01/02/2024

اي الامم اذكى ، نحن ام الاميركان؟

النقاش حول تفاوت العقول والثقافات بين الأمم والمجتمعات ، يفتح  الباب على قضايا كثيرة ، ربما نود تناسيها. لكنه أيضا يكشف عن مفاهيم جديرة بالتأمل. خذ مثلا معنى العقل: هل يساوي الذكاء ، ام الثقافة ، ام الاتزان ، ام القدرة على التفكر ، اي الفك والربط؟. هذه - كما نعرف - معان ذكرها باحثون في مختلف الازمنة. لكن لو سألنا انفسنا: هل توجد حقا أمة بكاملها أذكى من الأمم الأخرى ، او اكثر ثقافة ، او اتزانا؟.

لو سألت شخصا من الصين مثلا ، فسوف يبادر بالقول ان الصينيين اكثر ذكاء. وسيدلل على قوله بعشرات الشواهد عن التاريخ الحضاري القديم ، والتقدم التقني الراهن ، وتفوق التلاميذ الصينيين في الرياضيات.. الخ. ولو سألت عربيا لضرب لك امثلة أخرى ، ولو سألت اسرائيليا لفعل الشيء نفسه ، وهكذا.

تلك شواهد صحيحة بالتأكيد. وكل منها يدل على ان هذه الأمة أو تلك ، تتمتع بذكاء او ثقافة او اتزان او قدرة على التفكيك والربط. لكن المقارنة لا تثبت أبدا ان هذه الامة اذكى من تلك ، بمعنى ان صفات الذكاء أعلى من نظيرتها في الأمم الاخرى ، وانها جارية في أنسابهم وجيناتهم. الامريكان في مقدمة أمم العالم اليوم. لكنهم لم يوجدوا قبل العام 1600 حين بدأت اولى الهجرات من اوربا. الصينيون متقدمون في جوانب كثيرة في الماضي والحاضر ، لكن هذا ليس حالهم على الدوام ، فقد مروا بأزمان مات فيها آلاف منهم ، بسبب المجاعة. والمجاعة لا تأتي الا من التخلف والبؤس. وكان العرب اقوى الامم في أزمان سابقة ، وليسوا اليوم كذلك. وكان البرتغاليون سادة البحار في يوم من الأيام ، بينما لا تكاد تسمع بهم اليوم.   

نفترض ان هذا يكفي لنفي الصلة بين العقل والنسب. كما يوضح أن اختلاف العقول هو اختلاف ثقافات ، أي تنوع يسير افقيا نحو اليمين او نحو الشمال. فلكل امة ميزات تخالف غيرها في جانب أو اكثر. لكننا لا نستطيع اخذ صفات امة بعينها كمعيار لتحديد قيمة الاخرين على سلم عمودي.

-         ما هي اهمية هذا الكلام؟

لقد وجدت الاكثرية الساحقة من الناس ، عربا وغير عرب ، يتقبلون الفكرة السابقة ، وينفون بشدة انهم اقل ذكاء من غيرهم ، او أن أمتهم اقل معرفة من سائر الأمم. ويصرون على ان تفوق احدى الأمم في وقت بعينه ، ناتج  عن ظروف وامكانات لم تتوفر لغيرها. ولو توفرت لحصل هنا ما حصل هناك بلا فرق.

الامر المثير للدهشة ، أن هؤلاء أنفسهم ، او كثيرا منهم ، يتقبلون فكرة ان الله فضل جنسا على جنس ، او أن قبيلة ارفع نسبا من غيرها. وأقرأ بين حين وآخر تعليقات لأشخاص متعلمين ، يتحدّون غيرهم أن يذكروا نسبهم ، ونعلم ان المقصود بهذا هو الاشارة الى ان اصولهم غير عربية او غير قبلية. ولعل بعضنا يذكر قضايا "عدم التكافؤ في النسب" التي أدت في سنوات ماضية الى هدم أسر والتفريق بين أزواج ، بعدما اكتشف اقارب الزوجة ان قبيلة الزوج أدنى كعبا من قبيلتهم.

على المستوى النظري نتباهى بان الاسلام ساوى بين الناس ، وعاب التفاخر بالانساب والانتماءات القومية والعرقية. لكننا في الوقت نفسه نتقبل فكرة اننا كأمة افضل من سائر الأمم ، أو ان جنس الرجال افضل من جنس النساء ، او ان الاسلام أجاز هدم العائلات ، اذا ظهر ان الزوج ينتمي لعرق أو قبيلة أدنى من زوجته. فهل هذه وتلك من نوع السقطات العفوية ، ام اننا نفكر بعقلين متوازيين: عقل واع يزن الأمور ، وآخر انفعالي يقوم مرة ويتخبط أخرى؟.

هذا تأمل في قصة العقول واختلافها ، وددت مشاركة القراء الاعزاء فيه ، ولعله يثير في انفسهم حاجة للتفكير في بعض الجوانب التي ربما نرتاح لتناسيها.

الشرق الاوسط الخميس - 21 رَجب 1445 هـ - 1 فبراير 2024 م

https://aawsat.com/node/4826186

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...