20/04/2010

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم



؛؛ في كل عصر يطور البشر مفهومات جديدة تتفاعل في الوقت نفسه مع تراثهم ومع ثقافتهم الراهنة، لكن الصيغة التي يطورونها لتلك المفاهيم هي الصورة التي تعبرعن زمنهم وواقعهم؛؛




تعرف المجتمع العربي على مباديء حقوق الانسان منذ زمن طويل نسبيا. لكنها مع ذلك لا تزال موضوع جدل عريض بين الباحثين في المجال الاسلامي و السياسة العربية. ويدور معظم الجدل حول موقف الدين من تلك المباديء وما اذا كان ممكنا الرجوع الى التراث الاسلامي لاعادة انتاج المفاهيم المعاصرة على ارضيته او في اطاره. لا شك ان تراثنا القديم يتضمن بعض الاساسات المناسبة لبناء منظومة قيم ومباديء تضمن حقوق الانسان. لكن من المبالغة اعتبار تلك الاساسات منظومة كاملة او قابلة لحل اشكاليات الموضوع في صورته المعاصرة.
لاحظ المفكر المغربي عبد الله العروي ان قدامى الاسلاميين قد ناقشوا مسألة الحرية التي تمثل المبدأ الاول في منظومة حقوق الانسان من زاويتين : اولاهما ضمن اطار الجدل المعروف حول الجبر والاختيار، أي استقلال الفرد بارادته، وبالتالي فعله، او كون ارادة الفرد وفعله امتدادا مباشرا لارادة الخالق. 
اما الزاوية الثانية فدار النقاش فيها حول الدوافع الداخلية للفعل الفردي، ومدى قدرة الانسان على التحكم في نزعاته الانفعالية، وهو ما يعرف في الفلسفة بالعلاقة بين النفس العليا والنفس الدنيا. واهتم بالزاوية الاولى المتكلمون بينما اهتم بالثاني المتصوفون والفلاسفة ولا سيما في اطار نظرية الكمال الذاتي التي تحدث عنها ابن عربي وغيره.
في كلا الزاويتين عولج موضوع الحرية كشأن فردي. موضوع النقاش ضمن الزاوية الاولى، اي حصة الفرد من المسؤولية عن فعله، مثل موضوع الزاوية الثانية، اي قدرته على بلوغ الكمال من خلال قهر شهواته والتزام القيم العليا في افعاله، كلاهما يشير الى حرية الفرد في ذاته وضمن عالمه الخاص المنفصل عن الجماعة. اما موضوع الحرية وحقوق الانسان الذي يتحدث عنه العالم اليوم فهو يدور حول التزاحم بين ارادة الفرد وارادة الجماعة. يقصد بالحرية في المفهوم المعاصر "المساحة التي يتمتع الفرد فيها بحق التصرف من دون تدخل الاخرين، بل ومن دون الحاجة الى استئذانهم". حقوق الانسان تعني ان المجتمع والقانون يقر لكل فرد بتلك المساحة باعتبارها حقا يضمنه القانون ويمنع سلبه او خرقه او استنقاصه او العدوان عليه. 

