوع فعليه ان يتخلى اولا عن مسؤولياته في جهاز الدولة .
الدولة ليست هيئة دينية ولا دورها هو الدفاع عن فريق من المجتمع ضد آخر . بل ادارة المجتمع على نحو يبقي المصالح المتعارضة والافكار المختلفة ضمن حدود الامان ويمنع تحولها الى نزاعات مادية تهدد النظام العام . ان أسوأ الخيارات هو دخول الدولة بذاتها او من خلال بعض افرادها او مؤسساتها طرفا في النزاعات الدينية والمذهبية ، لانه يؤدي مباشرة الى تقسيم المجتمع والقضاء على ما نسميه بالارادة العامة التي تشكل جوهر الوحدة وضمان الاستقرار. وفي هذا الصدد فان على الدولة ان تكون مستعدة للعض على اصابعها احيانا او معاقبة بعض انصارها او الوقوف الى جانب معارضيها كي تحمي السلم الاهلي .
 العامل الثاني لتامين المجتمع من الانزلاق الى الفتنة هو القوى الاجتماعية القادرة على التفاهم مع بعضها ومع الدولة . وقد اشرت سلفا الى الدور الهام الذي لعبه تيار الصدر ، واشير هنا الى دور مماثل في الاهمية لمجلس عشائر الرمادي غرب العراق وبطبيعة الحال دور اية الله العظمي السيستاني . في الحقيقة فان معظم الاحزاب والمجموعات المنظمة والقوى الفاعلة العراقية لعبت في الاسبوع المنصرم دورا ايجابيا ومؤثرا . وهذا يشير الى اهمية دور المنظمات والاحزاب و – بشكل عام – قوى المجتمع المدني . لا شك ان اخطر الظروف هو الظرف الذي ينطلق فيه الغوغاء ، اي الجمهور غير المنظم ، الذي لا يعرف حدودا ولا يحترم قيودا . وفي حالة كهذه فان السياسة تتحول الى ردود فعل متعاكسة ومتواصلة ، ويتحول العنف والانتقام الى سلوك اعتيادي ، ويفلت الزمام من ايدي العقلاء وتصبح الريبة والاتهام والخوف والرغبة في الثار هي القائد . 
وعلى العكس من ذلك فان وجود قوى كبيرة ومؤثرة ، يقودها اشخاص عقلاء ، قادرون على التفاهم والمساومة مع منافسيهم ، وقادرون في الوقت نفسه على اقناع جمهورهم ، هو السبيل الوحيد لحصر النزاعات ضمن حدود مقبولة ، والحيلولة دون استغلال الحوادث المؤلمة في تفجير النظام العام . 
لا يخلو مجتمع من عدد من الافراد او القوى الصغيرة التي تتسم بالسلبية  او الجهل ، او الانتهازية ، وهي قد لا تتورع عن دفع المجتمع الى الفتنة ، عن قصد او جهالة . تتوسع هذه القوى كلما ضيقت الدولة الخناق على القوى العاقلة التي هي ضمير المجتمع ، وتنحسر كلما نجح العقلاء في تحقيق اماني جمهورهم . ربما يظن بعض الحاكمين ان وجود قوى كبيرة هو امر مزعج ، ولعله يضعف من سلطانهم . لكن عليهم ان يفهموا بان البديل الحتمي عن القوى العاقلة هو القوى السلبية . الاختيار بين الاثنين هو اختيار بين استقرار طويل الامد وبين فتنة في الانتظار.

الايام 28 فبراير 2006

07/02/2006

سلاح الجبنة وسلاح الحليب



 القرار العفوي الذي توافق عليه الشارع المسلم بمقاطعة المنتجات الدانمركية هو موقف سياسي حضاري يؤكد مرة اخرى على ان الراي العام يمكن ان يغير المعادلات . والمؤكد ان كثيرا من الناس قد اكتشف اليوم ان التوقف عن استهلاك منتجات تلك البلاد لن يوقعنا في مجاعة ولن يعطل حياتنا ، فثمة على الدوام بدائل ، كما ان اقوى سلاح بيد الانسان هو قدرته على الاستغناء عما يشتهي .

