21/12/2016

سوريا بعد معركة حلب: تقدير موقف

معركة حلب ليست نهاية الحرب بين المعارضة والحكومة السورية. لكنها بالتأكيد التحول الأبرز في تاريخ الصراع. بين 2011 وحتى نهاية 2014 نجحت المعارضة في الوصول عسكريا الى جميع المدن الرئيسية ، عدا اللاذقية التي بقيت وحدها بيد الحكومة. يومذاك لم تكن مدينة حلب وريفها الموقع الاهم للمعارضة. بل احياء جوبر وببيلا ومخيم اليرموك ، التي تبعد كيلومترين فحسب عن وسط العاصمة. فضلا عن ثلاثين بلدة في محيط دمشق الشمالي والشرقي. يومها ساد اعتقاد بان قوات المعارضة توشك على محاصرة العاصمة ومن ثم تفكيك النظام.
لكن المعارضة أخفقت في تحويل المكاسب العسكرية في الميدان الى مكاسب سياسية. ويرجع هذا في المقام الأول الى النزاعات التي لم تتوقف بين تنظيماتها المختلفة ، وتدخلات القوى الخارجية ، فضلا عن افتقار معظم المعارضين الى الخبرة السياسية التي تحتاجها ساحة في حالة تحول شبه يومي.
نتيجة بحث الصور عن معركة حلب
تبعا لهذا ، انحسرت سيطرة المعارضة تدريجيا ، سيما في العام الجاري ، حتى باتت محصورة في الشمال الذي تشكل "حلب" مفتاحه الرئيس. ومن هذه الزاوية فان خسارة المعارضة فيها ، يعني فقدانها لآخر ورقة مهمة ، يمكن استثمارها سياسيا.
اظن ان الاشهر الستة القادمة ستشهد أولى انعكاسات هذا التحول ، في جبهة المعارضة والحكومة على السواء.
ابرز الانعكاسات في ظني هو ان محور تركيز الداعمين الرئيسيين للحكومة والمعارضة ، اي روسيا وتركيا ، سيتحول من استهداف نصر عسكري حاسم ، الى اطلاق عملية سياسية ، تلعب فيها الدولتان دور الدينامو والضامن. كانت موسكو قد بذلت محاولات سابقة ، لكنها أخفقت. كما ان انقرة قررت تركيز جهدها على منع قيام فيدرالية كردية في الشمال السوري ، خشية اطلاق عملية مماثلة في اراضيها.
التحول الى دور الوسيط يؤدي – بالضرورة – الى بروز مسافة في المواقف وخلاف في التقديرات ، بين موسكو ودمشق في جانب ، وبين انقرة والمعارضة في الجانب الآخر. رد الفعل الطبيعي من طرف الوسيطين سيتمثل على الارجح في ضغط على حليفيهما ، قد يقود الى تفكيك جزئي وما يشبه اعادة هيكلة ، تتضمن تغييرا في المواقف والشخصيات لتسهيل التحرك السلس للعملية السياسية المنتظرة. هذا يعني تحديدا انفتاح انقرة على دمشق وحلفائها ، وانفتاح موسكو على اطراف المعارضة ، بما فيها التنظيمات المسلحة.
من المقرر ان تستضيف موسكو اجتماعا بين الروس والايرانيين والاتراك ، أظن ان موضوعه الرئيس هو اطلاق خارطة طريق للحل السياسي ، وآلية لضمان نجاح مرحلته الأولى على الأقل. بالتوازي دعت موسكو وانقرة الى مفاوضات بين الحكومة السورية والمعارضة في كازاخستان ، سيكون محورها "فرز" القوى الراغبة في الانضمام للعملية السياسية ، من تلك المصرة على مواصلة الحرب.

زبدة القول ان معركة حلب كانت فاصلة بكل المقاييس. ليس فقط في كلفتها المادية والبشرية ، بل لأنها تضع الحكومة والمعارضة السورية امام تحد غير مسبوق ، قد يتضمن إعادة هيكلة لكل من الجبهتين ، على نحو يعيد تأهيلهما للتحول من المواجهة المسلحة ، الى التفاوض الذي يفترض ان يؤدي في نهاية المطاف الى تأليف نظام سياسي جديد ، لا يحقق مرادات الجميع ، لكنه ينهي الحرب الأهلية. وأظن ان هذا هو الهدف الوحيد حاليا للشعب السوري ، ولدول العالم التي يبدو انها سأمت من تطاول الحرب دون ان يلوح في الأفق حل أو نصر حاسم لأحد الأطراف.

