||التراث الاسلامي – عدا النص القرآني والنبوي – مستخلص نظري لمراحل
زمنية محددة. ومرجعيته بالنسبة لنا مرجعية احتجاج لامرجعية اثبات وحسم||
تزيد
قائمة الابحاث والكتب التي اصدرها المفكر المعروف د.
محمد عمارة عن الخمسين كتابا ، تدور بمجملها حول محور واحد ، هو اعادة تقديم
التراث الفكري الاسلامي ، وتحليل تاريخ المعرفة بما يؤدي الى استنباط منهج جديد ،
تقوم على اساسه ثقافة متواصلة مع اصولها ومنسجمة مع العصر .
المرحوم د. محمد عمارة |
ينطلق
عمارة في ابحاثه ، من ايمان شديد باهمية المحافظة على التراث الفكري للامة
الاسلامية ، واهمية وضعه على طاولة النقد والتحليل في آن ، وهذا مايميزه عن عدد
بارز من الباحثين العرب الآخرين ، الذين ينطلقون من التشكيك في جدوى اكثر ماوصل
الينا من تراث وافكار ، كما هو حال المفكر الجزائري الأصل الاستاذ محمد
اركون ، ويمثل كلا الباحثين ـ عمارة واركون ـ نموذجا لمدرسة تتبنى الدعوة الى
اصلاح الثقافة السائدة في العالم الاسلامي ، واعادة وصل ما انقطع بينها وبين
المسلم المعاصر ، مع ان الفرق في طريقة التعاطي واغراضه الفورية بين الرجلين يبدو
شاسعا .
دعوة قديمة
والحقيقة
ان الدعوة الى مناقشة ونقد الثقافة المتداولة ، لم تكن مقتصرة في اي وقت من
الاوقات ، على تيار بعينه او عدد محدد من المفكرين على وجه الخصوص ، لكن معظم
الذين تبنوا هذه الدعوة فشلوا في الصمود امام جاذبية المتبنيات الخاصة بكل منهم ،
فتحولوا من التحليل الموضوعي المفترض في الباحث ، الى تجميع الادلة على
سلامة متبنياتهم أو ممارساتهم الخاصة على المستوى الفكري او الاجتماعي ، اما
الممارسة الفعلية للنقد والتحليل بغرض الوصول الى منهج منطقي في تقييم الثقافة ،
فلم تحظ الا بالقليل من العمل والقليل من العاملين .
ومع
النهوض الفكري الذي تبدو تباشيره قوية في افق العالم الاسلامي ، فان الدعوة الى
دراسة جديدة للتراث الاسلامي تحظى باهتمام متزايد ، بالنظر الى شعور متفاقم بضرورة
الخروج من قمقم الغربة عن الاصول الثقافية للامة ، القمقم الذي يتساوى فيه
الاستسلام المطلق للتاريخ ، والهروب العشوائي عن الذات الى ثقافة الاخرين .
قواعد البحث
ولانجاز
دراسة مثمرة للتراث الاسلامي ، دراسة تستهدف استثمار مافيه من كنوز ثقافية ، فان
الحاجة تدعو الى الاتفاق على قواعد في التحليل يتبعها الباحثون في دراستهم للموروث
الثقافي والتجربة التاريخية للامة ، لضمان الوصول الى نتائج معقولة بدلا من اعادة
السرد ، الذي كان طابع الاعمال البحثية في هذا الحقل لوقت طويل .
من
بين تلك القواعد نذكر بصورة خاصة تأكيد اقتران النتاج الفكري لمسلمي العصور
السالفة بظرفه التاريخي ، بحيث يصبح تجريده عن هذا الظرف مخلا بموقعه ضمن المنظومة
الفكرية المتكاملة ، ويقتضي هذا ملاحظة العلاقة الوثيقة بين الفكرة وزمنها ،
وموقعهما معا ضمن التجربة التاريخية للامة.
بناء
على هذا الاساس فانه ينبغي النظر الى الموروث الفكري ـ باستثناء النص القرآني
والنبوي ـ باعتباره المستخلص النظري لمرحلة ، او عدد من المراحل من التاريخ العام
للامة الاسلامية ، وبالتالي فان مرجعيته بالنسبة الى فكر المراحل التاريخية
اللاحقة ، محددة بكونها مرجعية احتجاج لامرجعية برهنة .
