06/06/2006

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية



|| معظم نقاشات الفلسفة السياسية تتناول سؤال: الى اي حد نسمح للدولة بتقييد حرية الفرد، وكيف نمنعها من تحويل الانسان الى عبد||.
  النقاش الدائر في الصحافة ومجالس المثقفين السعوديين حول صفة الدولة  ، هل هي دينية ام مدنية ، يخفي وراء سطوره خلافا اساسيا حول مفهوم "الحرية". في حقيقة الامر فان الخلاف حول الحريات المدنية وحقوق الانسان الاساسية هو الباعث الرئيس وراء هذا الجدل وان لم يصرح به المتجادلون. مشكلة الحرية تراها ماثلة في كل سطر من سطور ذلك النقاش الطويل ، وهي ايضا ماثلة في الاطار الموضوعي "الاجتماعي والزمني" لهذا النقاش. المدافعون عن فكرة "الدولة الدينية" لا يقولون بان الدين ضرورة لتعزيز العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر ، او المساواة بين خلق الله الذين يعيشون على ارض واحدة ويشتركون في عمرانها. فيما يتعلق بالاطار الموضوعي للجدل ، فالمعروف انه ثار على خلفية التغير الذي شهده المجتمع السعودي خلال الفترة  الاخيرة ، والذي عبر عنه في توسع الصحافة المحلية في تناول القضايا التي جرى التعارف سابقا على تحاشيها ، مثل نقد الهيمنة المذهبية الاحادية ونقد ممارسة الهيئات الدينية ، اضافة الى نقد ما يعتبر مغالاة في الدين ولا سيما استعماله لقهر القوى الاجتماعية الخارجة عن هيمنة التيار الديني المتشدد. وكان عود الكبريت الذي اشعل النار هو قرار وزارة العمل بالسماح للنساء بالعمل في محلات بيع الملابس النسائية ، خلافا لما جرى عليه العرف حتى الان من منع النساء من العمل في الاسواق .
كتب الكثير من الكلام حول جزئيات هذه القضايا ، لكن المسألة التي بقيت معلقة هي مسألة الحرية والحقوق المدنية. السؤال المطروح باستمرار على الفاعلين السياسيين هو: ما هو تعريفهم لمفهوم الحرية ؟. وما هو الحد الادنى من الحقوق المدنية التي يتمتع بها الفرد ولا يجوز خرقها او التدخل فيها من جانب اي سلطة ؟. مثل هذه الاسئلة هي جوهر العلاقة بين اعضاء اي مجتمع. من البديهي ان يسأل كل انسان نفسه: هل انا حر ام عبد ؟. وماذا يعني ان يكون الانسان حرا او يكون عبدا.
الذين يصنفون انفسهم كاسلاميين – في الاطار السعودي على الاقل – يقولون بانهم يدعون لحرية منضبطة ، فما هو معنى الحرية المنضبطة ؟. هل انا حر في ان استعمل عقلي وافكر كما اشاء ، ام على ان استأذن احدا قبل التفكير في اي مسألة ؟. هل استطيع اختيار نمط حياتي ومعتقداتي بناء على ما يوصلني اليه عقلي ، ام يجب على الرجوع الى "دليل المستعمل" كي اتبع ما يقرره واضع الدليل ؟. هل اتمتع بحقوق متساوية مع الغير ، وهل اختار مكاني الاجتماعي بحسب كفاءتي ، ام ان مكاني محدد سلفا ونهائيا على ضوء المخطط الكلي الذي وضعه مهندس هذا المجتمع ؟. وفي نهاية المطاف: هل املك مساحة خاصة من الحياة الشخصية استطيع ان اعيش فيها متحررا من كل احد ام ان حياتي كلها ، من الحمام وغرفة النوم الى الشارع والمدرسة ومكان العمل ، كلها خاضعة لولاية شخص ما وسلطته ؟.
"الحرية المنضبطة" مفهوم متناقض ، يشبه الى حد كبير مفهوم "المستبد العادل" الذي طرحه الفلاسفة اليونانيون قبل قرون ، وكرره بعض مفكري العرب في اواثل القرن العشرين. ثمة تعارض داخلي بين جزئي الحرية والانضباط ، مثلما يتعارض الاستبداد مع العدالة. يمكن لنا ان نتحدث عن المسؤولية كمقابل للحرية، اي ان يكون الانسان حرا ويتحمل مسؤولية قراره وعمله ، وهذا يختلف عن مفهوم "الحرية المسؤولة" الذي لا يقل تناقضا عن سابقه.
مسؤولية الانسان مثل حريته ليست تكليفا تفرضه سلطة ما على الفرد ، بل هي اختيار يقرره الفرد بارادته وقناعته ومعرفته . انت تقرر تحمل المسؤوليات (التي تؤدي بالضرورة الى تحديد بعض حرياتك) مقابل شيء تأخذه من المجتمع مثل الضمانات القانونية التي تحميك من عسف الاقوياء ، ومثل الفرصة في ان تحصل على منصب عام يتوقف الوصول اليه على موافقة المجتمع ، ومثل التمتع بفضائل الحياة الاجتماعية الاخرى التي لا تستطيع ضمانها حين تعيش منفردا . لكن هذا لا ينبغي ان يؤدي ابدا الى تجريد الانسان من حريته الشخصية وحقوقه المدنية الاساسية التي هي جزء من جوهر وجوده كانسان .
 بكلمة اخرى فان العاقل لا يقبل بان يتحول الى عبد مقابل انضمامه الى المجتمع او حصوله على وظيفة او تمتعه بحماية القانون . السجناء جميعا يتمتعون بحماية الشرطة ، وهم يحصلون على وجبتهم اليومية كما يحصلون على فرشة او سرير ينامون عليه ، وكل منهم - اضافة الى ذلك - يعيش وسط جماعة ، فهل هذا ما نرغب في الحصول عليه ؟ . السجن مثال لنوع من الحياة الاجتماعية لكنه مثال لا يريد احد ان يشارك فيه لانها ببساطة حياة تنعدم فيها الحرية .