بعد ايام او اسابيع سوف تنحدر موجة الغضب ويعود الناس الى حياتهم المعتادة ، وتلك طبيعة الحياة . ولهذا فقد يكون من المهم التامل في العبر التي يمكن استفادتها من تلك الحادثة ، ولا سيما ذلك النوع من الدروس التي لها اثر دائم وكبير في حياة الناس . واريد التذكير هنا بما جرى في مطلع هذا العقد حين قرر كثير من المسلمين مقاطعة المنتجات الامريكية ردا على انحيازها الاعمى للعدوان الاسرائيلي . المهم في تلك التجربة ان معظمنا قد اكتشف وجود بدائل عن تلك المنتجات في العالم الاسلامي . فيما يخص دول الخليج مثلا فقد ادت تلك المناسبة الى تبدل وجهات السياحة من الولايات المتحدة واوربا الى ماليزيا واقطار الشرق الاسيوي اضافة الى الدول العربية ، كما ادت بطبيعة الحال الى مضاعفة الاقبال على منتجات هذه الدول كبدائل عن المنتجات الامريكية والاوربية .

بغض النظر عن المجادلات الفنية والسياسية والثقافية حول قدرتنا على الاستغناء الكامل عن منتجات الدول الغربية ، وحول فائدة موقف مثل هذا. اقول بغض النظر عن هذا ، فان الامر الذي يستحق الاهتمام هنا هو استثمار هذه المناسبة لتشكيل موقف شعبي داعم للاهداف المباشرة والفورية للمجتمعات المسلمة نفسها واشير خصوصا الى هدف النمو الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة .

لا يزال من المبكر تقديم ارقام دقيقة عن الخسائر التي سوف تتحملها الشركات الدانمركية بسبب المقاطعة ، فثمة تقديرات توصل الرقم الى مئة مليون دولار خلال هذا العام ، بينما تضعها تقديرات اخرى في حدود الاربعين مليونا ، وكلا التقديرين لا يمكن الاعتماد عليه ، لاننا  لا نعرف على وجه الدقة المدى الزمني الذي سوف تستغرقه المقاطعة ونوعية المنتجات التي ستكون هدفا لها . لكن اذا اردنا ان تكون هذه عملية كاملة ومفيدة ، فان علينا استثمار الفرصة التي اتاحتها هذه النهضة الشعبية بالدعوة الى استبدال المنتجات الغربية بمنتجات الدول النامية والدول الاسلامية  حيثما كان ذلك ممكنا .
بالنسبة للدانمرك مثلا فان الاغذية تمثل الجزء الاكثر ظهورا من صادراتها الى الاسواق العربية ، ولا شك ان في الامكان استبدالها بالاغذية التي تنتجها المجتمعات المسلمة نفسها . بكلمة اخرى : فبدلا من شراء الحليب الدانمركي او الجبنة الدانمركية ، دعونا نجرب الحليب السعودي او الجبنة السورية .

تمثل المواد الغذائية والاثاث والاجهزة غير المعمرة الجزء الاكبر من استهلاكنا الاعتيادي ، ومعظم هذه المواد تنتج محليا او في دول اسلامية او دول صديقة ، وما نحتاجه فقط هو التفاتة الى مصدر تلك المواد قبل شرائها . ان مبادرات بسيطة مثل هذه يمكن ان تحدث تغييرا كبيرا . وكمثل على ذلك فلو ان الاربعين مليون دولار التي ننفقها على المنتجات الدانمركية تحولت الى شراء المنتجات السورية ، فانها ستوفر اربعة الاف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة في الريف السوري ، ونعلم ان كل فرصة عمل جديدة تنقذ عائلة كاملة من الفقر .

يمكن للناس العاديين ان يساعدوا بعضهم ، ويمكن لهم ان يوجدوا تغييرا جديا ، ولا شك ان مبادرات من هذا النوع يمكن ان تكون مؤثرة وفعالة . وقد جربناها في اوائل هذا العقد واثمرت عن نمو كبير للصناعات المحلية من جهة وللعلاقات الاقتصادية بين الدول الاسلامية من جهة اخرى ، كما جربها الامريكيون في اوائل الثمانينات حين اوشكت صناعة السيارات الامريكية ان تنهار تحت ضغط الواردات اليابانية . وجربها الايرانيون في مواجهة الحصار الاقتصادي في الثمانينات واثمرت عن تطور هائل في صناعاتهم ، بما فيها الصناعات الثقيلة .

