‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفردانية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفردانية. إظهار كافة الرسائل

08/06/2009

الطريق الليبرالي


طريق التنمية الشاملة لم يعد خيارا بل ضرورة لاستيعاب تطلعات الجيل الجديد، مثلما كانت التنمية الاقتصادية في وقتها ضرورة للإقلاع من الفقر المادي والثقافي. اتجه العالم إلى التفكير في التنمية كمسار متكامل ومتصاعد، وظهرت في هذا الإطار نظريات تتحدث عن التنمية الشاملة والتنمية المستدامة ، بعدما كان التفكير مركزا على تحديث الاقتصاد. نعلم اليوم أن تحديث الاقتصاد يؤدي بالضرورة إلى تعزيز النزعات الليبرالية في المجتمع.

الليبرالية كسلوك ورغبة عامة ، ليست أيديولوجيا كما تصورها النقاشات المدفوعة بتوجهات أيديولوجية. من المؤسف أننا لم نستطع تجاوز الفرضيات السقيمة التي تناولت الليبرالية كمذهب متناقض مع التقاليد أو بديل عن الدين. هذا النوع من النقاش غيب الحقيقة التي نستطيع مشاهدتها عيانا كل يوم وفي كل مكان ، حقيقة أن الناس جميعا يرغبون في أن يعترف بهم كأفراد أكفاء ، قادرين على تقرير طريقة حياتهم وتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية التي تترتب على خياراتهم.

جوهر الليبرالية هو تقدير قيمة الفرد باعتباره إنسانا حرا عاقلا ومسؤولا.

قد لا أكون مبالغا لو قلت إن أغلبية الناس سوف يذهبون في هذا الاتجاه ، لو خيروا بينه وبين المنهج القديم الذي ينكر على الفرد هويته المستقلة ، ويعتبره مجرد امتداد بيولوجي لعائلته أو قبيلته أو طائفته أو جنسه ، المنهج الذي يعتبر الفرد عاجزا عن سلوك طريق الإحسان ما لم يخضع لمراقبة مرشد ، أو آثما بطبعه ما لم يقيد أحد يديه وعقله كي لا يبغي على الغير.

الاقتصاد الجديد يخلق فرصا ويفتح أبوابا أمام الجيل الذي استوعبه وتعامل معه واستفاد منه. هذه الفرص هي أدوار ومسارات تأثير تختلف عما اعتاد عليه المجتمع التقليدي. نحن إذن إزاء نظام اجتماعي يولد وينمو تدريجيا. الطريق الصعب هو استيعاب هذه الحقيقة وإعادة هيكلة النظام الاجتماعي القائم ، على نحو يستوعب القادمين الجدد. الطريق السهل هو إنكار هذه الحاجة ، والاكتفاء بالفرجة على ما يحدث من تحولات. الطريق الأول صعب لأنه يتطلب اتخاذ قرارات غير معتادة ، والتنازل عن أعراف ترسخت واعتادها الناس لزمن طويل. الطريق الثاني سهل لأن الإهمال هو أسهل المواقف.

لكن عواقب الإهمال قد تكون كارثية. يؤدي الإهمال إلى قيام نظام اجتماعي مزدوج كما لاحظ سعد الدين إبراهيم: يرغب الناس في نمط حياة حديث، لكنهم يتظاهرون بالالتزام بالتقاليد. يتحول هذا التظاهر في أحيان كثيرة إلى نوع من التكاذب الجماعي. يشعر الناس أحيانا بأنهم محتاجون إلى التظاهر كي يسهلوا حياتهم. يتحدث شخص ما عن فضائل التقاليد ، وهو يعلم أنه غير صادق ، لأنه شخصيا يفضل نمط معيشة حديثا ومنهج عمل حديثا. الذين يستمعون إليه يشعرون بذات الشعور ويفهمون أنه غير صادق ، ولعله يفهم أيضا أنهم يستمعون إليه وهم يضحكون في دواخلهم على مبرراته.

بدلا من هذه الازدواجية ، فإن الطريق السليم ، مهما كان صعبا ، هو تشجيع الناس على التعبير عن حقيقة ما يحبون ، حتى لو تعارض مع التقاليد والعادات الجارية أو مع اللغة السائدة في التخاطب. يجب أن نقبل بحق الفرد في أن يكون كما يريد، ثم نضع القانون الذي يوضح الحدود النهائية ، التي ينبغي للفرد رعايتها حين يعبر عن إراداته.