ايا كان راينا في المفهوم التراثي للحرية وحقوق الانسان، فلسنا بحاجة الى مناقشته الان. لان جميع المسلمين المعاصرين، التقليديين منهم والحداثيين، يرون في ضمان حرية الانسان وحقوقه الاساسية مسلمات شرعية وعقلية، فوق كونها ضرورة لانتظام الحياة الاجتماعية وارتقاء المجتمع.
لكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقول المثل الانجليزي. فوراء التسليم بالحرية وحقوق الانسان، ثمة مجادلات عريضة حول معنى تلك الحقوق وحدودها، ومرجعيتها، وما يترتب عليها من واجبات وما يلزم ارفاقها بها من ضوابط.. الخ. في هذه المجادلات تعود الحاجة الى قراءة التراث المتعلق بالموضوع. فالذين يجادلون الفكرة يبحثون عن مرجعية لها او هم يستندون الى مرجعية يتصورنها اطارا مناسبا لفهم الفكرة والتعبير عنها. من هنا فقد اقترح بعض المفكرين التمييز بين ما سبق درسه في التراث الاسلامي وما لم يطرح فيه. 
في الحالة الاولى اقترحوا تطوير الافكار او البناء عليها، واقترحوا للثانية الرجوع الى القواعد العامة في التشريع او تحكيم العقل رجوعا الى اصل البراءة او الاباحة او عدم التكليف.
في كلا الحالين فاننا بحاجة الى الاهتمام بالفوارق بين ذهنيتنا وذهنية من ننقل عنهم، اي بين عصرنا وعصرهم. ذلك ان كل مسالة هي نتاج الظرف الخاص الذي ولدت فيه، وكل جواب هو ثمرة الثقافة والهموم السائدة في بيئة السائل والمجيب، ونعرف ان هذه تختلف بين عصر واخر ومكان واخر، فكيف اذا كنا نتحدث عن فارق زمني يبلغ عدة قرون.
كثير من المفاهيم التي نتحدث عنها اليوم هي نتاج لتطور الثقافة الانسانية، وكثير منها لم يكن مطروحا لا بلفظه ولا بمضمونه، وبعضها له مضمون بلفظ اخر او ان فكرته مبثوثة في سياقات اخرى. لا يمكن لنا ان نستخرج من التراث نظرية تطابق ما نتحدث عنه اليوم. وليس هذا مطلوبا ولا سليما. في كل عصر يطور البشر مفهومات جديدة تتفاعل في الوقت نفسه مع تراثهم ومع ثقافتهم الراهنة، لكن الصيغة التي يطورونها لتلك المفاهيم هي الصورة التي تعبرعن زمنهم وواقعهم. استعمال المسميات التي تشي باصول تاريخية ليس امرا ضارا ، فهو يسهم في جعل المفهوم الجديد مالوفا وقابلا للفهم من جانب المتلقين. لكن على اي حال علينا ان نوضح الفارق بين النقل عن التاريخ وبين استخدام صوره او رموزه.


مقالات ذات علاقة


تحولات التيار الديني – 4 الخروج من عباءة الاموات

حين تسمع باسم "السلفية" فان اول الصور التي ترد الى ذهنك هي صورة الماضي . صحيح ان السلفيين ينسبون هذا الوصف الى التزامهم بمرجعية السلف ، اي اهل القرون الثلاثة الاولى بعد البعثة المحمدية ، الا ان الانطباع السائد يفهمه كاشارة الى انكار الجديد والمعاصر. على اي حال فان الاسم يبقى مجرد عنوان ، وقد يتغير مضمونه بين حين وآخر او بين مكان وآخر. ما هو مهم في هذا الصدد هو قابلية التيار الديني السلفي للتحرر من ثقافة الماضي وتقاليده ، والانتماء الى العصر الحاضر بما فيه من سبل عيش وهموم وانشغالات ومعارف ونظم انتاج وقيم وعلاقات.

الشيخ عبد الرحمن البراك

الانشغال بالماضي لن يضمن الصفاء العقيدي او الثقافي كما يتصور البعض . انه مجرد ارتباط افتراضي يشبه الهندسة العكسية. اي النظر الى الحاضر ثم تجريده من بعض ما يعتقد الانسان انه جديد ومبتدع . هذا يؤدي الى انفصال شعوري عن الواقع دون ارتباط واقعي بالماضي. ومثل هذه الحالة تثير الكثير من المشكلات الثقافية والنفسية وقد تؤدي الى احد اشكال الاغتراب ، ولا سيما انكار الذات بوصفها جزء من واقع قائم ، او انكار الواقع باعتباره وعاء للذات.

بعض شيوخ السلفية يرفضون بالجملة مقولة المعاصرة ، وهم يرونها قرينا للتراجع او الانهزام في مواجهة المد اللاديني. وفي اخر بياناته ندد الشيخ عبد الرحمن البراك بمن وصفهم بالعصرانيين ، اي رجال الدين والناشطين الدينيين الذين يدعون الى التجديد . وشهدت السنوات الماضية نشر العديد من الكتب والمقالات التي تندد بهذا الاتجاه ، حتى اصبح وصف "العصراني" مرادفامخففا للعلماني او الليبرالي .

لكن يبدو ان هذا هو اتجاه الاقلية. وثمة في مقابلها شريحة تتسع بالتدريج ، تسعى الى الانفتاح على العصر ومكتسباته ومواجهة اشكالاته بطريقة او باخرى. بعض السلفيين الجدد يفهم المعاصرة باعتبارها موضوع "علاقات عامة" او وسيلة لتصحيح صورة التيار السلفي ، ومفهومها ينصرف عنده الى "تحسين طرق العرض والتعامل" ، وليس الى تجديد الافكار والمتبنيات والمناهج. تحسين العلاقات العامة هو امر طيب ، لكنه لا يؤدي الى تطوير التيار الديني ، ولا يجعله اكثر قدرة على البقاء والتجدد.

