31/08/2022

جدل الهوية الفردية وتأزماتها

لاحظت في هذه الأيام انبعاثا مستجدا للنقاش حول الهوية. وقد وصلتني أسئلة من أصدقاء ، أثار اهتمامهم ما كتبه الروائي المعروف عبد الله بن بخيت ، حول الفردانية والاستقلال والهوية الفردية ، وقابليتها للتمييز عن الهويات الأخرى ذات البعد الجمعي.

عبد الله بن بخيت
وقد لقي مقال الأستاذ بخيت المنشور بجريدة "عكاظ" يوم الاحد الماضي ، اهتماما استثنائيا بين القراء ، واحسب انه طرق بشدة على وتر حساس ، في نقاشات يريد الخليجيون ، ان يجدوا لها نهاية مريحة. لكن غالبيتهم يواجهون خيارات صعبة ، نظرا لارتباط المسألة بما يعتبر تحولا في مفهوم التدين او حدوده. ليس سرا ان هذا الجانب هو الجزء الأكثر إثارة ، في جدل الهوية في مجتمعات الشرق الأوسط. ان محرك هذا الجدل ، هو ميل قطاع معتبر من الجيل الجديد ، لتعريف انفسهم كأفراد مستقلين ، يختارون شروط تدينهم ومقدار تأثيره على حياتهم اليومية.

هذه الرغبة تبدو بسيطة واعتيادية في أيامنا هذه ، ولا سيما بالنسبة للطبقة الوسطى التي تلقت تعليما حديثا. لكنها مع ذلك تثير قلقا كبيرا ، وربما أثارت نزاعات عائلية واجتماعية. السبب معروف لدى معظم الناس ، وخلاصته ان المنطقة شهدت طيلة العقود الخمسة الماضية ، تشديدا على أولوية الهوية الدينية ، وكونها مزاحمة للهويات الموازية ، الفردية والجمعية. وقد تعمق هذا الاتجاه في السنوات الأخيرة من القرن الماضي ، واستخدمت فيه الموارد العامة ، فتحول الى نوع من القسر الثقافي والاجتماعي ، الذي لا يترك مجالا لأي تعبيرات موازية او بديلة.

وفي هذا السياق ، بات كل مواطن مطالبا بأن يحدد موقفه الثقافي/الديني وموقعه الاجتماعي ، مع التيار الديني القوي النفوذ او ضده. والضد يشمل بطبيعة الحال اتباع الأديان الاخرى ، والمنتمين لتيارات ثقافية او اجتماعية صنفت معادية ، مثل انصار الحداثة في الادب والحركة النسوية ، فضلا عن اتباع المذاهب الإسلامية التي صنفت كمبتدعة.

مسألة حقوق النساء هي المثال الأكثر بروزا في الصراع حول الهوية الفردية. فخلال الفترة المذكورة أعلاه ، جرى تحديد اطار ضيق نسبيا لحياة النساء ، يتضمن اعتبارهن مواطنات من الدرجة الثانية ، وإقناع المجتمع كله بان المشاركة الاقتصادية والاجتماعية للمرأة ، تعني انخراطها في مؤامرة عالمية يتزعمها مركز الأبحاث الأمريكي "راند" ، وهدفها القضاء على دين الله.

فيما يخص التمايز الاجتماعي ، يقول بن بخيت انه عايش كثيرا من زملاء العمل الشيعة ، لكنه نادرا ما تنبه للفارق المذهبي. أما في الفترة المشار اليها أعلاه (والتي يطلق عليها اجمالا اسم الصحوة) فقد بدأ يتحسس ويتعرف على نقاط الفرق ، في الكلام العابر وفي الأسماء والملابس والاهتمامات ، بدأ يشعر انه واياهم لا يشكلون مجتمعا واحدا ، كما تخيل في الماضي. يرجع السبب الى كثافة التوجيه الديني ، الذي يؤكد على الفوارق والحدود ويحذر من التماهي والاندماج.

خلال السنوات الأخيرة ، باتت الدعوة لانهاء تلك الحقبة وما جاء في سياقها ، فكرة ثابتة في أعمال المثقفين والكتاب الخليجيين. كما ان تسارع التحول الى الحداثة في السنوات الأخيرة ، وعودة نحو ربع مليون مبتعث للجامعات الأجنبية ، ساهم في تعميق هذا الاتجاه.

لكنه – كأي تحول اجتماعي – يلقى مقاومة من جانب شريحة مستفيدة من الحال السابق ، وأخرى قلقة من ان يؤدي هذا التحول ، الى الاضرار بالصبغة المحافظة للمجتمع.

يبدو لي ان الانتقال الى الحداثة غدا قدرا لا مفر منه ، وان التحول الاجتماعي يتسع ويتعمق يوما بعد يوم. لكن – كما اسلفت – سيكون ثمة كبوات واثمان ، وهذي من طبائع الأمور.

الشرق الأوسط الأربعاء - 4 صفر 1444 هـ - 31 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15982]

https://aawsat.com/node/3846461

 مقالات ذات علاقة 

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الدين والهوية ، خيار التواصل والافتراق

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

كيف تولد الجماعة

من القطيعة الى العيش المشترك

الهوية المتأزمة

24/08/2022

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

كيف نوكل امورنا الدينية والحياتية الى عقل تتغير استنتاجاته بين يوم وآخر وبين شخص وآخر؟.

 وأي عقل هو المعيار .. عقل الفقيه ام عقل الفيلسوف ، ام عقل الطبيب ام عقل السياسي ، ام عقول عامة الناس؟.

 وما العمل اذا اختلفت عقول الناس واختلفت آراؤهم ، في أمور كبيرة تستدعي وحدة الرأي والموقف؟.

هذه الردود هي الاوسع انتشارا بين معارضي دور العقل في التشريع. والحق انها صحيحة في ذاتها ، لكنها لا تصلح للاستدلال. بعبارة أخرى ، فان العقل لا يتوقف عن نقد نفسه ، فقد يتبنى اليوم رأيا وينقضه غدا. كما ان الناس ينظرون الى نفس الموضوع او يستعملون نفس الأدلة ، لكنهم يتوصلون لنتائج مختلفة. وهذا ينافي الثبات والوحدة المفترضة في الاحكام الشرعية والقوانين العامة. ان استقرار القانون وقابلية التنبؤ مسبقا بنتائج الالتزام به او مخالفته ، ركن مهم من اركان العدالة.

هذا يوضح ان تلك الاعتراضات ليست ضعيفة او هامشية. بل هي موقف العقلاء جميعا. لكنها مع ذلك ، لا تصلح لانكار دور العقل/العلم في التشريع.

بيان ذلك: ان نقاشنا يتناول مرحلتين:

الأولى يوضحها سؤال: هل يستطيع العقل/العلم كشف الحسن والقبح في الفعل ام لا؟. هذا سؤال قائم بذاته ، اصلي وتأسيسي ، يجب قبوله أو رفضه من حيث المبدأ ، وبغض النظر عن كون الكشف المدعى طويل الأمد ام قصير الأمد ، ثابتا ام متغيرا.

المرحلة الثانية: اذا قبلنا بفرضية ان العقل/العلم قادر على كشف الحسن والقبح في الأفعال ، فما هي الطريقة الصحيحة ، لتحويل هذا الكشف من رأي لم يتفق عليه الناس ، وهو قابل للتغيير ايضا ، الى رأي ثابت ومورد اجماع ، كي يشكل أساسا سليما للحكم الشرعي والقانون؟.

قلت سابقا انه لا توجد طريقة لاقناع معارضي دور العقل/العلم بتغيير موقفهم. اكثر ما نستطيع هو دعوتهم للتأمل في علاقتهم هم بالعلم والعقل والعرف ، التأمل من دون قيود او مخاوف ، فذلك هو الطريق. لكن دعنا في الوقت الحاضر نفترض انهم قبلوا بالمرحلة الأولى ، أي قابلية العقل/العلم لكشف المصالح والمفاسد. لكن اعتراضهم مركز على المرحلة الثانية ، أي اتخاذ قرارات العقل/العلم أساسا للحكم الشرعي. والجواب على هذا يعرفه كل العقلاء. فالعلماء في مختلف الحقول يدرسون المسائل ويتوصلون الى نتائج (دعنا نطلق عليها رايا علميا او فتوى علمية). ثم تقدم هذه الآراء والفتاوى لصاحب الشأن ، فيختار  منها ما يراه مناسبا للمسألة الحاضرة. 