تحرير الفرد من قلق الرقابة الاجتماعية ، هو أحد المبادئ الكبرى لليبرالية. لكن الليبرالية لا تتحدث عن أفراد منعزلين أو حشود في غابة ، بل عن مواطنين في مجتمع يحترم القانون. القانون في مجتمع حديث يعتبر ضرورة لحماية الحريات وموازنتها مع المسؤوليات التي تترتب على ممارستها. الليبرالية إذن ليست دينا يتوازى مع الأديان ولا هي أيديولوجيا مغلقة ، تأخذها كلها أو تطرحها كلها.

الليبرالية تعبير عن رغبة الإنسان في استعادة هويته الخاصة ، وتحرير ذاته من العقد والأعراف والرقابة. قد لا يكون هذا الأمر محبوبا في مجتمعات كثيرة ، لكنه محطة في طريق بدأنا السير فيه فعلا ، فبلغنا تلك المحطة أو نكاد.

   https://www.okaz.com.sa/article/268087                عكاظ 8 يونيو 2009

20/04/2009

تكون الهوية الفردية




نظرية اريك اريكسون حول تكون الهوية الفردية هي واحدة من أعمق المساهمات في هذا الموضوع. وقد توصل إليها من خلال بحوث إكلينيكية طالت ثلاثة عقود. والحقيقة أن اريكسون يمثل بذاته نموذجا للدراسة فقد حملته ظروفه من بلد إلى آخر وعاش في عائلة متنوعة قوميا، وعاصر صراعات أوروبا زمن الحرب وما بعدها. ولهذا كانت حياته موضوعا لدراسة مسارات التفاعل بين الفرد ومحيطه، في كل مرحلة من مراحلة حياته.
اريك اريكسون (1902-1994)
عالج اريكسون مسألة الهوية من زاوية سيكولوجية بحتة. النقطة المركزية في نظرية اريكسون هي أن الهوية لا تتشكل بتأثير المحيط الاجتماعي فقط، وبالتالي فقد شكك في النظريات التي تفترض إمكانية خلق هويات صناعية جديدة تماما عبر جهد مخطط. كما شكك في الرؤية الفردانية القائلة بأن الفرد قادر على فصل نفسه عن المحيط واختلاق هوية جديدة مستقلة تماما.
طبقا لأريكسون فإن هوية الفرد تتشكل خلال كفاح طويل يبدأ في مرحلة المراهقة، ويتركز على تركيب عنصرين: أولهما هو اكتساب القدرة على الإنتاج والعلاقة مع المحيط، وثانيهما هو الإحساس بالاندماج في عالم معنوي مناسب.
العنصر الأول ضروري لأن الفرد يحتاج إلى تعريف نفسه للمجتمع المحيط به. حين يسألنا الناس من نحن، فإنهم لا يقصدون عادة الاسم الذي نحمله، بل موقعنا في شبكة العلاقات الاجتماعية، أي الدائرة الصغيرة التي ننتمي إليها ضمن الدائرة الاجتماعية الكبرى، والوظيفة التي نقوم بها ضمن هذه الدائرة. ولذلك لا يكتفي الفرد بذكر اسمه الأول بل يضيف اليه اسم العائلة، ثم يلحقه بما يفترض أنه تعريف وظيفي، يشير إلى المهنة أو الهواية أو المكانة. حين يعرف الإنسان نفسه فإنه يقدم وصفا يتوقع قبوله من جانب المحيط، كتمهيد للاندماج فيه. وهذا يقودنا إلى العنصر الثاني وهو حاجة الفرد إلى عالم ذي معنى يتيح له التمتع بقدراته والحصول على المكافأة المناسبة ازاء ما يفعل.
يمكن للإنسان أن يعيش منعزلا، لكنه لن يتمتع بحياته. ولهذا يسعى جميع الناس إلى مد جسور العلاقة مع جماعة ما. لأن الجانب الأعظم من متعة الحياة، أو السعادة، إنما يتحقق في ظرف التفاعل بين الفرد والآخرين. لا يستطيع الفرد الشعور بالسعادة إذا كان منعزلا. بقدر ما يتسع المحيط الذي يتفاعل معه الفرد، تتعاظم سعادته واستمتاعه بحياته. ومن هنا قيل بأن من يستغني عن الناس يفقد الشعور بجمال الحياة، لأنه في حقيقة الأمر يفقد الحاجة إلى التحدي اليومي الذي يفرضه التفاعل المادي والمعنوي بين الفرد ومحيطه. الحاجة للاندماج هي التي تفرض على الفرد نمطا من الخيارات والأوصاف الشخصية قد لا تكون بالضرورة الأفضل عنده، لكنها ضرورية لشق طريقه وسط الجماعة.
من ناحية اخرى فإن الجماعات قد تتفاوت في قابليتها لاندماج الأفراد الجدد. بمعنى أنها قد تضع شروطا عسيرة أو تفرض على الفرد التخلي عن خياراته الخاصة مقابل التمتع بفضائل العيش الاجتماعي، أو أنها ببساطة ترفض اندماج أي فرد جديد ما لم يكن متماثلا بالكامل معها. ويشير كثير من الباحثين إلى أن المجتمعات القروية تتسم عادة بعسر في هذا الجانب، بينما تتسم المجتمعات المدينية بليونة اكبر في التعامل مع الأفراد الجدد. ويذكر الأستاذ سعيد الغامدي في دراسته الفريدة «البناء القبلي والتحضر» مثالا عن الطريقة التي عومل بها وافدون جدد إلى مجتمع قروي لم يسبق أن عاش فيها «أجنبي». وقد جرت تلك الأحداث في ظرف الانتقال من اقتصاد الكفاف الزراعي إلى الاقتصاد النقدي الذي فرض انفتاحا وانتقالا لبعض أنماط الحياة المدينية إلى الريف.
يوفر البحث في مسالة الهوية فرصا كبيرة لفهم العلاقة بين أطياف المجتمع والشرائح التي يمثل كل منها نمطا حياتيا أو ثقافيا مختلفا. وهي قد تشكل مدخلا ضروريا لتخطيط النظام الاجتماعي والتربية على نحو يسهل الاندماج والتفاعل وإقامة الوحدة على قاعدة التنوع، بدل الربط المتكلف بين الوحدة والتماثل.

