‏إظهار الرسائل ذات التسميات التنمية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التنمية. إظهار كافة الرسائل

06/04/2009

عن الهوية والمجتمع



كتب الزميل داود الشريان شاكيا من تفاقم المشاعر القبلية والطائفية وتحولها إلى محرك للحياة الاجتماعية. وكان هذا الموضوع مدار مناقشات كثيرة في السنوات الأخيرة. وكتب زميلنا أحمد عايل في منتصف يناير الماضي داعيا إلى الاهتمام بقيمة الفرد كوسيلة وحيدة لمعالجة المشاعر التي تستوحي هويات دون الهوية الوطنية.

النقاشات العلمية في علاقة الهوية بالواقع الاجتماعي ليست قديمة. فأبرزها يرجع إلى أواخر القرن المنصرم. وبرزت خصوصا بعد ما وصف بانفجار الهوية في الاتحاد السوفيتي السابق.

 ثمة اتجاهان رئيسيان في مناقشة الموضوع، يعالج الأول مسألة الهوية في إطار مدرسة التحليل النفسي التي أسسها سيغموند فرويد، ويركز على العلاقة التفاعلية بين النمو الجسدي والتطور النفسي. بينما يعالجها الثاني في إطار سوسيولوجي يتناول انتقال الثقافة والقيم الاجتماعية إلى الفرد من خلال التربية والمعايشة. كلا الاتجاهين يهتم بدور المجتمع في تشكيل هوية الفرد، من خلال الفعل العكسي، أو الاعتراف بالرغبة الفردية كما في الاتجاه الأول، أو من خلال التشكيل الأولي لشخصية الطفل – المراهق عبر الأدوات الثقافية، كما في الاتجاه الثاني.

هوية الفرد هي جزء من تكوينه النفسي والذهني. وهي الأداة التي تمكن الإنسان من تعريف نفسه والتواصل مع محيطه. إنها نظير للبروتوكول الذي يستعمله الكمبيوتر كي يتعرف على أجزائه وما يتصل به من أجهزة. ولهذا يستحيل إلغاؤها أو نقضها، مثلما يستحيل إلغاء روح الإنسان وعقله. إلغاء الهوية أو إنكارها لن يزيلها من روح الإنسان بل سيدفع بها إلى الاختفاء في أعماقه. وفي وقت لاحق سوف يؤدي هذا التطور إلى ما يعرف بالاغتراب، أي انفصال الفرد روحيا عن محيطه، وانتقاله من الحياة الاعتيادية التي يتناغم فيها الخاص مع العام، إلى حياة مزدوجة، حيث يتعايش مع الناس على النحو المطلوب منه، بينما يعيش حياته الخاصة على نحو متناقض تماما مع الأول، بل رافض أو معاد له في معظم الأحيان.

الهوية الشخصية هي الوصف الذي يرثه الفرد من الجماعة الصغيرة التي ولد فيها، والتي قد تكون قبيلة أو طائفة أو عرقا أو قومية أو قرية أو عائلة أو طبقة اجتماعية. وحين يشب الطفل يبدأ في استيعاب هويات أخرى، أبرزها الهوية الوطنية، كما يطور هوية فردية غير شخصية ترتبط بالمهنة أو الهواية، وفي مرحلة لاحقة يطور هوية أخرى يمكن وصفها بالاجتماعية وتتعلق خصوصا بالمكانة التي يحتلها في المجتمع أو الوصف الذي يقدمه مع اسمه.

لكل فرد -إذن- هويات متعددة، موروثة ومكتسبة. يشير بعضها إلى شخص الفرد، ويشير الآخر إلى نشاطه الحياتي، بينما يشير الثالث إلى طبيعة العلاقة التي تربطه مع المحيط العام، الاوسع من حدود العائلة. يمكن لهذه الهويات أن تتداخل وتتعاضد، ويمكن لها أن تتعارض. في حالات خاصة يخترع الفرد تعارضا بين هوياته. لاحظنا مثلا افرادا يتحدثون عن تعارض بين هويتهم الدينية وهويتهم الوطنية أو القبلية. وقد يقررون – بناء عليه – التنكر لاحداها أو تخفيض مرتبتها، بحيث لا تعود مرجعا لتنظيم العلاقة بينه وبين الغير الذي يشاركه الهوية ذاتها.