الشرق الاوسط 21 ديسمبر 2016
http://aawsat.com/node/811816

14/12/2016

الاصلاح الديني: لقد بدأنا فعلا

خلافا لما ظننت حتى أيام خلت ، فان الاهتمام بالاصلاح الديني ليس قصرا على النخبة او الناشطين في المجال الثقافي. النقاشات التي سمعتها في الاسبوعين الماضيين ، اخبرتني ان شريحة واسعة من الناس تبحث فعلا عن رؤية جديدة. ليس دافعها مجرد الفضول المعرفي ، ولا مناكفة التيار السائد. بل الرغبة العميقة في ان يساهم كل فرد ، من زاويته ، وبقدر معرفته ، في تطوير صيغة للتدين ، تناسب حاجات اليوم وتستوعب تحدياته.
 لطالما واجهت سؤال: من أين يبدأ الاصلاح؟. واظن ان كل قاريء قد سمع او قرأ مقترحات تحدد نقاط البداية. صديقي د. مسفر القحطاني مولع باعادة تأسيس الاجتهاد في اطار نظرية المقاصد ، وقد كتب كثيرا في هذا الباب. المفكر المعروف حسن حنفي وعبد الجبار الرفاعي وآخرون رأوا ان علم الكلام الجديد ، اي الرؤية الفلسفية الجديدة للذات والعالم هي مبدأ كل تجديد. الدكتور وجيه قانصو وآخرون رأوا ان إعادة موضعة النص المؤسس ضمن إطاره التاريخي ، والتركيز على رسالته الداخلية ، هي الكفيلة بجعله منفتحا على تحديات العلم الحديث والعالم الحديث. وهناك بطبيعة الحال من فضل الاكتفاء بتجديد الصيغ الموروثة دون المس بمضمونها ، مثل الدعوة الى وضع مدونة للاحكام ، نظير تجربة الموسوعة الفقهية في الكويت ومصر ، ومجلة الاحكام العدلية التي وضعت في العهد العثماني وسار على خطاها العديد من الدول العربية.
جميع هذه المقاربات مفيدة. وهي تؤدي ، على مراحل متفاوتة ، الى تمهيد الطريق لرؤية دينية جديدة ، أو انها ، على أقل التقادير ، تسهم في فتح صناديق التراث المغلقة ، ووضعها وجها لوجه أمام تحدي التجديد ومستلزماته.
قلت لأحد الزملاء اننا قد بدأنا فعلا. نفس التساؤلات والجدالات حول واقع الدين وصورة المتدين في هذا العصر ، اعتراض الناس على بعض الاحكام الشرعية وما قام على أرضيتها من قوانين ، تدل كلها على ان مسلم اليوم غير مقتنع بالموروث ، ولا هو راض ببقاء الخطاب الشرعي حكرا على أهل حرفة بعينها.
لا أستطيع الجزم بنسبة أو رقم محدد. لكني استطيع القول ان آلاف المسلمين المتعلمين يريدون الاسهام في صياغة صورة جديدة للاسلام ، صورة يعتقدون انها اكثر استجابة لتحولات العلم الجديد والعصر الجديد ، صورة قادرة على استيعاب حاجاتهم التي لم يعرفها الاسلاف ولم يتخيلوا مثلها.
مسيرة الاصلاح الديني لا تنطلق - في اعتقادي – من اصدار المزيد من البحوث والدراسات الموسعة او العميقة ، بل من اقرار المسلمين ، كل فرد فيهم ، بأنه شريك في تشكيل زمنه وصناعة حياته.

الدين ليس عالما مستقلا عن حياة الفرد او الجماعة.  بل هو جزء منها. قد تراه اعظم جوانب الحياة قيمة او اعلاها مرتبة او اشدها قدسية ، لكنه في نهاية المطاف جزء من هذه الحياة ، وهو يتأثر بكل العوامل التي تعرض لها أو تؤثر فيها. المجتمع المتخلف يبحث في دينه او في ثقافته او تراثه عن تبرير لنكوصه وانكماشه. والمجتمع الناهض ينتج فكرا يعكس روح النهضة وحاجاتها.
نقطة البداية إذن هي ايمان الجميع بان دينهم صورة عن واقعهم ، وانهم لهذا السبب ، شركاء في صياغة التجربة الدينية وتجديدها ، مثلما يفعلون في جوانب حياتهم الأخرى. اي ايمانهم بأن الدين لهم جميعا ولأجلهم جميعا ، وليس صندوقا مغلقا اختصت بمفاتيحه طبقة بعينها او أهل حرفة دون غيرهم.
الشرق الاوسط14 ديسمبر 2016
http://aawsat.com/node/806611
مقالات ذات علاقة


07/12/2016

اصلاح المجال الديني


"اصلاح المجال الديني" هو عنوان الندوة العلمية التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في تونس نهاية الشهر الماضي. في نفس الوقت نفسه تقريبا ، عقدت في بيروت ندوة مماثلة حول الحرية الدينية والمواطنة. كلا الندوتين والكثير من النقاشات المماثلة التي شهدناها هذا العام بالتحديد ، تشير الى انبعاث جديد لفكرة الاصلاح الديني ، باعتبارها طريقا ضروريا لحل اشكالات العلاقة بين الثقافة العامة والسياسة في العالم العربي.
منذ منتصف العام 2011 كان واضحا ان الأجيال العربية الجديدة ، تواجه عسرا في تحديد المسافة بين ما  هو موضوع ديني يعالج في إطار الشريعة ، وما هو متروك لعقول البشر وعلومهم. وأحتمل ان هذا العسر قد ساهم في تأزيم العلاقة بين أطراف التيار الديني ، و كذا علاقتها بالحكومات والقوى الاجتماعية الأخرى. نعلم ان الجدل المتواصل حول مشروعية السياسات ومعاني الوصف الديني ، وواقعية الحل الديني لقضايا الحياة العامة ، أمسى مبررا للتصنيف الحاد ، ومن ثم الانقسام بين من يصنفون كدعاة أو حماة للدين وبين ناقديهم. وهو انقسام مشهود في المجتمعات العربية دون استثناء.

ثلاث من اوراق النقاش التي طرحت أمام ندوة تونس ، ركزت على اشكاليات التعامل مع ما يسمى بالنص التأسيسي.  الدكتور عزيز العظمة مثلا لاحظ ان جميع المحاولات الاصلاحية في المجال الاسلامي ، توقفت عند مرجعية النص. نعلم ان التيار العام بين الفقهاء يتقبل فكرة الاجتهاد في النص ، مما سيؤدي – بشكل طبيعي – الى ظهور افهام جديدة واحكام جديدة. لكن واقع الحال يخبرنا ان التوقف عند النص ، لم يؤد الى تعالي النص عن الافهام والتفسيرات ، اي جعله موضوعا للاجتهاد المتحرر من قيود التفسيرات والافهام السابقة. تاريخ الاجتهاد يكشف عن تحول افهام السلف واجتهاداتهم الخاصة الى مرجع بديل عن النص ، بمعنى ان الفقيه لا يبحث الآن في النص القرآني او النبوي بشكل مباشر ، بل ينشغل في الحقيقة بكيفية فهم السابقين وتفسيراتهم له. وهذه التفسيرات والافهام تتحول الى إطار يوجه ويحدد عملية الاجتهاد. ولهذا فمن النادر ان تجد فقيها يخرج برأي أو تفسير ، لم يرد نظيره في تراث السابقين. وقد أوردت في تعقيبي على ورقة د. العظمة أمثلة صريحة عن اكتشاف فقيه ما لعيوب في اجتهاد السابقين ، لكنه – مع ذلك – يميل في استنتاجه النهائي ، الى متابعة ما اشتهر أو ادعي الاجماع عليه. وأظن ان هذا من ثمرات الهيمنة القوية للنسق الفقهي التقليدي ، التي قادت فعليا الى عزل جميع الآراء الغريبة عن المألوف والمتعارف ، بغض النظر عن أدلتها أو مطابقتها لروح التشريع.
المجال الديني ، مثل سائر مجالات الحياة الأخرى ، بحاجة الى مواكبة التحولات الاجتماعية ، واستيعاب التحديات الناتجة عن تطور حياة البشر وعلاقتهم مع الطبيعة. أظن ان جانبا من المشكلة يكمن في انكماش العلم الديني ورجاله ، وما حدث جراء ذلك من تفارق بينهم وبين سائر الناس ، في اللغة وأدوات الفهم والتعبير ، ونوعية الهموم والانشغالات الذهنية. يركز رجال الدين على السلوكيات الفردية ، ويريدون السلطة كأداة ضبط للسلوكيات الفردية ، لكنهم نادرا ما اهتموا بالمسارات المحركة للحياة العامة ، مثل الاقتصاد وانتاج العلم وحقوق الانسان ، وأمثالها.
اعتقد ان الاصلاح الديني لم يعد خيارا للمجتمعات العربية. بل أمسى لازما لاستعادة السلم الداخلي ، فضلا عن ضرورته للحفاظ على مكانة الاسلام كموجه لحياة البشر في عالم سريع التغير.
الشرق الاوسط 7 ديسمبر 2016
http://aawsat.com/node/801421