عكاظ 20 ابريل 2009
https://www.okaz.com.sa/article/257214

06/04/2009

عن الهوية والمجتمع



كتب الزميل داود الشريان شاكيا من تفاقم المشاعر القبلية والطائفية وتحولها إلى محرك للحياة الاجتماعية. وكان هذا الموضوع مدار مناقشات كثيرة في السنوات الأخيرة. وكتب زميلنا أحمد عايل في منتصف يناير الماضي داعيا إلى الاهتمام بقيمة الفرد كوسيلة وحيدة لمعالجة المشاعر التي تستوحي هويات دون الهوية الوطنية.

النقاشات العلمية في علاقة الهوية بالواقع الاجتماعي ليست قديمة. فأبرزها يرجع إلى أواخر القرن المنصرم. وبرزت خصوصا بعد ما وصف بانفجار الهوية في الاتحاد السوفيتي السابق.

 ثمة اتجاهان رئيسيان في مناقشة الموضوع، يعالج الأول مسألة الهوية في إطار مدرسة التحليل النفسي التي أسسها سيغموند فرويد، ويركز على العلاقة التفاعلية بين النمو الجسدي والتطور النفسي. بينما يعالجها الثاني في إطار سوسيولوجي يتناول انتقال الثقافة والقيم الاجتماعية إلى الفرد من خلال التربية والمعايشة. كلا الاتجاهين يهتم بدور المجتمع في تشكيل هوية الفرد، من خلال الفعل العكسي، أو الاعتراف بالرغبة الفردية كما في الاتجاه الأول، أو من خلال التشكيل الأولي لشخصية الطفل – المراهق عبر الأدوات الثقافية، كما في الاتجاه الثاني.