اذا اراد التيار الديني تجديد نفسه فانه يحتاج اولا الى مراجعة تصوراته عن ذاته وعن العالم المحيط ، كي يبنى علاقة سليمة معه. لا زال نشطاء هذا التيار ينظرون الى انفسهم كحراس للحقيقة الدينية ضد الاخرين الجاهلين بها او المتامرين عليها . يتجسد هذا التصور عادة في التركيز المبالغ فيه على الجانب العقيدي من الدين ، والتذكير الدائم بالحدود الفاصلة بين النسخة السلفية من العقيدة وعقيدة المسلمين الاخرين. من المفهوم ان هذا التركيز غرضه حمائي في الاساس ، لكنه قاد السلفيين – بوعي منهم او غفلة - الى منزلق التكفير الذي اصبح مثل ماركة مسجلة للادبيات السلفية ، فكل فتوى او مقال او كتاب او اعلان موقف ، يتضمن وصما لجهة ما بالكفر او تحذيرا من الكفر او كلاما عن الكفر.

 لا يمكن اختصار الاسلام في العقيدة ، ولا يمكن اختصار المسلمين في الجماعة السلفية ، كما لا يمكن لاحد كائنا من كان ادعاء وحدانية الحقيقة ولا تقزيمها وحصرها في طريق احادي الاتجاه. ونعرف من تاريخ البشرية المعاصر ان الكنيسة الكاثوليكية قد خسرت مكانتها ونفوذها وخسرت ملايين المؤمنين بدينها بسبب انتهاجها لهذا الطريق . البديل السليم هو تبني مبدأ "التسامح" . التسامح ليس السلوك اللين او التواضع او اللطف في الكلام ، بل هو بالتحديد : "اعتبار حقي في تبني مذهبي الخاص مساويا لحق غيري في تبني مذهبه الخاص" ، اي الاقرار للناس بالحق في الايمان بما تمليه عليهم عقولهم وضمائرهم. قد نرى ما عندنا خيرا مما عند غيرنا ، لكن لا يصح ان نصم المختلف عنا بالردة والخروج عن الملة، لانه تمهيد للقطيعة وربما الحرب ، كما حصل في  العراق وغير العراق.

اذا فهم السلفيون انفسهم كفريق من المسلمين ، لهم – مثل غيرهم – حق اختيار عقائدهم ومناهج حياتهم ، فانهم  سيرون عصرهم ومن يعيش فيه بعيون مختلفة ، وسوف يكتشفون عند الاخرين الكثير مما يستحق التامل والتفكير ، وعندئذ سوف يتحولون من حراس لتراث الماضين الى شركاء في بناء المجتمع المسلم في هذا العصر المختلف.  



نشر في الايام  العدد 7680 | الثلاثاء 20 أبريل 2010 الموافق 5 جمادى الأولى 1431هـ

15/04/2010

وجهات "الخطر" وقهر العامة


الصديق د. عبد الرحمن الوابلي (الوطن 9 ابريل 2010) عاتب على الشيخ سلمان العودة فكرة "التكافؤ الثقافي" التي اطلقها في برنامجه التلفزيوني الاسبوعي "الحياة كلمة" (تلفزيون MBC    في 2 ابريل 2010). كان العودة يجيب سائلة حول صحة زواج فتاة سنية برجل شيعي. والمعروف ان بعض قدامى الفقهاء قد رفضوا التزاوج بين اتباع الاديان والمذاهب المختلفة. وبعضهم ركز على منع زواج الفتيات اللاتي يتبعن مذهبه من رجل يتبع مذهبا آخر ، لان الفهم السائد يعتبر المرأة طرفا ضعيفا في العائلة وانها – لذلك – سوف تترك مذهبها الى مذهب الزوج.

المرحوم د. عبد الرحمن الوابلي. انتقل الى رحمة الله في مارس 2016

هذي بطبيعة الحال ليست نصا قطعيا بل اجتهاد توصل اليه فقهاء سابقون بناء على ما تيسر لهم من معرفة او دليل. لكن الفتوى بقيت متداولة عبر الزمن حتى وصلت الينا . ولان اكثر فقهائنا يخشون من مخالفة الماضين ، فقد اخذ بها كثير منهم ، وعارضها بعضهم باجتهاد جديد. الدكتور الوابلي يعارضها من زاوية المصلحة ، فهو لا يجادل في ادلتها ، بل في ما يترتب عليها . ولعل بعض الناس يجادل بان المصلحة ليست حجة في الشرع ، او ان المصالح هي ما عرفه الشرع او اهل الشريعة دون غيرهم ، وبناء عليه يرفض كلام الوابلي ونظرائه.