يمكن للدين ان ياتي بالحرية ويمكن له ان يزيلها ، كما يمكن للدولة المدنية ان تحمي حريات المواطنين او تحولهم الى عبيد . وبناء عليه فان ما هو مهم في هذا النقاش ليس صفة الدولة ، بل انعكاس وجودها على حقوق الفرد وحريته . من البديهي ان وجود الدولة بذاته هو سبب لتقييد الحرية ، ولهذا فان  كل النقاشات الفلسفية والنظرية منذ ظهور علم السياسة وحتى اليوم ، تدور حول نقطة جوهرية هي : الى اي حد نسمح للدولة بتقييد حرية الفرد ، وكيف نمنعها من تجاوز الحدود النهائية التي اذا اخترقت تحول الانسان الى عبد.

30/05/2006

قرش الخليج الابيض


الخبر الذي لم يلفت انتباه الكثيرين يقول ان البنك الدولي قد دعا دول الخليج الى التركيز على الصناعات التصديرية بدل الافراط في الانشاءات المكلفة . ويمثل البنك وشقيقه صندوق النقد الدولي ابرز هيئة تعنى بالاقتصاد العالمي . فيما يتعلق بنصيحته لدول الخليج ، فهو يقول ببساطة ان ارتفاع اسعار البترول قد وفر لهذه المنطقة مداخيل تتجاوز ما تحتاجه لنفقاتها الفورية والقصيرة الامد . وان عليها ان تستثمر هذه الفرصة في جمع قرشها الابيض ليومها الاسود . لا نتمنى بطبيعة الحال ان نصل الى يوم اسود ، لكن الامور لا تجري دائما وفق ما يشتهي الانسان . ولم ننس بعد الازمات الخانقة التي اصبنا بها يوم تدهورت اسواق البترول في النصف الثاني من الثمانينات و ما زالت بعض آثارها مشهودة حتى اليوم .

نحن بحاجة الى التحرر من الارتهان المطلق لتصدير البترول الخام . صحيح انه يمثل حاجة للاقتصاد العالمي يستحيل الاستغناء عنها في المدى المنظور . لكن الصحيح ايضا ان اعتماد العالم على بترول الخليج يرجع في المقام الاول الى وفرته ورخص اسعاره . وفي اوائل الثمانينات نصح وزير البترول السعودي الاسبق احمد زكي يماني دول الاوبك بالمحافظة على معادلة مناسبة للانتاج والاسعار ، لان الارتفاعات المتوالية  ستؤدي في رايه الى عودة الامريكيين الى الالاف من ابار البترول التي اغلقت لارتفاع كلفة الانتاج . كما ستؤدي الى جعل مصادر الطاقة الاخرى –  المحطات النووية مثلا - اقتصادية . ونضيف هنا ان العالم يشهد توسعا في اكتشاف مصادر جديدة للبترول سواء في غرب افريقيا او في اسيا الوسطى وحتى في الصين . ونضيف ايضا ان تطور تقنيات الكشف والاستخراج قد اعادت الحياة الى عدد من الحقول التي اعتبرت ناضبة في خليج المكسيك وامريكا الشمالية . هذه التطورات ستقلل من القدرة التنافسية لبترول الخليج ، لا سيما اذا حافظت الاسعار على معدلاتها الحالية المرتفعة .

المشكلة ليست هنا ، فكل سلعة في العالم تواجه منافسة من سلع اخرى مماثلة او بديلة . المشكلة ان مسارا من ذلك النوع قد يوصلنا الى نقاط ارتكاز حرجة . قبل ربع قرن على سبيل المثال كنا قادرين على تدبير امورنا بتصدير خمسة ملايين برميل بسعر عشرين دولارا للبرميل . لكننا لا نستطيع اليوم تدبير امورنا حتى مع مضاعفة الرقمين . ليس فقط لان عدد سكان المنطقة قد تضاعف ، بل لان نوعية حاجاتهم وكلفة حياتهم قد اختلفت وتضاعفت بنسب اعلى . ويعرف دارسو الاقتصاد السياسي ان نقطة الاشباع الحدي للحاجات تتصاعد بالتدريج بحسب قدرة الفرد على تلبيتها . وما يعتبر في وقت ما كماليا يتحول اذا تم الحصول عليه الى ضروري ، وبالتالي فان كلفة المعيشة تتصاعد بانتظام ، ويمكن للقاريء ان يقارن بين كلفة حياته الان وكلفتها قبل عشرة اعوام كي يتلمس هذا المعنى . خلاصة القول اذن ان مداخيل البترول لا يمكن ان تستمر في التصاعد الى ما لانهاية ، وان اي مستوى تصل اليه سيتحول بالتدريج الى نقطة ارتكاز لكلفة المعيشة او نقطة اشباع حدي للحاجات الحيوية . وهذا سيعيدنا من جديد الى نفس المشكلة التي واجهناها في النصف الثاني من الثمانينات ، اي قصور الموارد عن تلبية الحاجات .
الخيار الذي يبدو بديهيا هو الاتجاه الى الصناعة كمحور لتنويع قاعدة الاقتصاد الوطني . ويمكن النظر اليها من زاويتين : الانتاج المحلي يمثل وسيلة للتخفيف من عبء الواردات ، اي اعادة تدوير النفقات ضمن حدود الاقتصاد المحلي ، وبالتالي تكرار الاستفادة من راس المال . والزاوية الثانية هي زيادة عائدات التصدير . على سبيل المثال فان تصدير برميل من البنزين او الديزل يعود باضعاف قيمة تصدير برميل من الزيت الخام ، والامر نفسه يقال عن تصدير المواد البتروكيمياوية الوسيطة المصنعة من مصادر بترولية .