هوية الفرد هي جزء من تكوينه النفسي والذهني. وهي الأداة التي تمكن الإنسان من تعريف نفسه والتواصل مع محيطه. إنها نظير للبروتوكول الذي يستعمله الكمبيوتر كي يتعرف على أجزائه وما يتصل به من أجهزة. ولهذا يستحيل إلغاؤها أو نقضها، مثلما يستحيل إلغاء روح الإنسان وعقله. إلغاء الهوية أو إنكارها لن يزيلها من روح الإنسان بل سيدفع بها إلى الاختفاء في أعماقه. وفي وقت لاحق سوف يؤدي هذا التطور إلى ما يعرف بالاغتراب، أي انفصال الفرد روحيا عن محيطه، وانتقاله من الحياة الاعتيادية التي يتناغم فيها الخاص مع العام، إلى حياة مزدوجة، حيث يتعايش مع الناس على النحو المطلوب منه، بينما يعيش حياته الخاصة على نحو متناقض تماما مع الأول، بل رافض أو معاد له في معظم الأحيان.

الهوية الشخصية هي الوصف الذي يرثه الفرد من الجماعة الصغيرة التي ولد فيها، والتي قد تكون قبيلة أو طائفة أو عرقا أو قومية أو قرية أو عائلة أو طبقة اجتماعية. وحين يشب الطفل يبدأ في استيعاب هويات أخرى، أبرزها الهوية الوطنية، كما يطور هوية فردية غير شخصية ترتبط بالمهنة أو الهواية، وفي مرحلة لاحقة يطور هوية أخرى يمكن وصفها بالاجتماعية وتتعلق خصوصا بالمكانة التي يحتلها في المجتمع أو الوصف الذي يقدمه مع اسمه.

لكل فرد -إذن- هويات متعددة، موروثة ومكتسبة. يشير بعضها إلى شخص الفرد، ويشير الآخر إلى نشاطه الحياتي، بينما يشير الثالث إلى طبيعة العلاقة التي تربطه مع المحيط العام، الاوسع من حدود العائلة. يمكن لهذه الهويات أن تتداخل وتتعاضد، ويمكن لها أن تتعارض. في حالات خاصة يخترع الفرد تعارضا بين هوياته. لاحظنا مثلا افرادا يتحدثون عن تعارض بين هويتهم الدينية وهويتهم الوطنية أو القبلية. وقد يقررون – بناء عليه – التنكر لاحداها أو تخفيض مرتبتها، بحيث لا تعود مرجعا لتنظيم العلاقة بينه وبين الغير الذي يشاركه الهوية ذاتها.

لكن المجتمع هو المنتج لأكثر حالات الالتباس بين الهويات الفردية. في تجربة الاتحاد السوفيتي السابق مثلا، جرى إجبار المواطنين على التنكر لهوياتهم القومية والدينية والالتزام بالهوية السوفيتية في التعبير عن الذات. وفي تركيا الأتاتوركية أطلقت الدولة على الأقلية الكردية اسم «أتراك الجبل» ومنع التعليم باللغة الكردية أو استخدامها للحديث في المحافل العامة أو دوائر الدولة.

 وفي كلا المثالين، وجدنا أن النتيجة هي تحول الهوية القومية إلى عنصر تضاد مع الهوية العامة. ولهذا يركز الأكاديميون اليوم على دور الهوية في تحديد مؤثرات الحراك الاجتماعي.. مسألة الهوية لا تعالج بالوعظ الأخلاقي، بل تحتاج في الدرجة الأولى إلى فهم معمق للتنوع القائم في كل قطر وكيفية تأثيره على المجتمع، ثم التعامل معه بمنظور الاستيعاب والتنظيم.
عكاظ 6 ابريل 2009