23/11/2016

عكس العولمة : اليمين يتجه يسارا

"الشقيقات السبع: شركات البترول الكبرى والعالم الذي صنعته" لم يكن ابرز مانشره الصحفي والكاتب البريطاني انتوني سامبسون. لكنه بالتاكيد الكتاب الذي عرف العالم عليه. كان سامبسون قد نشر قبله "تشريح بريطانيا" الذي احتل قائمة الكتب الاكثر رواجا في حينه. ويقال ان سبب رواجه هو تحليله العميق والموثق لدور الشركات الكبرى في صناعة السياسة البريطانية.
انتوني سامبسون
اتخذ سامبسون اتجاها مماثلا حين أصدر "الشقيقات السبع" في 1974. وخلاصته ان شركات البترول الدولية الكبرى تخوض منافسة شرسة فيما بينها ، لكن سياساتها جميعا تمهد الطريق الى هدف واحد ، هو الغاء الحدود والعوائق السيادية للدول ، وصولا الى جعل العالم كله سوقا مفتوحا لعملياتها. ويعتقد سامبسون ان تلك الشركات الهائلة القوة ، قد نجحت في تغيير سياسات العديد من دول العالم ، بل وتدخلت في صراعات سياسية أثمرت عن تغيير الحكومات التي لم تستجب لحاجاتها ، في الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء.
لم يكن مفهوم "العولمة" قد ظهر يومذاك كمصطلح قياسي. لكن كتاب سامبسون فتح الباب أمام عشرات من المقالات والكتب الاخرى ، التي تتحدث عن "عالم جديد" أبرز سماته زوال الحدود المعيقة لحركة رأس المال وقوة العمل والتكنولوجيا ، اي التمظهر الرئيس لما يعرف اليوم بالعولمة. وفي العقدين الاخيرين من القرن العشرين اصبح هذا المفهوم من اكثر المفاهيم تداولا في النقاشات الخاصة بالعلاقات الدولية. وفي العام 2000 اقترح صندوق النقد الدولي  اربعة مجالات تندرج في اطار هذا المفهوم هي التجارة ، حركة راس المال والاستثمارات ، هجرة اليد العاملة ، وتدفق المعلومات والتقنية.
كان تيار اليسار  ابرز المعارضين للاقتصاد المعولم. وينسب لهذا التيار الفضل في انتاج أهم الادبيات المتعلقة بتغول راس المال العالمي والشركات التي تديره. وهو موقف غريب بعض الشيء. فاليسار يدعو لعالم واحد يبرز قيمة العاملين وصناع التغيير. لكنه في مواجهة عالم راس المال ، اختار منهجا انكماشيا يركز على قيمة الحدود القومية. ويدعو لتوسيع تدخل الحكومة في الاقتصاد ، على نحو يضمن للطبقات الدنيا فرصا أفضل للعيش الكريم.
نعلم بطبيعة الحال ان اليمين كان يدعو لنموذج مضاد ، اي دولة لا تتدخل مطلقا في حياة الناس ولا السوق ، دولة نموذجها الاعلى "الحارس الليلي".
ها نحن اليوم امام انقلاب جديد. الرئيس الامريكي المنتخب دونالد ترامب ، الآتي من أقصى اليمين ، نجح في استنهاض الشرائح الاكثر تضررا من عولمة الاقتصاد ، أي عمال المصانع التي نقلت اعمالها خارج الحدود. الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي كشف عن تنامي نفس الاتجاه اليميني الذي يدعو للانكماش على الذات والتركيز على مصالح الطبقات الدنيا. ويبدو ان نمو هذا التيار في فرنسا التي تستعد لانتخابات رئاسية يتحرك بنفس الدوافع.
ثمة مفارقة في هذه الحوادث كلها ، فالصراع لا يدور بين الطبقات العليا والدنيا كما جرت العادة ، بل بين شريحتين متصارعتين في الطبقات الدنيا نفسها: شريحة ذات ميول يسارية كانت تخشى العولمة فباتت اليوم متعاطفة معها ، وشريحة ذات ميول يمينية تعاطفت أولا مع العولمة ثم جنت شوكها.
هل هذا نموذج لما سيكون عليه العالم خلال العشرين عاما القادمة؟. هل سنشهد تراجعا عن مبدأ العالم الواحد والاقتصاد المعولم؟. هل سيلحق العالم الثالث بهذا القطار ام يرى مصلحته في عالم بلا حدود؟.
الشرق الاوسط  23 نوفمبر 2016 http://aawsat.com/node/790836

