في سياق الجدل الجاري حول التفكير الديني ، نبهني صديق الى أهمية التجربة الواقعية ، كدليل على سلامة الفكرة ، وقابليتها للنزول من رفوف المكتبات الى ميدان الحياة. ان دراسة التجارب والتطبيقات الفعلية للأفكار ، نادرة جدا في المجال الديني (لعلي أقول انها معدومة ، لكني لا أستطيع الجزم بهذا).
- ماذا نعني بالتجارب الواقعية؟.
تخيل أنك سألت الطبيب: هل لهذا الدواء أي فائدة؟. فأجابك قائلا: نعم ، سوف تعرف الفائدة بعد وفاتك وليس في هذه الدنيا. فهل ستقبل نصيحته ، ام ستبحث عن دواء آخر ينفعك اليوم ، في هذه الحياة ، وليس في الآخرة؟.
لا يمكن طبعا مقارنة الدين بالطبيب او بأي شيء في الدنيا. لكن لو راجعنا ما يقال في سياق التعريف بالدين ، لوجدنا مثلا ان الإسلام تجاوز المسيحية في اهتمامه بالجانب المادي وإصلاح الدنيا. كما نقرأ عند بعض العلماء تأكيدا لهذا المعنى ، مثل القول بان "الدنيا مزرعة الآخرة" ، وان "من لا معاش له لا معاد له".. والكثير مما يجري مجراها.
- كيف اذن نفهم دور الدين في الدنيا؟.
- يمكننا معالجة السؤال بثلاث طرق:
الأولى: تكرار القول بان الإسلام يهتم بالدنيا واستعراض النصوص التي تؤكد نفس الكلام.
الثانية: رد السؤال بسؤال مضاد استنكاري ، مثل القول: هل يعقل ان دينا بهذه العظمة ، يتبعه هذا العدد من الناس ، دينا اقام امبراطورية تمتد بين المشرق والمغرب ، هل يعقل ان دينا كهذا لا يهتم بالدنيا؟. او ننتقد الأديان الأخرى ، نظير القول: لماذا لا تسأل البوذيين عن موقع الدنيا في دينهم ، ولماذا لا تسأل الكاثوليك والهندوس.. الخ؟.
الطريقة الثالثة: ان نعرض أمثلة واقعية عن تطبيقات وتجارب ، تخبرنا ان السياسات او البرامج الدينية التي تم تطبيقها ، قد نجحت في تحقيق أهدافها ، خلال الوقت المحدد وبالكلفة المحددة.
واضح ان الطريقتين الأوليين سجال فارغ ، وان الثالثة هي التي ستقود النقاش ، لأنها تقترح تمثيلا واقعيا للنقاش النظري: تجربة تثبت صحة الدعوى او تثبت بطلانها. نتحدث طبعا عن التجارب المعاصرة. اما تجارب القرون السالفة فلا نعرف ظروفها ولا نملك معلومات دقيقة عنها. والحقيقة ان تدوين التجارب لم يكن تقليدا جاريا عند أسلافنا. ولذا لا نملك تفصيلات مفيدة عن حروبهم واقتصاديات مدنهم وغيرها.
توثيق التجارب المعاصرة ، يعني مثلا دراسة نتائج المشروع الضخم المسمى بالمصرفية الإسلامية: هل أدى الى انهاء الاستغلال الناتج عن الربا ، وهل زاد معدلات التنمية الاقتصادية ، وهل أسهم في توزيع الثروة؟. كذلك الحال في الزكاة (والخمس عند الشيعة) ، هل اثمرت عن انهاء الفقر وسوء التغذية. ومثلها تطبيق الحدود (في البلاد التي تطبقها): هل نجحت في انهاء الجريمة (بقياس تاريخي ، ومقارن مع الدول الأخرى ، وموضوعي يقارنها مع العقوبات غير الدينية)؟. كذلك الحال في قضايا الثقافة والتنمية البشرية والعلم والمعيشة والمساهمة في السلم الدولي.. الخ.
- حسنا.. لماذا نتحدث في هذا الموضوع؟
ان غرضنا الأساس هو التأكيد على حاجة المسلمين المعاصرين ، لمراجعة المفاهيم والمسلمات الموروثة ، حول معاني النسبة للاسلام ، والبدء بالنظر العلمي والعقلاني فيما ينشر تحت عنوان الفكر الإسلامي او الفقه الإسلامي. لقد اعتدنا القاء الوصف الديني على كل رأي في قضايا الدنيا ، أمكن دعمه بآية او حديث. بل لعل بعضنا يعتبره ملزما للناس. لكننا نعرف من تجارب معاصرة ان كثيرا من الفتاوى والآراء والتفسيرات ، فشلت في اثبات صحتها عند التجربة ، وان بعضها مخالف لأوليات العلم او المنطق. فهل نريد دينا يصلح دنيانا ام نكتفي بالدواء الذي لن نكتشف جدواه الا بعد الموت؟.
الشرق الأوسط الأربعاء - 24 شوال 1443 هـ - 25 مايو 2022 مـ رقم العدد [15884]
https://aawsat.com/node/3664006/