لكننا نعرف ان المصلحة هي جزء عضوي من مفهوم الحكم الشرعي لا سيما في المعاملات ، ومن بينها عقد الزواج وسائر العقود. وقد اشتهر بين الاصوليين ان الاحكام تدور مع المصالح ، فاذا ثبت ان حكما يؤدي الى تعطيل مصلحة ثابتة للمسلمين ، فان هذا الحكم يصبح محل شك وليس المصلحة التي تعارض معها. من ناحية اخرى فان تحديد المصالح والمفاسد ليس من الامور التي ترجع الى الفقهاء بل الى عرف عقلاء المسلمين ، فاذا رأى عقلاء المسلمين ان رأيا فقهيا مثل الراي المشهور في "تكافؤ النسب" يؤدي الى ضرر واضح على مجتمعهم ، جاز لهم تعطيله ، لاننا – حسب تعبير الامام ابي  حامد الغزالي – "لا نهدم مصرا كي نبني قصرا".

الوابلي اعتبر راي الشيخ العودة من نوع "وجهات الخطر" وليس وجهات النظر. اقول ان الحق هو ما قاله الوابلي. لكننا نستطيع فهم السبب الذي حمل العودة على الاخذ بهذا الراي ، وهو على الارجح الخشية من صدم المتدينين التقليديين لو افتى باجازة ذلك الزواج ، تقابلها خشية مماثلة من خسارة جمهوره المتنور فيما لو استند الى الفتوى القديمة التي تجيز منعه. وجود العنصر الشيعي في المسألة يمثل تحديا خاصا للمفتي ، لان جمهوره الرئيس ، اي التيار السلفي ، لا يتسامح ابدا ازاء علاقة من ذلك النوع الذي سألت عنه الفتاة.

كان على الشيخ العودة ان يصرح بالحكم الشرعي المعروف ، اي تكافؤ النسب ، ويبدي رايه فيه ، اما بقبوله او رفضه ، او يبين الاراء المختلفة فيه. اما مقولته عن "التكافؤ الثقافي" فهي مشكلة جديدة لا يصعب التنبؤ بنتائجها ، وهي قد تؤدي الى نفي احكام شرعية راسخة ومشكلات لا تحصى. دعنا نفترض ان زوجين يتبعان مذهبا واحدا وينتميان الى قبيلة واحدة ، لكنهما يتفاوتان في التحصيل العلمي ، او ينتميان الى لغتين مختلفتين ، او بلدين مختلفين ، بعبارة اخرى فانهما لا يتكافآن ثقافيا .. فهل يمكن للقاضي ان يطلقهما جبرا بناء على هذا الراي كما يفعل في قضايا تكافؤ النسب المعروفة؟.

نعرف ان الكلام عن "التكافؤ الثقافي" لا يستند الى اي دليل، وهو – مثل الراي في تكافؤ النسب - يتعارض مع المصالح الثابتة للمسلمين، لكننا على الاقل نعرف ايضا ان موضوع تكافؤ النسب محدود في المجتمعات القبلية اما التكافؤ الثقافي فهو واسع وتطبيقه – لو حصل – سيكون مصيبة على المسلمين.

ابريل 2010

مقالات  ذات علاقة
-------------------


08/04/2010

تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم


؛؛  نظريا ، يعزز الايمان اطمئنان النفس والسلام مع العالم، لكنا لانرى هذا واضحا في التيار الديني. الدعاة والناشطون يتحدثون بلغة خشنة ، ربما تنم عن افتقارهم للسلم النفسي ؛؛

 قي الثالث من ابريل 2010 طالب مفتي السعودية اعضاء هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بملاينة الجمهور والتلطف معهم. واوصى المفتي مئة من اعضاء  الهيئة في الرياض بمحبة المخطئين ونصحهم حتى يستقيموا. وتكررت هذه الدعوة كثيرا في السنوات الماضية على لسان زعماء المؤسسة الدينية القلقين من تفاقم سلبية الجمهور تجاه الهيئات الدينية.

عبده خال

وتشهد المملكة انكارا متزايدا للتشدد الذي يلبس عباءة الدين. وكتب الروائي المعروف عبده خال عن حادث تعرض له قبل ثمان سنين، يشكل فيما يبدو خلفية لموقفه المعارض للهيئة:

"ضربت ضربا مبرحا... أمسك بخاصرتي وعنقي وأخرجني بكل قوة، ممزقا ثيابي وجسدي، وأحدث تهتكات في رقبتي وخاصرتي. كان منظري يدعو للرثاء حيث تجمع الناس حولنا من كل جهة. وانطلقت مع زوجتي إلى شرطة النزلة، لتقديم بلاغ، إلا أن الرائد قال لي: أنت مجنون هل هناك أحد يشتكي هيئة الأمر بالمعروف ... حاولت جادا كتابة هذه الحادثة في حينها إلا أنني لم أفلح لأن الهيئة كانت في حصانة مبالغ فيها، حصانة من الشكوى أو نشر أخطاء أفرادها".

تقدم هذه القصة الواقعية صورة نموذجية عن تعامل الهيئة مع الجمهور. لكن التشدد والخشونة ليس حكرا على الهيئة. بل اصبح سمة غالبة في التيار الديني يشعر بها انصاره ومعارضوه. وهو ظاهر في الخطاب اللفظي والمكتوب ، كما في المواقف الاجتماعية والسياسية. ربما يمتاز الاتجاه السلفي عن غيره بتساهله في التكفير وطغيان مفردة "كفر" ومشتقاتها في ادبياته ، لكن بقية الاتجاهات الدينية لا تخلو من اشكال تشدد من هذا النوع او غيره.

هناك بطبيعة الحال تفسيرات عديدة لظاهرة التشدد المستشرية هذه. لكني احتمل ان سببها الرئيس هو افتقار التيار الديني الى حالة السلام النفسي الذي يفترض ان يكون الثمرة المباشرة للتدين والاتصال بالله سبحانه. حين يكون الانسان في سلام مع ذاته ، فانه على الاغلب سيميل الى مسالمة الاخرين، وحين يكون متوترا في داخله فان كلماته وتصرفاته ونظرته الى الاخرين ستحمل طابع التوتر. 

 نعرف هذا من التأمل في ما يكتبه الدعاة والناشطون في مواقع الانترنت والصحف التي تمثل التيار الديني، وما يقولونه في خطبهم ودروسهم واحاديثهم المسجلة. في منتدى "الساحة العربية" الاماراتي او نظيره السعودي "الساحات الحرة" وامثالهما ، سوف تجد المشاركين، وبعضهم رجال دين ودعاة معروفون بالاسم، يكتبون بلغة خشنة ويستعملون الفاظا نابية، ويبالغون في التهجم على منافسيهم. ليس فقط ضد معارضي التيار الديني ، بل وايضا ضد المشايخ والشخصيات البارزة في التيار الديني نفسه اذا اختلفوا معهم في راي او موقف.

ونظرا لصعوبة الدفاع عن هذا السلوك الفظ ، فقد ساد الميل في الاونة الاخيرة الى التبرؤ من امثال هذه المواقع ، ورفض نسبتها الى التيار الديني، واعتبارها مجمعا للجهال والسوقة. لكن مواقع الانترنت الخاصة بالمشايخ المعروفين والجماعات النشطة لا تخلو من هذه التعبيرات.

 التهجم على الغير بالفاظ خشنة هو احد الوجوه . اما الوجه الاخر فهو التبشير بالمؤامرة الدولية على الاسلام والمسلمين. وهي مؤامرة متنقلة يتغير اطرافها بحسب  موقف المتكلم. يوما كان صدام حسين هو راس حربة المؤامرة الافتراضية، فاذا به بعد اعدامه بطل المقاومة ضد المؤامرة. وكانت الشيوعية هي اداة المؤامرة في الماضي، فاذا بالمؤامرة الدولية تستاجر اليوم القنوات التلفزيونية والصحافة. وكان اليهود هم المستفيد الاول من المؤامرة اما اليوم فانهم يقتسمون الغنيمة مع الشيعة والصوفيين. وكان الحداثيون هم الطابور الخامس حتى اواخر القرن الماضي، اما اليوم فقد جند ايضا المشايخ الذين اقلعوا عن التشدد وانتهجوا طريق الاعتدال والمسالمة مع المختلفين.

الكلام عن المؤامرة والتامر يستهدف تعبئة الانصار واثارة الحماس فيهم. لكنه ايضا ينقل الى انفسهم حالة التوتر التي يعيشها الداعي او المتكلم. ويستشهد هؤلاء عادة باشخاص وحوادث ونقولات مقتطعة – واحيانا كاذبة - من هنا وهناك بغرض تحديد العدو المقصود وتضخيم الصورة الذهنية للمعركة الافتراضية. وفي نهاية المطاف فان المتلقي يتخيل نفسه في قلب المعركة التي تستلزم حماسة كاملة وانتباها مفرطا وارتيابا في كل حركة او اشارة تبدر من الطرف الاخر. في وسط المعركة، لا وقت للكلمة الطيبة ولا للجدال بالحسنى. انت هناك قاتل منتصر او قتيل مهزوم. ولهذا فالذاكرة النشطة ستكون حكرا على ادبيات الغلبة والقتل والاكتساح. حين يفتقد الانسان السلام الداخلي يتصور العالم حربا مشتعلة ، وحين يكون وسط المعركة فان دافعه الاول والاقوى سيكون غريزة البقاء ، وهو يساوي غالبا فناء الغريم.

