21/02/2018

حول الميل للتيسير والتشدد

سألني زميل لي هذا الاسبوع عن سر ما يراه من ميل غالب للتشدد في الرأي والفتوى عند بعض الفقهاء ، وميل معاكس نحو اللين والتيسير عند آخرين. وهذا يظهر أحيانا في الموقف من مسألة واحدة. وكنت قد تحدثت يوما حول هذي المسألة مع استاذ لي ، فأخبرني انه يؤيد التشدد في بعض الاحكام ، كي يبتعد الناس عن حدود الحرام ، حتى لو كان في المسألة فسحة للتيسير. وذكرني بقول متداول ، ولعله من المأثورات "من حام حول الحمى يوشك ان يقع". كما شرح لي فكرة الاحتياط النظري والاحتياط العملي. وزبدة ما أراد بيانه ان كثيرا من احكام الشريعة ، تشير الى مجال التكليف ودائرته او حدوده ، فالراغب في الاحسان يأخذ بالحد الأعلى ، والمقتصد يأخذ بالحد الأدنى.
وبدا لي ان في الناس من يشعر بالحيرة ازاء اختلاف الفقهاء في المسألة الواحدة ، بين ميسر ومعسر ، مع وضوح موضوع المسألة ، وتوفر الأدلة لكلا الفريقين.
من نافل القول ان اليسر أصل في الشريعة ، وان اتباع الحد الأدنى من التكليف ، او الأخذ بحده الأعلى ، خيار شخصي للمكلف. وقد ورد في الأثر "إن قوما شددوا على أنفسهم ، فشدد الله عليهم". لكن هذا ليس جوهر الموضوع. جوهر الموضوع هو موقع الدين في حياة الفرد والجماعة.
نستطيع تخيل ثلاث فرضيات ، تشرح العلاقة بين الدين وحياة اتباعه:
 الفرضية الاولى: ان التشريع الديني منظومة مسبقة التصميم والتشكيل ، تخاطب الفرد من فوق ، وتوجب عليه التزام تعاليمها دون مناقشة او تعديل. 
الفرضية الثانية تشير لعلاقة معاكسة ، حيث يكون التشريع أشبه بمائدة متعددة الخيارات ، ياخذ المكلف منها ما تشتهي نفسه ، من دون التزام بأية أولويات. 
الفرضية الثالثة: ان العلاقة بين الشريعة وحياة الفرد تفاعلية ، تتبع فلسفة عامة للدين أو الحياة ، فقد تتغير الاحكام او تتغير اولويات التطبيق ، بحسب الزامات الظرف الحياتي او الروحي للفرد او متطلبات محيطه.
الفرضية الأولى تتعامل مع الدين كقيد على حياة الفرد أو على سلوكه ، مثلما يقيد نظام المرور مثلا حركة السيارات في مسارات محددة. الفرضية الثانية تتعامل مع الدين كاضافة لحياة الفرد ، لا كجزء من جوهرها. اما الثالثة فهي تتعامل مع الدين والشريعة كدليل للحياة وأداة ارتباط بين الانسان وعالمه.
تبدو الفرضية الثالثة اقرب للمفهوم القائل بان التحول هو المضمون الاساس لعلاقة الانسان بعالمه ، وان عناصر هذه العلاقة في حال سيولة دائمة. كلما اتسعت مدارك الانسان وامكاناته الذهنية او المادية ، تغير عالمه وتغيرت علاقته بهذا العالم. وفي هذه النقطة بالتحديد ، تكمن أهمية الايمان ، ويتجلى دوره المحوري كعامل ربط ايجابي بين الانسان والطبيعة. ونضرب مثلا على هذا ، بالتوترات السلبية المتولدة عن اتساع امكانات الفرد ، مثل الحالة التي نسميها بالغرور او الطغيان. يتولى الايمان هنا موازنة تطلعات الفرد وتوجيهها نحو الاحسان والعمران بدل الهدم والطغيان.
لو فكرنا في الشريعة من هذه الزاوية ، فقد نجد ان الاحكام التي تثير الجدل ، ليست سوى توجيهات للسلوك في مرحلة تاريخية محددة ، او ظرف اجتماعي او شخصي معين ، وليست من نوع القيم العابرة للزمان والمكان. لو قبلنا بهذا التحليل ، فربما لا يعود لجدل التيسير والتشدد مكان ، لأننا حينها سننظر للاحكام كترتيبات مرحلية ، لا كتعاليم ناجزة مفروضة من خارج حياة الانسان او منفصلة عنها.