صاحب الشأن هذا ، هو الشخص او الهيئة المخولة بوضع الاحكام الشرعية او القوانين: ربما يكون قاضي المحكمة ، او مجلس الشورى او البرلمان او رئيس الدولة او الفقيه المرجع او المفتي. بعبارة أخرى فان الراي العلمي قد يصدره فقيه في الشريعة او أستاذ في القانون او خبير في الاقتصاد او كبير مهندسين او كبير أطباء او غيرهم ، فيعامل باعتباره رايا علميا محترما. لكنه غير ملزم لأحد. فاذا اختاره صاحب السلطة المختصة ، فسوف يتحول الى رأي ملزم لكل الناس ، مثل حكم القاضي او قانون البلد. واذا تم إصداره على هذا النحو ، فسوف يكون مستقرا لفترة زمنية معقولة ، ولن يلغى اذا تغير راي العالم او تغيرت قناعة القاضي او رئيس الدولة.

 ان تغيير الحكم او القانون الذي دخل مرحلة التطبيق العام ، سيخضع لنفس الإجراءات التي يمر بها حين ينتقل من راي علمي شخصي الى حكم عام.

الأربعاء - 27 محرم 1444 هـ - 24 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15975] https://aawsat.com/node/3833036

17/08/2022

الزكاة ام العدالة الاجتماعية؟

 

اريد في هذه السطور تبسيط فكرة العلاقة بين العقل والنقل ، واعني بها تحديدا وظيفة العقل كمصدر للتشريع ، مواز للكتاب والسنة. والحق انها فكرة ثقيلة ، لكنها ليست معقدة ، كما قد يظن. على أي حال ، لو تأملنا السيناريو الواقعي لدور العقل في التشريع ، لوجدنا انه ينصرف الى معنيين في الغالب: الأول هو العلم في مختلف حقوله ، الطبيعية والتجريبية والنظرية ، والثاني هو ما نسميه عرف العقلاء او بناء العقلاء (مع ملاحظة الفرق بينهما). وسوف اركز في السطور التالية على الأول،  أي العلم.

فهم الزكاة في اطار السعي لاقرار العدالة الاجتماعية يتطلب تغيير مفهومها  الفقهي جذريا

 نستذكر هنا ان علاقة العلم بالدين قد أسالت انهارا من الحبر. وأجمع الإسلاميون قاطبة ، على تعظيم الإسلام للعلم ، كما دأبوا على تمجيد المساهمات الجليلة لعلماء العصور الإسلامية القديمة في مختلف الحقول. واحسب ان هذا بات من المسلمات التي لا تحتاج الى مزيد كلام.

لكن الذي يحتاج الى مراجعة ، هو السؤال التالي: هل نفهم تعظيم الإسلام للعلم ، باعتباره احتفاء بشيء خارج حدوده ، مثلما نحتفي بضيف غريب ، ومثلما نحتفل بفوز فريقنا في دوري كرة القدم ، ام انه بمثابة إقرار بالدور الحيوي للعلم في حياة الدين وأتباعه ، مثلما نقر بدور المهندس في تخطيط بيتنا ومدينتا ، ومثلما نثق بدور الطبيب في علاج اجسامنا. دعنا فقط نتخيل الفرق بين مهندس توكل اليه تخطيط بيتك ، فتلتزم بتطبيق الخريطة التي رسمها لك ، وبين مهندس نستمع اليه ثم نحتفي به ونفخر بوجوده بيننا ، لكننا لا نعتمد عليه في أي عمل. هذا هو على وجه التحديد ، الفرق بين حالة الدين الذي يعظم العلم ، ثم يعتمد عليه في تحديد مسارات عمله وتنظيم حياة اتباعه ، وحالة الدين الذي يحتفي بالعلم ثم يرسله الى المكتبة أو المتحف  ، كي يستريح هناك حتى موعد الاحتفال التالي.

