29/01/2005

المجتمع المدني كاداة لضمان الاستقرار

  تصريحات سمو وزير الدفاع الامير سلطان بن عبد العزيز بشأن توسيع صلاحيات مجلس الشورى وزيادة عدد اعضائه أحيت الامل بتواصل مسيرة الاصلاح وصولا الى تحقيق مشاركة شعبية كاملة في الحياة السياسية . المشاركة السياسية الواسعة ليست فقط مطلبا عاما بل هي ايضا وسيلة رئيسية لتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي ومعالجة التوترات التي يمكن ان تؤدي الى اختلال النظام العام.
مجلس الشورى - الرياض
ادى الاختراق المتزايدة للحداثة الى تعقيد ممارسة السلطة في المجتمعات التقليدية. وازداد هذا التعقيد بفعل ثورة الاتصالات والتطور الهائل في تقنيات انتقال المعلومات التي تجتاح العالم . حتى اواخر الربع الثالث من القرن العشرين ساد اعتقاد ، بان احتكار الحكومات لوسائل الاتصال المتقدمة ، كان ابرز العوامل التي مكنتها من توزيع الموارد العامة ، بصورة تضمن سيطرة مركزية شبه مطلقة على حركة المجتمع. لكن انتشار التقنيات الرقمية ، ولا سيما تحول الكمبيوتر الى سلعة منزلية ، ادى بصورة متزايدة الى انهيار ذلك الاحتكار. فمع انتشار وسائل الاتصال ، تغيرت منظومات العمل ووسائل كسب الثروة ، كما تغيرت ايضا وسائل التاثير في الراي العام ، وصار من الممكن للكثير من الناس ، الذين لا يتمتعون بالمقومات المادية للنخبة القديمة ، ان يضعوا ارجلهم على سلم الارتقاء الاجتماعي ، بالاعتماد على الوسائل التي وفرتها الحداثة .

 نتيجة لهذا اصبح في الامكان رؤية ما يمكن وصفه بنخبة جديدة ، على مستوى العالم وعلى مستوى المجتمعات المحلية ، نخبة تتمتع بقدرة على التاثير في الراي العام ، رغم انها لا تتمتع بمقومات الارتقاء التي كانت متعارفة في الماضي ، ولا سيما تلك التي ترجع الى رابطة القرابة او التواؤم الثقافي. مثل هذا التطور يتطلب بصورة ملحة ، اعادة تنظيم المجتمع لتمكين هذه الطبقة الجديدة ، من التعبير عن نفسها ضمن اطارات قانونية ، وهي ما يمكن وصفه في الجملة بمنظمات المجتمع المدني .
لا يخلو مجتمع في اي بقعة من العالم من مسببات للانزعاج ، والانزعاج قد يكون فرديا او بسيطا وقد يكون واسعا بحيث يمكن مقارنته بظاهرة عامة . لكن في كل الاحول فان منظمات المجتمع المدني هي ادوات مثالية لتاطير ذلك الانزعاج وحصره في نطاق محدود ، ثم تحويله من مبرر للتمرد على النظام العام ،  الى مجرد موضوع للنقاش . وفي بعض الحالات تحويله من غضب احتجاجي ، الى مطلب شرعي قابل للمعالجة بصورة نظامية وفي اطار القانون الوطني. منظمات المجتمع المدني هي ادوات لتاطير نشاط النخب الجديدة وعامة الناس ، ولا سيما من الجيل الجديد ، غير القابل للضبط في الاطارات الاجتماعية القديمة. في هذه الحالة فان عملية الضبط لا تتخذ شكل القهر ، بل تنظيم مخرجات النشاط بحيث لا تتجاوز حدود النظام العام . غياب هذا النوع من الاطارات او ضعفها او تحديدها في نطاقات صغيرة ، يحرم المجتمع من فرصة لعقلنة التعبيرات الجديدة الناتجة عن تغير القيم والعلاقات الاجتماعية ، او المشكلات الناتجة عن التباين بين الافراد في القدرة على استيعاب التغيير والتعامل مع افرازاته .