03/01/2006

ان تكون عبدا لغيرك

كلنا يريد الحرية وكلنا يخاف منها.  نريد التحرر من سيطرة الاقوياء ومن الانظمة الضيقة النظر ، ونرى ان من حقنا ان نعيش كما نريد. لكن ، حين يأتي وقت التطبيق ، ولا سيما حين يمارس غيرنا حريته على نحو يخالف ما ألفناه وما نرغب فيه ، فاننا نشعر بالقلق وقد نكتشف في الحرية التي طالبنا بها ، جوانب مرعبة  تبرر لنا التراجع عن ذلك المطلب ، وربما التنازل عن حريتنا الخاصة.
نريد مثلا التمتع بحرية التعبير عن ارائنا من دون قيود. نريد ان يسمع الاخرون ما نقول في الصحافة والمجالس العامة والتلفزيون. لكن حين يأتي شخص آخر ويوجه الينا سهام نقده ، الى اشخاصنا او معتقداتنا او مواقفنا الاجتماعية ، فاننا ننظر اليه كتهديد ونتعامل مع ارائه كما لو كانت اعلان حرب. في حقيقة الامر فان ما فعله ذلك الشخص لم يكن سوى ممارسة لحق سبق لنا ان مارسناه او طالبنا به. 
بكلمة اخرى فان مشكلتنا مع الحرية تكمن في اننا نريدها لانفسنا فقط وليس لنا ولغيرنا في الوقت نفسه. يضيق شخص عادي مثلي بآراء الاخرين ويتمنى لو كان بيده القوة لمنع تلك الاراء البغيضة. ولو حصلت لي هذه القوة في يوم من الايام ، فلعلي لا اتردد في تحقيق تلك الامنية ، اي حرمان الغير من حرية التعبير عن ارائهم المزعجة. واذا لم تحصل لي تلك القوة ، فقد ابحث عن وسيلة اخرى مثل توجيه السباب الى ذلك الشخص واتهامه في دينه او اخلاقه او امانته او وطنيته ، على طريقة العربي القديم الذي لم يجد عزاء حين سرقت جماله سوى الشتيمة : "اوسعتهم سبا وراحوا بالابل".
ثمة اسباب متعددة لهذا السلوك الملتبس ، تاريخية واجتماعية وسياسية. ولعل ابرزها هو افتقار تراثنا الثقافي الى مفهوم يشبه مفهوم الحرية الذي نتداوله اليوم. وحسب تعبير آية الله شبستري ، الفقيه الايراني المعاصر ، فان مفاهيم مثل الحقوق الفردية والحريات المدنية ، هي جديدة تماما في ثقافتنا الدينية وقد اكتشفناها فقط حين اتصلنا مع الغرب[1]. صحيح انك قد تجد في تراثنا الديني اشارات الى حقوق طبيعية للانسان ، ومن بينها مثلا حرية اختيار دينه واختيار طريقته في الحياة. لكن هذه الاشارات لم تتحول الى فلسفة عامة في حياة المجتمع وفي علاقة الافراد مع بعضهم.
قامت فلسفة الحرية في الغرب على استقلال الفرد بنفسه ، وتحرره من تدخل أي طرف خارجي في صياغة حياته ، سواء كان عائلته او مجتمعه او حكومته. وقيل بناء عليه ان علاقة الفرد مع مجتمعه علاقة تعاقدية ، ومثل ذلك علاقة المجتمع مع الدولة. وعلى هذا الاساس جرى قصر تدخل المجتمع في حياة الفرد ، وتدخل الدولة في حياة المجتمع ، على الحد الادنى الذي يوافق عليه الفرد. 
ونتيجة لهذا ، اعتبر الدين والثقافة والسلوك الشخصي ونمط المعيشة ، امورا شخصية لا يحق للمجتمع او الدولة فرضها على الافراد. وذلك لان الافراد ارادوا ان يتحرروا من تدخل غيرهم في هذه الامور. ارادوا ان يعبدوا ربهم بالطريقة التي يرونها مناسبة ، وان يفكروا ويعبروا عن افكارهم الى المدى الذي تصله عقولهم ، وان يعيشوا حياتهم من دون انشغال بما يعجب فلانا او يرضي علانا. 
في حقيقة الامر فان الحياة والدين والثقافة لم تعد عبئا ثقيلا على الانسان ، بل ممارسة حرة مريحة. ولهذا فان المسلم الذي يعيش في الغرب ، لا يجد عسرا في التعبير عن دينه او رأيه ، او اختيار لباسه او نمط معيشته او العمل الذي يلائم خبراته.
اما في بلاد المسلمين ، فلا يستطيع المسلم ان يجاهر برأي يخالف الراي السائد ، او يلبس لباسا يخالف العرف السائد ، او يعمل عملا يخالف التنميط السائد. في نهاية المطاف فان حياة الانسان تتحول الى عبء عليه ، ولا بد ان يتكلف حتى يرضي الناس ويسلم من السنتهم او ردود فعلهم. الناس يريدونك ان تكون مثلهم ، تقول ما يقولون وتفعل ما يفعلون ، لان الجميع متفق على ان الفرد غير موجود ، واذا وجد فلا قيمة له ولا اعتبار. الجماعة هي الموجود الوحيد المعتبر ، وعلى كل فرد ان يذوب فيها او يعتزل.
نعود الى مقالة شبستري ، الذي يرى ان المسلمين قد تعارفوا على القبول بمفهوم الحقوق الفردية والحريات المدنية ، لان الفقهاء – بعضهم على الاقل – قد اقر بها ، فدخلت في النطاق المعرفي الديني وان لم يكن لها اصل راسخ في ماضيه. وهذا الاقرار يمثل خطوة اولى في طريق تحويلها من فكرة عامة غائمة الى اصل من اصول حياتنا وفلسفة تقوم عليها ثقافتنا ونظرتنا الى انفسنا والى الناس والعالم المحيط بنا. 
الحقوق الفردية والحريات المدنية تعني – في جانبها الفلسفي – ان كل انسان حر:  يولد حرا ويبقى حرا ، حرية لا يستطيع احد مهما بلغ شأنه ان يسلبها منه او يستنقصها او يحددها. هذه الحرية ليست فقط حرية الانسجام مع الاراء السائدة وانماط المعيشة المتعارفة ، بل هي في الاساس حرية اختيار هذه الاراء والانماط ، فلو اراد شخص ان يخالف المجتمع ، كأن يغير معتقداته ، او اراءه ، او انتماءه ، او طريقة حياته  ، فذلك كله حق طبيعي له.
لكل انسان الحق في اختيار الحرية او اختيار العبودية ، وبطبيعة الحال فان غالبية الناس يأبوا ان يكونوا عبيدا لغيرهم ، لكنهم يستمرئون العيش كأتباع ، تبعية لا تختلف – من حيث الجوهر – عن العبودية. وقد يرون في هذا القدر من العبودية راحة نفس او سعادة او مصلحة. هم احرار في ان يفعلوا هذا لانهم احرار في اختيار نوعية حياتهم ، وغيرهم – بنفس القدر - حر في مخالفة هذا السبيل ولنفس الاسباب. تلك هي اولا واخيرا فلسفة الحرية.

