28/09/2022

منهجان في فهم الحرية


أي حديث عن الحرية في مثل مجتمعنا ، يستدعي التذكير بأنها حق أصلي لكل انسان بما هو إنسان ، أي قبل ان يكون عضوا في جماعة ، او مؤمنا بدين ، او خاضعا لقانون. لا بد من التذكير أيضا باننا لا نتحدث في فراغ ، بل عن الحرية في مجتمع يحترم نفسه ويحكمه القانون. مقصودنا إذن هو الحرية التي يضمنها القانون ، وليس الحرية المضادة للقانون.

-         ما الحاجة للتذكير بهذا ، مع انه من قبيل البديهيات؟

واقع الأمر ان "الحرية" ليست من الأمور البديهية في المجتمعات المسلمة ، بل في عامة المجتمعات التقليدية. من المفهوم طبعا ان الحرية قيمة عليا ، وهي من المسلمات التي لا يجادل العقلاء في ضرورتها وحاجة الانسان والجماعة اليها ، وفي كونها من أسباب التقدم والقوة. هذا كله أمر مفهوم. لكنني مع ذلك أدعي دون حرج ، ان مجتمعاتنا لا تعتبر الحرية قيمة عليا ، ولا تصنفها بين المسلمات. وهي تقول ذلك صراحة ، او تقوله مداورة ، حين تدعي انه لا يوجد معنى دقيق للحرية ، او حين تشدد على الربط بين الحرية والانفلات السلوكي او انتشار الفساد الاخلاقي.

هذا يظهر غالبا حين يعيق المجتمع رغبة الافراد في التعبير عن انفسهم بطريقة غير مألوفة ، الامر الذي يكشف عن ارتباط عضوي بين الحرية والتمرد على حدود المجتمع وتقاليده.

التصادم بين الرغبة في الاستمرار ، التي يعبر عنها العرف الاجتماعي ، وبين إرادة التغيير التي تعبر عنها محاولات الافراد للتحرر من ذلك العرف ، يكشف عن منهجين مختلفين للتفكير في الحرية:

المنهج المحافظ: وينطلق من فرضية ان النظام الاجتماعي هو الأصل ، وان سعادة الانسان رهن بالمحافظة عليه. وينصرف هذا الى معنى احترام الاعراف والهوية المشتركة والتعريف الاجتماعي للمصلحة العامة. وفقا لهذه الرؤية فان للفرد حقوق يستمدها من عضويته في الجماعة ، ولذا فان تمتعه بها ، ومن بينها ممارسته لحريته ، يجب ان لا تعارض باي شكل العرف الاجتماعي او إرادة المجتمع.

اما المنهج الليبرالي: فينطلق من فرضية معاكسة ، فحواها ان الحرية حق أصلي للإنسان ، وهي من لوازم انسانيته وعقلانيته. في الوضع الأصلي كانت حرية الانسان مطلقة ، لكن حاجة الفرد للعيش في المجتمع أوجبت تحديدها ، كي يستطيع كافة أعضاء المجتمع ممارسة حريتهم ، من دون تزاحم. هذا التحديد استثناء من القاعدة او خروج عن الأصل ، فيجب تقييده بقدر الضرورة ، كي لا يتحول الى قاعدة بذاته.

فكرة التزاحم ، ولا سيما تبريرها لتقييد الحرية الفردية ، بدت في أول الأمر بسيطة ومعقولة. لكن تطبيقاتها العديدة كشفت عن تعقيد غير متوقع. كان جون ستيوارت ميل بين أوائل الفلاسفة الذين تنبهوا للحاجة الى معيار للفصل في تنازع الارادات بين الافراد ، أو بينها وبين اعراف المجتمع ومصالحه ، فوضع قاعدة اشتهرت فيما بعد باسم مبدأ ميل او مبدأ الضرر.