لكن المجتمع هو المنتج لأكثر حالات الالتباس بين الهويات الفردية. في تجربة الاتحاد السوفيتي السابق مثلا، جرى إجبار المواطنين على التنكر لهوياتهم القومية والدينية والالتزام بالهوية السوفيتية في التعبير عن الذات. وفي تركيا الأتاتوركية أطلقت الدولة على الأقلية الكردية اسم «أتراك الجبل» ومنع التعليم باللغة الكردية أو استخدامها للحديث في المحافل العامة أو دوائر الدولة.

 وفي كلا المثالين، وجدنا أن النتيجة هي تحول الهوية القومية إلى عنصر تضاد مع الهوية العامة. ولهذا يركز الأكاديميون اليوم على دور الهوية في تحديد مؤثرات الحراك الاجتماعي.. مسألة الهوية لا تعالج بالوعظ الأخلاقي، بل تحتاج في الدرجة الأولى إلى فهم معمق للتنوع القائم في كل قطر وكيفية تأثيره على المجتمع، ثم التعامل معه بمنظور الاستيعاب والتنظيم.
عكاظ 6 ابريل 2009

28/02/2007

الخطوة الأولى لمكافحة الفساد.. تيسير القانون وتحكيمه

||استئصال الفساد يبدأ بتقليل الحاجة له، بتيسير القوانين ، ثم تقليل العامل الشخصي في التعاملات الحكومية الى ادنى حد||

