دعوت في مقال الأسبوع الماضي للاعتراف بالعقل مرجعا مستقلا ، في وضع الاحكام الشرعية ، موازيا للكتاب والسنة. وقلت يومها ان هذا نقاش قديم في الفكر الإسلامي.
سوف أعرض اليوم ما احسبه امورا بديهية ، تجيب على السؤال الذي زعمت انه مركز الجدل في دور العقل ، سؤال: هل الفعل بذاته ينطوي على قيمة (صحيح/خطأ ، حسن/قبيح). وهل العقل قادر على تشخيص تلك القيمة في الأفعال؟.
اعتقد ان كل عاقل "في هذا الزمان"
يعرف الجواب. ويطبقه فعليا: تخرج من بيتك صباحا فترى الاف الناس قاصدين أعمالهم
مثلك. تراهم يقودون سياراتهم في الاتجاه الصحيح وليس العكس. وحين يصلون أعمالهم ، سينجزونها
بالصورة المتفق عليها. وفي نهاية الدوام سيقصدون بيوتهم وسيأكلون ما يعرفون انه
صحي. خلال هذا اليوم نقابل عشرات الناس ، ونراهم يحددون مصالحهم ويتبادلونها فيحصل
معظمهم على بعض ما أراد. في اليوم نفسه نكتشف أشياء نعتبرها خاطئة ، مثل شخص يسوق
سيارته بتهور ، او موظف يتلاعب في معاملة ، او ربما نذهب للبقالة فنجد الحليب
فاسدا ، او نقرأ خبرا في جريدة فنقبله او نرفضه.أطباء بلاحدود
نحن نقوم بهذه الأفعال اليومية لأننا نظنها صحيحة. ونعترض على أخرى نراها خاطئة. فهل قرأنا في أي نص ديني وصفا لهذه الأفعال وحكما عليها ، ام أن عقولنا هي التي عرفتها فحكمت بصحتها او خطئها وبأنها تستحق الشكر او التنديد؟.
هذا ببساطة ما نسميه ذاتية الحسن والقبح في الأفعال ، وقدرة العقل على ادراكها. ترى هل يختلف الناس في الموقف من السائق المتهور ، أو تحديد قيمة الموظف المتلاعب ، او وصف الطالب المجتهد في دراسته؟.
دعنا الان نضرب امثلة من تاريخ البشرية القريب. ونبدأ باتفاقيات جنيف (1949) التي وضعت ضوابط الزامية لتصرفات المقاتلين في الحرب ، غرضها حماية المدنيين ومنع الإبادة ، وتخفيف الخسائر في البشر والعمران. خذ أيضا المواثيق الدولية لحماية البيئة الكونية ، مثل اتفاقية باريس للمناخ (2015) التي غرضها تنظيم الجهد الإنساني الطويل الأمد ، لتلافي الكوارث البيئية. وخذ أيضا المبادرات الكبرى ، مثل منظمة أطباء بلا حدود ومنظمات السلام الأخضر ، ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية ، وغيرها. ثمة امثلة كثيرة جدا من التاريخ القديم والحديث ، تخبرنا عن قدرة الانسان على تحديد ما يصلح حياته وما يفسدها. ان المسيرة التصاعدية في التاريخ البشري دليل قاطع على هذه القابلية.
تلك الأمثلة تحقق دون شك ، غايات يريدها الدين ، كالتراحم بين الناس وتنظيم مجتمعهم وتطوير معارفهم وحماية بيئتهم ومصادر عيشهم ، وكبح انزلاق النزاعات الى فجائع. هذه الأمثلة وكثير غيرها ، تبلورت ونضجت خارج اطار الدين ، أقامها عقلاء البشر حين رأوها مصلحة راجحة او دفعا لفساد جسيم.
لاحظ اننا نتحدث عن اتفاقات تنظم العلاقات بين دول ، ويشارك في تنفيذها ملايين الافراد ، جميعهم يسعى نحو هدف واحد. ترى.. اذا كان العقل البشري مؤهلا لانجاز مهام كهذه ، فما هي المهام التي يعجز عنها في اطار الدين؟. واذا كان العقلاء قادرين على إدارة الاختلاف بين عقولهم ، على نحو يقيم اتفاقات بالحجم الذي اشرنا اليه ، فلماذا تعجز العقول المختلفة عن فعل الشيء نفسه في الاطار الديني؟.
اليس موضوع الدين هو سلوك البشر وافعالهم. اليس مقصود الفقه هو تنظيم هذا السلوك ، كي يؤدي اغراضا محددة .. فما هي الصعوبة الهائلة التي تسمح لعقل الانسان بوضع اتفاقية تنظم العمل المشترك في 194 دولة ، لكنه يعجز عن وضع حكم شرعي ينظم العلاقة بين شخصين؟.
هل نريد الحديث عن دين في واقع الحياة ، وقد عرضنا بعض جوانب هذا الواقع ، ام نتحدث عن دين اسطوري يحلق في أجواء الخيال وبين الكتب؟.
الشرق الأوسط الأربعاء - 13 ذو الحجة 1443 هـ - 13 يوليو 2022 مـ رقم العدد [15933]
https://aawsat.com/node/3754591
مقالات ذات صلة
حول المسافة بين الدين والمؤمنين
دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين
مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق