|| توفي د. سعد الدين ابراهيم في 29 سبتمبر 2023. رحمه الله واحسن اليه وجعل آثاره العلمية صدقة جارية له الى يوم الدين||
اعتقد ان الدكتور سعد الدين ابراهيم هو أهم علماء الاجتماع
العرب في الربع الاخير من القرن العشرين. يرجع هذا التقدير لعوامل عديدة مثل جودة الانتاج
العلمي وغزارته ، ومثل طرقه لقضايا كانت تعتبر بين المسكوت عنه في الوسط الاكاديمي
والاجتماعي. نشر د. ابراهيم نحو 40 كتابا بالعربية والانجليزية ، فضلا عن
مئات من المقالات المثيرة للاهتمام ، يدور معظمها حول تحولات المجتمع العربي خلال
النصف الثاني من القرن العشرين.
تعرفت على هذا المفكر الفذ من خلال
كتابه "النظام الاجتماعي العربي الجديد" الذي لفت الانظار الى التحولات
الثقافية والقيمية المرافقة لتغير الاقتصاد العربي ، وكذلك انعكاسات الهجرة
الواسعة لعمال الريف المصري الى دول الخليج النفطية.
نشر الكتاب في 1979 ، وتكرر طبعه ست مرات
في السنوات التالية. في ذلك الوقت المبكر نسبيا ، التفت د. سعد الدين الى السلوكيات
الجديدة التي تولدت عن التجاذب بين ضرورات الارتقاء المعيشي من ناحية ، وضغط
التقاليد ، سيما الدينية ، من ناحية أخرى. تنطوي هذه السلوكيات على ازدواجية في
المظهر الشخصي وفي الثقافة على السواء. فالافراد الذين تعرضوا لعواصف الاقتصاد
الجديد ، ارادوا الاخذ بفرصتهم في الحياة والرفاهية المادية. لكنهم واجهوا في
الوقت نفسه صعودا موازيا لموجة دينية ، تحذر من انسلاخ غير متبصر من قيود الدين وحدوده ، والاستسلام دون وعي
لمخططات الغزو الثقافي الغربي.
ويبدو لي ان هذه الموجة كانت رد فعل
طبيعيا على انهيار
الاجماع القديم ، وتفكك المعايير الاخلاقية ونظم
السلوك الموروثة التي حافظت على السيرورة المعتادة للمجتمع التقليدي.
كان سعد الدين ابراهيم متشائما تجاه ما
يجري ، خلافا للاتجاه العام بين علماء الاجتماع الذين تبنوا نظريات التحديث الاكثر
شهرة في الوسط الاكاديمي ، في الولايات المتحدة واوربا الغربية. وهي نظريات تتفق
على ان الانتقال الى الحداثة في المعنى الثقافي والاجتماعي ، نتيجة حتمية ، حين يتعرض
المجتمع التقليدي لموجات التحديث الاولى.
وبالنسبة للشرق الاوسط ، فقد ساد اعتقاد
فحواه ان تغير مصادر الانتاج والمعيشة بشكل كامل تقريبا ، اضافة الى مشروعات
التنمية الاقتصادية ، التي انطلقت في منتصف ستينات القرن العشرين ، واتسعت بشكل كبير
جدا في بداية العقد السابع ، سوف يؤدي حتما
الى انحسار الثقافة القديمة وتفكك التقاليد والاعراف ، سيما مع افتتاح المئات من
المدارس وقدوم عشرات الالاف من المهاجرين الاجانب ، فضلا عن تزايد الحضور الثقافي
للراديو والتلفزيون وبقية وسائل الاتصال الجمعي.
ان اتفاق عدد معتبر من العلماء على
مقاربة نظرية محددة ، يولد ضغطا (نفسيا في الاساس) على الباحثين في نفس الحقل ،
باتجاه الاخذ بما توافق عليه اولئك. رغم هذا فالواضح ان الدكتور سعد الدين ، لم يقتنع
بان سيناريو التحول المشار اليه ، هو الذي
يحدث فعلا او سيحدث في المجتمع العربي.
كان يلاحظ ان السلوكيات القديمة
والثقافة القديمة ، تستعيد تأثيرها تحت مبررات مختلفة. بعض القيم القديمة يتراجع
وبعضها يتقدم ، وتجرى عملية تبادل ادوار ، بحيث يحافظ الناس على الاطمئنان الذي توفره
الاعراف والتقاليد الموروثة ، لكنهم في الوقت نفسه يتخلون عن مصادر الانتاج
واساليب العيش المرتبطة بتلك الاعراف.
بعض الكتاب رأى ان هذه المزاوجة بين
القديم والجديد كانت مفيدة. آخرون مثل سعد الدين ابراهيم اعتبروا الامر عبثيا ،
اما ابراهيم البليهي فرآه تعبيرا عن الوثوقية الشديدة التي تتسم بها المجتمعات المتخلفة.
لكن هذا نقاش آخر سنعود اليه في وقت لاحق.
الشرق الاوسط الأربعاء - 19 جمادى الأولى 1441 هـ - 15 يناير 2020 مـ رقم
العدد
[15023]
مقالات ذات
علاقة
انهيار الاجماع القديم
المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟
من الحجاب الى "العباية"
في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء
مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي
من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق