19/01/2022

كثرة المتحدثين وسيولة الأفكار

 

كل تحول اجتماعي تصاحبه سيولة في الافكار والمفاهيم ، تؤثر على عقائد الناس واعرافهم ، وبالتالي مواقفهم الفكرية والاجتماعية.

-        ماذا نعني بالتحولات الاجتماعية وسيولة الافكار؟.

تأمل وضع السعودية اليوم: هل تلاحظ التغير الحاصل في الشخصيات المرجعية ، في تركيب قوة العمل ، في العلاقات الاجتماعية ، مفهوم ومحتوى "وقت الفراغ" ، نوعية القيم الموجهة ، وفي لغة النقاش العام وموضوعاته؟. وهل تلاحظ التغير في منظومات الادارة الوسطى وبعض العليا ، في الادارة الرسمية والقطاع الخاص؟.  انشغالات الناس واهتماماتهم ومواقفهم ومواقعهم؟. اذا كنت تلاحظ هذا ، فانت ترى جانبا مما نتحدث عنه.

يتحول المجتمع حين تتغير طريقة الناس في التعبير عن انفسهم ومواقفهم. وتبعا لهذا تتغير  موضوعات النقاش بين الناس ، في لغتها وفي اتجاهاتها ، من توكيد المألوف والمتعارف الى معارضته وابتداع قيم واعراف جديدة.

حصل هذا في اوائل القرن الجاري مع تعرف جمهور الشباب على الانترنت. وهو يعود اليوم على نطاق اوسع ، مع نضج الجيل الجديد ، لاسيما الذين أتموا تعليمهم الجامعي خلال السنوات العشر الأخيرة ، والذين يتمتعون بقدرة على الوصول الى المعلومات وجرأة على التعبير عنها ، تتجاوز كثيرا ما يملكه الجيل السابق ، فضلا عن الذي قبله.

أما سيولة الافكار ، فتعني كثرتها وتنوع مجالاتها ، وكثرة "المتحدثين في العلن". واريد استعمال هذا التعبير بدل تعبير "المتحدثين في الشأن العام" كما هو متعارف ، لأني أرى للحديث في العلن ميزات تشابه الحديث في الشأن العام ، لكنه اوسع منه وأعمق تأثيرا. الحديث في العلن يعني خروج الفرد من حالة التلقي والانفعال ، الى حالة الالقاء والفعل او التفاعل. وهذا يعادل ما نسميه تبلور "الفردانية" ، أي شعور الفرد بكينونته المستقلة ، وكونه صاحب إرادة مستقلة عن إرادة الجماعة التي ينتمي اليها او يعيش في وسطها. الحديث في العلن قد يشمل أشياء قليلة القيمة او حتى تافهة ، لكنه مع ذلك يعبر عن نزوع استقلالي.

   تكاثر المتحدثين في العلن يؤدي لظهور الافكار المخالفة للسائد ، في كل مجال ، من السائد الديني الى السياسي الى الأدبي والفني والمهني والتجاري.. الخ. وهذا يستثير رد فعل الطبقات المحافظة والمستفيدة من  الاعراف الموروثة ، فتشتبك مع المتحدثين الجدد ، فينقسم المجتمع بين هذا القطب وذاك ، ويزداد تبعا لذلك عدد المتحدثين على الطرفين وعدد الافكار المطروحة ، كما ان الجدل فيها يزيدها عمقا ومتانة ، حيث ان التراكم الكمي يولد تراكما كيفيا ، كما يقال.

 لكن سيولة الافكار ، وظروف التحول ذاتها ، تسبب فوضى عارمة في المفاهيم ، اي اختلاف الصور الذهنية للشيء الواحد بين شخص وآخر. اظن ان كثيرا من الناس قد لاحظ النقاشات التي تشابه ما يسمونه حوار الطرشان ، حين يتجادل اشخاص كثيرون حول مفهوم معين ، ثم يتبين لاحقا ان هذا المفهوم مجرد اسم ، أما صورته الذهنية ومضمونه فمتعدد بعدد الذي يتجادلون حوله.