المجتمع المدني المنظم هو احد الصيغ الاكثر فاعلية ، لتاسيس مفهوم للمشاركة الشعبية يقوم على التواصل بين الحلقات الاجتماعية الدنيا من جهة ، والنخبة السياسية وهيئات اتخاذ القرار من جهة ثانية ، وهو وسيلة لتحويل المطالبات العامة من خلفية للانزعاج – وبالتالي للخروج على النظام العام – الى حوار تفاعلي ، يعين المسؤول الرسمي على قياس شعبية السياسات وبرامج العمل .

مع الاتجاه القائم الى تطوير تجربة مجلس الشورى ، فانه ينبغي ايضا النظر الى الموضوع ضمن افقه الاوسع ، اي باعتباره خطوة لتوسيع مشاركة المجتمع في الحياة السياسية . وفي هذا الاطار فان عملية التطوير يجب ان لا تغفل الحاجة الحقيقية ، الى ادماج المجتمع ضمن العملية السياسية ، وفي ظني ان تسهيل قيام منظمات المجتمع المدني وتوفير المساعدة القانونية الضرورية لتمكينها من النضج ، هو الوسيلة المثالية لتحقيق هذا الغرض.

 ( السبت - 19/12/1425هـ ) الموافق  29 / يناير/ 2005  - العدد   1322
www.okaz.com.sa/okaz/Data/2005/1/29/Art_185158.XML

22/01/2005

من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

 مقالتا الزميلين الاستاذ سعد الموسى والاستاذة مرام مكاوي (الوطن 19 يناير) تمثلان نموذجا على نسق من التناول المعمق للمشكلات التي تواجه مجتمعنا ، يتمايز عن الكم الكبير من الكلام الذي ينشر في الصحافة او يظهر على شاشات التلفزيون ، والذي لا يقدم شيئا سوى تكرار ما قيل ، مما لا يقدم او يؤخر ولا يزيد علما ولا يرسي فهما . مقال الموسى حاول ان يضع مشكلة العنف السياسي ضمن اطارها الاجتماعي- الثقافي كواحدة من ثمار التنمية غير المتوازنة . وهو يؤكد على الحاجة الى فهم العلاقة بين قابلية المجتمع لاستنباط العنف السياسي ومقوماته الثقافية والمادية ، ولا سيما انعكاس التحول في المقومات المادية على رؤية الانسان للذات والعالم . ويدعم الموسى رايه بما يسميه خريطة الارهاب حيث يشير الى ان انتشار العنف في مناطق محددة وانحساره في مناطق اخرى هو ثمرة لاختلاف في العلاقة بين مسار النمو الاقتصادي ومخرجاته الثقافية بين هذه المناطق.
مقال الاستاذة مكاوي يركز على الحاجة الى فهم التنوع الثقافي بين مناطق البلاد باعتباره اساسا لنماذج مختلفة من السلوك وانماطا متنوعة من الحياة ، وبالتالي رؤية مختلفة للذات والعالم . لفترة طويلة اعتاد الكتاب والمتحدثون على انكار هذا التنوع لصالح التركيز على وحدة الثقافة . وهذا المفهوم ينطوي على خلط بين المستوى القاعدي للثقافة ، او ما يسمى بالثقافة الشعبية التي تشكل في حقيقة الامر خلفية الفعل الجمعي ، ويين المستوى الفوقي من الثقافة او ما يسمى بالثقافة العالمة ، اي تلك الافكار التي يحصل عليها الانسان من خلال التعلم المباشر من الكتب او المدرسة او المسجد. واظن اننا جميعا قد تاثرنا بالميل الذي ساد في الستينات والسبعينات من القرن الميلادي المنصرم ، الميل الى التوحيد القسري للافكار والتوجهات باسم القومية العربية اولا وباسم الاسلام تاليا وباسم الوحدة الوطنية في معظم الاحوال. هذا النوع من التوجيه يقوم على فكرة خاطئة خلاصتها ان اي انتماء دون هذه الدوائر الثلاث ، هو نقيض ضروري لكل منها ، لذلك قيل مثلا ان الانتماء القومي نقيض للدين ، او ان الانتماء الديني – او المذهبي – نقيض للمواطنة ، او ان الانتماء الاقليمي نقيض للعروبة وهكذا . لذلك يصر بعض الناس على انهم سعوديون اولا ، ويصر غيرهم على انهم مسلمون اولا ويصر البعض على انهم عرب اولا واخيرا .