صدور الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد هو الخطوة الاولى لعلاج هذا الداء المستفحل. من المفهوم ان الفساد مثل جميع العلل الاخرى لا ينتهي بمجرد اتخاذ قرارات حازمة. فهو يحتاج ايضا الى بيئة قانونية وثقافية واجتماعية تسد ابوابه وتسمح بتشكيل جبهة واسعة لمقاومته. مع تزايد عولمة الاقتصاد وانفتاح الاسواق الدولية بعضها على بعض، تحول الفساد المالي والاداري الى واحد من الشواغل الحرجة للسياسيين والباحثين ورجال الاعمال، وعقدت لأجله العديد من المؤتمرات .
نتيجة بحث الصور عن bureaucracy
 وفي الوقت الحاضر ثمة منظمات دولية، حكومية وتجارية، مكرسة لمراقبة حالات الفساد وتقييم الجهود المبذولة في مكافحته على المستويات الوطنية. وفي السياق نفسه فقد اضيف مستوى الفساد الى قائمة المؤشرات التي تقيس كفاءة كل دولة من دول العالم للاستثمار، ولا سيما استقبال الاستثمارات الاجنبية. البلدان المبتلاة بظاهرة فساد متكررة تعتبر اليوم اقل أمانا للاستثمار. الفساد المالي والاداري لا ينتج فقط عن سوء النية او قلة الورع . ثمة اسباب جوهرية تجعل الناس مضطرين في بعض الاحيان الى تجاوز القانون، وتجعلهم في احيان اخرى اقل حرجا واكثر جرأة على العبور فوقه.
من بين تلك الاسباب -على سبيل المثال- عسر القانون او ضيقه. وأذكر ان المفكر الامريكي المعروف صمويل هنتينجتون كتب قبل بضع سنوات مقالة اثارت كثيرا من الاستغراب، واظنها نشرت لاحقا في كتابه «النظام السياسي لمجتمعات متغيرة». يقول الرجل ان الفساد قد يكون الطريق الوحيد للحياة والتقدم حين يتكلّس النظام القانوني ويستحيل اصلاحه.
ويضرب مثالا بالهند في حقبة السبعينات حين كان الحصول على ترخيص لاقامة مشروع تجاري او صناعي يستغرق شهورا وفي بعض الاحيان اعواما، ويحتاج الى مراجعة مئات الموظفين والدوائر. وهي صعوبات اوجدت تجارة جديدة في تلك البلاد هي تجارة الحصول على التراخيص في شهر او شهرين . وهو عمل يقوم به بعض النافذين لقاء رشوة يقتسمونها مع موظفي الادارات الحكومية. ويبدو ان الكثير من المستثمرين كان يفضل دفع الرشوة على الجري وراء العشرات من الدوائر طيلة عام او اكثر .
في مثل هذه الحالة – يقول هنتينجتون – فان السماح بقدر من الفساد مفيد لتسهيل الاعمال. ولو ارادت الدولة ان تتشدد في تطبيق القانون فلن يكون هناك عدد كاف من المشروعات الاستثمارية الجديدة، ولن تكون هناك فرصة لتوليد وظائف جديدة.
قد يبدو هذا الحل سخيفا ومُثيرا للاحباط . لكنه يشير في حقيقة الامر الى واحد من منابع الفساد، اعني به عسر القانون وعدم واقعيته. وقد استدرك العديد من الدول هذه المشكلة بتبسيط الاجراءات القانونية وجعل الاستفادة من القانون مُيسرة لكل مواطن.
واذكر ان بعض البلديات في العاصمة البريطانية بدأت في تطبيق مفهوم جديد يطلقون عليه «one stop shop» وخلاصته حصر مراجعة الجمهور في دائرة واحدة تقوم بكل الاجراءات المطلوبة، فاذا كنت تريد الحصول على رخصة بناء، او كنت تريد دفع رسوم، او استعادة تامين او اغلاق شارع بشكل مؤقت او حتى ترخيصاً لعقد حفلة او اجتماع في حديقة عامة، فان مكتبا واحدا يتكفل بها جميعا.
واضافوا الى ذلك تنشيط المراجعة عن بعد، فانت تستطيع القيام بهذه الاعمال جميعا بواسطة البريد او التلفون او الانترنت. بعبارة اخرى فانهم بصدد الغاء العلاقة الشخصية بين الموظف والمراجع. في الوقت الحاضر هناك العديد من الشركات السعودية تسعى وراء تطبيقات مماثلة . اعرف مثلا ان التقدم للوظائف في شركة ارامكو واتحاد اتصالات وربما غيرهما تتم عن طريق الانترنت حيث يقال ان فرز طالبي الوظائف يجري بصورة آلية، الامر الذي يُقلل دور الوسيط الشخصي الى حد معقول. مثل هذه الاجراءات تتطلب بالضرورة جعل القانون محددا ويسيرا.
ان غموض القانون او عسره يفسح المجال لتدخل الاشخاص، سواء كانوا مديرين او ذوي نفوذ. وتدخل الاشخاص قد يكون مفيدا في بعض الاحيان لكنه على أي حال باب يمكن ان يُستغل في الفساد. ثمة بعد آخر يظهر فيه العامل الشخصي، حين يضع الموظف الاداري نفسه في محل واضع القانون او المشرع، او حين يطبق القوانين والتعليمات بصورة انتقائية. ثمة موظفون يعطون لأنفسهم الحق في اصدار تعليمات او فرض عقوبات من دون سند قانوني يسمح بها او من دون ان يكونوا مخولين – قانونيا – باصدارها. قد يكون هذا الموظف مديرا عاما او وكيل وزارة او وزيرا او موظفا بسيطا، لكنه في كل الاحوال لا يملك الحق في وضع القانون او تجاوز القانون.
ومع ان القانون لا يسمح – نظريا على الاقل – بممارسة مثل هذه الاجراءات، الا انها متعارفة ومنتشرة. ثمة من يقف في وجه هؤلاء، لكن اكثرية الناس لا تستطيع تحمل الاذى الذي قد يترتب على مثل هذه الوقفة. نحن بحاجة الى منع هؤلاء الاشخاص من التحكم على هذا النحو، لانه يُضعف قيمة القانون من ناحية ويفتح ابوابا للفساد والاستغلال من ناحية اخرى.
خلاصة القول اذن ان القضاء على الفساد ينبغي ان يبدأ بتقليل الحاجة اليه، وهذا يتحقق بتيسير القوانين وجعلها قليلة المؤونة على الناس، وكذلك جعلها واضحة محددة. اما الخطوة الثانية فهي تقليل العامل الشخصي في التعاملات الحكومية الى اقل حد ممكن . اخيرا فاننا بحاجة الى تشجيع الناس على الوقوف بوجه الموظفين الذين يتجاوزون صلاحياتهم، وحمايتهم من الانتقام اذا اقتضى الامر ذلك.

 


عكاظ- الأربعاء 10/02/1428هـ-   28/ فبراير/2007  العدد : 2082
مقالات ذات علاقة

12/09/2006

قرشنا الابيض ليومنا الاسود

في ظرف الوفرة المالية الذي تعيشه دول الخليج اليوم ، يجب ان لا ننسى الظروف العسيرة التي مررنا بها في النصف الثاني من الثمانينات ومعظم عقد التسعينات. لا نسمع اليوم الشكاوى الكثيرة من البطالة التي كانت موضوعا يوميا للصحافة ومجالس المواطنين في تلك الفترة ، كما اختفت اصوات التذمر من السياسات الحكومية والمحسوبيات وسوء الادارة التي راجت يومئذ. ثبات المستويات العالية نسبيا لاسعار البترول وفر فرصة نادرة لاختفاء الكثير من المشكلات الاقتصادية وغير الاقتصادية التي شهدناها قبل بضع سنوات. يؤدي ارتفاع الدخل الوطني الى زيادة الاستثمار المحلي وتوفير فرص عمل جديدة وتحسن مستوى المعيشة لعامة السكان .