لست متشائما من سيولة الأفكار ولا فوضى المفاهيم ، فهي ظرف انتقالي يصعب تفاديه. وأظنه سيوصلنا الى نمط حياة ليبرالي وعقلاني. لكنني أردت لفت نظر القراء الأعزاء للتدقيق في المفاهيم والمسميات التي يسمعونها او يقرأونها ، للتحقق من مطابقتها لتصورهم الذهني عن ذات المفهوم او المسمى. لقد لاحظت هذا بشكل واسع حين كتبت حول العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية ، وعن المسافة بين المصلحة الشخصية والعامة ، لاحظت ان الناس يتحدثون عن العدالة وهم يبررون التمييز بين الناس ، او ينكرون الحرية بدعوى صون المصلحة العامة .. وهكذا.

الشرق الاوسط الأربعاء - 16 جمادى الآخرة 1443 هـ - 19 يناير 2022 مـ رقم العدد [15758]

https://aawsat.com/node/3422476/

 

مقالات ذات علاقة

 

 

استمعوا لصوت التغيير

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

حان الوقت كي يتوقف الحجب الاعتباطي لمصادر المعلومات

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

شغب الشباب في اليوم الوطني   

صناعة الشخصية الملتبسة

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

من جيل الى جيل

غلو .. ام بحث عن هوية

الفقر والإحباط والغضب

فلان المتشدد

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

نقد مقولة "التغرير"

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

 

12/01/2022

المعرفة الدينية صورة عن زمن الناس

 من طبائع الأمور ان يكون "علم الدين" اكبر حجما من النص الديني. لأن الشرح والتفسير اوسع دائما من النص المراد شرحه وتفسيره.

هذ الأمر جار في كافة العلوم والفنون. انظر مثلا الى "المعلقات السبع" التي اشتهرت في الجاهلية. انها سبع قصائد ، تحويها ثلاثون صفحة على الأكثر. لكن شروحاتها والابحاث التي كتبت حولها تتجاوز – حسب ما قرأت - ثلاثين كتابا. ولعلها تزيد عن ذلك. انظر ايضا الى كتاب جون رولز "نظرية في العدالة" الذي ضم نظريته المشهورة في بضع صفحات ، لكن مبرراتها وأدلتها جاوزت الخمسمائة صفحة. اما ما كتبه باحثون آخرون حولها او تحت تأثيرها ، فقد تجاوز 100 كتاب ، فضلا عن مئات المقالات.

من هنا فليس غريبا ان تجد 300 تفسير للقرآن في اكثر من الف مجلد. اما كتب الفقه فعددها بالآلاف. وقد اطلعت على تطبيق الكتروني ، جمع ما يزيد عن الف مجلد لفقهاء من مذهب واحد ، فكيف بكتب الفقه كلها.

يوما ما ، في القرن السادس الميلادي ، كان علم الدين محصورا في الكتاب والسنة ، اي ما يعادل خمسة مجلدات (بمعايير اليوم). اما الآن ، فالمنشور في هذا الحقل يجاوز آلاف المجلدات.

ذكرت هذه المعلومات كتمهيد للقول بأن غالب النقاشات في الحقل الديني ، تتناول آيات الأحكام وأحاديث الأحكام ، اي الآيات والروايات التي تدل مباشرة على حكم شرعي. والمشهور ان الآيات المقصودة تبلغ 500 آية ، أي نحو 8 بالمائة من مجموع آيات القرآن. اما أحاديث الأحكام فقد نقل ابو يعلى الفراء عن الامام احمد بن حنبل انها 1200  أي نحو 15 بالمائة من مجموع ما يصنف ضمن الاحاديث الصحيحة.

معنى هذا الكلام ان تسعة أعشار ما يقال او يكتب في أمور الدين ينتمي الى دائرة "علم" الدين وليس الى الدين نفسه. انها بعبارة أدق حواش وشروحات وتفسيرات واجتهادات حول النص الديني ، وهي جهد بشري يتأثر بالمستوى العلمي لكاتبه او قائله ، وظرفه الزماني والمكاني ، وبمقدار ما يتوفر له من مراجع ، فضلا عن همومه وانشغالاته الذهنية. انها علم البشر وليست علم الله ولا هي عين الدين.

اما التوسع المستمر في علم الدين ، فمرجعه هو التحول المستمر في مجتمع الانسان ، في ثقافته واقتصاده ومنظوماته القيمية وسلوكياته. كل تحول يطرح أسئلة جديدة ، تستدعي اجتهادا جديدا ، فتضاف شروحات وتفسيرات ونقاشات جديدة.. وهكذا. ولعل ما كتب ونشر في حقل العلوم الدينية ، خلال الخمسين عاما الأخيرة ، يعادل جميع ما كتب منذ القرن السادس الميلادي حتى بداية القرن العشرين.