هذا التوحيد القسري يؤدي بالضرورة الى تصور المجتمع كله كشريحة واحدة متماثلة في السمات والدوافع وردود الفعل. اي بكلمة اخرى الغاء الشخصية الفردية او المجتمعية الخاصة بكل مجموعة . البناء على هذه الرؤية في اتخاذ القرار يؤدي بالضرورة الى تناقضات وتعارضات ربما لا تسهل معالجتها . بل ربما تولد انواعا من المشكلات اكثر عسرا من تلك التي اريد معالجتها .

الاقرار بالتنوع الفعلي في السمات المجتمعية يعني ان نشجع كل وحدة من الوحدات التي تمثل المجتمع الوطني الكبير على التعبير عن ذاتها الخاصة وسماتها الخاصة ، الثقافية والاقتصادية والدينية ، ضمن قنواتها الخاصة او ضمن القنوات الوطنية المشتركة ، حينئذ ستجد كل مجموعة ان خصوصيتها قابلة للتكامل مع خصوصيات الوحدات الاخرى ، وقابلة للاندرج ضمن الاطار العريض للوطن الواحد.

- هل لهذا الامر علاقة بمعالجة المشكلات الوطنية ، ومنها مشكلة العنف السياسي ؟

- ثمة اتفاق بين الاجتماعيين على ان كل مجتمع هو عبارة عن منظومة من القيم والعلاقات واليات الضبط . في كل بلاد العالم ، تلعب المنظومة الاجتماعية الدور الابرز في صيانة النظام العام ، ويتجاوز دورها الى حد كبير دور المؤسسات الرسمية ، سواء تلك المعنية بالتوجيه او الردع . الاكثرية الساحقة من الناس لا يقومون بافعال مشينة لانهم تربوا على اعتبارها خطأ ، ولان علاقاتهم الاجتماعية ، اي نظام المصالح الذي يعتمدون عليه في حياتهم لا يقبل بذلك النوع من الافعال . هذا مثال واحد على فاعلية النظام الاجتماعي في معالجة المشكلات . اذا اردنا استنهاض المجتمع لمكافحة المشكلات الكبرى كالعنف السياسي مثلا ، فاننا بحاجة الى تمكينه من اكتشاف ذاته . اكتشاف الذات الحقيقية في ابعادها المختلفة يتوقف على الخروج بها من حالة التكتم الى حالة العلانية والاقرار بها كتعبير مشروع ومقبول عن خصوصية قابلة للتفاعل مع بقية المكونات الاجتماعية في الوطن ، لا باعتبارها "طائفة" غريبة الاطوار ، او "قبيلة" متخلفة التفكير ، او "اقليما" يملؤه الغرور.