 ولعل كثيرا منا يتذكر ما حصل في منتصف السبعينات حين شهدت المنطقة انقلابا اقتصاديا لم يسبق له مثيل في تاريخها كله. وكان ذلك بفضل ارتفاع اسعار البترول بعد حرب رمضان 1973. في منتصف التسعينات اقترح احد المحللين نموذجا دائريا لفهم الحراك الاقتصادي في المنطقة . ويربط هذا النموذج بين الطلب على البترول والنشاط الاقتصادي في العالم ، لا سيما في الدول الصناعية ، فانخفاض اسعار البترول يحفز النمو في هذه الدول ويؤدي الى رفع الطلب والاسعار ، الامر الذي ينعكس ايجابيا على اقتصاديات الدول الخليجية المصدرة او المستفيدة .
 لكن اذا تجاوزت الاسعار مستوى معينا فسوف يتراجع الطلب ومعه الدخل القومي للاقطار المصدرة . اذا صح هذا النموذج ، فان على دول الخليج ان تستعد لهبوط في عائداتها بعدما تتجاوز اسعار البترول حاجز الثمانين دولارا. اي ان تستعد في حقيقة الامر لحقبة من العسر شبيهة بتلك التي عرفتها في السنوات الماضية. من المحتمل طبعا ان لا يكون هذا التحليل صحيحا ، او لعل عوامل اضافية تدخل في السوق لم تكن متوقعة من قبل ، مثل النهوض الاقتصادي في الصين والهند الذي يرجع اليه جانب كبير من الانتعاش الحالي في الاسواق. 

لكن ايا كان الامر ، فان تجربة العسر والانتعاش التي تكررت للمرة الثانية خلال اقل من ثلاثة عقود توفر مبررا قويا لكل عاقل كي يتأمل ويخطط ويستعد لمختلف الاحتمالات. من المحتمل ان تتكرر مرة اخرى نفس المشكلات التي عرفناها في السنوات الماضية ، ومن المحتمل ان نواجه – بالاضافة اليها - مشكلات جديدة.

في سنوات العسر شهدنا بوادر اولية لما يمكن وصفه بالاحباط ولا سيما بين الاجيال الجديدة ، وتجسدت هذه البوادر في تأزم العلاقات الاسرية والاجتماعية وشيوع التطرف السياسي والديني ، وكان اخطر تمظهراتها هو ارتفاع مؤشرات العنف. وعلى المستوى السياسي والاداري شهدنا شيوع الفساد واستغلال النفوذ والمحسوبيات وظهور انواع من التحزبات والتحالفات التي تسعى للاستئثار بالموارد العامة . وهذه كلها ظواهر يمكن ان توجد في ظرف الرخاء كما توجد في ظرف العسر ، لكن اثرها اشد وقعا في ظروف العسر وندرة الموارد ، ولهذا فمن الممكن ان تؤدي الى خلق احباطات ترتد على شكل تمرد فردي او جمعي .

ثمة طرق كثيرة لاستثمار ظرف الوفرة في وضع اساس متين للوقاية من الانعكاسات السلبية لظروف العسر. ويكفينا مراجعة الدراسات القيمة التي وضعها باحثون عرب واجانب خلال العقود الثلاثة الماضية لمعرفة نقاط البداية ونقاط الاستهداف. ثمة اقتراحات اجمعت عليها تلك الدراسات ، من بينها مثلا تنويع مصادر الدخل الوطني لتخفيف الاعتماد المفرط على عائدات البترول الخام في تسيير معيشة الناس والدولة ، ومن بينها التعجيل في التكامل الاقتصادي بين الدول العربية المتجاورة كي نضمن استفادة قصوى من الاموال التي تنفق في كل بلد على حدة.