طرح هذا الموضوع تكرارا في السنوات الماضية ، لكن لسبب ما فانه لم يحظ باهتمام السياسيين واصحاب القرار . ويبدو هؤلاء اكثر شوقا الى الانفاق على بناء العمارات والمطارات الضخمة منهم الى بناء المصانع وتوسيع قاعدة الانتاج الوطني . هناك من يقول بان دول الخليج عاجزة عن التصنيع لانها تفتقر الى الخبرات التقنية ، او لان شعوبها كسولة او لانها مصابة بمرض تفضيل الاجنبي على المحلي . وكل هذه المبررات هي انطباعات شخصية وليست نتاج بحث علمي . ولعل تجربة الصناعة في السعودية هي اكبر دليل على سقم هذه الاقوال ، فهي على رغم محدوديتها تمثل دليلا على القابلية الهائلة للتطور في هذا الطريق . وخلال السنوات العشر الماضية تحولت شركة سابك ، وهي محور صناعة البتروكيمياويات السعودية ، الى مصدر عالمي معروف للمواد الصناعية الوسيطة ، وحافظت على صادرات سنوية تقدر بمئات الملايين . ويمثل الموظفون السعوديون اكثر من نصف قوة العمل في هذه الشركة العملاقة . ونجاح هذه الشركة ونظيراتها دليل على ان طريق الصناعة ممكن ومثمر وقادر على تحقيق نجاحات.

توفير القرش الابيض لليوم الاسود لا يعني تخزين الاموال في البنوك ، وليس شراء استثمارات في خارج المنطقة كما يفعل بعض الاثرياء وشركات الاستثمار.  اذا اردنا النظر الى الموضوع من زاوية وطنية بحتة ، فان توفير القرش الابيض يعني توسيع وتنويع قاعدة الانتاج الوطني وزيادة مصادر التمويل المحلي ، للخلاص من الارتهان الحالي لاسواق البترول واسعاره وازماته .


17/05/2006

تركي الحمد



شعرت بالحزن حين قرأت مقابلة الدكتور تركي الحمد في موقع قناة العربية الاسبوع الماضي. يمثل تركي الحمد واحدا من العلامات البارزة في ميدان الثقافة العربية المعاصرة. فهو من ذلك النوع من المفكرين الذين قد تعشقهم او قد تبغضهم، لكنك لا تستطيع تجاوزهم او اغفالهم. انشغال الناس به يذكر بالمتنبي
انام مليء عيوني عن شواردها 
ويسهر الناس جراها ويختصموا
يقول تركي الحمد انه سيهجر مسكنه بحثا عن الامان، فان لم يجده فقد يهجر وطنه كليا. اتمنى ان لا يحدث ذلك واراهن على بقية من عقل عند هؤلاء الذين ضيقوا على الرجل حتى اضطروه الى الرحيل. لكن عليهم ان يفهموا ان هذا لو حصل فسيكون لوثة في تاريخهم الى يوم الدين

كل من قرأ التاريخ يذكر بالفخر والاكبار اولئك الزعماء الذين حموا اهل الفكر واحتضنوهم، كما يذكر باشمئزاز اولئك الذين قهروا اهل الفكر وآذوهم. حين تمر السنوات ستكون اخبار اليوم تاريخا. حينئذ سيقال ان تركي الحمد المفكر البارز قد تعرض للقهر على يد «فلان» الذي اهدر دمه او تسبب في تهجيره
وسيذكر المقهور الى جانب اهل القلم. بينما يضيع القاهر في عتمات التاريخ، او ربما يذكر في صف الجلادين والقتلة. نذكر اليوم ابن سينا، ونذكر ابا حامد الغزالي، ونصير الدين الطوسي، والجاحظ، وابن رشد. عاصر كل من هؤلاء الرجال عشرات من حملة السياط والسكاكين وكتاب فتاوى القتل، فمن يذكر هؤلاء ومن يعرفهم؟. لقد تعفنوا في قبورهم وذابت سكاكينهم في التراب، بينما تحولت اقلام اولئك الى اشجار شامخة، تؤتي اكلها كل حين باذن ربها. نصيحتى لاصحاب فتاوى القتل ولمنظمي حملات التهديد والارعاب، ان يرحموا انفسهم، وان يكرموا ذرياتهم واهليهم بالعودة عن هذا الطريق الذي نهايته سوء الذكر ابد الدهر.


في ماضي الايام كان شيخي يقول لي ان الاخلاق دار والسياسة دار اخرى، ولا تدخل الثانية حتى تخرج من الاولى. ومرت الايام وفهمت ان الدارين دار واحدة، وان المشكلة لا تكمن في السياسة، بل في الشعور بالقوة والاستغناء، اي امتلاك السلطة او الرغبة فيها. بعض الناس يملكون سلطة الدولة ويملك غيرهم سلطة على القلوب