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2005/1/22/Art_183477.XML    

15/01/2005

الانتخابات البلدية باعتبارها تدريباً على السياسة


الذين يحلمون بأن تؤدي الانتخابات البلدية الى تغيير فوري في الحياة السياسية واهمون، والذين يرون انها بلا فائدة واهمون ايضا. المجالس البلدية التي ستسفر عنها تلك الانتخابات ليست معنية بالامور السياسية بالمعنى الفني. ولهذا فلا ينبغي تقييمها من هذه الزاوية. من الافضل التفكير فيها باعتبارها خطوة في طريق, وانها اختبار لقدرة النخبة السياسية والنخب التي تتمتع بشيء من المكانة والنفوذ في المجتمع على التعامل مع نتائجها وانعكاساتها على هيكلية العلاقات الاجتماعية. منذ عقد من الزمن تقريبا تبنى برنامج الامم المتحدة للتنمية البشرية مفهوما معدلا للتنمية السياسية يركز على ان مهمة الحكومات هي ايجاد البيئة المساعدة للتطور الديمقراطي. فكرة البيئة المساعدة تبلورت بعد دراسات كثيرة لتجارب التنمية السياسية في المجتمعات النامية والاسباب المحتملة لتعثر او انعدام الحراك النشط باتجاه الديمقراطية. قدمت تلك الدراسات مفهوما جديدا يربط بين التنمية المستديمة وبين قابلية المجتمع المحلي للتعامل الايجابي مع انعكاساتها، ولهذا ايضا جرى استبعاد المفهوم القديم الذي يقلل من اهمية الدور الذي تلعبه الثقافة المحلية في تاسيس او تطوير المنظومات القيمية والعملية الضرورية للتحول الديمقراطي. على ضوء الفهم الجديد فان الحكومات يجب ان تتخلى عن نمط الادارة المركزية وان تحول ما امكن من صلاحياتها وسلطاتها الى الادارات المحلية التي تمثل الاهالي بشكل مباشر، حيث تمثل المجالس البلدية، وفي مستوى اعلى مجالس الحكم المحلي المنتخبة، الصيغة المثلى لتحقيق هذه الفكرة. ضمن هذا الاطار ينظر الى الانتخابات المحلية باعتبارها وسيلة لتدريب المجتمع على الحياة السياسية الحديثة وكقناة لتطوير نخبة جديدة يؤدي دخولها في هذا الميدان الى توسيع تدريجي لدائرة اصحاب القرار في البلد.
معارضو التطور الديمقراطي في أي من مجتمعات العالم النامي يطرحون الكثير من الحجج، من ابرزها تمسك المجتمع بالمنظومات التقليدية كمرجع في تقرير خياراته. وفي مثل هذا الحال فان الديمقراطية لن تكون تعبيرا عن انتقال الى الحداثة بل اعادة انتاج للمرحلة التقليدية في المضمون ولو تغير الشكل والاطار الخارجي. ثمة حجة تشكك في تطابق الديمقراطية مع تعاليم الدين الحنيف، وثالثة تخشى من تنامي دور الطبقات الجديدة، ولا سيما الشباب والطبقة الوسطى، وما يتركه ذلك من تاثير على منظومات الضبط الاجتماعي. هذه الاحتجاجات قد تكون صحيحة وقد تكون مجرد اوهام، لكن ليس في الامكان اختبار مصداقيتها الا من خلال التجربة الفعلية.
لكي تكون الانتخابات البلدية خطوة صحيحة في الطريق الى ايجاد البيئة المساعدة للنمو السياسي والاجتماعي، فمن الضروري ان يكون التمهيد لها ثم اجراؤها مثالا على الروحية الجديدة التي نريد سيادتها بعد هذه الانتخابات. اذا جرت العملية على نحو روتيني يفتقر الى الحماسة, ويشارك فيها عدد قليل من الناس فإنها ستكون شهادة على فشل هذا المسار، في هذا الوقت على الاقل. والحقيقة ان ثمة دواعي جدية للقلق من هذا الاحتمال ففي وقت سابق شكا عدد من الكتّاب من ان الاقبال على التسجيل في قوائم الانتخاب كان ضعيفاً كما حدث في الرياض مثلا, وبرره أحدهم بأن المجتمع لا يريد المشاركة، وهذا اغرب دليل يمكن ان يسوقه كاتب. وفي ظني ان الادارات المسؤولة عن هذه العملية بحاجة الى التوقف جديا عند هذه الظاهرة. بالمقارنة بين المدن التي سجلت نسب اقبال اعلى وتلك التي تدنت فيها هذه النسب, كان الفارق ناتجا عن حجم الجهد الأهلي الذي بُذل للتعريف بأهمية الانتخابات لكي نعقد انتخابات تعزز شرعية النظام الاجتماعي وتمتص الاشكالات او تعالجها، فاننا بحاجة الى استنهاض كافة مكونات المجتمع من الشباب والشخصيات العامة والموجهين وذوي النفوذ، بل وحتى طلاب المدارس كي يتفهموا طبيعة هذا التحول ويشاركوا في توضيحه لبقية الناس. نحن بحاجة الى تشجيع الناس على النقاش الجماعي الحر, المنظم وغير المنظم, حول هذه الانتخابات. يجب ان نتعامل بمرونة مع من يُعارضها أو يُشكك في فوائدها لان النقاش الحر هو ما يجعل الانتخابات جدية ومهمة للجميع. ليس من الصحيح ان ندعو الناس الى المشاركة في انتخابات حرة ولا نُشجّع على عقد الاجتماعات التي تستهدف مناقشة هذه الانتخابات.