16/11/2016

كسب الارض وكسب القلوب


بعد شهر من بدء عمليات الموصل ، استعاد الجيش العراقي جميع البلدات التابعة للمحافظة ، إضافة الى عدة أحياء داخل المدينة ، خلافا لتقديرات امريكية سابقة بان العملية ستأخذ نصف عام أو أكثر. هذه المفارقة تخبرنا ان سكان الموصل لم ينهضوا لنصرة داعش ، بل تركوهم وخليفتهم وحيدين في الميدان.
المؤكد ان النخبة السياسية سعيدة بما تحقق. فهو يؤكد ان المدينة تكره داعش ومشروعه ، رغم انها لم تكن - قبل ذلك - محبة لحكومة بغداد. عامة العراقيين أيضا تفاءلوا بان الحروب المتنقلة في بلدهم تطوي الآن صفحتها الأخيرة. لكني أخشى ان ينخدع السياسيون بوهج الانتصار ، فيغفلوا عن واحد من أبرز دلالاته ، اعني به تخلي الموصليين عن داعش. على صناع القرار في العاصمة ان يشعروا – بدل ذلك - بالقلق ، وان يتأملوا مليا في الاسباب التي أدت إليه وامكانية تكراره.

هذا الحدث لم يأت بلا سابقة. ففي يوليو 2003 هاجمت قوة امريكية منزلا في شمال الموصل يختبيء فيه عدي وقصي ابنا صدام حسين. وحين سيطر المهاجمون على المنزل ، وجدوا ثلاث جثث فحسب ، تعود للرجلين وابن قصي الشاب. لم ينهض رجل واحد من أهل الموصل لنصرتهم ، بمن فيهم اصحاب البيت نفسه وجيرانهم ، فضلا عن بقية أهل المدينة التي ينتسب اليها معظم القيادات الوسطى في الجيش العراقي.
تكرر الأمر ثانية في منتصف 2014 حين اجتاح تنظيم داعش مدينة الموصل واحتلها في بضع ساعات. لم ينهض احد من سكان المدينة لمواجهة داعش ، مثلما لم يتحركوا هذه الأيام لدعمها. هذه الأمثلة التي تكررت بتفاصيل متشابهة تقريبا ، وخلال مدى زمني قصير نسبيا ، تستوجب التساؤل عن سر الموقف السلبي لسكان المدينة ، تجاه أي قوة تمثل الدولة او تدعي انها دولة.
ليس لدي تفسير قطعي لهذا الموقف. لكني استذكر رأي باحثة بريطانية كتبت يوما عن مفهوم " الحقوق الطبيعية" واهتمت خصوصا برد فعل الناس ، حين يحرمون من حقهم الفطري في اختيار طريقة عيشهم وصياغة مستقبلهم. تقول السيدة مارغريت ماكدونالد ان ظرفا كهذا سيدفع معظم الناس لتناسي الواجب الاجتماعي على الاغلب "المواطن المحروم من حقوقه الأساسية سيسأل نفسه يوما: لماذا يجب علي التضحية من اجل المجتمع او الوطن ، طالما لم احظ فيه بفرصة للعيش الكريم او حرية الاختيار؟".
ربما يستطيع الجيش تحرير الموصل بجهد اقل مما كان متوقعا. لكن هذا ليس نهاية المطاف. ان تحصين المدينة ، (والبلد ككل) من احتمالات شبيهة بما فعله داعش في 2014 رهن باقتناع المواطنين بانهم في ظل دولتهم ، وليسوا خاضعين لقوة احتلال او هيمنة تسيرهم رغما عنهم. لقد تفاءلت حين اجريت بحثا سريعا ، فوجدت ان معظم الضباط الذين يقودون عمليات الموصل ، ينتمون الى نفس المدينة. لكن هذا ليس كافيا لتوليد الايمان عند اهلها ، بانهم باتوا اصحاب القرار فيما يخص حياتهم ومستقبلهم.
يتوجب على الحكومة العراقية ان تجري مراجعة عميقة لنظام الادارة والتمويل ، والعلاقة بين المحافظة والمركز ، ودور المجتمع المحلي في القرار ، حتى يتخلص الموصليون (وبقية المواطنين ايضا) من الشعور بان حياتهم يصنعها ويصوغها اشخاص لا يعرفونهم او لا يثقون في نواياهم.
قد نعتبر النجاح الحالي فخرا لمن سعى فيه. لكن القائد لا ينشغل بالفرح ، بل بوضع السياسات الضرورية لمعالجة العوامل التي ادت الى تكرار الفشل في الماضي.
الشرق الاوسط 16 نوفمبر 2016 http://aawsat.com/node/785611