صنف ستيوارت ميل الأفعال الى نوعين: فعل يتعلق أثره بالفاعل دون غيره ، مثل التدين او الالحاد ، العمل او ترك العمل ، فهذه وامثالها أفعال لا ترضي بعض الناس ، لكنها لا تضر أحدا غير الفاعل. اما النوع الثاني فهو الأفعال التي تترك ضررا جسيما على الآخرين ، كالدعوة لكراهية الملونين او اتباع الاديان الاخرى. راى ميل ان الحال الأول لا يبرر للمجتمع ردع الفاعل ، حتى لو كان فعله مناقضا لاعراف الجماعة او ارادتها. بخلاف الحالة الثانية التي يعتبر فعل الفرد فيه (التحريض على الكراهية) نوعا من العدوان ، فلا يمكن تبريره بحرية التعبير.

الشرق الأوسط الأربعاء - 3 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 28 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [16010]

https://aawsat.com/node/3899176/

 مقالات ذات صلة

 

ان تكون عبدا لغيرك

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بوصفها مشكلة

الحرية بين مفهومين

الحرية عند أهل الفقه

الحرية والانفلات

 الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

العلاقة الجدلية بين الحرية ورضا العامة

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

في تمجيد الحرية

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

ملاحظات على حديث قصير – غريب

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

يحبون الحرية ويخشونها

21/09/2022

في يوم الوطن.. تأمل في الخطوة التالية


نحتفل هذا الأسبوع باليوم الوطني للمملكة العربية السعودية ، ذكرى مرور 90 عاما على توحيد البلاد ، التي كانت بقاعا مشتتة وامارات متنازعة ، فانعم الله على أهلها بالسلام والأمان والألفة. في مناسبة كهذه يستذكر الناس محاسن بلادهم ، كما يتأملون الطريق الى مستقبلهم. ولحسن الحظ فان بلادنا حزمت أمرها – بعد مكابدة طويلة - فانضمت الى ركب الحداثة. ورأينا ثمار هذه  الشجرة الطيبة ، ونأمل مزيدا منها في قادم الايام.

نعلم ان التحولات الكبرى تحمل في طياتها تحديات جديدة ، كما تكشف عيوبا مستورة. وقد شهدنا بعضها ، خلال السنوات القليلة الماضية. لكن الانصاف يقتضي القول انها مرت بسلام ، حتى ليظن الناظر من بعد أن الأمور  كانت هكذا على الدوام.

يهمنا ونحن نحتفي بالحاضر ، ان نلقي نظرة على المرحلة التالية والطريق اليها ، وما تقتضيه من مهمات ، أبرزها في رأيي الحريات الشخصية والمدنية وضمانها بالقانون. بديهي ان هذه لا ترتبط بالمناسبة لذاتها. لكنها جديرة بان تطرح في كل وقت ، وفي هذه المناسبة خصوصا ، لان إقرار الحريات العامة هو الجزء الجوهري في عملية التحديث. ان اختيارنا للحداثة يعني أن المجتمع والدولة يريدان الالتحاق بصف الدول الحديثة ، التي ابرز سماتها انها دولة الامة. دولة الأمة تعني ببساطة ان الإدارة الحكومية وما يتبعها من مؤسسات ، أي كل ما يندرج تحت مسمى "القطاع العام" قائم لخدمة المواطنين وليس للسيطرة عليهم.

في الدولة الحديثة ، الشعب هو محور عمل الدولة وهو غايتها وهو أداتها أيضا. المواطن في الدولة الحديثة شريك في ملكية تراب الوطن ، ولذا فهو مسؤول عن هذا التراب ، مكلف بعمرانه وكف الأذى عنه وعن ساكنيه. ملكية التراب الوطني هي مصدر الحقوق الثابتة للمواطن. ونعلم بطبيعة الحال ان كل حق يترتب عليه واجب. لا توجد حقوق لا تقابلها واجبات وتكاليف. لكن يجب التأكيد على ان الحقوق سابقة للواجبات في عالم السياسة والقانون.