عكاظ 15-1-2005

03/01/2005

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون

في الاسابيع الماضية انتقد عدد من الكتاب توسع بعض اهل الفقه في اصدار فتاوى التحريم ، ووجدوا انهم لا يستندون الى أدلة متينة بل الى اعادة تفسير لتلك الادلة او اغراق في السماح بتسلسل الحكم الى موضوعات تتجاوز – واحيانا تختلف ذاتيا وعلائقيا – عن موضوع الحكم الاول . وقد وجدت ان كثيرا من تلك الفتاوى تستند الى قاعدة ثانوية من القواعد المعمول بها في اصول الفقه هي قاعدة "سد الذرائع" . والمقصود بسد الذرائع هو منع الافعال التي يظن ان الاخذ بها مؤد في الغالب الى الفساد حتى لو لم يكن الفعل بذاته ممنوعا في الشريعة . وعلى هذا الاساس صدرت الفتوى في سياقة المرأة للسيارة وكثير من الفتاوى المماثلة.
في قديم الايام كان خطيب المنبر يعلمنا قولا من المأثورات "اذا حسن الزمان فظن بالناس خيرا واذا فسد الزمان فظن بهم شرا" وكانت الاشارة الى ان الزمان يتجه الى الفساد . وكبر الولد الصغير وتحولت محفوظاته الى اسئلة: متى يحسن الزمان ومتى يفسد؟ ، وما هي حدود الفساد وما هي حدود الظن؟. حين شب الولد ودرس اصول الفقه ، تعلم ان من القواعد الراسخة في منهج الاجتهاد هي قاعدة "بناء العقلاء" ، وهو ما يساوي في لغة اليوم الرجوع الى العرف العام باعتباره توافقا ضمنيا بين العقلاء ، وقاعدة "حمل عمل المسلم على الصحة" وهي تساوي اعتبار قصد الاحسان في عمل الغير حتى لو لم تعرف دوافعه . ثم تقادمت الايام فتعلم الولد التفريق بين الصور الذهنية عن الاشياء والحقيقة الواقعية لتلك الاشياء ، وفي التطبيق وجد ان الصورة الذهنية لعامة الناس في الادب المدرسي هي اعادة انتاج للفكر اليوناني القديم.

طبقا لراي افلاطون فان الانسان لو ترك وشانه لكان اميل الى الفساد منه الى الصلاح ، وان اجتماع الناس بذاته مولد للفساد ، ولهذا فانه نظر الى السلطة باعتبارها اداة ردع للفساد في المقام الاول . وقد تأثر بهذا الاتجاه معظم العلماء المؤسسين للتراث الاسلامي الذين حفظ الزمان نتاجاتهم ، ولا سيما علماء القرن العاشر الميلادي ، وتاثر بها الطوسي والغزالي والماوردي وابن سينا وغيرهم . وانتقل منهم الينا عبر قراء التراث المعاصرين. والحقيقة انه قد اثر ايضا على مساحة واسعة من الفكر الاوربي فانتج ما يعرف اليوم بالتيار المحافظ الذي تجده في السياسة والفلسفة والسوق وفي كل مجال.
من ابرز سمات التيار المحافظ السياسي هو تعظيمه من شأن النخبة وتهوينه من شأن عامة الناس وتركيزه على فكرة الردع باعتبارها مضمونا بارزا للسلطة . فكرة الحاكم المطلق التي دعا اليها المفكر المعروف توماس هوبز هي نتاج للوهم الانثروبولوجي الذي اسماه بمجتمع الحالة الطبيعية الذي يتقاتل فيه الافراد على المصالح والرغبات حتى يصل الى حالة الحرب الاهلية بين الافراد. الصورة التي يقدمها هوبز لمجتمع الانسان ، هي ذاتها التي عول عليها افلاطون ومن تاثر به .
التساهل في التحريم والميل الى اساليب الردع قد يكون ثمرة لتلك الخلفية الثقافية التي تنظر الى الناس كمادة للفساد ، ولا سيما في الازمان الفاسدة . والمشكلة انه لا توجد اي وسيلة معيارية لقياس ما يوصف بالفساد او الصلاح ، كما ان السائرين على منهج التجريم لا يظهرون عناية كبيرة بالقواعد الاصولية الراسخة ، مثل "حمل عمل المسلم على الصحة" و"بناء العقلاء" وما يماثلها من الامارات المعتبرة من قبيل الرجوع الى العرف العام في تقرير المصالح والمفاسد. وفي ظني ان المدارس الدينية هي الان اكثر ميلا الى اعتبار الزمان الحاضر زمان فساد ، ويرجح عندي ان هذا التصور هو احد انعكاسات ما يسميه الاجتماعيون المعاصرون بالصدمة الثفافية التي نجمت عن الانفتاح على المدنية الغربية ، وما اثمر عنه ذلك من تفكيك واسع لبنى المجتمع التقليدي ، الثقافية والاقتصادية والعلائقية ، الامر الذي ادى الى انهيار منظومات القيم ومعايير السلوك المتعارفة في المجتمع القديم او انكماشها الى نطاقات ضيقة تنكمش بالتدريج.
ضمن هذا الاطار الموسع نسبيا ، فاننا نفهم الميل الى تجريم العامة والتساهل في تحريم الافعال ، باعتباره نوعا من الرفض الذهني للتغيير القسري في الحياة الاجتماعية . وهو رفض يقف عند حدود التمرد على هذا الواقع لكنه لا يقدم بديلا افضل منه ، ولهذا فانه سرعان ما يتلاشى ويصبح مجرد خبر . هذا هو المصير  الذي آلت اليه محاولات مماثلة في اوقات سابقة ، مثل تحريم تعليم البنات ، وتحريم بعض العلوم مثل الجغرافيا واللغات الاجنبية ، وتحريم العمل في بعض القطاعات مثل البنوك والجمارك ، وتحريم السفر الى بلاد الاجانب ، ووو.. الخ