09/11/2016

بين الهند والموصل: اسرار الوحدة والخصام

للوهلة الأولى تبدو فكرة تقسيم محافظة نينوى (الموصل) حلا سحريا للتنازعات السياسية بين سكانها ، الذين ينتمون الى جماعات مذهبية واثنية مختلفة. كنت قد أشرت في الاسبوع الماضي الى هذا الاقتراح ، الذي تتبناه شريحة من الموصليين. ومبرر هؤلاء ان تمكين كل مجموعة عرقية او دينية من ادارة مدينتها ، سوف ينهي حالة الارتياب التي سممت العلاقة بين السكان. ولفت نظري ان قراء كثيرين وجدوا هذا الاقتراح حلا معقولا. تمثل "نينوى" نموذجا مصغرا للعراق المتنوع دينيا ومذهبيا واثنيا. هذا التنوع جعلها بؤرة للتجاذب السياسي بين قوى الداخل والخارج.

فكرة الفصل الاداري مطبقة في بلدان كثيرة. وقد تحولت في السنوات الخمس الماضية ، الى مطلب شعبي في العديد من المجتمعات العربية. لكن الاعتقاد بانها حلال المشكلات ، فيه تبسيط شديد لا يخفى على اللبيب.
من نافل القول انه لا يوجد مجتمع سياسي في العالم كله ، يتألف من نسيج احادي. بمعنى ان جميع سكانه ينتمون الى قومية واحدة ودين/مذهب واحد. وحتى لو حصل هذا يوما ما ، فان ابناء عائلة واحدة – فضلا عن بلد بأكمله - قد تختلف مصالحهم وتوجهاتهم الفكرية او السياسية ، فيذهب كل منهم في طريق. وفي حال كهذه فان وحدة الدم والانتماء ستكون مجرد رابطة ثانوية ، ضئيلة التأثير على الخيارات الحياتية للافراد. وهذا أمر مشهود في عالم اليوم.
من هنا فانه من غير المنطقي ، الاعتقاد بان مشكل الاختلاف والتنازع سينتهي ، اذا اعدنا تشكيل الجغرافيا السياسية على اساس وحدات عرقية او دينية متمايزة. ان وحدة الدين او المذهب او القبيلة او العرق او الجنس ، ليست اساسا كافيا لتوحيد المصالح السياسية والحياتية ، فضلا عن صيانتها على مدى زمني طويل.
لعل المقارنة بين البلدين الجارين ، الهند وباكستان ، تكشف هذه المفارقة في أجلى صورها. يعترف الدستور الهندي ب 21 لغة ، اضافة الى الانكليزية. وهناك عشرات اخرى من اللغات واللهجات المحلية. ويرجع الشعب الهندي الى اعراق عديدة. وثمة خمسة اديان رئيسية ، الا ان عدد الديانات والطوائف القائمة فعلا ، يزيد عن 300 دين ومذهب. لكن الوحدة الوطنية لجمهورية الهند لم تتعرض لتحد خطير منذ تاسيسها في 1947.
اما الباكستان التي تاسست في العام نفسه ، فهي تواجه منذئذ نزاعات داخلية متلاحقة. وقد انفصل نصفها الشرقي في 1971. يشكل المسلمون اغلبية ساحقة في باكستان ، والنظام فيها فيدرالي مقسم الى اربع ولايات ، تضم كل منها اغلبية من قومية واحدة.
قارن الان بين البلدين من حيث الاستقرار السياسي والاقتصادي والحراك العلمي والتقني. واسأل نفسك: ما الذي يجعل الهند ، المتعددة الاديان والاعراق واللغات ، مستقرة وناهضة ، بينما تغوص جارتها الاحادية الدين واللغة ، في مشاكل ونزاعات داخلية لا تنتهي؟.
الاختلاف الديني او المذهبي او العرقي ، يمكن ان يتسبب في تنازع داخلي. لكنا نعلم ان هذا ليس سبب انعدام الاستقرار في باكستان ، ولا هو سبب الحرب الاهلية في ليبيا. فضلا عن انه لم يتسبب في انهيار وحدة الهند ولا ماليزيا ولا سنغافورة ، ولا الولايات المتحدة الامريكية.
 سر الوحدة الوطنية لا يكمن في التماثل ، بل في طبيعة النظام السياسي: هل هو قائم على استفراد جماعة قومية او دينية بمقدرات البلد ، ام هو قائم على شراكة الجميع في جميع المكاسب والكلف. طبيعة النظام السياسي وفلسفته هو جوهر المسألة.
الشرق الاوسط 9 نوفمبر 2016  http://aawsat.com/node/780471