نشر في الايام Thursday 8th April 2010 - NO 7668

http://www.alayam.com/Issue/7668/PDF/Page21.pdf
مقالات  ذات علاقة

الاسلام الجديد

أن تزداد إيماناً وتزداد تخلفاً

اقامة الشريعة بالاختيار

تأملات في حدود الديني والعرفي

تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة

تحولات التيار الديني -1 : تصدعات وقلق المؤامرة

 

التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب الجماهيري

التيار الديني الاصلاحي امام خيار حاسم

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حول الفصل بين الدين والعلم

الحداثة تجديد الحياة

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

الـدين والمعـرفة الدينـية

الشيخ القرني في باريس

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

في تعريف الإسلامية

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

الفكــرة وزمن الفكـرة

فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة

القيم الثابتة وتصنيع القيم

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة.

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

نقد التجربة الدينية

 نقد المشروع طريق الى المعاصرة

الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟

وجهات "الخطر" وقهر العامة

29/03/2010

من أبواب الفساد



؛؛ كلما عسر القانون وضاقت السبل النظامية لتحصيل الحقوق ، لجأ المواطن الى الطرق الخلفية وانفتح الباب للمحسوبية والفساد والرشوة ؛؛

في سنواته الأولى كان صندوق التنمية العقارية ينجز طلبات قروض السكن في ظرف أسابيع. أما في هذه الأيام فإنك لا تأمل في الحصول على قرض بعد عشر سنوات. وإذا ذهبت إلى البلدية أو الصحة أو الداخلية أو القضاء أو غيرها فسوف تجد شيئا مماثلا، لا يصل دائما إلى عشر سنوات لكنك لن تدري أبدا متى تنتهي. ويقول لك الموظفون ببساطة: راجع بعد أسبوع، أو راجع بعد شهر، أو راجع بعد..وإذا كنت مضطرا إلى إنجاز المعاملة فقد تجد من يخبرك بأنه رجل الساعة، لكن ساعته تحتاج إلى وقود كي تتحرك، وهو سيعطي هذا وذاك ممن تمر عليهم المعاملة، لأن ساعاتهم هي الأخرى تحتاج إلى وقود.
وسمعت رجلا يشكو في مجلس حظه العاثر بعدما فقد وظيفته جراء إصابة. وهو يعرف أنه يستحق تعويضا يقابل العلاج وفقدان الوظيفة، لكن الشركة ماطلته سبع سنين. واشتكى إلى مديرها، ثم اشتكى عليها في كل مكان يظن أنه قد يسمع الشكوى، فلم يجد جوابا. فرد عليه أحد الجالسين بأنه أخطأ الطريق، ولو كان حكيما لحصل على حقه في أسابيع. فالتفتنا جميعا لنفهم الحكمة الجديدة، فإذا بالرجل يتحدث عن واسطة في الجهة الفلانية، وذكر قصصا يقول إنها حدثت، وإن أصحابها حصلوا على كافة التعويضات التي طلبوها، بل إن واحدا منهم حصل على تعويض يعادل ستين راتبا إضافة إلى جميع نفقات علاجه. حديثنا عن الفساد الإداري لا يشير فقط إلى الرشوة أو استغلال الوظيفة، بل يشمل خصوصا التقصير الذي يفتح أبواب الفساد. ونفهم أن معظم الموظفين لا يقصرون في واجباتهم عمدا أو تعنتا. الأكثرية الساحقة من الناس، موظفين كانوا أو مراجعين، يريدون العيش في سلام مع أنفسهم ومع الآخرين، وهم يعلمون جميعا أن الفساد والتقصير والتعنت لا يأتي بسلام النفس ولا بالسلام مع الغير.