كل صاحب سلطة يرغب في القهر او يمارسه قصدا او سهوا، فالقهر هو التعبير الوحيد الحقيقي عن القوة والتميز عن الغير. لكن الاخلاق هي لجام السلطة. وهي ما يحول بين صاحبها وبين تحويلها الى اداة للقهر. يمكن لشيخ الحارة ان يقهر الناس مثلما يمكن للامير والوزير، كلا بحسب قوته ونطاق سلطته. يمكن لهؤلاء ايضا ان يتورعوا عن القهر، اذا ربطوا نوازعهم بلجام الاخلاق. واول الاخلاق هو احترام حق المخالف في الحياة والامان الشخصي، والخصوصية وحرية العقل وحرية التعبير عن الراي.
حاجة السياسة الى الاخلاق قادت الفلاسفة المعاصرين الى التمييز بين نطاقين من الحقوق الفردية: الحقوق الطبيعية والحقوق التعاقدية. الحقوق الطبيعية هي تلك المساحة من الحياة الشخصية الخاصة بكل فرد، والتي لا يجوز لشخص آخر ولا لحكومة ولا لفقيه ولا لشيخ قبيلة ان يتدخل فيها تحت اي مبرر او عنوان



تضم هذه المساحة حق الحياة الامنة، وحق الملكية واختيار السكن وحق التفكير والراي. اعتبرت هذه الحقوق طبيعية لانها جزء من جوهر انسانية الفرد، وحرمانه منها انتهاك لانسانيته.
 لا يحصل الانسان على هذه الحقوق لانه يعيش في مجتمع معين، او يدين بدين معين، او ينتمي لجماعة او طبقة اجتماعية بعينها، بل يتمتع بها لانه انسان وحسب. وبهذا فان الجميع سواء فيها: المسلم والكافر، حامل الجنسية والغريب، المرأة والرجل، الغني والفقير، المثقف والجاهل، المؤمن والفاسق. اعطانا الله هذه الحقوق ساعة ولادتنا مثلما اعطانا اجسامنا وعقولنا وارواحنا، فلا يجوز لنا ان نتخلى عن اي منها كما لا يجوز لاحد ان يسلبها منا.


جوهر الاخلاق السياسية يكمن في احترام هذه الحقوق. فمن يهدد حياة الناس، او يهدد امانهم الشخصي، او خصوصيتهم او ملكيتهم او حريتهم في التفكير والرأي، فانه يخرج بالضرورة من دار السياسة الاخلاقية، ويتحول الى جبار او جلاد. الجلاد هو من يقهر الناس بسوطه او سكينه مباشرة، والجبار هو من يستخدم هؤلاء الجلادين، او يغريهم، او يؤثر على عقولهم، اي - بشكل عام - يقرر افعالهم وان لم يشارك فيها مباشرة.

الوضع المحزن الذي عبر عنه تركي الحمد هو مثال على ما يمر به المثقفون والمفكرون واهل الراي من عسر حين يمارسون ابسط حقوقهم. وهو اشارة على الخلط المؤلم بين ما يفترض في الداعية من الالتزام بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي احسن، وبين واقع دعاة اليوم، او بعضهم على الاقل، الذين لا يميزون بين الاقلام والسكاكين. هؤلاء الذين غفلوا عن الواجبات الاخلاقية في السياسة والحياة، لا يفرقون بين مجادلة المخالف بالحكمة والعمل على اسكاته بالقوة والتهديد.


13/05/2006

العواجي وغباره وحرية رايه


تعقيب على مقالة «العواجي مثير الغبار» للاستاذ منصور النقيدان
اظن ان اخي الاستاذ منصور النقيدان قد ذهب بعيدا في نقد مسيرة الدكتور محسن العواجي وتحولاته. لم التق بشخص السيد العواجي، لكني اعرف انه يعبر عن راي شريحة معتبرة من المجتمع السعودي. قد نتفق مع قليل من ارائها ونختلف مع اكثرها، لكنها في نهاية المطاف جزء من الراي العام الذي ينبغي لكل صاحب قلم وكل داعية اصلاح ان يحترمه بغض النظر عن موقفه الخاص منه.
منصور النقيدان
لم يؤخذ العواجي بجناية تعيب صاحبها، بل براي توصل اليه عقله، وعبر في لحظته عن مشاعر اراد كثير من الناس التعبير عنها، فخانهم القلم او خانتهم الشجاعة او حال بينهم وبينها ضيق المسارب وانعدام القنوات. لا اتفق مع الاستاذ النقيدان ايضا في محاولته الايحاء بان العواجي قد تجاوز «حجمه» او خرج عن حده او حاول استغلال حادثة معينة او حوادث كي يرتدي عباءة حيكت لغيره. فالبديهي ان التطلع للمكانة الاجتماعية حق ثابت وطبيعي لكل فرد. خاصة اذا استعان بكفاءته ونشاطه في الوصول الى ذلك المكان ، ولم يركب اعناق الناس ، او يستثمر جهود غيره في الانفراد بما هو مشترك بينه وبينهم.
على ان المسألة في جوهرها لا تتعلق بالعواجي شخصيا، بل بحقه في التعبير عن رأيه، وحقه في التعبير عن مشاعر تلك الشريحة من المجتمع التي يمثلها او ينتمي اليها. ربما يعيب النقيدان على الرجل اسلوبه القاسي في التعبير عن هذا الراي، او بشكل عام اسلوبه في العمل السياسي، وربما يتفق كثير من الناس معه على هذا الجانب بالخصوص. لكن لا اظن احدا يشك في ان العواجي كان شجاعا في اعلان موقفه ، وهو يعلم انه قد جاوز او اوشك ما اعتبره غيره خطوطا سوداء وحمراء وصفراء.
في الوقت الذي نتفهم الحاجة الى احترام اعراف اخذ بها مجتمعنا لوقت طويل، فان الحاجة تدعو - بنفس القدر - الى مناقشة الحدود النهائية لهذه الاعراف، ولا سيما حين تتصادم مع حرية الناس في التفكير وفي التعبير عن افكارهم. البلد ملك لجميع اهله، وكل واحد من هؤلاء صاحب حق في تقرير حاضره ومستقبله، وكلهم صاحب حق في اظهار القلق اذا رآها تسير في طريق لا تؤمن نهايته.
عبر العواجي عن قلقه بطريقة سلمية. وكان الاولى ان يجاب على ذلك بمثله. في هذه الايام لا يعتبر انتقاد سياسات الدولة جريمة تستوجب العقاب. ولا يظن احد ان نقدها ، ولو كان بمثل القسوة التي اتبعها العواجي ، سوف يؤدي الى الاضرار بالامن العام والاستقرار. على العكس، فلعل التعبيرعن مشاعر القلق بهذه الصورة السلمية هو صمام امان يحول دون تحوله الى مغذ للمنازعة ومشاعر العدوان.
كان دور الدكتور غازي القصيبي وزير العمل ، هو محور مقالة العواجي التي اخذته الى السجن. ونعرف القصيبي شاعرا واديبا قبل ان يكون وزيرا. مر بالبلاد عشرات الوزراء لا يذكر الناس اسماءهم، لكن اسم القصيبي اشهر من نار على علم، ليس لوزارته بل لادبه وفكره وشعره. ولهذا السبب بالذات فان القصيبي المفكر مدعو الى السعي بكل ما لديه من وجاهة في الدولة وفي المجتمع ، لاطلاق سراح العواجي. ان خطوة مثل هذه ستزيد من مكانة القصيبي في النفوس، وهي ستخفف من حنق الناقمين عليه ، ممن عبر العواجي عن رايهم. وفوق ذلك فهي ستعطي مثالا على التسامي فوق جراح الذات ، اذا تعلق الامر بحرية الراي وحرية الفكر وحرية التعبير.
اخيرا فاني اناشد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، الذي كانت له مواقف سابقة في الحيلولة دون قمع اصحاب الراي، اناشده ان يجعل من حرية التعبير سنة في عهده. وان يشمل بعفوه السيد العواجي مثلما فعل بغيره من قبل. فالعواجي وكل صاحب راي في هذا البلد، هم راس مالها الثقافي ، وهم اعمدة استقرارها ، مهما اختلفت اراؤهم او تعارضت مع هذه السياسة او تلك.
  - 15 / 3 / 2006م 