25/12/2004

الكلفة السياسية لفواتير الهاتف


 طبقا لتقارير الصحافة المحلية فان شركة الاتصالات السعودية قادرة على منع اي مواطن او مقيم من السفر اذا كان مديونا لها ، وتقول الشركة ان هذا ينطبق على المديونيات التي تتجاوز العشرة الاف ، لكن مواطنين افادوا بانهم او مكفوليهم منعوا من السفر من اجل خمسة عشر ريالا فقط . والمبلغ الاخير يقل بالتاكيد عن كلفة المحاسبة وفرض قرار المنع وتنفيذه اذا اردنا ان نحسب كلفة العمل الذي تقوم به الشركة او جهة التنفيذ . هذه الكلف في المجموع تمثل اهلاكا لعوامل الانتاج ، ولو جرى احتساب مجموع الكلفة التي تقع على جميع المتضررين ، فلربما تصل الى نسبة مؤثرة من الناتج الوطني العام .

الكلفة المادية على اهميتها قد تكون هينة بالقياس الى الكلفة السياسية والاجتماعية لمثل هذا النوع من الاجراءات. من الناحية القانونية فان شركة الاتصالات لا تختلف عن اي بقال في السوق ، فكلاهما يعتبر – قانونيا – وحدة تجارية خاصة غرضها الربح ، وبالتالي فان علاقتها مع المواطن من جهة ومع الدولة من جهة اخرى ، هي علاقة مصلحة مالية بحتة . صحيح ان شركة الاتصالات تقدم خدمة عامة ، لكنها خدمة مقيمة بالكامل على اساس تجاري وغرضها الربح وليس مساعدة المواطنين فلماذا تمنح حقا من نوع منع المواطنين من السفر . دعنا نتصور خطورة المسألة لو ان كل منشأة تجارية اخرى حصلت على حق مشابه ، حينئذ فان البقال الذي يجاور بيتك يستطيع منعك من السفر لانك تأخرت في سداد قيمة مشترياتك ، والبنك سيمنعك من السفر حتى تسدد فاتورة البطاقة الائتمانية ، وشركة الكهرباء لان الشيك لم يصلها في الموعد المقرر ، وصديقك الذي تدين له بعشرين ريالا لانه نسي انك دفعت حقه ، وصاحب التكسي لانه صادف يوما انك ركبت السيارة ولم يكن معك فكة ، وشركة الخطوط لانك حجزت مقعدا ولم تشتر التذكرة ، وو.. الخ . وقبل زمن كانت شرطة المرور تستطيع منعك من السفر اذا لم تسدد مخالفات السير ، ولا ادري ان كان الامر جاريا حتى الان ام لا .