نفهم ان إقرار الحريات المدنية والفردية ، قد يثير تعارضات في المجتمع. لاننا عشنا سنوات طويلة ضمن نسق ثقافي/مجتمعي لا يرى الفرد الا تابعا للجماعة وامتدادا لقناعاتها ، ولا يفهم الجماعة الا كامتداد لسلفها ، وتأكيد على حضورهم الثقافي والرمزي في كل العصور. ولهذا وجدنا المجتمع قلقا من كل جديد ، في الاقتصاد وفي العلم والتكنولوجيا والتعليم ، بل في كل جانب. وهو قلق ينصرف دائما الى تقييد الحريات الفردية. ربما يذكر القراء الأعزاء المعلم الذي يحمل المقص ، ويفحص "طول شعر" الطلاب في طابور المدرسة  الصباحي ، لقمع موضات الشعر الطويل في تلك الأيام. لم يعد "مقص المعلم" حاضرا هذه الأيام ، لكن الضيق بالمختلف والمبتدع والمتمرد على التقاليد ، لازال حاضرا بصور وأشكال متنوعة ، كلها تقود – موضوعيا - الى نتيجة واحدة ، هي التدخل الاعتباطي في حياة الأفراد والتضييق على حرياتهم.

اعلم ان الخلاص من التدخل الاعتباطي في حياة الناس ، يحتاج الى علاج ثقافي في المقام الأول. لاننا لا نستطيع الدعوة الى قمع المجتمع ، بينما ندافع عن الحريات الفردية. وليس من المناسب تكميم افواه شريحة من الناس ، كي تتمتع الشريحة الأخرى بحريتها. مفهوم أيضا ان العلاج الثقافي يحتاج الى زمن. لكن الخطوة الأولى قانونية وسياسية ، خلاصتها تبني الدولة لقواعد قانونية تقر صراحة بالحرية الفردية والمدنية لكل مواطن ، وحقه في الاستمتاع بحياته على النحو الذي يريد.

اعتقد ان اعظم انجاز لأي مجتمع سياسي ، سيكون في تعظيم مكانة الفرد ، أي حماية حقه في اختيار نمط الحياة الذي يريد.

الشرق الأوسط الأربعاء - 25 صفر 1444 هـ - 21 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [16003]

https://aawsat.com/node/3885876

14/09/2022

كيف تشكلت الهوية الوطنية


حين نشر بنديكت اندرسون كتابه المسمى "مجتمعات متخيلة Imagined Communities" أثار موجا من الأسئلة ، التي تراوحت بين السخرية والتعبير عن الاعجاب والدهشة. ومنذ طبعته الأولى في 1983 واصل الكتاب انتشاره ، وترجم الى لغات عديدة ، بينها العربية ، وتحول الى واحد من أبرز المراجع المتعلقة بالقومية وفكرة الأمة.



اعانني هذا الكتاب على فهم نقاط غامضة في بحث الدولة القومية وبناء الأمة. كما أجاب على بعض الأسئلة المحيرة. أذكر مثلا سؤال المفكر المعروف د. محمد الرميحي عن سر تفاقم التعصب القبلي والديني ، رغم انتشار التعليم في مجتمعات الخليج. بينما كانت دراسات التنمية في المجتمعات التقليدية ، تتوقع تراجع الهويات الفرعية ، كلما تحسن مستوى المعيشة وانتشر التعليم والاعلام. وقد سمعت هذا السؤال نفسه من باحث امريكي ، بعدما لاحظ انتشار مواقع الانترنت والمنتديات الالكترونية الخاصة بالقبائل ، في أوائل القرن الجديد.

مسألة التعصب والتسامح لم تكن موضع اهتمام اندرسون. فالهدف المحوري لنظريته هو تفسير ظهور الأيديولوجيا القومية. إلا ان ملاحظاته العميقة القت ضوء كاشفا على العديد من الأسئلة المتصلة بالموضوع ، مثل دور الثقافة المكتوبة في توحيد الصورة الذهنية لتاريخ المجتمع (التاريخ الواقعي او المتخيل).