25/04/2006

هم البحث عن اسماء سخيفة


قارن ما فعلته دبي خلال السنوات العشرين الماضية بما فعله جيرانها . لو اتبعت حكومة دبي التقاليد السائدة في عالم العرب ، لكانت اليوم نسخة اخرى من رأس الخيمة . لكن حكامها فهموا ان عقل الانسان يتسع لما هو ابعد من الخيارات القليلة الظاهرة امامه . لم يكن لدى هذه الامارة الصغيرة ما يكفي من البترول مثل جيرانها ، لكن كان لديها عقول وعقلاء ، واذا كان لديك عقل نير فانت تستطيع الحصول على موارد لا تقل قيمة عن البترول . دبي اليوم لا تحتاج الى البترول لان جميع اصحاب البترول يحتاجون اليها ، وجميع الذين يحتاجون اموال البترول يذهبون اليها .

قارن ايضا ما فعله الاتراك والايرانيون وما فعله جيرانهم العرب خلال نفس الفترة . في العام 1980 شن صدام حسين حربا ضروسا على ايران دامت ثمان سنين ، وما خلص منها حتى مال الى حرب اخرى على جيرانه الخليجيين . في العام 1996 قال لي صديق زار بغداد ان اسواق العراق علمته ان ايران هي التي كسبت الحرب ، لانه وجدها مليئة بالبضائع الايرانية ، من البسكويت الى الثلاجة المنزلية حتى قطع غيار السيارات . 

لم ينس الايرانيون الام تلك الحرب لكنهم لم يتوقفوا عندها ولم يصرفوا جهدهم في تاليف الاشعار حولها ، بل عضوا على جراحهم وكرسوا جهدهم لاعادة بناء اقتصادهم الذي حطمته الحرب . في هذا الوقت كان البعث العراقي مشغولا بالبحث عن اسماء جديدة لجيرانه ومنافسيه مثل اسم القادسية وام المعارك وغيرها . بعد عقد ونصف من تلك الحرب ، تشير تقارير دولية الى ان ايران قد بنت خلال هذه الفترة ما يزيد على ثلاثة الاف كيلومتر من سكك الحديد الجديدة . كما اقامت ثلاثين  مصنعا جديدا للسيارات ، وانتجت في العام الماضي وحده ما يقل قليلا عن مليون سيارة مقارنة بنحو ثلاثين الف سيارة في العام 1988 ، ومعها توسعت صناعة قطع الغيار من خمسين مصنعا الى الفي مصنع . في نهاية العام الجاري سيرتفع انتاج السيارات الى نحو مليون وربع المليون مع بداية الانتاج في مشروع مشترك مع شركة رينو الفرنسية.  نعرف ايضا ان ايران تسعى بجد لتوطين صناعة الطائرات ، وهي تتعاون مع شركات اوكرانية لانتاج محركات لطائرات الهليوكبتر والطائرات الخفيفة والمتوسطة .

ركزت ايران على تطوير التعليم والبحث العلمي ، وتعزيز ثقة شبابها بانفسهم وقدراتهم . كما ربطت بين الجامعات وبين المصانع ومراكز الانتاج ، ولهذا فهي تحقق اليوم اختراقات لافتة في مجال التكنولوجيا ، لعل اخرها هو نجاح مهندسيها في تخصيب اليورانيوم الذي اثار الدنيا ولا يزال.