هذا المجموع الضخم ليس جزء من الدين ولا هو امتداد لمقدسات الدين ، بل هو علم انتجه البشر في سياق سعيهم لادراك الحقيقة او الاقتراب منها. والعجيب في الأمر ان بعض العامة يظن ان كتاب التفسير وكتاب الفقه وكتاب الحديث وكتاب العقيدة ، يظنها مقدسات ، ويغضب اذا انتقدها الناقدون او خطأوها. اما العلماء انفسهم ، سيما المتبحرين منهم ، فيرون النقد حياة للعلم وسببا في ازدهاره. وكم من النظريات الهامة في الحقل الديني اغفلت وكادت ان تموت ، لولا اقلام الناقدين التي كشفت عن تميزها ودقة مقولاتها.

ان تقديس العلماء وكتبهم يوشك ان يجمد علم الدين ، بل ربما يميته. بينما النقد يجدد حياته ويكشف عن زوايا فيه لم يطرقها السابقون. وعلى كل حال ، فان علم اليوم مثل علم الامس ، ليس دينا ولا هو امتداد للدين ، بل هو انعكاس لتجربة البشر الدينية ، وهي مجرد تعبير عن حياتهم وعصرهم ، لا اكثر ولا أقل.

الشرق الاوسط الأربعاء - 9 جمادى الآخرة 1443 هـ - 12 يناير 2022 مـ رقم العدد [15751]

https://aawsat.com/node/3408696/

مقالات ذات صلة:

تأملات في حدود الديني والعرفي/العلماني

التجديد القديم واخوه العصراني

التدين الجديد

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حلم العودة الى منبع النهر

حول اشكالية الثابت والمتغير

حول القراءة الايديولوجية للدين

داخل الدين.. خارج الدين

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

 في معنى الوصف الديني

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

مسار التمايز بين الدين والمعرفة الدينية

المعنى الدنيوي لتجديد الدين

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

 

 

 

 

 

05/01/2022

مسار التمايز بين الدين والمعرفة الدينية


ثمة بين الناس من يظن بأن أحكام الشرع ثابتة ، لا تختلف بين زمن وآخر. وان ما يقوله فقهاء اليوم هو عين ما جرى على لسان الرسول والصحابة. اما عموم المسلمين فيعرفون بان الأحكام الشرعية والقوانين والقيم والأعراف والتقاليد والآراء ، تتغير بمرور الزمن واختلاف الظروف المعيشية وحاجات الناس.

هناك تفسيرات عديدة تدعم هذه الفكرة ، أبسطها في ظني هو التمييز بين الدين والمعرفة الدينية ، بين النص المقدس وما يفهمه الناس من ذلك النص.

نعلم ان فهم الخطاب الشرعي عملية تفاعلية ، تتأثر بالمجال الحيوي والظرف الاجتماعي الذي يعيشه المكلف ، فضلا عن ذهنية المكلف نفسه. هذه المؤثرات تتغير بين زمن وآخر ، كما تختلف بحسب عوامل البيئة الطبيعية والاجتماعية ، ولاسيما علاقة الانسان بالطبيعة ومدى فهمه لها وتحكمه فيها.

ومنذ البدايات المبكرة لتفكير الانسان في الدين ، كان ثمة تجاذب بين طرفين: طرف يدعو لقبول المعنى المتولد من ظاهر النص المقدس ، سيما النص الصريح المحدد ، وطرف يدعو لتجاوز الظاهر والعبور من اللفظ الى الرسالة المخزونة فيه.

والذي لاحظته خلال سنوات طويلة من البحث والمتابعة ، ان غالبية المهتمين بعلوم الشريعة (بل وحتى عامة الناس) مقتنعون بالرأي الثاني ، أي عبور اللفظ الى ما وراءه. لكنهم عند التطبيق وفي الاستشهاد والمحاججة ، يذهبون الى الرأي الأول. فتراهم يبحثون عن نص صريح ، آية قرآنية أو حديث نبوي ، يقول على وجه الدقة ما يريدون الاحتجاج له او الاستشهاد عليه.

