هذه تكملة لمقال الاسبوع الماضي ، الذي تعرضت فيه لما ظننته هوية متأزمة ، يعانيها كثير من المسلمين المعاصرين ، لاسيما هؤلاء الذين استوطنوا في اوربا ، حيث الثقافة والأعراف غير ما عرفوه في بلدانهم ، او ما ظنوه أصدق تمثيلا لمرادات الدين الحنيف.
كتبت تكرارا عن مشكلة
الهوية في السنوات الماضية. وظننت انها باتت مفهوما واضحا لغالبية الناس. لكن
النقاشات التي أطلعت عليها هذه الأيام ، أوضحت لي ان الغموض المحيط بالفكرة لازال
كما تركته قبل بضع سنين. ليس هذا بالأمر
الغريب ، فمفهوم "الهوية" جديد على الثقافة العربية ، ولو راجعت المعاجم
القديمة لما وجدت له عينا ولا أثرا.
انه مثال عن مئات التعابير
التي نتداولها ونظنها عربية صميمة. لكنها ليست كذلك ، فهي مستوردة من إطار معرفي
مختلف. ولهذا فان حمولتها المفهومية والقيمية متباينة بين شخص وآخر ، تبعا لقبوله
بمغازيها. وكنت قد التفت لهذه المشكلة ، حين وجدت من يدعو
الناس لاختيار حرج بين الدين والوطنية والقومية ، ووجدت الناس مضطرين للقول بانهم
مسلمون فقط او مسلمون أولا ، خشية ان يكون القول بالهويات الثلاث معا ، خادشا
لصفاء الاعتقاد.
هذا الشعور المرتبك يكشف جانبا من مشكلة الهوية التي يعانيها المسلم اليوم. وهي قليلة الخطورة في ظني ، مع انها تثير التباسا غير محمود. انها مشكلة نظرية ، فردية غالبا. اما الجانب الأصعب من المشكل ، فيتجسد في حالة المسلمين الذين استقروا في البلدان الصناعية. هؤلاء يعيشون أزمة مضاعفة ، دينية وثقافية.
فالمجتمعات التي استوطنوها لا تقيم للدين اعتبارا خاصا ، كحال مجتمعاتهم الاصلية ، وبالتالي فان العرف والقانون لا يقف في صفهم. وهم يواجهون كل يوم تقريبا سلوكيات مزعجة ، وقد تنطوي على مضمون عدواني (هذا يظهر خصوصا في المظهر الشخصي والعلاقات بين الجنسين).
ولعل بعض القراء
قد تابع الجدالات الواسعة ، التي أعقبت منع
النقاب في دول اوربية ، مثل
الدانمارك وبلجيكا هولندا. ان عدد الذين يستعملون النقاب قليل جدا ، لكن منعه كان
إشارة الى تغيير (قانوني) لعلاقة الآباء المسلمين مع نسائهم. وهو يولد ضغطا شديدا
على نفوسهم ، وربما يودي بهم الى مزيد من الانكماش على الذات.
حسنا.. لماذا نذكر هذه
الامثلة في سياق الحديث عن "أزمة هوية"؟.
يقودنا هذا السؤال الى
جوهر المشكلة. لقد افترض بعض الناس ان الهوية الدينية متمثلة في النموذج الاجتماعي
الذي يشمل خصوصا موقع الفرد في نظام العلاقات الاجتماعية ، مظهره الشخصي ، والتزامه
بالاعراف السائدة. ويعج التراث العربي بنصوص وشروح حول كل من هذه العناصر ، وثمة
تأكيد على علاقتها بالدين او حتى كونها جزء منه ، كحال النقاب الذي ذكرته آنفا.
حين تكون في مجتمع يطلب
هذه المظاهر او يتقبلها ، فلن يكون ثمة مشكلة. لكنها ستبرز حتما حينما تعيش في
مجتمع يعارضها او يفضل غيرها ، كحال المجتمعات الاوروبية اليوم. اقول ان هذا يعيد
طرح السؤال من جديد: هل الزي (بما فيه الشكل المسمى حجابا شرعيا) وبقية المظاهر ،
وكذلك الاعراف الحياتية ، هل هذه جميعا من جوهر الدين ، وان الدين لا يقوم الا به
، ام انها من اعراض الحياة التي اكتسبت لونا دينيا ، او احتملت لونا دينيا ، مع انها ليست من
جوهر الدين؟.
اني اعلم بنوعية
الاجوبة التي تقابل سؤالا كهذا. لكن الجواب الانطباعي او العاطفي المألوف ، لا
يفيدنا كثيرا. مانحتاجه هو التأمل العميق في الاشكال الحقيقي ، اعني جدل العلاقة
بين الاسلام والعصر ، وان تمظهر اليوم في اطار ما نسميه "ازمة الهوية".
الشرق الأوسط الأربعاء - 10 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 25
نوفمبر 2020 مـ رقم العدد
[15338]
https://aawsat.com/node/2645236/