لنقل ان كل دولار ننفقه يمكن ان يوفر حياة افضل لمسلم واحد على الاقل في دولة اسلامية ما ، فلنجعل من حياتنا العادية وسيلة للاحسان والتكافل ، وعندئذ فسوف نكون اوفياء لاهدافنا وعرضة لعون الله ولطفه ، وكما ورد في الاثر فان الله في عون العبد مادام  العبد في عون اخيه .

الايام – الاسبوع الاول من فبراير 2006

31/01/2006

الوجه الاخر لعاشوراء


صحيح ان احياء مناسبة عاشوراء يتمحور حول التذكير بما جرى في الماضي السحيق ، لكنها ليست مجرد حديث يتلى على المستعمين كما يحصل في الخطب الاعتيادية ، بل هي اقرب الى نوع من الاستذكار الجماعي لتجربة تمتزج في اطارها الفكرة بظرفها العاطفي وتبريرها الديني وصورتها الشعرية . انها ممارسة تفاعلية يتحول خلالها المستمعون جميعا مع خطيبهم الى جزء من القضية التي يروونها ، اي تجربة روحية مشتركة تتوحد خلالها مشاعر الافراد للتاكيد على الهوية او اعادة ترسيم مقومات وعناصر هذه الهوية .

ترى هل نستطيع استثمار التاثير الثقافي والروحي الهائل الذي ينطوي عليه هذا الموسم لصياغة حياتنا على النحو الاحسن ؟

نفهم بالبديهة ان الغرض الاسمى للدين هو الارتقاء بحياة الناس في مدارج السعة والقوة والتقدم المادي . لكن في المقابل فان جانبا مهما من ثقافتنا الدينية ، وبينها بالطبع الثقافة التي نتلقاها في موسم عاشوراء ، لا ترتبط من قريب ولا بعيد بالحياة التي نعيشها ، بل ان بعضها يؤدي فعليا الى تغريب الانسان عن عصره وفصله عن محيطه الحيوي الكوني . ولعل سبب هذه الحالة يكمن في فشلنا كمثقفين في التوصل الى معادلة سليمة في العلاقة بين الدنيا والاخرة . تؤكد الثقافة الاسلامية على الاخرة باعتبارها الحياة الحقيقية التي تستحق التضحية والعناء . وتؤكد في جانب آخر على الحياة الدنيوية كمجال لاختبار اهلية الانسان للفوز باعلى المراتب في الاخرة . و لهذه الغاية فهي تدعو المسلمين الى اكتساب اسباب القوة المادية والعلمية التي تؤهلهم لقيادة العالم .

نجح مسلمو العصور السابقة في التوصل الى علاقة مناسبة بين دنياهم وآخرتهم ، ولعل هذا من بين اسباب نهوضهم الحضاري . لكن من البين ان مسلمي هذا العصر ما زالوا يقفون على ابواب الحيرة ، ولهذا فان مساهمتهم في الحضارة القائمة يعد صفرا او قريبا من الصفر . نحن لا نساهم في حضارة الاخرين لاننا منفصلون عنها روحيا وثقافيا ، ولا نسعى لتخليق نموذجنا الحضاري الخاص لاننا لا نعرف من اين نبدأ . ولهذا فاننا نعيش على حاشية الحضارة ، لا راضين عنها كي نشارك فيها ولا في غنى بما عندنا كي ننفصل عنها.