 واريد الاشارة ايضا الى ضرورة التعريف الدقيق للمرحلة الزمنية التي تمر بها المنطقة من الناحية التنموية ، واظن ان هذا التعريف يجب ان يلحظ كون المنطقة في مرحلة انتقال بين التقاليد والحداثة ، اي بين بداية النمو وبلوغ التنمية غاياتها. المقصود من تعريف كهذا هو تحديد قيمة السياسات والبرامج التي تتبناها الحكومات ، وتحديد القيمة السياسية او الثقافية للتفاعل الاجتماعي مع هذه السياسات . بديهي ان اعتبار الوضع انتقاليا يعني ان ما يجرى فيه هو مجرد مرحلة وليس نهائيا ، وبالتالي فاننا ننظر الى قيمته من زاوية عملية بحتة. وعندئذ فسوف ننظر الى المطالبات والنقد الموجه لهذه السياسات باعتباره تطلعا مشروعا الى الافضل وليس مؤشرا على رفض قطعي لما هو قائم ، كما ننظر الى الاعتراضات او حتى التمرد السياسي باعتباره ناتجا جانبيا للتغيير وليس موقفا نهائيا .

خلاصة القول ان ظرف الرخاء هو فرصة للتوقي من الانعكاسات السلبية لظرف الشدة ، واظن ان اي عاقل يستوعب حقيقة ان كلا الظرفين هو احتمال قائم لفترة قد تطول او تقصر وان الاعداد لكل منهما ضرورة في جميع الاوقات.

الايام 12-9-2006

28/08/2004

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة


يقال عادة ان التنمية السياسية ليست وصفة جاهزة  قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان . منذ اواخر الستينات الميلادية اصبحت المقومات المحلية للتطور السياسي – او الخصوصيات كما تسمى احيانا - الموضوع المحوري للابحاث حول امكانات النمو وعوائقه. الخصوصية قد تكون وصفا ايجابيا ، بمعنى وجود فرص افضل لتنمية سياسية واسعة ، وقد تكون وصفا سلبيا بمعنى انعدام او عسر فرص الحراك السياسي او الاقتصادي او ضيق الامكانات المتاحة للنمو.
رغم كثرة الدراسات حول التنمية في العالم الثالث ، فان الاهمية الكبرى تعطى في العادة للوصف الذي يقدمه مفكرو كل بلد عن خصوصيات مجتمعهم ومدى قربها او بعدها عن معايير التنمية المتعارفة عالميا . في حقيقة الامر فان مفكري كل بلد مطالبون باقتراح النموذج التنموي الاكثر تلاؤما مع ظروف مجتمعهم الاقتصادية والثقافية وطرحه للنقاش. وفي الوقت الراهن فان علم التنمية يتمثل في مجموع الابحاث المحلية والمناقشات المتعلقة بها ، ومقارناتها مع المعايير العامة لفكرة التنمية الشاملة .
نموذج التنمية هو تركيب منظومي من المفاهيم الاساسية ، الاهداف المرحلية ، الطرق وادوات العمل التي تصمم على ضوء الشروط الخاصة للمجتمع المحلي . انه بكلمة اخرى النموذج المتعارف في العالم مع بعض التعديلات ، من اضافة او حذف.  من بين النماذج التي حققت نجاحا ملحوظا ضمن شروط العالم الثالث ، يعتبر النموذج الصيني متميزا ، لا سيما في ظل تغير اسواق العمل الدولية خلال العقد المنصرم.
يقوم هذا النموذج على اعتبار الاقتصاد محورا اساسيا – بل وحيدا الى حد كبير – للنمو ، ولهذا فهو يعتبر قاصرا عن المقاييس العالمية المتعلقة بالتنمية الشاملة . لكن الصين لفتت الانظار بقدرتها على تصميم منظومة من المحفزات للنمو جعلتها الهدف المفضل للاستثمارات الدولية . والحقيقة ان عددا هائلا من الشركات الكبرى في الدول الصناعية قد نقلت جانبا مهما من اعمالها الى الصين ، الامر الذي وفر لها فرصة لنمو سنوي ثابت في الناتج القومي ، كان هو الاعلى عالميا خلال السنوات الماضية . وخلال العام الجاري كان الحجم الهائل للنمو في هذا البلد سببا في ضغوط قوية على اسواق المواد الانشائية والوقود في العالم كله .
يقوم النموذج الصيني على استبدال الديمقراطية بالحريات الاجتماعية والثقافية . لقد اصبح من البديهي اعتبار الحريات العامة وحاكمية القانون قاعدة اساسية لاي تحرك تنموي . ان الاستثمار طويل الامد غير متوقع في مجتمعات تغيب عنها الحريات وسيادة القانون . والحقيقة ان دولا كثيرة – معظم دول الشرق الاوسط مثلا - قد حاولت اقناع العالم بان هيمنة الدولة يمكن ان تعوض عن سيادة القانون وان الانضباط هو بديل افضل عن الحرية ، وقد نجحت احيانا في استقطاب مستثمرين مهتمين بالميزات النسبية التي تتمتع بها هذه البلدان .
الا ان الاستثمارات الاجنبية منها والمحلية بقيت محدودة جدا بالقياس الى حركة راس المال العالمي . وكشف تقرير نشر العام الماضي ان الصين وحدها استقبلت ما يزيد عن مئة ضعف ما حصلت عليه اقطار الشرق الاوسط مجتمعة من استثمارات . كما ان تقريرا اخر يظهر ان الاموال الخليجية التي استثمرت في اوربا وشرق اسيا زادت خلال العقد الماضي عن تلك التي استثمرت في الخليج نفسه.
لا يفاخر الصينيون بالديمقراطية فهم يفتقرون اليها ، لكنهم يفاخرون بالحريات الاجتماعية والثقافية الواسعة وسيادة القانون التي تعني المساواة بين الجميع في الفرص وامام القانون ، كما تعني الشفافية والتاكيد على المسؤولية والمحاسبة. وتدعي الحكومة الصينية انها قد نجحت بنهاية العام الماضي في توفير التعليم الالزامي لكل الاطفال ، بمعنى انه لم يعد اي طفل في سن الدراسة خارج المدرسة. بالنسبة للمستثمر فان ما يهمه هو ضمان استثماراته على المدى البعيد . هذا الضمان مستحيل في غياب الحريات العامة وسيادة القانون . بالنسبة للحكومة فان الاستثمار الاجنبي يوفر وظائف للملايين من طالبي العمل .
يمثل النموذج الصيني – رغم قصوره في الجانب السياسي - محاولة ناجحة حتى الان في الربط بين حاجة السوق الدولية والميزات النسبية المحلية – اليد العاملة المؤهلة والرخيصة بالدرجة الاولى – والحدود الخاصة بالسياسة . لم يكن هذا الخيار سهلا او دون عوائق ، فقد تطلب تنازلات من النخبة الحاكمة وتركيزا على المواءمة بين عناصره المختلفة .
 عكاظ ( السبت - 12/7/1425هـ ) الموافق  28 / أغسطس/ 2004  - العدد  1168