المبالغة في ايقاع عقوبة المنع من السفر على المواطنين لاي سبب ، معقولا او غير معقول له كلفة سياسية كبيرة تتمثل في تعميق شعور الناس بالحصار. اي ان تكون حركة المواطن وعمله وسفره ومعيشته، كلها محكومة بارادة اخرين يتمتعون بقدرة مطلقة وفورية على اعاقته في اي وقت .

من ابرز سمات الدولة الحديثة هو التمييز الحاسم بين الدولة (التي تمثل جميع الناس) والمنشآت التجارية التي تمثل مصالح اصحابها فقط . بموجب هذا التمييز فان القطاع التجاري يمنع بصورة كاملة من الاستفادة من قوى الدولة او صلاحياتها القانونية لتحقيق اغراض تجارية خاصة ، ومن بينها منع التجار من ايقاع اي نوع من العقوبة على المواطنين . ولهذا مثلا فان الدول المتقدمة تمنع على الشركات التي تستفيد من ميزات ترجيحية (من نوع احتكار صناعة الاتصالات الذي تتمتع به شركة الهاتف) من قطع الخدمة الا بعد اخطار قانوني متكرر وتمكين المواطن من الرد والاعتراض امام جهة محايدة .

ما يهم التاجر هو الربح اولا واخيرا ، اما الدولة فينبغي ان تهتم بتحرير المواطن من الضغوط المختلفة ، المعيشية و الاجتماعية وغيرها . المنع من السفر هو حرمان للمواطن من حق طبيعي واصلي يتمتع به بموجب المواطنة وهو عقوبة كبيرة جدا تقارب عقوبة السجن . وطبقا للنظام الاساسي ومواثيق حقوق الانسان التي وقعتها المملكة في اطار الامم المتحدة ، فانه لا يجوز حرمان المواطن من حقوقه الطبيعية الا بموجب قرار من محكمة صالحة وضمن اجراءات التقاضي المعمول بها في البلاد.

في اعتقادي ان منع المواطن من السفر بناء على طلب شركة الاتصالات او المرور او اي منشأة اخرى من دون حكم قضائي متكامل الاركان ، هو مخالفة صريحة للنظام الاساسي الذي هو مرجع القوانين جميعا ، كما انه يزيد في الشعور بالمظلومية والحصار عند المواطنين . وفي مثل الظروف الحالية فاننا بحاجة الى اشاعة الرضى بين المواطنين وليس القهر . اذا ارادت شركة الاتصالات ان تحصل على حقوقها فلتقم دعوى قضائية على من تشاء ، لا ان تخرق الحقوق الثابتة للمواطن.

الدولة هي الجهة الوحيدة التي لها الحق في ايقاع العقوبات وهذا الحق مقيد – بموجب النظام الاساسي- بقرار المحكمة وتوفر ضمانات قضائية متساوية لجميع الاطراف . لهذا فينبغي عدم التوسع في استعمال القرارات الادارية ، سيما تلك التي تنطوي على خرق للحقوق الاساسية للمواطن بالنظر لما تؤدي اليه من تعقيدات في العلاقة بين المواطن والدولة ، وهو مالا يريده اي عاقل لا سيما في مثل الظروف الحالية.

 ( السبت - 13/11/1425هـ ) الموافق  25 / ديسمبر/ 2004  - العدد  1287

18/12/2004

حذام العصر وسياساتها


 كافة الاحزاب التي قررت المشاركة في الانتخابات العراقية ، مثل تلك التي قاطعتها ، تدعي ان لديها برنامجا لاعادة بناء النظام السياسي العراقي الجديد، الا انه يستحيل تقريبا اختبار مصداقية اي من هذه البرامج . كما ان اغلبية الناخبين المفترضين لن يكونوا قادرين على المقارنة بين الطروحات المختلفة والتصويت على اساسها . ولهذا فان تلك البرامج هي اقرب الى الشعارات او الآمال منها الى خطط العمل . في ظني ان الاغلبية الحاسمة من الناخبين سوف تصوت لقائمة معينة بناء على المعرفة الشخصية لواحد او عدد من المرشحين في تلك القائمة ، او بناء على الانطباعات الشخصية عن تلك الاسماء ومن يدعمهم .
في ظل التركيز على الاشخاص او الاسماء ، فانه لا يضير المرشحين ان يعرضوا شعارات متشابهة ، الامر الذي يثير سؤالا مشروعا : اذا كانوا متفقين على كل هذه الامور فما الذي يتنافسون عليه اذن؟. 