نفهم بطبيعة الحال ان الاسلام لايتحمل وزر ما وصلنا اليه . في كل الاحوال فان الدين الحنيف ينطوي على خيارات متعددة : كقوة تعبئة ونهوض كما حصل في ماضي الزمان ، او كوسيلة تبرير لواقع الحال كما يحصل في هذا الزمان . وفي ظني ان جوهر مشكلة المسلمين اليوم تكمن في ضياع الاولويات او ضياع البصيرة كما في التعبير التراثي . ولعل ابرز الامثلة على ذلك هو فشلنا في الاتفاق على تحديد المسار الرئيسي لحياتنا : هل هو مسار توافق وانسجام مع التجربة الانسانية الكونية او هو مسار انفصال عنها . لكل من الخيارين تبعات وعواقب لا بد من وعيها واحتمالها .

 اذا قررنا التواصل والانسجام فسوف يتوجب علينا التضحية ببعض ما نعتبره من المسلمات والبديهيات من ثقافتنا او تقاليدنا او متبنياتنا وحتى بعض مفاهيمنا الدينية . واذا قررنا الانفصال فان علينا ان نقيم بديلا يستطيع منافسة الحضارة القائمة ماديا ومعنويا ، والا فانه سيكون مجرد اعتزال للعالم ، قد يؤدي في نهاية المطاف الى القضاء علينا تماما مثل ما حصل للهنود الحمر . هناك بطبيعة الحال الخيار الراهن ، اي المساوقة بين الانسجام والتخارج ، وهو ليس خيارا بالمعنى الدقيق فنحن نتبعه بسبب العجز عن الاختيار. وهو على اي حال ليس المثال الافضل لامة تحترم نفسها وقدراتها.

بديهي ان الانسجام والتوافق مع التجربة الانسانية الكونية هو اكثر الطرق عقلانية وفائدة ، لكنه لا يعني النقل الحرفي وتقليد ما عند الاخرين من دون تمحيص . نحتاج في حقيقة الامر الى تطوير علاقة نقدية ثنائية الاتجاه ، تشمل نقد عناصر ثقافتنا على ضوء نظائرها في العالم ، ونقد ما لدى العالم على ضوء ثقافتنا ، ومحاولة اختيار الافضل والاكمل من دون تحجر او انحياز لما عندنا او ما عندهم . اذا اردنا ان نبدأ فعلينا ان نبدأ بالقيم المؤسسة للحياة ولا سيما قيمة الحرية وقيمة العلم . قيمة الحرية تعنى ان جميع الناس احرار في اعتقاداتهم ومتبنياتهم وسلوكياتهم ، وانه لا يجوز لاحد ان يفرض على غيره اعتقادا او سلوكا من دون رغبته . وقيمة العلم تعني ان نتاج العقل البشري هو الارضية الصالحة التي تقوم عليها الافعال ، وانه يجب تحرير العقل والعلم من قيود التقاليد والافهام الجاهزة ، وبشكل عام ، تحريره من سلطة المجتمع .

عاشوراء يمكن ان يكون مناسبة للامعان في تغريب الانسان عن عصره ، ويمكن ان يمثل فرصة عظيمة لاعادة ربط الانسان بعصره ودفعه الى الارتقاء في مدارج الحياة الدنيا . وفي هذه النقطة تحديدا تتحقق فكرة خلود الدين ، وتمكينه من اغناء الحياة وريادتها . بينما لا يكون الدين في الحالة الاولى سوى تراث قديم تتناقله الاجيال كما يرث الابن كتب ابيه . بديهي ان الامنية الغالية لكل خطيب ومتحدث في هذه المناسبة ، هي تقديم الدين كمحرك حي متفاعل مع الحياة المعاصرة ودافع لاتباعه الى النهوض والغلبة . واذا كانت المسألة على هذا النحو ، فاني ارجو ان يسعى الخطباء خاصة الى تبصير مستمعيهم بالحاجة الى التواصل مع الحضارة الكونية القائمة ، باعتبارها الاولوية المطلقة للنهضة . كما اتمنى ان يؤكدوا على الحاجة الى صياغة فلسفة لحياتنا الجديدة تقوم على قيمتي الحرية والعلم . نحن نحتاج الى الحرية كي نعيش ، ونحتاجها كي نفكر ، كما نحتاج العلم كي نكتشف ما لا يزال خبيئا من طاقاتنا ومجهولا في حياتنا وعالمنا.

الايام 31 يناير 2006

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...