والحق ان هذه معضلة ، أبرز ما يترتب عليها هو إبقاء البحث في النص المقدس سطحيا ، ومحصورا في المجال اللغوي ضمن المنهج القديم.   

قدم العديد من المفكرين المعاصرين محاججات قوية ، على ان الوعاء اللفظي للنص لاينبغي ان يحدد معناه النهائي. وذلك لأن اللغة منتج بشري ، يتأثر – مثل سائر منتجات البشر – بالظرف الموضوعي لصانعه ومستعمله ، أي ما أسماه الفلاسفة التأويليون "الأفق التاريخي" للمتلقي.

من المفهوم ان القرآن قد اوجد حقولا دلالية جديدة للكلمات ، صرفتها الى معان جديدة ، تخدم الرؤية الكونية التي يريد الدين إقرارها كمضمون للعلاقة بين بني آدم والكون الذي يعيشون فيه (تقارب هذه العملية ما يسميه طلبة الشريعة تحويل الحقيقة اللغوية الى حقيقة شرعية). لكن هذا لا يغير شيئا من حقيقة ان لغة الخطاب محدودة بالفضاء الثقافي/الاجتماعي للناطقين بها. وهذا يؤدي – بالضرورة – الى تقييد وتحديد الخطاب والفضاء الذي يتوجه اليه ، كي يمسي مفهوما للمخاطبين به ، والذين يتوقع ان يحملوه الى غيرهم ، اي يعيدوا انتاجه في قالب كلام بشري متوسط المستوى.

الحاجة لتحديد وتقييد الخطاب ، هي التي جعلت نقاط التركيز وطريقة التعبير والأمثلة الشارحة ، مستمدة من البيئة الاجتماعية ، ومتصلة مباشرة بنمط العيش ومصادر الإنتاج والثقافة السائدة في غرب الجزيرة العربية ، في ذلك الزمن على وجه الخصوص.

العوامل المؤثرة على تفاعل المتلقي مع الخطاب الشرعي المذكورة أعلاه ، لا تبقى على حال واحدة. فهي تتحول مع مرور الزمن واتساع الثقافة ، وتوسع الدولة وتزايد الثروة والاختلاط مع أمم جديدة.

تؤثر هذه التحولات في فهم الاشياء والرؤى وفي عملية توليد الأفكار ، وبالتالي في فهم الخطاب الشرعي والموقف من أوامره ونواهيه.

هذا كما أسلفت أحد التفسيرات المطروحة لتحول المعرفة الدينية ، والذي يستوجب تمييزها عما نسميه بالدين او النص المقدس. واظن غالبية الناس يرون هذا التفسير معقولا وطبيعيا ، سواء تعلق الأمر بالدين او بأي جانب من جوانب الحياة.

الشرق الأوسط الأربعاء - 2 جمادى الآخرة 1443 هـ - 05 يناير 2022 مـ رقم العدد [15744]

https://aawsat.com/node/3395821/

مقالات ذات صلة:

 تأملات في حدود الديني والعرفي/العلماني

التدين الجديد

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حلم العودة الى منبع النهر

حول اشكالية الثابت والمتغير

حول القراءة الايديولوجية للدين

داخل الدين.. خارج الدين

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

 الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

 في معنى الوصف الديني

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

المعنى الدنيوي لتجديد الدين

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

 

29/12/2021

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

 

ذكرت في مقال سابق ان فقهاء الشريعة ، تختلف آراؤهم في الموضوع الواحد ، كما تختلف احكام القضاة في القضية الواحدة. وهكذا الأمر عند مفسري القرآن وعلماء الطبيعيات والهندسة ، بل كل علم يعرفه الانسان.

لولا الخلاف في المواقف لسادت الأحادية ، وتحول المجتمع البشري الى ما يشبه مجتمع النحل. ولولا تقبل العقلاء للاختلاف في الرأي والاجتهاد ، لانجبر الناس في طريق واحد ، ومات العلم. الخلاف والاختلاف هو الماء الذي تحيا به شجرة العلم.

حلقات الدرس في المسجد الهندي-النجف

هل ينطبق هذا المبدأ على علوم الدين أيضا؟.

نعم بطبيعة الحال. لكن لماذا هذا السؤال؟.