قدم اندرسون تفسيرا معقولا لظهور الهوية الوطنية في الدول الجديدة ، ومبررات تمايزها عن الشعوب/الدول التي تشاركها في الثقافة او التاريخ. أسئلة كهذه تعين على فهم المجتمعات العربية في الشرق الأوسط ، التي كانت ضمن الإمبراطورية العثمانية ، ثم استقلت وبات كل منها أمة منفردة او شعبا قائما بذاته.

يعتقد اندرسون ان المجتمعات الحديثة قررت ، في وقت ما ، ان تتحول الى أمم. في الماضى كان الرابط بين الناس هو الدين او اللغة او الجغرافيا. اما اليوم فان الرابط الواقعي الوحيد ، هو اسم الدولة والحدود الإقليمية التي يعترف بها العالم. ربما ينتمي هؤلاء الذين داخل الحدود الى دين واحد او اديان متعددة  ، ربما يتحدثون لغة واحدة او لغات مختلفة. ما هو مهم هو رغبتهم في تكوين جماعة سياسية وقانونية واحدة ، أي ما نسميه اليوم بالشعب او الامة. في بعض الأحيان تبدأ العملية باتفاق بين غالبية الناس ، وفي أحيان أخرى تبدأ بقرار من النخبة الحاكمة.

الهوية الوطنية ليست موجودا أزليا ، بل كائن يصنعه أصحابه من خلال تطوير فهم مشترك للذات والتاريخ. هذا الشرح يجيب اذن على سؤال: حين نقول اننا شعب
او أمة.. فما الذي جعل هذا الجمع من الناس شعبا او أمة واحدة. بعبارة أخرى: كيف تصنع الأمة نفسها ، كيف تربط بين الاف الناس الذين لا يعرفون بعضهم ولا يربطهم نسب واحد ، فتحولهم الى شعب واحد او امة واحدة؟.

وفقا لاندرسون فان كل أمة تصنع "اسطورة تاريخية" أي لقطات منتقاة من التاريخ ، تعزز الاعتقاد باننا "كنا دائما على هذا النحو ، متفقين ومنتصرين". وهنا يأتي دور الثقافة الموحدة (التي تلقن لتلاميذ المدارس مثلا) والتي يجري انتاجها على ضوء تلك الفرضية ، ثم تنشر عبر البلاد ، كي تؤسس فهما مشتركا للذات والمستقبل ، إضافة الى الموقف من المجتمعات الأخرى الواقعة خارج الحدود.

من النقاط التي أثارت اهتماما كبيرا ، قول اندرسون بان ظهور الطباعة التجارية قد ساهم في "صناعة" فهم مشترك وذهنية متقاربة ، كما وحد لغة التعبير عن الذات المشتركة ، أي اوجد شيئا يشبه ما نسميه اليوم "لغة الخطاب الرسمي". هذا يشير الى أهمية وجود جهة تخطط وتعمل لبناء هوية وطنية مشتركة ، فان لم توجد فسوف تتولى القبائل والجماعات الدينية صناعة هوياتها الخاصة. اظن ان شيئا من التأمل في آراء بنديكت اندرسون ، سيوضح اننا كنا نسير في الطريق الذي وصفه.

الشرق الاوسط الأربعاء - 18 صفر 1444 هـ - 14 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [15996]

https://aawsat.com/node/3872366

07/09/2022

مسيرة الهويات القاتلة


التفكير في قضايا الهوية الفردية ونظيرتها الجمعية/الوطنية ليس جديدا. وقد وردت تعبيرات عن المسألة ، ومعالجات لبعض اشكالياتها في التراث القديم للعديد من الأمم ، ومنها الإسلام. لكن دراستها بشكل معمق ومتخصص ، ترجع الى النصف الثاني من القرن العشرين فحسب.