28/02/2004

المطالب الشعبية والنظام العام


||علة وجود الدولة هي تلبية الحاجات التي لا يستطيع الافراد انجازها بانفسهم. اذا لم يمكن توفير جميع هذه الحاجات فان تحديد اولوياتها هو جوهر موضوع السياسة||
يبدو ان صيانة التوازن بين النظام العام وتلبية المطالب المتغيرة للجمهور هي اكثر مهمات السياسيين حرجا. فكرة التوازن ليست اختراعا جديدا على اي حال ، فقد شكلت جزءا هاما من الدراسات الغربية حول الدولة والتحديث . وقد اشتهرت في هذا السياق اراء المفكر الامريكي صمويل هنتينجتون (وهو بالمناسبة معروف في الوسط الاكاديمي كعالم سياسة ومنظر للتنمية قبل اشتهاره عندنا بنظرية صراع الحضارات). يدعو هنتينجتون الى تحديث متوازن وتدريجي لاجهزة الدولة والنظام الاجتماعي . وفي رايه ان التحديث السريع وما يوفره من حريات وما يكشف عنه من فرص يطلق تيارا هائلا من التوقعات والامال التي يستحيل تلبيتها في فترة وجيزة . عجز الدولة والنظام الاجتماعي عن تلبية تلك الامال ، يحولها الى مولد للقنوط والقلق بين الاكثرية من الجمهور. ويقود بالتالي الى تصدع المجتمع وتبلور ظواهر العنف والخروج على القانون والفساد الخ .
ومع اني لا اميل الى نظرية التنمية التي دعا اليها هذا المفكر ، الا انها تقدم حلولا جديرة بالتامل ، من بينها مثلا تركيزها على مؤسسات العمل الجمعي. النظام العام عند هنتينجتون وليد لتوازن فعال بين مطالب الجمهور وحاجات الدولة . على المستوى الاجتماعي ، يتحقق هذا التوازن اذا امكن تأطير مطالب الجمهور في قنوات عمل جمعي تعمل على تحويل التطلعات الفردية من افكار غائمة الى مشروعات عمل . كما يتحقق التوازن على مستوى الدولة اذا امكن تقريب المسافة التي تفصلها عن المجتمع ، من خلال التوسع في الحوار وانتقال الافكار بين الطرفين. النظام العام – حسب هذه التصوير – ليس وليد استعراض الجبروت الدولتي بل وليد القناعات المشتركة التي يخلقها التفاعل عند الطرفين.
لا يمكن لاي دولة في العالم ان تلبي "جميع" مطالب الناس ، كما يستحيل عليها ان تعرف جميع تلك المطالب . لكن في الوقت نفسه فان النظام العام لا يمكن ان يستقر دون تلبية حد معقول منها . فلسفة عمل الدولة بل وعلة وجودها هو تلبية الحاجات التي لا يستطيع الافراد تحقيقها بانفسهم. وبالتالي فان جوهر المسألة هو تحديد ما يحظى باهمية قصوى وما يمكن تاخيره . عمل الدولة – اي دولة في العالم – لا يتجاوز في حقيقة الامر هذا المعنى. كل حاكم او وزير او مسؤول يتمنى ان يفعل كل شيء ، لكنه في نهاية المطاف مضطر الى ملاحظة الامكانات المتوفرة والزمن المتاح وبالتالي فلا مفر من الرجوع الى جدول اولويات مناسب.
السؤال الان : من يقرر ان مطلبا معينا اولى من غيره ، وما هو المعيار في التقديم والتاخير؟.
في اعتقادي ان رضى عامة الناس يجب ان يكون المعيار الاول لاختيار اولويات عمل الدولة. ويرجع هذا الاختيار الى فكرة النظام العام التي بدأنا بها هذا الموضوع . ثمة دائما اعمال مهمة وضرورية لكنها لا تحظى برضى الجمهور ، واخرى اقل اهمية لكنها توفر الرضى. اذا قبلنا بفكرة ان التفاعل بين الدولة والمجتمع هو القاعدة التي يقوم عليها النظام العام والاستقرار ، فيجب ان نأخذ بهذا المبدأ حتى لو بدا لبعض النخبة ناقصا او معيبا.

