معظم الذين يعارضون الحركات الاسلامية ، يتهمونها باستغلال الخطاب الديني لتحقيق اغراض سياسية او حزبية. وهذا الوصف قابل للتطبيق على كل شخص او جماعة. فكل من اراد النيل من منافس له ، وصفه بالانتهازية ، او ارتداء عباءة الايديولوجيا لتحقيق اغراض سياسية او غير سياسية. واذا اراد التوسع في الوصف او تأكيد (التهمة) تبرع بتبرئة الدين من السياسة او المصالح. وتنشر الصحافة العربية كل يوم تقريبا ، مقالات او تصريحات لمعارضين سودانيين ، تتهم النظام القائم بانه مخادع ، وزعيم الجبهة القومية الاسلامية التي تدعمه بانه انتهازي ، يستغل الشعار الديني لتبرير استيلاء الجبهة على مفاصل الحياة السياسية .
وقد قيل مثل هذا في النظام الايراني ، ويقال عادة في كل الصراعات
الصغيرة والكبيرة التي تجري بين الفئات السياسية. وأمامي تصريح للسيد رفعت السعيد ،
وهو من زعماء اليسار في مصر يحذر من ان جماعة الاخوان المسلمين تستغل الديمقراطية
لكي تقتلها حينما تصل الى الحكم ، لانها لا تؤمن بالديمقراطية ولا تمارسها (الحياة
3/7/1996) وهو كلام يمكن تطبيقه على الحزب الذي ينتمي اليه السيد السعيد ، فقد
شهدت مصر بعض احلك ايامها حينما كان اليسار في السلطة ، وأمامي ايضا خبر عن احتجاج
قدمه الامين العام لجناح حزب البعث اليمني المؤيد للعراق ، الى لجنة الاحزاب في
الحكومة اليمنية ، يتهم الجناح المؤيد لسورية في الحزب نفسه باستغلال الاسم لاغراض
سياسية ، بخلاف ما ترمي اليه المنطلقات والبرامج الخاصة بالحزب ، ويتهم اللجنة بالتآمر
مع هذا الفريق ، خلافا للسلوك الديمقراطي والدستور والفانون الجاري (الحياة
4/7/1996) .
خلاصة ما نريد قوله ان اتهام الجماعات الاسلامية بالانتهازية او
استثمار الدين ، هو مجرد سلعة في سوق الصراع بين القوى السياسية ، ومثلما يوجه
للاسلاميين ، فهو قابل للتوجيه ضد اي طرف سياسي اخر ، فيمكن اتهام اليسار باستثمار
شعار العدالة الاجتماعية لتقويض الحريات الفردية ، كما يمكن اتهام الليبراليين
باستثمار شعار الديمقراطية والحريات ، لافساد المجتمع او اقامة حكم يعتمد على
استثمار الاقوياء للضعفاء .
والحقيقة ان ايا من السياسيين
الذين حاولوا التقدم في ميدان السياسة ، لم يعجز عن ابتكار قائمة اتهامات من هذا
النوع يوزعها على منافسيه ، لكن ايا منها لايصلح دليلا لتقويم تجربة الطرف المتهم
او مصداقية طروحاته. انها اشبه بالسلع السريعة الفساد ، ليس لها اي قيمة خارج
الظرف الذي شهد اطلاقها ، الظرف المحدود زمنيا ومكانيا .
ولايقتصر هذا النوع من التراشق على الجماعات المختلفة
ايديولوجيا ، ففي داخل التيار الاسلامي نفسه ، نرى التقليديين يتهمون الحركيين
الجدد باستثمار الشعار الاسلامي لتحقيق مآرب سياسية آنية ، ويتهم هؤلاء اولئك
باستغلال الدين لتجميد المجتمع الديني ، ويشكك كل من هؤلاء في الاخر ، في اخلاصه
وفي تقواه وفي تطابق منهجه وتكتيكاته مع مرادات الشريعة. وكل هذه الاتهامات
والمراسلات الخطابية ، نفخ في الالفاظ لا يغير شيئا من الحقيقة ، لكنها تعكس
الارتباك السائد في تحديد خطوط الاتصال وخطوط الانفصال ، بين ما ندعوه مبدأ وما
ندعوه مصلحة .
ويظهر ان الذين يوصفون بالمصلحية - عادة - هم النشطون في
المجال الاجتماعي او السياسي ، الذين يهددون غيرهم بابتلاع مجاله الاجتماعي او
فرصته السياسية ، اما المنعزل الذي لا يهدد احدا ولاينافس احدا ، ولايسعى لتحويل
رصيده الشخصي الى قوة سياسية تنافس القوى القائمة ، والتي تخطط للقيام على الساحة
، فانه ينام قرير العين ، لا يرشق بحجر ولا ينال منه لسان. وكان استاذنا اية الله
السيد محمد الشيرازي اطال الله عمره يقول ان راشقي السهام في الحروب القديمة ،
يوجهون سهامهم الى اصحاب القامات العالية والرايات الواضحة ، قبل بقية الجيش.
وقرأت في حياة الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول قوله ، انه حاول الفرار من اسر
القوات الالمانية مرارا ، لكن قامته الطويلة فضحته دائما ، فلم يكن بين الجند من
هو في مثل طوله ، ولهذا كان جميع جنود المعتقل الالماني يعرفونه حتى لو اخفى وجهه
، والحاصل ان الاتهام بالانتهازية او المصلحية ، هو في حقيقته لون من الوان الصراع
الاعتيادي يواجهه كل نشط على الساحة ، وكلما امتدت قامته وظهر صيته ، ازداد حجم
الاتهامات الموجهة اليه لا سيما من هذا النوع .
قلنا سابقا ان التزام الانسان ، سياسيا كان او رجل شارع ،
بمصلحته او مصلحة جماعته ليس تهمة ، وليس عيبا ، وبناء المواقف على اساس المصالح
ليس خطأ بل قد يكون عين العقل ، كما ان تأثر الاراء والافكار بالمصالح ليس اختيارا
، فعقل الانسان لا يتحرك بمعزل عن تعاطيه مع شئون حياته ، ولذلك فانه لا يوجد
انسان الا وهو ينظر ، حين يتكلم وحين يعمل ، الى مصلحة ، مصلحة لنفسه او لجماعته
او لعقيدته ، وهي في كل الاحوال مصلحة للذات .
لكن مع ذلك ، وبسبب تخلف الثقافة وانفصالها عن الحياة ،
واحتلال الخيال مكان المنطق في عقل الانسان المسلم ، فقد اصبح السعي الى المصلحة
عيبا يسوء المرء ، كما اصبح التباطؤ عنها
او القعود عنها حتى تضيع ، مكرمة يستحق صاحبها الثناء وجميل الذكر ، وما نريد قوله
كخلاصة انه لا يمكن للانسان ان يكون فاعلا الا اذا وثق اتصاله مع الواقع الذي يعيش
، الواقع بما فيه من مادة وعناصر حياة وجمهور وقوى وسلطة. ولان العلاقة بهذا
الواقع مستحيلة ، اذا لم يظهر الانسان استعدادا للتشابك مرة والتلاحم أخرى والقتال
ثالثة ، فان على الانسان ان يهيء نفسه لردود الفعل ، السلبية والايجابية ، وعليه
ان يتحمل الاساءة بمثل ماهو مستعد لتقبل الثناء.