اعتقد ان أكثر الناس لن يقبلوا بالاقتصار على الدور الاحتفالي للعلم. لكني لست واثقا ان عدم قبولهم ، يعني تقبل دور المهندس او دور الطبيب الذي اشرت اليه آنفا. دعني اضرب مثالا ، يوضح معنى دور المهندس او الطبيب بالنسبة للدين: نعلم ان الغرض الأبرز لتشريع الزكاة مثلا ، هو دعم الفقراء والمساكين. في أيامنا هذه ، طور علماء الاقتصاد طريقة للقضاء على المسكنة ، من خلال كسر تسلسل الفقر عبر الأجيال ، وكسر العوائق الاجتماعية التي تعيق الحراك الطبقي ، وتمكين الفقراء من الوصول الى الموارد والفرص المتاحة في المجال العام. هذا هو جوهر نظرية العدالة الاجتماعية ، في النسخة المساواتية التي طورها امارتيا سن ، وتم تحويلها الى سياسات تفصيلية ، ذات اهداف محددة كميا وكيفيا ، في اطار برنامج التنمية البشرية الذي تبنته "الأمم المتحدة". وتظهر التقارير السنوية ان هذا البرنامج كان له أثر عظيم في تحسين مستوى المعيشة ، في المناطق الريفية الأشد حرمانا.

حسنا.. هذا يظهر ان لدينا بديل عن الزكاة ، يحقق غاياتها بصورة أوسع واعمق ، وهو بديل يستند الى دراسات اقتصادية واجتماعية ، وترتبط به أدوات قياس ومعالجة ميدانية. فهل نأخذ به ، ام نواصل التغني بفضل الزكاة ورمزيتها للتكافل الاجتماعي ، ام نطور مفهوم الزكاة بحيث يستوعب البديل العصري ، ولو أدى الى الغاء الاحكام القديمة المعروفة عند الفقهاء؟.

أعلم ان كثيرا من القراء سيتوقفون في هذه النقطة. وربما ذهب بعضهم باحثا عن مخرج رابع. لكني أردت الإشارة الى المعاني النهائية لما نفكر فيه ، لأن لكل خيار ثمن ، وأن قيمة الأشياء رهن بما تحدثه من تغيير في الحياة الواقعية. هذا يوضح في الحقيقة واحدا من أسباب القلق الذي يثيره نقاش العلاقة بين العقل/العلم وبين النقل ، وكان الغرض منه هو إيضاح ان جدل العقل والنقل ينصرف غالبا الى معنى علاقة العلم بالنقل وعلاقته بالدين عموما.

الشرق الأوسط الأربعاء - 19 محرم 1444 هـ - 17 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15968]

https://aawsat.com/node/3820711

10/08/2022

اناني وناقص .. لكنه خلق الله

ذكرت في الأسبوع الماضي ، ان المسار الصحيح لنقاش العلاقة بين النقل والعقل/العلم ، ينبغي ان يبدأ عند السؤال الاشكالي الخاص بموقع "الانسان في الدين". هذه مسألة لا بد منها لتمهيد الطريق ، للنقاش في دور العقل او مكانته بالقياس الى النقل. وهي مسألة لم تطرقها مدارس العلم الشرعي الا لماما أو عابرا. ولهذا اعتبرتها عاملا خفيا ، وزعمت ان اغفالها ساهم في تعقيد النقاش الخاص بالعلاقة بين العقل والنقل ، او بين العلم والدين. وذكرت ان "موقع الانسان في الدين" يفهم على ضوء عناصر ثلاثة ، أولها يتعلق بالفطرة الأولية للإنسان ، هل هي صالحة ام فاسدة ، بمعنى ان الناس لو تركوا وشأنهم ، فهل سيتقاتلون ويهلكون الحرث والنسل ، أم يجتهدون في تنظيم علاقتهم ببعضهم ، كي يدرأوا الشرور عن مجموعهم.