ان
اقرار هذه القاعدة يعتبر انجازا كبير الاهمية ، في دراسة تاريخ الفكر الاسلامي ،
من شأنها ان تساعد على حل اشكالية العلاقة بين الماضي والحاضر ، سيما على مستوى
علاقة التاريخ بقيمة الفكرة ، وبالنسبة للمسلمين فان الرداء التاريخي للفكرة ،
يلعب دورا فعالا في تحديد قيمتها عند العرض ، خلاف ماهو متعارف في العالم ،
من اعتبار حداثة الفكرة عنصرا اضافيا في قيمتها .
حاكمية الماضي
جوهر
المشكلة التي تعالجها هذه القاعدة ، هي مانسميه (الاجماع) والذي تمدد من اصول
الفقه الى معظم العلوم ، وفحواه ان اجماع علماء الامة في عصر من العصور على حكم
معين في مسألة ، يجعله حاكما على الاجتهادات الاخرى اللاحقة ، الا اذا ثبت بطلان
واحد من مباني ذلك الاجماع ، وقد تمدد هذا التصوير بحيث اصبح التوافق على رأي او
اشتهاره ، بل وحتى السكوت عن مخالفته في بعض الاحيان ، منتجا للنتيجة ذاتها ،
الامر الذي جعل المفكرين في الازمان اللاحقة ، في حرج من مناقشة ماسبق نقاشه في
العهود الماضية .
ويبدو
ان هذه المشكلة قد واجهت علماء المسلمين منذ ازمان بعيدة ، وحينها لم يجدوا بدا من
ابتكار حل لمشكلة العلاقة بين زمنهم وازمان اسلافهم ، فحواه تقسيم الازمنة
الثقافية الى قرون مفضلة واخرى دونها في الفضل ، بناء على مايروى من المأثور
النبوي (خير
القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) والذي جرى تفسيره بان الغطاء
التاريخي الذي يضيف الى قيمة الفكرة ، ينسحب متدرجا من عصر الصحابة الى عصر التابعين
، ثم تابعي التابعين فحسب ، ومع ان هذا الحل المبتكر لايعالج المشكلة تماما ، الا
انه وفر لهم مخرجا مناسبا في ذلك الوقت .
مخرج حرج
وفي
الوقت الحاضر يشدد عدد من الباحثين على اتباع ذات المنهج ، اي التمييز بين القرون
المفضلة وسواها ، ان القبول بهذا المنهج مبرر بأن اقرب القرون الى عصر النبوة هم
الاكثر قربا ومعايشة لظرف النص الديني ، وبالتالي شروطه وابعاده اي الاقدر فهما
لجوهره ، لكن جرى تمديد هذا التصوير ليغطي معظم ماحدث في تلك الازمنة بغض النظر عن
علاقتها بموضوع النص ، فشمل تقييم الاشخاص والافكار والتجارب .
ونتج
عن هذا التمديد مانراه من تناقض محرج في قراءتنا للتاريخ الاسلامي ، أدت في حالات
كثيرة الى اعتبار الصحة في القول ونقيضه ، واسباغ العصمة على القتيل وقاتله ،
واعتبار مجموع ماحدث اجتهادات مبررة ، تمنع اللاحقين من اعادة تقييمها او مناقشة
مبانيها ، خوفا من خرق حجاب العصمة الذي اسبغناه ـ اجتهادا ـ على من سلف .
ان
التامل في هذا الموضوع ومناقشته تعتبر جوهرية ، اذا ما اخذنا بعين الاعتبار
المستخلصات النظرية التي ترتبت على تلك التجارب ، وموقع هذه المستخلصات من مجمل
التجربة التاريخية الاسلامية ، ثم وعلى وجه الخصوص من محاولاتنا الفكرية المعاصرة
، بمعنى آخر فان تلك مستخلصات تلك التجارب قد تجردت من ظرفها التاريخي الخاص ،
واصبحت جزءا من المنظومة الثقافية التي ورثناها عن الاسلاف ، فاذا واصلنا تقييمها
باعتبارها حاكمة على غيرها ـ بالنظر الى القيمة الاضافية المفترضة لزمنها ـ فسنجد
انفسنا في مواجهة تناقض حقيقي مع الاسس النظرية التي يقوم عليها الشرع المطهر ، او
مع القواعد العقلية التي تسالم عليها عقلاء كل الازمان .
ان
المخرج من هذا التناقض هو تطبيق ميزان نقدي واحد على مختلف جوانب التجربة
التاريخية ، والتاكيد على اقتران الفكرة بظرفها التاريخي ، الذي يساعد فهمه في
تقييمها واستبيان المسافة بينها وبين ماهو بديهي عقلا ، او ثابت شرعا .
نشر في (اليوم) 2 يناير 1995
مقالات ذات صلة