يستتبع هذا - بالضرورة – توفير الفرصة لافراد الجمهور كي يحولوا اراءهم وتطلعاتهم الى مطالب عقلانية ، منظمة وقابلة للطرح العلمي والمناقشة الموضوعية ، اي – بصورة مختصرة – تحويلها من راي خاص الى راي عام . الوسيلة التي توصل اليها العالم المعاصر للقيام بهذه المهمة هي ما يعرف بالمجتمع المدني . مؤسسات المجتمع المدني ، من صحافة وجمعيات نفع عام وجمعيات حرفية وتخصصية ، هي الوسيلة التي مهمتها بلورة الاراء وعقلنتها وتحويلها من ثم الى مشروعات عمل . تحديد المطالب والاولويات هو – اذن - عمل المجتمع ، وهو التجسيد الابرز لفكرة التفاعل بين الدولة والمجتمع كقاعدة للاستقرار والنظام العام.

14/02/2004

انهيار الاجماع القديم


يمكن تلخيص مضمون التغيير التي طرا على المجتمع تحت عنوان "ظهور الفرد" . لو تاملنا في المنظومة الثقافية التي سادت مجتمعنا في الماضي ، لوجدنا انها تدور في المجمل حول تكريس مكانة الجماعة وسلطتها ، وتلغي تماما دور الفرد ، وفي المقابل فان الثقافة التي جاءتنا مع الانفتاح على العالم تنظر للامر من الزاوية المعاكسة تماما ، الفرد فيها هو الاساس ، وهو عندها مستقل ومسيطر على مصيره وحر في اختيار انتمائه ومصالحه واسلوب عيشه وعلاقاته.
 شكا الاستاذ عبد العزيز الخضر مما يصفه باختلاط الرؤية تجاه مسألة التجديد ، وهو يرجع جانبا من المشكلة الى الانفصام بين الثقافة والواقع ، والى تزاحم الفقهي والفلسفي في الخطاب الديني . هذه القضية – رغم قلة المنشغلين بها بين الناس – هي لب المشكلة التي يعاني منها مجتمعنا ، بل والمجتمعات العربية  عامة . ومنذ ستينات القرن الماضي كانت موضوعا للكثير من النظريات و الابحاث التي اهتمت بقضية النمو في العالم الثالث. يمكن اختصار المسألة كلها في ثلاث كلمات : التغيير، الاجماع ، والاستقرار.
الفرضية الاساسية هي ان النشاط الاقتصادي وانتشار التعليم والاعلام والانفتاح على العالم يؤدي الى تغييرات عميقة في النظام الاجتماعي، في القيم الناظمة لسلوك الافراد وفي هيكل العلاقات الاجتماعية وفي المفاهيم المعيارية التي تتحكم في رؤية الفرد لنفسه ومحيطه. ومن بين ابرز ما يتغير هو تصور الفرد لمنظومة السلطة ، سواء سلطة العائلة او سلطة الدين او سلطة الدولة او سلطة المدرسة ، او غيرها من السلطات التي ينظر اليها عادة باعتبارها ذات حق في فرض ارادتها على الجميع.
يؤدي التغيير الى  نوع من توحيد الافكار بين الداخل والخارج ، ونجد ابسط تمثلات هذا الامر في انتشار اللغات الاجنبية - الانكليزية مثلا - في البلاد ، وتماثل اساليب المعيشة والاستهلاك ، والرغبة في السفر والاهتمام بقضايا العالم البعيد .. الخ . هذا التوحيد – وهو ابسط اشكال العولمة – يؤدي في احد وجوهه الى انحسار منظومات القيم ومعايير السلوك المحلية لصالح تلك التي سادت في العالم واصبحت معيارية على المستوى الكوني.