02/11/2016

مستقبل الموصل بعد داعش

تطهير الموصل من داعش قد يستغرق أياما او اسابيع. لكنها ستعود في نهاية المطاف الى أهلها. السؤال الذي يتداوله العراقيون اليوم يتناول مستقبل الموصل ، بعدهزيمة داعش المتوقعة.
كان رئيس اقليم كردستان مسعود البرزاني أول من أطلق صفارة الجدل ، حين قال ان حدود الاقليم هي النقطة التي ستصلها قوات البيشمركة المشاركة في عمليات الموصل. وهذا يعني تقريبا اطراف محافظة نينوى الشمالية والشرقية. لكن يبدو ان ما يسكت عنه أهل السياسة هو مرادهم وليس ما يقولونه. يريد البرزاني على الارجح المساومة بورقة الموصل على ضم ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها الى اقليم كردستان ، وهذه المناطق تضم المدن التي يسكنها خليط من الاكراد وغيرهم ، وأبرزها كركوك ، المدينة النفطية الرئيسية في الشمال ، فضلا عن اجزاء من محافظة ديالى الشرقية ، التي تعتبر هي الأخرى نصف كردية.

عدد من وجهاء الموصل ، ابرزهم محافظها السابق اثيل النجيفي اراد استباق الاحداث ، فحاول تشكيل ميليشيا محلية ، واستعان بتركيا التي ارسلت بالفعل 2000 جندي لتدريب ما قيل انه الاف من الضباط الذين سبق ان خدموا في الجيش العراقي. لكن النجيفي افلح في استقطاب 1200 عنصرا فحسب ، اطلق عليهم اسم حرس الموصل.

برر الرئيس التركي دخول قواته الى الاراضي العراقية بالحيلولة دون تغيير ديمغرافي للموصل بعد تحريرها. ونعرف انه يشير الى العراقيين التركمان الذين تريد تركيا وضعهم تحت حمايتها. لكن مشكلة التركمان ليست في الموصل ، فمعظم هؤلاء يقطنون في تلعفر وهي أقرب الى الحدود التركية من الموصل ، ومحافظة كركوك ، التي يطالب بها الاكراد.
كثير من ابناء النخبة الموصلية يدركون التعقيدات التي تحيط بمحافظتهم. يعلمون ان تحريرها من سيطرة داعش قد يكون بداية لجولة جديدة من الصراع بين القوى التي تتنازعها وتلك التي تتخذها ورقة في نزاعات أخرى. مجموعة من هؤلاء من أبرزهم المؤرخ المعروف سيار الجميل بادروا لطرح مشروع اعتبروه طريقا للافلات من التقاطعات الخطرة للقوى المحلية والاقليمية التي تتنازع المحافظة.
يقترح هذا المشروع تحويل محافظة نينوى الى اقليم فيدرالي ، يتألف مبدئيا من ست محافظات. وقد جرى اختيار حدود المحافظات بحسب اكثريتها السكانية. فسهل نينوى سيكون محافظة واحدة او اثنتين للمسيحيين والاقليات الدينية الاخرى ، وستكون كل من مدينة الموصل وجنوبها محافظتين للعرب ، وسنجار لليزيديين ، ومخمور للاكراد ، وتلعفر للتركمان ، مع امكانية فصل جزء من تلعفر ليكون محافظة او اثنتين واحدة لعشائر ربيعة العربية واخرى لعشائر زمار الكردية.
يعتقد الدكتور الجميل ان محافظة نينوى تتمتع بهوية خاصة متمايزة عن محيطها كله ، وان هذا يبرر فكرة الأقليم الذي لن ينفصل عن العراق ، لكنه سيشكل تجربة ثانية بعد اقليم كردستان ، سيما وان الدستور العراقي يتسع لتحول محافظة او اكثر الى اقليم ذي صلاحيات واسعة.
لكني اميل الى الظن ان القلق من التصارع  الاقليمي والمحلي على الموصل ، هو الدافع الرئيس لهذا المشروع. فهو يقول ببساطة لكل المتنازعين: بدل ان تتقاتلوا ، دعونا نتفق على التفارق من دون حرب. التطليق باحسان يعطي كل طرف ما يريده بالتوافق مع الاطراف الأخرى.
أظن ان معظم العراقيين العرب سيعارض الفكرة لانها تشير الى التقسيم البغيض في الثقافة العربية. لكن ثمة من يقول ان الامريكان يودون تطبيقها. وهي على اي حال احد الحلول المحتملة ، مع ان اقرارها يحتاج للكثير من النقاش.
الشرق الاوسط 2 نوفمبر 2016 http://aawsat.com/node/775026