[1] محمد مجتهد شبستري: الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية (2011) http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_8707.html
   الايام - الاسبوع الاول من يناير 2006

مقالات ذات علاقة


 ان تكون عبدا لغيرك

08/05/2004

غلو .. ام بحث عن هوية

بعيدا عن التداول التعبوي للصحافة المحلية والتلفزيون ، الذي ينسب الحملة الارهابية التي تتعرض لها بلادنا الى "الغلو في الدين" ، فان النظر من زوايا اخرى ، قد يكشف ان الغلو ليس العلة التامة لهذه الحملة الاثيمة. نحن بحاجة الى تحليل العنف كظاهرة اجتماعية وليس الاكتفاء بتحديد المسؤولية.

التحليل هو الوسيلة الوحيدة لتحويل الواقعة من لغز الى معادلة قابلة للفحص.  الخطوة الاولى لفهم الظاهرة الاجتماعية ، هي تفكيكها ودراسة صور التفاعل بين اجزائها من جهة ، وبين كل منها والحراك الاجتماعي العام من جهة اخرى. مثل هذه الدراسة هي التي تخبرنا عن جذور الظاهرة في بنية المجتمع الثقافية والعلائقية. وهي التي تكشف ان كان الحدث مجرد دمل تفجر وانتهى امره ، او هو بداية لحراك اجتماعي اوسع. واخيرا فهي السبيل الوحيد لمعرفة اليات استمرار او افول الظاهرة المدروسة.

يلعب الدين كما هو معروف دورا ثنائيا في اضفاء القيمة على الفعل الانساني ، فهو يحتضن بعضها ويصنفها ضمن "المعروف" ويرفض الاخرى التي تصنف منكرا. تنزيل القيمة النظرية على الواقعة المحددة هو فعل الانسان. ولهذا تجد الناس يختلفون في تقييم عمل واحد ، فبعضهم يراه معروفا ويراه اخرون منكرا. وتطرح فكرة الغلو في الدين نفس الاشكالية ، فهي تقول – ضمنيا – ان ما رآه الارهابيون معروفا هو منكر في حقيقة الامر او في راي الاكثرية الغالبة.