فعلت تركيا شيئا مماثلا ، وسبقت ايران ، وسبقت بالطبع جميع جيرانها العرب ، فهي تصنع اليوم معظم ما يحتاجه سكانها ، واذا قدر لك زيارة هذا البلد فسوف تجد ان معظم ما يستعمله الناس في حياتهم اليومية مصنوع محليا ، من مواد البناء الى السيارة الى مصعد البناية واثاث البيت وغيره . وحين انتكس اقتصادها في مطلع العقد الجاري ، لم تتردد في علاجه سياسيا ، فقد تنحت الحكومة القائمة وفتحت الباب امام صعود حزب كان يعتبر حتى وقت قريب معاديا للايديولوجيا الرسمية . لكن هذا التغيير اعاد الثقة بالنظام السياسي واعاد الثقة بالقانون ، وبالتالي اعاد قطار الاقتصاد الى سكته .

هل نحتاج الى مقارنة اخرى مع بلد اسلامي مثل ماليزيا ؟ .  خلال اقل من ثلاثة عقود تحولت ماليزيا من دولة زراعية فقيرة الى واحد من اقطاب الصناعة الجديدة في اسيا ، وهي اليوم دولة غنية تصدر من المنتجات المصنعة ما يعادل صادرات ابرز الاقطار البترولية العربية . ويقول رئيس حكومتها السابق مهاتير محمد ان السر في هذا يرجع الى تطوير التعليم وجعله محور الانفاق والتخطيط الحكومي . ونضيف اليه ان ماليزيا اختارت الطريق الديمقراطي واقامت نظاما يشعر كل مواطنيه بالمساواة في الفرص والحقوق . وتضم هذه البلاد مسلمين ومسيحيين وهندوسا كما تضم اعراقا مختلفة .

يحتاج العرب الى اخذ العبرة من جيرانهم . قد يكون عسيرا عليهم ان يقارنوا انفسهم بالولايات المتحدة واوربا التي بدات منذ زمن بعيد وسبقتهم اشواطا . لكن ليس من العسير ان نقارن انفسنا بجيراننا الذين بدأوا في وقت قريب . لا نحتاج الى اعادة اكتشاف العجلة . هذه تجارب فعلية قريبة منا ، يقوم بها اناس مثلنا وفي ظروف مثل ظروفنا .

بعض الناس مهمومون الان بالبحث عن تسميات جديدة لما يصفونه بالتهديد الايراني ، وهي تسميات سبق لحزب البعث وزعيمه صدام ان ابدع فيها ايما ابداع . مثلما اطلق صدام على حربه اسم القادسية واسمى نفسه بحارس البوابة الشرقية من الفرس المجوس ، فان عددا من الكتاب العرب ، من بينهم مثلا الدكتور عبد الله النفيسي ، يفكر في اسم من نوع "التهديد الصفوي" ، وايحاءاته لا تختلف عن تلك التي ارادها صدام .  واظن ان جوهر المشكلة يكمن في ضعفنا الذي يجعلنا على الدوام في حالة قلق من الجيران ومن الاباعد . ضعفنا هو ثمرة تخلفنا في مجال العلم ، وقد نهضت اوربا ونهض غيرها لانهم تقدموا علميا .  اذا كان كل الناس قادرين على فك هذه الاحجية وهم يفعلون ذلك اليوم وقريبا منا ، فلماذا نكون الوحيدين الذين يستبدلون العمل بالنواح ؟. من الواضح ان الاسماء التي يخترعها النفيسي مثل التي اخترعها صدام ، لن تزيدنا الا خبالا وضعفا . واظن ان ما نحتاجه اليوم ليس البحث عن تسميات سخيفة بل البحث عن علل تخلفنا وقراءة تجارب الاخرين الذين سبقونا او كادوا.
الايام 25 ابريل 2006

18/04/2006

طريق الاقلية في دولة الاكثرية


تصريحات الرئيس حسني مبارك والضجة التي اثارتها هي مثال آخر على المشكلات المتأصلة في الثقافة العربية المعاصرة وفي النظام السياسي العربي بشكل اخص .