اختصار السياسة في الاشخاص هي مشكلة مزمنة في العالم العربي ، وهي ترجع اساسا الى طبيعة العلائق الاجتماعية في المجتمعات التقليدية ، حيث ترتبط الثفة بالتعارف الشخصي او الكاريزما الحقيقية او المصطنعة للافراد الذين يسعون للسلطة سواء على المستوى الاجتماعي او السياسي. الناس في المجتمعات التقليدية لا يهتمون كثيرا بالتحقق من صدقية ما يعد به الشخص ، ولا يحاسبونه فيما بعد على النجاح او الفشل في تحقيق وعوده . ولهذا فانه يسهل دائما تقديم اعظم الوعود حتى لو كانت مستحيلة موضوعيا او عمليا.

تعاني الحركة الدينية من هذه المشكلة بدرجة اكبر من غيرها لاسباب كثيرة ، ابرزها ان فكرة الثقة بالشخص تتحول تدريجيا الى نوع من التسليم لذلك الشخص. نجد ان مقلدي العلماء واتباع القادة الدينيين  ينظرون الى الفقيه او القائد كتجسيد للحق . وفي هذه الحالة فان مقولاته وارائه العلمية تكتسي نوعا من العصمة ولا تقارن باي راي آخر . واذا انتقدها احد فان هذا النقد يفسر فورا على انه اعلان للعداوة او ضلال عن الحق اوانحراف عن الطريق ، الزعيم هو حذام العصر"اذا قالت حذام فصدقوها فان القول ما قالت حذام" .

الحركة الدينية تحتاج بدرجة اكبر من غيرها الى معالجة هذه المشكلة لانها لا تستند الى تجربة في العمل السياسي واضحة المعالم وقادرة على اقناع الاخرين . بعض تجارب الحركات الاسلامية المعاصرة في السلطة مخيبة للامال ، والاخرى مستثناة من جانب الاسلاميين العرب ، لاسباب طائفية او لارتباطها بجدل التقليد/الحداثة . في ظني ان عجز النخبة السياسية العربية – وبينها الاسلامية – عن ابتكار برامج للتحديث منسجمة مع شبكة العلاقات الثقافية الخاصة للمجتمع العربية ، ومتناغمة في الوقت ذاته مع متطلبات المدنية المعاصرة ، هو احد الدواعي المهمة لتركيزها على الاشخاص . كما ان غياب النقاش الحر حول برامج العمل يجعل الجميع مضطرا الى التعويل على الاشخاص .

التركيز على الشخص هو مشكلة للمجتمع والدولة معا ، وهو احد الاسباب التي تحول التنمية الاجتماعية والسياسية من مسار متواصل ومتصاعد الى مراحل متقطعة . ذلك ان التعويل على الشخص بدل المشروع او البرنامج يجعل وجوده على راس المجتمع قدرا لا مفر منه . نحن نعرف ان لكل شخص طاقة معينة ، فكرية او عملية ، ترتبط فائدتها وفاعليتها بمرحلة زمنية خاصة. فاذا تجاوز المجتمع تلك المرحلة ، فان زمام الامور ينبغي ان يتحول الى رجال اخرين اوضح انتماءا للمرحلة الجديدة واقدر على فهم متطلباتها "لكل زمان دولة ورجال" . 

حينما يجري التركيز على الشخص ، ايا كان السبب ، فان ذلك الحراك التنموي الطبيعي سوف يتوقف ، وينكمش معه الحراك الاجتماعي او يتحول الى نوع من التصادم بين القيم والاعراف الموروثة من جهة ومتطلبات التحديث المتواصل من جهة اخرى . في هذه المرحلة فان عدم التغيير سيؤدي بالضرورة الى استهلاك متعاظم للقيم الروحية والاخلاقية لصالح الشخص وتحويلها من آليات نظم للحركة الاجتماعية تحظى بالاجماع الى مبررات لقهر الاجيال الجديدة بواسطة الحرس الاجتماعي القديم.

منتصف ديسمبر 2004 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...