اريك اريكسون (1902-1994)
ومع كل حديث عن مسألة الهوية ، يقفز الى ذهني ثلاثة مفكرين ، اشعر انهم رسموا خريطة هذا الحقل.  سوف اتحدث اليوم عن اثنين ، واترك الثالث ، وهو بنديكت اندرسون ، لمقال آخر. أما الأول فهو إريك اريكسون ، الطبيب النفسي الذي اعتقد انه وضع الأساس العلمي لبحوث الهوية الفردية في الاطار السيكولوجي ، وحدد مسارات تشكلها والعوامل المؤثرة فيها. وقد اتخذ من حياته الشخصية ، بين المانيا والدانمرك والولايات المتحدة ، مادة لدراسة تحولات الهوية لدى شخص مختلف عن المحيط (يهودي بين البروتستانت/علماني بين متدينين). درس اريكسون الكيفية التي تتشكل فيها ذهنية الشخص ، ورؤيته للعالم ، من خلال تفاعله مع المحيط: كيف يتأثر بارادات الناس في محيطه وبطريقة تعبيرهم عنها ، وكيف يستجيب لهذه الإرادات ، التي لا يصرح بها أحد ، لكنها واضحة جدا في التعاملات اليومية.

اما الثاني فهو امين معلوف ، الاديب اللبناني الذي هاجر الى فرنسا فرارا من الحرب الأهلية ، فاستعاد في سلامها نفسه التي أرادت مصالحة المختلفين ، من خلال تخيل احوالهم وادراك معنى الحياة في عيونهم وعقولهم. اختار معلوف اسم "الهويات القاتلة" لكتابه المتعلق بمسألة الهوية ، وهو رسالة صغيرة الحجم عظيمة القيمة ، بل استطيع القول انها نادرة في بابها. وأظن ان أبرز العناصر التي أوضحت قدراته التحليلية الباهرة ، هو تفسيره لتحول الهويات العادية ، الى هويات صلبة ، ثم تحولها من مظاهر تنوع واختلاف عادي ، الى متراس لحماية الذات ومصارعة الآخرين. لم تكن الحرب الطائفية ممكنة – وفق تصوير معلوف – لولا نجاح امراء الطوائف في تحويل الفارق الطائفي الى حدود سياسية واجتماعية ، تشدد على خصوصية "الجماعة" وتبالغ في استذكار حقوقها ، والتشديد على اغتصاب هذه الحقوق من قبل الآخرين.

تصليب الهوية هذا يبدأ مساره بإعادة تعرف الفرد على نفسه ، من خلال انتمائه الأكثر عرضة للتهديد. لو كان الانتماء القبلي هو الذي يتعرض للتحدي ، فسوف يجري تصليب الانتماء الى القبيلة ، وتتحول الهوية القبلية الى مزاحم لكافة الهويات الأخرى. ولو كان التحدي متجها للانتماء الديني او المذهبي او القومي او العرقي ، فسوف تنطلق عملية تصليب لهذا الانتماء ، حتى يتحول الى هوية حاكمة.

تولد الهوية القاتلة – وفقا لهذا التصوير – حين يتحول التحدي الى خطر فعلي ، له آثار مادية ملموسة. ففيها يتحول الدفاع عن الهوية الى دفاع عن الوجود. وينطلق سياق جديد يركز على تضخيم الذات ، وتسقيط الطرف الآخر ونفي فضائله ، بحيث تتحول مواجهته بالعنف المادي او اللفظي ، الى عمل مشروع او مقبول أخلاقيا.

الواقع ان معظم الصراعات العنيفة ، يجري تبريرها بهذه الطريقة: تضخيم صورة الخطر الذي يتهدد الجماعة ، واستخدام الرموز الثقافية ، سواء كانت قومية او دينية او حتى أدبية وفولكلورية ، في اقناع افراد الجماعة بأن كلا منهم مستهدف في شخصه وفي عائلته ، وان الدفاع عن الانتماء الجمعي هو دفاع عن الذات الفردية. ولو رجعت الى الادبيات المستعملة في الصراع ، لوجدتها تركز على تضخيم الذات ، وتضخيم الخطر الخارجي ، وتحقير الطرف المقابل وتسويغ العدوان عليه. هذه ببساطة مسيرة الهويات القاتلة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 11 صفر 1444 هـ - 07 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [15989]

https://aawsat.com/node/3859316

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...