تتحدث معظم دساتير الدول العربية والاسلامية عن حقوق متساوية لجميع مواطنيها بغض النظر عن اديانهم او مذاهبهم او اعراقهم القومية. لكن الوضع على الارض هو ابعد ما يكون عن هذه الصورة المثالية . فالاقليات في معظم البلدان العربية لا تتمتع بتمثيل مناسب في الدولة ، كما ان حقها في التعبير عن هوياتها وثقافاتها مقيد او مغفل .
 ويرجع هذا الى افتقار الثقافة السياسية وتركيبة النظام الاجتماعي في عموم المنطقة الى مفهوم التعدد الثقافي والقومي في المجتمع الواحد . فالثقافة السائدة لا  تنظر الى الدولة باعتبارها ملكا لجميع المواطنين . وهي تعامل الاقليات باعتبارها "آخر" يناظر الاكثرية . ومن جانبها فان الاكثرية تتعامل مع وجود الاقليات باعتباره عبئا على النظام الاجتماعي او مشكلة ، وفي بعض الحالات تهديدا للوحدة ومصدرا للمشكلات ، وليس فرصة لاغناء الثقافة والحياة المشتركة في وطن واحد يتسع للجميع. وفي هذا الاطار يتساوى وضع البلوش في ايران مع وضع الاقباط في مصر ويتساوى اكراد سوريا مع سكان جنوب السودان . ففي جميع هذه الاقطار تنتسب الحكومة الوطنية حصرا الى الاكثرية ، بينما ينظر الى بقية المواطنين باعتبارهم "خلقا آخر" ليس لهم من الحقوق غير ما تتكرم به الاكثرية او من يمثلها في السلطة .
الى ذلك ، تتميز الدولة الشرق اوسطية بمركزية شديدة ، فالشؤون الوطنية وتوزيع الموارد المشتركة تدار كليا من العاصمة وتخضع تماما لهيمنة النخبة المقيمة فيها. هذه النخبة مهمومة بالامن والسيطرة ، ولهذا فهي تنظر الى كل "مختلف" باعتباره غريبا او مصدرا محتملا للتهديد . وفي هذا الاطار تنظر تلك النخبة الى الاقليات كمسارب محتملة للمشكلات الواردة من وراء الحدود ، وخصوصا حين تقع توترات على الجانب الاخر ، واخص من ذلك حين تقع التوترات في مجتمعات تربطها مع هذه الاقلية روابط اثنية او ثقافية او غيرها .
كانت نهاية الحرب الباردة ، وتراجع قيمة الايديولوجيات الشمولية في اواخر القرن العشرين بارقة امل للمجموعات الاثنية التي اعتقدت ان رياح الاصلاح ستهب على الشرق الاوسط لتنهي سياسات التمييز التي سادت فيما مضى . ولحسن الحظ فان بعض التقدم قد تحقق خلال السنوات القليلة الماضية في بعض الاقطار على الاقل . لكن ما يزال امامنا الكثير قبل الوصول الى علاج شامل وجذري . نحن بحاجة الى مواجهة جدية مع العوائق البنيوية المتاصلة في النظام الاجتماعي والدولة بشكل عام ، والتي يتطلب رفعها ما هو اكثر من الاقرار اللفظي ، بل وحتى الدستوري بحقوق الاقليات. تحتاج كل دولة الى اعادة صياغة مفهومها للعلاقة بين المجتمع والدولة على نحو يختلف عن المفهوم القديم الذي يبرر او يسمح بهيمنة الاكثرية وتهميش الاقلية . وهذا الاجراء ليس ضروريا فقط لتسريع التحول الديمقراطي ، بل وبالدرجة الاولى لصيانة وتعزيز مصداقية النظام الاجتماعي والاستقرار على المدى البعيد. وهذا لا يتحقق بتصويرات بلاغية مجردة عن حقوق الانسان والمساواة ، او حتى الاقرار بالتقصير في حق الاقليات او التاكيد عليها في الدستور والبرامج السياسية ، وان كانت بطبيعة الحال ضرورية . مشكلة الاقليات عميقة جدا ومتأصلة في التركيب الاجتماعي – السياسي للبلاد ، وهي نتاج لعوامل عديدة ومتشابكة ، بعضها سياسي وبعضها اقتصادي ، وبعضها ثقافي ، تفاعلت لزمن طويل جدا حتى انتجت الوضع الراهن . ولهذا فان امكانية العلاج محصورة في استراتيجية شاملة ، متعددة الابعاد وشجاعة ، تستهدف على المدى القصير تمكين الاقليات من الخروج من حالة العزلة والانكماش على الذات. لا بد من الاقرار كخطوة اولى بالهوية الخاصة لكل من هذه الاقليات ، وما يترتب عليها من حقوق تتعلق بالتعبير عن ثقافتها الخاصة ، مهما كانت مختلفة مع ثقافة الاكثرية . كما ان من الضروري تمكينها من الحصول على تمثيل في الجهاز السياسي والاداري للدولة يتناسب مع حجمها البشري . وقد يقتضي الامر هنا تجاوز المعايير الاعتيادية المتعلقة بمنح المناصب العامة ، وتطبيق ما يوصف احيانا بسياسة تمييز ايجابي لفرض هذا التمثيل على البيروقراطية التي تابى في العادة التخلي عن امتيازاتها الاحتكارية لاي وافد جديد الى النظام .

من ناحية اخرى فان الاقليات الاثنية في العالم العربي بحاجة الى فهم جوهر مشكلتها التي لا علاقة لها بالدين او المذهب او اللغة ، رغم ان كلا من هذه العناصر يستخدم سياسيا من جانب جميع الاطراف . جوهر المشكلة يكمن في فلسفة الحكم وتركيب الاجتماع السياسي . ويجب على كل اقلية تركيز كفاحها على الحصول على تمثيل يتناسب وحجمها الحقيقي في جميع منظومات الدولة السياسية والادارية . عدا عن القيمة الرمزية لهذا التمثيل ، فانه الوسيلة الاكثر فاعلية لادماج الاقلية في النظام السياسي ، وهو الخطوة الحاسمة لالغاء التمييز واصلاح الثقافة السياسية .

http://www.alayam.com/ArticleDetail.asp?CategoryId=5&ArticleId=205050

14/03/2006

حزب الطائفة وحزب القبيلة




تعقيبا على مقال الاسبوع الماضي ، كتب لي احد الزملاء قائلا ان الحزب السياسي ليس مفيدا في المجتمعات العربية ، لان نظامها الثقافي والعلائقي لايسمح للحزب بدور كالذي نعرفه في المجتمعات المتقدمة . وبالتالي فان الكلام عن تدريب النخبة والتاثير في الحياة السياسية عن طريق الحزب هو كلام غير واقعي .

هذا الراي ليس جديدا فقد لاحظ باحثون غربيون منذ منتصف القرن الماضي ان كثيرا من احزاب  العالم الثالث هي مجرد صور "حديثة" عن التكوينات الاجتماعية القديمة ، الطائفية او القبلية او الاثنية . وينطلق هذا الراي من مراقبة واقعية لعمل الاحزاب في المجتمعات التقليدية او تلك التي تمر في مرحلة الانتقال نحو الحداثة . لكنه لا يقدم صورة كاملة عن واقع تلك الاحزاب او المجتمعات.
لكي نفهم الدور الممكن للحزب فاننا بحاجة الى فهم الهوية الاجتماعية التي يمثلها . كل مجتمع ، في اي بقعة من العالم ، هو تركيب من مجموعة كتل ، تتمايز عن بعضها بهوية موروثة مثل الدين او العرق ، او هوية مكتسبة مثل المصلحة او الايديولوجيا . تتضح اهمية هذا التقسيم بالنظر الى مكانة الفرد وقدرته على اختيار نوعية حياته . اذا قام النظام الاجتماعي على اساس الهويات الموروثة ، فان حدود حركة الفرد والمجالات المتاحة له ، تتحدد من قبل ان يولد. في لبنان مثلا ، لا يستطيع المسلم ان يسعى الى رئاسة الجمهورية ولا يستطيع السني ان يسعى الى رئاسة البرلمان او الشيعي الى رئاسة الوزراء ، بغض النظر عن مؤهلاته او قوته السياسية ، لان النظام ربط هذه المواقع بهوية موروثة وليس بكفاءة الافراد او جنسيتهم الوطنية .