ربما تجد أقلية ممن فسدت طبائعهم لكن الأكثرية ليست كذلك. المشكلة ليست دائما في أشخاص الموظفين. بل تكمن ربما في آليات العمل والعلاقة بين الإدارة والمراجعين. بعض الوزارات استحدث نظاما للمتابعة الآلية. وزارة الداخلية والتعليم العالي مثلا تضع أرقام المعاملات المقدمة إليها على الإنترنت. يراجع الناس موقع الوزارة على الإنترنت فيعرفون أن معاملتهم قد سجلت، لكنهم لا يعلمون متى ستنتهي ولا يعلمون في أي مرحلة هي، وما إذا كانوا يحتاجون إلى المراجعة الشخصية أم لا. هذا تطوير مشكور، فهو يعطي المراجعين شيئا من الاطمئنان بأن معاملاتهم مسجلة فعلا وليست مهملة في درج من الأدراج. لكنه لازال خطوة صغيرة بالقياس إلى ما هو مطلوب. 
رغم أن معظم الوزارات تملك بنية تحتية ضخمة للمعاملات الإلكترونية، إلا أنها لا زالت متمسكة بنظام العمل التقليدي. فهنا وهناك لا بد من المراجعات الشخصية المتكررة، ولا بد من المعاملات الورقية، و«كتابنا وكتابكم»، و«كلم فلان» و«ماذا قال علان» و«راجعنا بعد أسبوع» وراجعنا بعد... إلخ. 
الحل المبدئي الذي أقترحه هو أن يتبنى مجلس الوزراء قرارا يتضمن أربعة مبادئ:
الأول: إلزام الدوائر الحكومية بتعيين الزمن الأقصى للبت في كل نوع من المعاملات بالسلب أو الإيجاب.
الثاني: وضع آلية للتظلم والاستئناف إذا لم يرض المراجع بالنتيجة تتضمن موعدا للفصل النهائي في الشكوى.
الثالث: التحديد المسبق لمسار المعاملة والوثائق المطلوبة لإنجازها والدوائر التي ستمر فيها بحيث لا يطلب غيرها إلا في الحالات الاستثنائية
الرابع: طريقة رد الإدارة على المواطن ويشمل العدد الأقصى للمراجعات الشخصية أو اعتماد الرد الكتابي بالبريد العادي أو الإلكتروني القابل للتوثيق والتأكيد.النسبة الكبرى من معاملات المواطنين صغيرة ولا تحتاج إلى تدخل رؤساء الدوائر، لكنها فعليا مختلطة مع معاملات كبرى معقدة. ولهذا فإن تحديد المسارات وتعيين المدد القصوى سوف يولد ضغطا في داخل كل إدارة لإنجاز تلك المعاملات التي تعد بمئات الآلاف وسوف يترك جانبا شريحة صغيرة من المعاملات التي تحتاج واقعيا إلى وقت طويل وتدخل من جانب مراتب عليا. 
مثل هذا العلاج المبدئي سوف يريح معظم المواطنين ويعزز رضاهم عن أداء الإدارة الرسمية كما سيغلق أبواب الفساد والواسطة التي تولد لنا اليوم أنواعا من الحكمة الغريبة.

عكاظ 29-3-2010

مقالات ذات علاقة

18/03/2010

تحولات التيار الديني-3 اعباء السياسة

ما يشاهد من جرأة على معارضة المؤسسات الدينية ونقد رجال الدين ، ليس ناتجا عن تراجع الايمان في نفوس الناس ، وليس سببه قيام جماعات او منظمات ، هدفها النيل من مكانة الدين ورجاله في المجتمع المسلم. خلال الثلاثين عاما الاخيرة تحولت شريحة كبيرة من العاملين في الحقل الديني ، الى العمل السياسي الصريح او الضمني ، بعدما كان همها الوحيد اخلاقيا يتمحور في الدعوة الى مكارم الاخلاق ، واحسان العمل وتعليم الناس عقائدهم وعباداتهم. تبعا لذلك نشأت حالة استقطاب متعدد في  المجتمع ، بين المحاور التي تمثلها الجماعات الدينية – السياسية المختلفة ، وكذلك بين الاتجاه الجديد المائل للسياسة ، وذلك الذي يصر على الاستمرار في الطريق التقليدي.

حين تتبنى خطابا سياسيا وحين تدعو لاهداف سياسية ، فانت بالضرورة تسعى لخلق نظام علاقة بينك وبين الناس ينطوي على نوع من السلطة. وهذا يستدعي اوتوماتيكيا بروز معارضة من جانب الاطراف التي تشعر بالمزاحمة او التهديد او حتى التدخل البسيط. هذه الاطراف تشمل الحكومات في المقام الاول ، لكنها تضم ايضا المجموعات الاخرى التي تتبنى خطابا مماثلا او تتمتع بنفوذ في المجتمع ، او تشعر بان ظهور دوائر  مصالح جديدة ينطوي على تهديد لدوائرها الخاصة.