فلنأخذ مثلا فكرة الحرية ، حرية التعبير وحرية السلوك الاجتماعي وحرية الانتماء ..الخ . مفهوم الحرية لم يكن على  الاطلاق جزءا من ثقافتنا القديمة ، ولعل كثيرا من الاباء شعر بالقلق حين تكاثر الكلام حولها ، وقفزت الى اذهانهم مظاهر العجز عن ضبط الاجيال الجديدة التي تريد العيش بحرية غير معتادة . ومثل ذلك يقال عن فكرة المشاركة وتقرير المصير الخ .

بعد اربعين عاما من الانفتاح الواسع على العالم ، فان الفرد المذكور لم يعد واحدا او عشرة او مئة الف خريج جامعي ، بل جيلا باكمله يسيطر اليوم على مفاتيح الحياة على  امتداد المجتمع . سيادة الجيل الجديد ، تعني بالضرورة ان المنظومة الثقافية التي كانت سائدة في المجتمع لم تعد كذلك اليوم . لكن المشكلة ان هذا التغيير لم يجر على وفق نظام محدد ومخطط سلفا ، لاننا في الاساس لم نعتبره قضية كبرى . والعادة في العالم العربي انهم يخططون لخمس سنوات او عشرا ، لكنهم لا يفكرون في صورة البلاد بعد ثلاثين عاما ولا يدرسون انعكاسات التغيير المقصود وما يتبعه من هزات ارتدادية على المدى الطويل ، ولهذا فان ما نحن بصدده اليوم يبدو للكثير من الناس مفاجأة غير سارة .
اذا اردنا وضع التغيير المذكور تحت عنوان اوسع ، فان افضل وصف له هو "انتهاء الاجماع القديم" . الاجماع الوطني هو الاساس في التوافق بين اطراف المجتمع وهو الوسيلة الوحيدة لضمان الاستقرار . على المستوى السياسي ، فان اعادة تكوين الاجماع الوطني هو المهمة الاكثر الحاحا ، ذلك ان الاجماع هو القاعدة التي تقوم عليها مشروعية النظام . اعادة تكوين الاجماع لا تتحقق بالدعوة الى الوحدة والحث على ترك الاختلاف كما يفعل بعض الدعاة والكتاب ، بل بالنظر في الهموم التي ينشغل بها الجيل الجديد من المواطنين والتطلعات التي يسعون الى تحقيقها .
 في ظرف مجتمعنا الحاضر ، فان اعادة انتاج الاجماع القديم في اي صورة ، لن يولد اجماعا جديدا ، بل مزيدا من الانقطاع بين الشرائح الاجتماعية . ويبدو لي ان الخطوة الاولى لتكوين اجماع جديد ، هي الاعتراف بالمجتمع كما هو ، اي بما يتمثل فيه من تيارات ومصالح وتوجهات ، سواء رضينا عنها او أساءتنا . هذه الخطوة ستمهد لاجماع لا يتناقض مع التعدد والتنوع ، اجماع يتيح الفرصة للجميع كي يشعروا بمعنى المواطنة الحقة والشراكة المتساوية في تراب الوطن.


Okaz ( Saturday 14 Feb 2004 ) - ISSUE NO 972

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...