والسؤال الذي تثيره هذه الفرضية: ما هي الاسباب التي تجعل هؤلاء او غيرهم ، يحملون القيمة النظرية على هذا المحمل دون العكس ؟. بكلمة اخرى لماذا يميل بعض الناس في بعض الأوقات ، الى الاخذ بتفسيرات ضيقة او متشددة او غريبة للنص الديني ، فينزلون القيمة المجردة على محمل خاص ، بينما يميل معظم الناس الى تفسيرات اخرى؟.

الاجابة على هذا السؤال ليست موجودة في القيمة الدينية ذاتها ، بل في عوامل اخرى دفعت الاشخاص المعنيين الى هذا السلوك دون غيره. ذهنية الانسان الفرد هي بمثابة مطبخ ترد اليه انواع من المدخلات بعضها يتلاشى حتى لا يكاد يظهر له اثر في الطبخة ، وبعضها يبقى محافظا على قوامه دون تغيير ، بينما تختلط العناصر الاخرى وتتفاعل فيما بينها لتظهر على صورة جديدة مختلفة عن كل واحد من مكوناتها الاولية. 

الاجابة موجودة في البيئة الاجتماعية التي يتعرف الانسان الفرد من خلالها على نفسه وموقعه من الغير ، اي هويته كفرد. هذه البيئة ليست صنيعة التوجيه الثقافي بل هي محصلة التفاعل الدائم بين مجموعة عوامل بعضها مرتبط بالثقافة وبعضها بعيد عنها. من بين تلك العوامل مثلا موقع البلاد ضمن خطوط الصراع السياسي الاقليمي او الدولي ، ومن بينها مخرجات الحراك الاقتصادي ، السلبية والايجابية.

لكن اهم ما ينبغي دراسته في رايي هو طبيعة الظرف الاجتماعي-الثقافي العام الذي تعيشه البلاد بعد ثلاثة عقود من بداية خطط التنمية. يولد النمو الاقتصادي الكثير من المخرجات الاجتماعية من خلال تغييره لمنظومات القيم وتوازنات القوة السائدة في المجتمع. المجتمع ليس مجموع الافراد بل نظام العلاقات السائد بين افراده والقيم الناظمة للفعل الفردي والجمعي. لقد انهار نظام المجتمع  القديم مع تقدم مشروع التنمية الاقتصادية ، فما هي طبيعة النظام الجديد الذي يفترض ان يحل محله فيلبي حاجة الفرد الى الانتماء او "الهوية"؟ هل نرى نظاما بالفعل ام حشودا من الناس تبحث عن نظام ؟.

السبت - 19/3/1425هـ ) الموافق  8 / مايو/ 2004  - العدد   1056
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/5/8/Art_103299.XML

27/03/2004

الليبرالية ليست خيارا

ثمة فوارق كثيرة بين الايديولوجيا الليبرالية ونظيرتها المحافظة او التقليدية ، في النظام السياسي الذي تدعو اليه كل منهما ، كما في الاقتصاد والفلسفة والمجتمع ..الخ . لكن الفارق الاساس – حسب ظني – هو في رؤية كل من المنهجين لموقع الفرد في الجماعة ، وعلاقته مع مكونات المجتمع الاخرى ، كالعائلة والسلطة والسوق والمدرسة وما الى ذلك.

هذا التصوير يقوم على فلسفة متعارضة تماما. في المنهج المحافظ تعتبر فكرة "الواجب" هي القاعدة الاساس التي يقوم عليها نظام القيم الاجتماعية. وترجع هذه الفكرة الى الفيلسوف اليوناني سقراط ، الذي قرر ان المدينة الفاضلة هي تلك التي "يقوم كل فرد من اعضائها بواجباته". وفي راي سقراط ان الحياة الاجتماعية هي منظومة واجبات متقابلة ، فاذا قام كل فرد بواجبه سارت حياة الجميع على اكمل وجه.

بينما يفترض المنهج الليبرالي ، ان الحياة الاجتماعية صنيعة مجموع ارادات الافراد الذين وجدوا مصلحتهم في العيش معا. وبالتالي فان منظومة القيم التي يقوم عليها السلوك الجمعي ، اي ما نصفه بالهوية الاجتماعية ، هي حصيلة اشتراك مجموع الافراد في تقرير ما هو اصلح لحياتهم.

قبل قيام النظام السياسي كان الناس يعيشون ما يصفه جون لوك بمجتمع الحالة الطبيعية ، حيث يحق للناس ان يفعلوا كل ما ارادوه ان لم يتعارض بشدة مع حقوق الغير.

النظام الاجتماعي اذن ليس بديلا عن مجتمع الحالة الطبيعية ، بل منظم للحرية الكاملة التي تسوده ، وبالتالي فان المجتمع الليبرالي ينظر الى الحريات الفردية كاصل في الحياة الاجتماعية ، كما ينظر الى الانظمة التي يسنها المجتمع كتقييدات على حرية الفرد.

يصنف المجتمع التقليدي الحقوق الفردية كاستثناء من القاعدة ، وعلى العكس من ذلك فان الحقوق والحريات في المجتمع الليبرالي هي الاصل بينما الواجبات هي الاستثناء . لكن لا ينبغي الظن بان المجتمع الاول عدو لحق الفرد ، او ان الثاني عدو للالتزام. في المجتمع التقليدي يحصل الفرد على حريته كمقابل لقيامه بالواجبات المفترضة ، اما في المجتمع الليبرالي فان اداء الواجبات يصنف في اطار المسؤولية التي تترتب على تمتع الفرد بحريته وحقوقه .

ينعكس هذا المعنى ايضا في الجدل بين الفرد والنظام الاجتماعي ، فالمجتمع الاول يميل الى فرض الزامات جديدة على الافراد ، الامر الذي يزيد تدخل السلطة في حياة الفرد ، ويتبع هذا تعدد الاجهزة الخاصة بالتوجية والرقابة والضبط وتضخم حجمها. بينما في المجتمع الثاني ينصب الجهد على تحجيم السلطة وكبح تدخلها في حياة الافراد. ومن هنا يزداد الميل الى تقليص الجهاز البيروقراطي وايكال امر التوجيه والرقابة للهيئات الاهلية التي لا تتمتع بسلطة الردع ، بينما تتخصص اجهزة الردع الرسمية في مكافحة الجريمة والعدوان.

ويبدو ان عالم اليوم يميل بمجمله الى الاخذ بالمنهج الليبرالي ، الذي اظهر – رغم المؤاخذات عليه – انه اقدر على توفير السلام الاجتماعي في المجتمعات المعقدة والكبيرة . يتباين هذا الميل العالمي من المستوى الاولي اي التخلي عن هيمنة الدولة على قطاعات الانتاج الصغيرة الى مستوى اوسع يتمثل في تخليها عن قطاع الخدمات العامة الكبير نسبيا – مثل التعليم والصحة والكهرباء والمواصلات- حتى يصل الى المستوى الاعلى ، اي التحول من فلسفة المجتمع العضوي الى المجتمع التعاقدي . والواضح ان اقطار الخليج العربية تتحرك بين المستويين المتوسط والاعلى ، والمؤمل ان تواصل تطورها في هذا الاتجاه .

يبدو ان التطور المشار اليه يتحقق بصورة طبيعية – وبطيئة الى حد ما - ، لكننا بحاجة في كل الاحوال الى وعي بحقيقة هذا التحول ومعرفة كافية بما يحتاجه وما يترتب عليه ، كي لا نفاجأ بانعكاسات التغيير قبل توقعها او الاستعداد لها. وفي ظني اننا بحاجة الى الكثير من المناقشات العامة لاستيضاح كيفية انعكاس التحول الجاري على ثقافتنا ونظامنا الاجتماعي ، ولا سيما على منظومات القيم والمؤسسات التي نريد الحفاظ عليها او تطويرها كي تناسب حياتنا الجديدة.

 

Okaz ( Saturday 27 March 2004 ) - ISSUE NO 1014 http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/3/27/Art_88261.XML



مقالات ذات علاقة 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...