السبب الأول للسؤال هو الاختلاط المشهود بين ما هو علمي بحت وما هو مقدس ، الأمر الذي يجعل البحث العلمي المحايد في غاية العسر. ولهذا يواجه دعاة الاصلاح والتفكير الديني الجديد عنتا شديدا ، حين يحاولون استعمال المناهج الجديدة في البحث العلمي ، وهي مناهج تتعامل مع قضايا العلم وأدلتها من زاوية تقنية او وظيفية بحتة ، ولا تعبأ بالجانب المقدس في موضوع البحث. من عوامل التأخر في علوم الشريعة ، الخوف من خرق المقدسات. وهو قد يكون خوفا صحيحا ، او ربما مجرد وهم.

أما السبب الثاني  فهو اعتقاد كثير من عامة الناس ، بأن ما يسمعونه من الخطيب او الفقيه ، وما يقرأونه في كتب الفقه ، هو نفس ما قاله النبي او صحابته الذين سمعوا منه. وإذا كان ثمة اختلاف ، فهو قصر على الشرح والتوضيح ، ولا يخالف الأصل في كثير ولا قليل. وهذا غير صحيح طبعا.

ما يقوله الخطيب او الفقيه هو اجتهاده الخاص ، او اجتهاد من يرجع اليه. بديهي انه ليس كل حافظ للقرآن والحديث ، قادر على الاستدلال واستخراج الحكم الشرعي. ولو كان الاستدلال بهذا اليسر لما احتجنا الى متخصصين في علوم الشريعة ، ولاكتفينا بكتب النصوص المعتمدة والتي تتوفر لكل من يطلبها ، مع شروحها وتفاسيرها.

لكنا نعلم ان الاستدلال عملية مغايرة لقراءة النص وشروحه. الفرق هنا يماثل الفرق بين عالم الميكانيكا ، وبين شخص قرأ دليل الاستعمال او ربما اخذ دورة في صيانة المحركات. فالأول محيط بالقواعد العلمية التي تحكم عمل المحرك والتقنيات المستخدمة فيه ، وبالتالي فهو مؤهل لتعديل المحرك ان اقتضى الأمر. أما الثاني فحده الأقصى هو تنظيف المحرك او ربما إصلاح بعض اعطاله ، بمعنى المحافظة عليه كما هو.

حسنا.. لماذا لا يتكل طلبة العلم الشرعي على اجتهادات من سبقوهم ، بدل ان يعيدوا النظر فيها ويطرحوا آراء جديدة ، غير التي اعتاد عليها الناس؟.

الجواب بسيط: تخيل لو بقي الناس على الرأي القديم القائل بحرمة التصوير ، او حرمة المطبعة أو السفر الى البلاد الاجنبية او تعلم الجغرافيا والفلسفة واللغات الاجنبية وحرمة التعامل مع البنوك.. الخ .. كيف سيكون حال الناس وحال دينهم؟.

لولا الاجتهادات الجديدة ، لكان الناس في حرج شديد ، بل ربما تخلوا عن دينهم من اجل ضرورات الحياة. هذه امثلة بسيطة تظهر ان الاجتهاد ، اي نقد الآراء السائدة والبحث عن بدائل ، هو الطريق الوحيد لتمكين الناس من الجمع بين متطلبات دينهم وضرورات دنياهم.

أظن ان هذا يوضح بما يكفي الحقيقة التي يعرفها كل العقلاء ، وهي ضرورة المراجعة المستمرة للخطاب الشرعي ، من اجل تكييفه مع ضرورات الحياة الجديدة ، كي لا يقع الناس في الحرج. هذه الضرورة هي التي تملي علينا قبول الاختلاف والمخالفة ، حتى لو تعلقت بما نعتقد انه من الاساسيات والثوابت.

الشرق الأوسط الأربعاء - 25 جمادى الأولى 1443 هـ - 29 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15737]

https://aawsat.com/node/3383581

مقالات ذات صلة

 "أحدث من سقراط"

الاسلام في ساحة السياسة: متطلبات العرض والتطبيق

تأملات في حدود الديني والعرفي

التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

نقد التجربة الدينية

نموذج مجتمع النحل

الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله

22/12/2021

في علاقة الزمن بالفكرة

 

دفعني لهذه الكتابة مقال للمفكر المعروف الدكتور عبد الجبار الرفاعي ، خلاصته ان تفاسير القرآن لا بد ان تتمايز عن بعضها وتختلف ، لأن كلا منها يعكس فهم المفسر لعالمه. بعبارة أخرى فانك ترى بين ثنايا التفسير ، روح الزمان والمكان الذي عاش فيه المفسر.