خلافا لهذا ، فان قيام العلاقة على اساس الهوية المكتسبة سوف يوفر مظلة لجميع لافراد من مختلف الكتل الاجتماعية للسعي المشترك نحو مصلحة حاضرة ، لا علاقة لها بانتماءاتهم الجبرية او بارث الاموات . يمكن اذن تصور التقسيم الاجتماعي على واحد من نسقين : نسق عمودي يضم الهويات الجبرية او الموروثة ، ونسق افقي يضم الهويات الاختيارية او المكتسبة . من الواضح – نظريا على الاقل – ان قيام النظام الاجتماعي على الاساس الثاني هو الفرصة الوحيدة التي تسمح بمنافسة بين الافراد تعتمد اولا واخيرا على مؤهلاتهم وانجازاتهم الفردية . وحينئذ فان الفرد القادم من قبيلة صغيرة او طائفة محدودة العدد او من اقلية عرقية ، مثل الفرد الذي ينتمي لاكثرية دينية او عرقية او قبلية ، سيكون قادرا على التنافس على اي منصب في الدولة او مكان في المجتمع ، وسيكون جواز مروره الوحيد هو كفاءته الشخصية وليس هويته الموروثة. 
من نافل القول ان افضل المجتمعات واقدرها على التقدم ، هي تلك التي تسمح بالمنافسة المتساوية على اساس الكفاءة.

 ولا شك ان اعتبار الكفاءة معيارا اساسيا لنيل المناصب هو الطريق لاجتثاث التوترات الاجتماعية ودفع القوى الاجتماعية للخروج من شرنقة الطائفة او القبيلة . دعنا نتصور ان جمعية سياسية في بلد مثل البحرين اشترطت ان تتالف قيادتها من طيف متنوع فيه المراة والرجل ، الشيعي والسني ، المتدين والعلماني ، الحضري والقبلي . حينئذ سوف نجد عند هذه الجمعية خطابا سياسيا مختلفا ، وسوف نجد اولويات عمل مختلفة ، كما سنجد ان عملها لا ينحصر في منطقة دون اخرى او نطاق اجتماعي دون آخر. رد فعل الشارع على هذا التكوين سيكون مختلفا هو الاخر ، اذ ان كل فرد على امتداد البلد سيجد فيها فرصة للتعبير عن ارادته او نيل تطلعاته .

صحيح ان المجتمعات العربية لا زالت منحازة الى هوياتها الموروثة ، لكن هذا ليس وضعا نهائيا ، بل هو تعبير عن حداثة التجربة السياسية ، وقلة الشعور بالامان . ومن هذه الزاوية فان الرهان على مستقبل افضل هو رهان جدي وينطوي على احتمالات لا يستهان بقوتها .

تدل التجربة الفعلية للعالم العربي ان احزاب الطوائف والقبائل قد ساهمت في تعزيز الانقسام الاجتماعي ، وساهمت احيانا – ربما عن غفلة – في احياء نقاط توتر كانت قد ماتت ، في سبيل الحصول على المزيد من التاييد . وفي ظني ان هذه مرحلة لا مفر من المرور بها قبل نضج التجربة والانتقال من صورة حزب الطائفة او القبيلة الى حزب الوطن . لكن الامر الجدير بالاهتمام في كل الاحوال هو نقد هذه التجربة والتركيز على مرحليتها وضرورة تجاوزها في وقت معلوم . لا يمكن للقبيلة او الطائفة ان تتجاوز حدودها لانها في الاساس قامت للحفاظ على تلك الحدود .

خلافا لذلك فان معظم الاحزاب العربية – الاسلامية والعلمانية – تنكر ان هدفها هو المحافظة على تلك الحدود ، حتى لو كانت قد قامت اصلا في داخلها . واظن ان قادة هذه الاحزاب يشعرون بالحرج لانحصارهم هناك ، حتى لو كانوا مستفيدين منها.  يقدم مثال الهند دليلا على قابلية الحزب لاختراق حدود الطائفة والقبيلة ، فرئيس الجمهورية الحالي مسلم ، ورئيس الوزراء سيخي ، وينتمي كلاهما الى حزب المؤتمر الذي يملك الغالبية في البرلمان . يمثل السيخ اثنين في المائة والمسلمون ستة عشر في المائة من الشعب الهندي ، اي ان المنصبين الرئيسيين في البلاد قد منحا لرجلين يمثلان اقل من خمس السكان ، وقد وصلا الى هذه المكانة باصوات اكثرية من النوب الهندوس الذين تتجاوز نسبتهم سبعين بالمائة من السكان ومن اعضاء البرلمان . مثل هذا الانجاز المثير اصبح ممكنا بفضل وجود حزب يتخذ الهويات المكتسبة معيارا وحيدا للتقدم . ولو كان المعيار هو الهوية الموروثة ، لكان من المستحيل ان يصل مسلم او سيخي الى اي منصب في تلك البلاد.

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...