توماس هوبز (1588-1679)

لكن ما هي علاقة الفطرة بجدل العقل والنقل؟

جواب هذا السؤال يظهر في الحجج التي تتكرر من جانب الرافضين لدور العقل. وأحتمل ان كثيرا من القراء الأعزاء ، قد واجهوها فعلا في النقاشات المتعلقة بالموضوع. ان محور تلك الحجج هو الميول الذاتية/الانانية التي تتحكم في تصرفات الانسان وفي تفكيره. وهي تظهر من خلال انسياق الانسان وراء الغرائز والانفعالات. وهذه سمة عامة عند البشر ، لانها جزء من تكوينهم. لابد من الإشارة طبعا الى ان الميول الانانية درجات ، فقد تجد جماعة يصل بهم الحال الى التقاتل او حرب الجميع على الجميع ، وفق تصوير توماس هوبز. وقد تجد جماعة اميل الى التسالم ، لكنهم مع ذلك لا يجتمعون على الصلاح والإصلاح.

وبناء عليه فان الانسان غير مؤهل – وفق هذه الرؤية – لانشاء احكام قيمية تورث الاطمئنان ، من دون اعتماد مرجع آخر غير عقله. بعبارة أخرى فان العقل بحاجة الى جدار يستند عليه ، ويستمد منه القيم التي سوف يطبقها لاحقا على أفعال صاحبه ، وما يراه من أشياء أو حالات في محيطه.

لدينا اذن بعدان.. بعد معرفي خلاصته: ان عمل العقل مشوب بالنقص الذي هو طبيعة في الانسان ، مهما بلغ من العلم. وبعد أخلاقي خلاصته ان تأثير العواطف والغرائز ، يعزز الميل الأناني الذي هو اصل في تكوين الانسان.

وبناء على هذا ، فانه لا يصح تفويض العقل الإنساني ، صلاحية انشاء حكم شرعي نيابة عن الخالق سبحانه. البديل الصحيح هو الاستماع للأشخاص المتصلين بمصدر الشريعة ، أي النبي او القرآن ، الذين ينقلون الينا ما نقله النبي عن ربه. اما عقول البشر فيكفيها الانشغالات الدنيوية.

حسنا.. هل لدى القائلين بهذا الرأي دليل قطعي ، ينفي تماما أدلة الرأي المقابل؟. الواقع انه لا يوجد. دعنا نساير مؤقتا القائلين بنقص الانسان وميوله الشريرة. ثم ننظر الى التجربة الفعلية للبشر ، مع انفسهم ومع ربهم سبحانه. سوف نجد أولا ان البشر الذين تقاتلوا وافسدوا ، هم انفسهم البشر الذين عمروا الأرض وحولوا العالم المتخلف (المشرك بالله) الى عالم في غاية التقدم (موحد لله) على المستوى المادي والروحي والمعرفي. دعنا ننظر أيضا الى نداءات الله المتكررة للإنسان (الاناني) ، وتحفيزه المتكرر لاستعمال العقول (الناقصة).. هل ثمة خطأ في هذه النداءات ، ام انها تخبرنا ان هذا الانسان ، مع أنانيته ونقص عقله ، هو المخلوق الطبيعي الذي خوطب بالرسالات السماوية ، وهو أيضا الذي قضى الباري سبحانه ان يكون خليفته في أرضه ، رغم اعتراض الملائكة.

الحقيقة أني اريد المجادلة بان نقص العقل (نقص المعرفة) والميل الاناني (الميل للتكاثر) هما مبرر امر الخالق لعباده بالسعي للكمال ، ولولاه لما كان ثمة مبرر للديانات. لكن دعنا نؤجل هذا لوقت آخر.

الشرق الأوسط الأربعاء - 12 محرم 1444 هـ - 10 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15961]

https://aawsat.com/node/3807006/

 

03/08/2022

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح


في كل نقاش حول علاقة الدين بالعقل/العلم ، ستواجه أشخاصا يكتبون عبارة مثل "العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح" ثم يمضون غير عابئين ، وكان المسألة قد حلت وانتهت. أصحاب هذه العبارة لا يستهدفون التأكيد على قيمة العقل. هذه مناورة بسيطة تؤدي - موضوعيا - الى تأكيد أولوية النص ، وكونه معيارا حاكما على عمل العقل. ولهذا أيضا فان أكثر من يستعملها في النقاش ، هم الاخباريون ، الذين ينكرون – من حيث المبدأ – أي دور للعقل في التشريع.