نحن نتحدث اذن عن تطور طبيعي يمكن ان يحدث في اي مجتمع: السعي لفرض دائرة مصالح جديدة ، يؤدي الى رد فعل من جانب الدوائر الاخرى ، كما يؤدي  الى انشقاقات باعثها هو الاختلاف في تحديد تفاصيل المصلحة المنشودة وكيفية انجازها. وهذا وذاك يؤدي الى ظهور صراعات بين اطراف التيار نفسه.

شهدنا مثل هذا التطور في التيار السلفي السعودي ، خلال العقد الاخير من القرن المنصرم. اطلق الغزو العراقي للكويت في اغسطس 1990 سلسلة من التفاعلات داخل المجتمع السعودي ، ابرزت لاول مرة تيارا يتسع بالتدريج ويطالب بالاصلاح. بروز هذا التيار اثار رد فعل فوري وسط السلفيين ، الذي خشي قادتهم من ان تتجه البلاد الى الليبرالية ، بسبب الضغط الاجتماعي الداخلي ، او بسبب التحالف مع الولايات المتحدة الامريكية ، الذي عمقته الحاجات المتبادلة خلال الحرب على العراق.

في نوفمبر 1990 نظم 47 سيدة سعودية تظاهرة بالسيارات في شوارع الرياض ، من اجل اقرار حقهن في قيادتها . ردا على ذلك امر الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ اعضاء هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بوقف المظاهرة واعتقال السيدات . لكن الشيخ عزل من منصبه بامر ملكي في منتصف ديسمبر التالي. اثارت تلك الحادثة جدلا شديدا في الوسط الديني ، وتحولت الى موضوع رئيسي لخطب الجمعة طيلة الاشهر الثلاثة التالية. ولاحظ عدد من الخطباء ان الحكومة لم تتخذ موقفا صارما مما اعتبروه هجوما تغريبيا ، بل على العكس من ذلك فان عزل رئيس الهيئة كان اشارة الى عزم الحكومة تقييد المؤسسات الدينية التي تتصرف دون اوامر رسمية مباشرة.

في يناير 1991 نشر عدد من الشخصيات البارزة ، وثيقة مطالب موجهة الى الحكومة ، تطالبها باجراء اصلاحات رئيسية في الادارة الرسمية وعلاقة الدولة بالمجتمع . وقع على الوثيقة مثقفون بارزون ومسؤولون سابقون وشخصيات ذات نفوذ اجتماعي ، ولم يكن بينهم اي رجل دين. وفي مايو 1991 قدم 200 من العلماء السلفيين البارزين خطابا مماثلا الى الملك فهد ، لكنه – بدلا من المطالبة باصلاحات سياسية – ركز على نقد  ما وصفه بالتباعد المشهود عن احكام الشريعة . وطالب الملك بتعزيز دور العلماء والمؤسسة الدينية في الدولة والمجتمع. تلى ذلك نشر وثيقة اكثر تفصيلا ، عرفت بمذكرة النصيحة ، وضعت في يونيو 1992 ووقع عليها 400 من المشايخ والدعاة من الطبقة الثانية والثالثة. كانت هذه المذكرة التي تشبه في صياغتها البرامج السياسية للاحزاب ، اول ظهور سياسي منظم وواسع النطاق للتيار السلفي المستقل والمعارض للحكومة. ايد كبار العلماء هذه المذكرة في اول الامر ، لكنهم سارعوا بادانتها ، كما تنصلوا من الخطاب السابق لان نشرهما يعد خروجا على تقاليد النصيحة لولي الامر. على خلفية هذا الموقف ، جرى اعتقال معظم الموقعين على "مذكرة النصيحة" او منعهم من السفر ، وكان هذا بداية لاوسع انشقاق في التيار السلفي.

 خلال السنوات التالية تحول عدد من موقعي مذكرة النصيحة الى رموز سياسية او شبه سياسية ، يلتف حولهم جيل الشباب ، بينما جرى تصنيف كبار العلماء كتقليديين او حكوميين. وشهدت البلاد للمرة الاولى حالة استقطاب في الوسط السلفي ، بين القطب الذي يدور في فلك الدولة ، وذلك الذي يحاول البقاء مستقلا خارج اطارها.



نشر في الايام  Thursday 18th March 2010 - NO 7647 https://www.alayam.com/alayam/Variety/392130/News.html

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...