عبد الجبار الرفاعي
وقد مر بنا زمن سادت فيه الدعوة لما أسموه تفسير القرآن بالقرآن. ومرادهم ان معنى الآية ، يدرك من خلال رصفها مع مجموع الآيات المماثلة في اللفظ او المعنى والموضوع. وقريبا من هذا الدعوة  لتفسير القرآن بالروايات ذات الصلة بآية بعينها او موضوع بعينه. ومثلها التفسير الموضوعي ، الذي يذهب أصحابه الى تصنيف الموضوعات الواردة في القرآن ، وجعلها موضوعا واحدا للدراسة والتحليل.

وقد مال عامة الفقهاء الى منهج التفسير بالروايات ، لأن مرادهم هو الحصول على حكم أو إشارة لحكم في النص ، كي لا يضطروا للأخذ بالدليل العقلي المحض. ونعلم ان غالبية الفقهاء المسلمين من كافة المذاهب ، يرجحون الحكم الوارد في النص على نظيره المستند لدليل عقلي ، حتى لو كان غريبا أو منافيا لعرف العقلاء. ومن ذلك مثلا قول بعضهم ، ايام محنة الايزديين في العراق (2014م) بأن سبي النساء واسترقاقهن والمتاجرة بهن ، لا ينافي شريعة الاسلام. وان من ينكر جوازه فهو ينكر معروفا من الدين.

واعلم ان هذا الرأي موجود في كتب التراث ، وفيه روايات وآيات. لكني اجزم انه قول لا يصح في هذا اليوم ، لأن جمهور المسلمين لا يقبل به ، كما ينكره انكارا مطلقا كل العقلاء ، أيا كانت ملتهم.

ضربت هذا المثال كي يأخذنا الى محور هذه الكتابة ، أي دور "الأفق التاريخي" في تحديد الصحيح والسقيم من الأحكام والقيم والمستهدفات الشرعية. "الافق التاريخي" هو مجموع العوامل التي تؤثر على ذهن الانسان لحظة تفكيره في شيء. وتشمل تطلعاته وتوقعاته ومصادر قلقه ، المستوى العام للمعرفة ، نوعية القيم والمعايير الاخلاقية السائدة ، والمشكلات التي يتعلق بها التفسير او الحكم الفقهي.

كل من هذه العناصر يؤثر على ذهن الانسان ، لحظة تلقيه للنص او الفكرة الدينية (بل اي فكرة اخرى) ويشارك في تحديد المعنى النهائي للنص ، اي ما نسميه فهم المتلقي. ومن هنا اشتهر التمييز بين النص وفهم النص او بين الدين والمعرفة الدينية. يختلف الناس في نوعية العوامل التي تؤثر على أذهانهم. وهو اختلاف يؤثر في فهمهم للنص والدليل ، بل يؤثر حتى على التجربة العملية ، التي نتخذها دليلا على صحة المدعى او بطلانه.

هذه الدعوى تثير اسئلة اخرى ، يحتاج مسلمو هذا الزمان لمجادلتها بشجاعة وتجرد. بعض تلك الاسئلة يتعلق بالمنهج ، مثل السؤال البديهي: هل يمكن لنا أن نحدد العوامل المذكورة اعلاه ونتحكم في تاثيرها؟. ومنها السؤال المتعلق بدور المسلم العادي في التشريع: هل له الحق في قبول او رفض حكم ما ، ام يجب عليه التسليم دون نقاش؟. ومنها ايضا قيمة الاجتهادات والتفسيرات التي انتجها فقهاء سابقون ، هل نتعامل معها كسوابق حكمية يبنى عليها ، ام كخيارات علمية ، نظير المراجع العلمية الاخرى. ومثلها الاجتهادات المتعارضة التي تظهر في وقت واحد: هل ننظر اليها كتعبيرات مختلفة عن حقيقة واحدة ام كاحتمالات ذات صفة شخصية؟.

سأعود في كتابة أخرى بعون الله لبعض تلك الاسئلة لاسيما فكرة الاحتمالات وعلاقتها بالزمن.  

الشرق الاوسط الأربعاء - 18 جمادى الأولى 1443 هـ - 22 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15730]

https://aawsat.com/node/3371966/

 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...