واقع الأمر ان النص قد يخالف العقل/العلم في مواضع عديدة: مخالفة في الحقيقة ، بمعنى ان جوهر مراد النص معارض للثابت علميا او منطقيا ، او مخالفة في الواقع ، بمعنى انتماء كل من مضمون النص والعلم ، الى أفق تاريخي او نسق ثقافي مختلف.

وقد ضربت مثالا في مقال سابق ، بالرواية القائلة بان الأرض مستقرة فوق بحر ، تحمله صخرة على قرن ثور. ونعرف ان هذا يتناقض مع ثابت علمي ، بلغ الآن مرتبة الحقيقة. اما الاختلاف بحسب الواقع ، فنراه في تحديد قيمة الأفعال ، مثل استعباد البشر الذي كان في زمن النص فعلا عادلا/ حقا ، فبات اليوم فعلا ظالما/ باطلا ، في عرف اهل الشريعة وعند كافة عقلاء العالم. ان التعارض الواقعي – مثل التعارض الحقيقي – يستدعي تهميش احد الطرفين واستبعاده ، والا تحولت عقولنا الى صندوق المتناقضات.

والذي أراه ان القول بعدم التعارض بين العقل/العلم وبين النص ، مجرد تسويغ للرؤية الداعية الى تأويل التعارض ، بتصنيفه كفهم خاطيء (لأن عقل الانسان ناقص وعاجز عن ادراك الحقائق). أو لعلها تمهيد لالزام العقل باتباع النقل على أي حال ، كما هو الجاري بين اهل الفقه التقليدي. فاذا أثبت العلم شيئا يخالف ما دل عليه النقل ، تركنا العلم وتمسكنا بمفهوم النقل/ الرواية ، نظير مثال قرن الثور السابق الذكر.

ومن هنا فان جدل العلاقة بين النقل والعقل/العلم ، لن يصل الى قرار ، مالم نرجع به لبداية مختلفة ، تعالج ما اظنه عاملا خفيا وراء تعقيد المسألة ، واعني به إشكالية موقع الانسان في الدين. تتلخص هذه الإشكالية في موقف الدين من ثلاثة أسئلة:

أولها: هل الفطرة الأولية للإنسان صالحة ام فاسدة. أي: هل يميل – بطبعه - الى الشر والفساد ام يميل للخير ، بمعنى: لو ترك الناس وشأنهم ، فهل سيتقاتلون ويهلكون الحرث والنسل ، أم يتعاونون لدرء الشر وتنظيم علاقتهم ببعضهم.

الثاني: هل ينظر الدين للإنسان كفاعل عاقل ذي إرادة واختيار ، وهل هو حر في الفعل كي يتحمل مسؤولية افعاله وقراراته ، هل هو قادر على الاختيار العقلائي والأخلاقي. واذا توصل بعقله الى فهم شيء او قرر شيئا ، فهل لهذا الفهم والقرار قيمة واعتبار في الشرع ، ام هو لغو لا قيمة له. الاختيار العقلائي يعني الفهم المسبق لمحتوى الأفعال التي سيقدم عليها ، وحساب نتائجها ، ثم اختيار الفعل المؤدي الى نتائج قابلة للتبرير الأخلاقي ، أي نافعة له وغير ضارة لمن حوله وما حوله.

الثالث: هل يتساوى كافة الناس في الصفتين السابقتين ، أي في طبعهم الاولي وفي قدرتهم على تشخيص الخير ، واتخاذ قرار بناء عليه ، ام انهم يولدون بصفات متفاوتة؟.

معالجة هذه الأسئلة هي المدخل الصحيح في رأيي ، للنقاش حول علاقة الدين بالعلم وعلاقة النقل بالعقل. آمل ان اعود لتوضيح هذا المسار في كتابة آتية.

الشرق الأوسط الأربعاء - 5 محرم 1444 هـ - 03 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15954]

https://aawsat.com/node/3794641

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...