الشرق الاوسط الأربعاء - 5 جمادى الآخرة 1439 هـ - 21 فبراير 2018 مـ رقم العدد [14330]
http://aawsat.com/node/1182141


14/02/2018

من الحجاب الى "العباية"



احتمل ان بعض القراء اطلع على الجدل الذي أعقب حديث الشيخ عبد الله المطلق ، حول حجاب المرأة في الاسبوع المنصرم. ويتمتع المطلق باحترام كبير بين السعوديين. وهو عضو في هيئة كبار العلماء ، قمة الهرم في المؤسسة الدينية في المملكة.
استطيع القول من دون تحفظ ، ان الرؤية التي قدمها الشيخ ذات قيمة استثنائية ، نسبة الى نسق الفتوى والدعوة في المجتمع السعودي. وهذا يظهر في نقطتين. اولاهما تأسيس الفتوى على مغزى الحكم الشرعي ومقاصده ، خلافا للمنهج السائد الذي يربط الحكم بما ورد في النص لفظا ، أو بما تعارف جمهور العلماء على فهمه ، حكما او تطبيقا للحكم. اما الثانية فهي تمييزه بين الحكم الشرعي وعرف المجتمع ، سيما العرف الذي ارتدى لباس الشريعة.
فيما يخص النقطة الاولى ، راى الشيخ ان حكم الحجاب محوره الستر ، وليس طريقته او نوع اللباس المستخدم فيه. وفيما يخص النقطة الثانية ، قدم اشارة ذكية فحواها ان عرفنا المحلي وتقاليدنا ، قد تحدد طريقة تطبيق الحكم الشرعي في بلدنا ، في وقت ما. لكن هذا مقيد بمكانه وموضوعه. ولا يمكن اعتباره قيدا عاما على الحكم الشرعي ، ولا هو متقدم على العادات او التقاليد المماثلة في مجتمعات اخرى ، ذلك ان "95 بالمئة من المسلمات حول العالم لا يعرفن العباءة ولا يرتدينها ، مع التزامهن بالحجاب الشرعي". بعبارة أخرى ، يقر الشيخ بان التقاليد لها مكان في منظومة التشريع العامة. لكنها تبقى في منزلة أدنى من الحكم الشرعي الاساسي. ولذا فان مستوى الالزام فيها ، دون مستوى الالزام في الحكم العام.
ملاحظة الشيخ المطلق هذه تعني ضمنيا ان في الاحكام سعة. لأن الافهام والاعراف التي يعتمدها الفقهاء والجمهور في بلد ، لا تلزم المجتمعات الاخرى. كما ان من يخالف تلك الافهام والاعراف في نفس البلد ، لا يعد معاندا للشريعة ، بل مخالفا للعرف والتقاليد السائدة فحسب.
لفت نظري ان ايا من العلماء البارزين لم يعلق على رؤية الشيخ المطلق ، مع علمي بان بعضهم لديه آراء متشددة في نفس الموضوع. وافترض ان هذه الرؤية لن تريحه. ولعل سكوتهم راجع الى شعور بأن المجتمع يميل فعليا الى التخفف من التقاليد المتشددة ، من خلال التأكيد على التمايز بينها وبين الاحكام الشرعية. وقد رأينا تجسيدا لهذا الميل في أكثر من مناسبة خلال العامين الأخيرين.
أما الذين جادلوا الشيخ ، فقد ركزوا على عامل التوقيت. ولعل المقصود به التشكيك في الدوافع الكامنة وراء الفتوى ، بالقول مثلا انها تشكل استجابة لمتطلبات المرحلة ، وليست مجرد بيان لحكم فقهي. هؤلاء يقولون صراحة او ضمنيا ، انهم لا يريدون التخلي عن تقليد راسخ ، عاشوا حياتهم كلها وهم يعتبرونه جزء من المنظومة الاخلاقية والعلائقية. مثل هذا التبرير يؤكد حقيقة ان بعض التقاليد الاجتماعية تتلبس رداء الدين ، فتتحول الى بنية اكثر صلابة ومناعة من تعاليم الدين ذاته.
من نافل القول ان اختيار الوقت الملائم لاعلان رأي او فتوى في موضوع جدلي ، لا يطعن في صحة الفتوى ولا يعيب قائلها. بل لا يعيبه ان يكون قد تبنى في الماضي رأيا ثم تركه لاحقا الى غيره. انما العيب ان تتبنى عادة او عرفا خاصا ، ثم تلزم الناس به كما لو كان أمر الله الصريح ، بلا قيد ولا شرط.

الشرق الاوسط الأربعاء - 28 جمادى الأولى 1439 هـ - 14 فبراير 2018 مـ رقم العدد [14323]
http://aawsat.com/node/1174441

مقالات ذات علاقة 




اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...