26/10/2016

الايام الاخيرة في حياة "داعش"

اذا صدقت توقعات العراقيين المتفائلة ، فان مدينة الموصل ستعود الى أهلها قبل نهاية العام الجاري. ثمة من يعتقد ان الامريكيين يسعون لالحاق هزيمة مدوية بتنظيم داعش قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في الثامن من نوفمبر ، مما يعزز حظوظ المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وفقا لهذا الرأي ، ستجري المعركة الفاصلة خلال الاسبوعين القادمين. لكن معطيات الميدان لا تدعم هذا الاحتمال.
المؤكد وفقا لمجريات الاحداث منذ تطهير مدينة الرمادي في نهاية العام الماضي ، ان العراقيين استجمعوا اسباب القوة ، وهم مصممون على الخلاص من داعش. في ذلك اليوم كان التنظيم يسيطر على نصف مساحة العراق تقريبا ، وكانت قواته على بعد ثلاثين ميلا فحسب من العاصمة بغداد. اما اليوم فهو بعيد جدا ومحاصر في مدينة واحدة ، وعاجزا عن تهديد اي مدينة أخرى. نتحدث اذن عن اقتراب نهاية داعش كقوة مسيطرة على الارض ، مما يؤذن بمشهد سياسي جديد في العراق والمنطقة ككل.

منذ ظهوره في ابريل 2013 شكل داعش تحديا مرهقا للمجتمعات العربية ، بكافة مكوناتها وأطيافها وحكوماتها. أساليب عمله الخارجة تماما عن الاعراف السائدة ، مكنته من النفاذ الى قلوب وعقول الشرائح المهمشة والغاضبة مما يعتبر عجزا عن مواجهة التحديات التي تواجه المجتمع ، جراء التحولات الداخلية او نفوذ الخارج.
والحقيقة ان نجاحاته الأولى قد أغرت جمهورا أوسع بأن حلم الخلافة قد يكون أقرب الى التحقيق مما كانوا يظنون ، وأن الخلاص النهائي للعالم الاسلامي ، قد يأتي على أيدي هولاء الشباب الذين لا تقف دون ارادتهم سدود ولاحدود. هذا يفسر الدعم الشعبي الكبير الذي حظي به "داعش" بين منتصف 2013 حتى نهاية 2014 في محافظات وسط العراق وشرق سوريا. وهو يفسر أيضا انضمام الالاف من الشبان اليه في مختلف انحاء العالم الاسلامي ، بمن فيهم مناصرون وأعضاء في تنظيم القاعدة الذي ولد في رحمه داعش.
سر قوة داعش تكمن إذن في تفكيره وعمله "خارج الصندوق" الذي يمثله العرف الاجتماعي والديني والسياسي السائد في المنطقة. والواضح انه تبنى هذا الاتجاه لانه لا يراهن ابدا على القوى والشرائح التي حددت اتجاهها سلفا ، بل ولا يهتم بها ولا يسعى لرضاها. حوادث مثل حرق الطيار الاردني معاذ الكساسبة حيا ، والابادة الجماعية للجنود في قاعدة سبايكر العراقية ، وسبي النساء الايزيديات في سنجار ، ومثل تفجير المساجد والاضرحة والآثار ، وتصوير كل هذه الحوادث وبثها على الانترنت ، مع التركيز على الجوانب الأكثر إرعابا ، هو بالتحديد الجانب الذي اهتم داعش بتسويق نفسه من خلاله ، اي كونه مختلفا عن اي قوة سياسية سبق ان عرفها الناس ، وانه لا يتحفظ ولا يتردد ولا يبالي ولا ينهزم.
هذه السمات التي منحت داعش قوة استثنائية ، هي ذاتها نقطة ضعفه الكبرى. فمثل هذا التنظيم قادر على اشعال الحلم وأخذه الى اقصى الحدود ، لكنه عاجز عن تحويله الى واقع قائم ومستمر على الأرض. فهو – مثل أي جماعة سياسية أخرى – محكوم بتوازنات القوى ومصادر القوة المادية على الأرض. وحين يخسر المبادرة والقدرة على فرض الواقع الذي يريده ، فانه يخسر ايضا مبررات وجوده ومشروعيته. ولهذا نستطيع القول ان هزيمة داعش في الموصل ستنعكس ليس في العراق فحسب ، بل في كل مجتمع نظر الى داعش كتحد أو مصدر للقلق.
الشرق الاوسط 26  اكتوبر  2016  http://aawsat.com/node/769386


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...