أكتب هذه السطور تعقيبا على
سؤال للزميل
مسلم الصحاف ، حول مقدار الحقيقة في اخبار الصحف. وأفهم ان مقصود السائل هو
"صدقية الاخبار". لكنه استعمل كلمة "الحقيقة" فبدا لي غريبا
نوعا ما. وسرعان ما ثبت صدق ظني ، فقد اجابه عدد من قرائه ، اجابات توحي بانهم
يخلطون بين مفاهيم "الحق" و"الحقيقة" و"الواقع"
و"الصحيح"، مع ان معانيها مختلفة.
وأذكر للمناسبة نقاشا موسعا حول موضوع مماثل ، بيني وبين الاستاذ عدنان عيدان ، وهو خبير في حوسبة اللغة العربية ، ولاسيما استخداماتها في التعليم. وقد
أخبرني
ان كثيرا من نقاشات الشباب العربي ، تنقلب الى جدالات عقيمة او حتى نزاعات ، لانهم
لا يميزون بين المحمولات المختلفة للتعابير والمصطلحات. وان السبب الجوهري في هذا ،
هو ضعف مخزونهم اللغوي. وحسب اعتقاد الاستاذ عيدان ، فان خريج الجامعة يجب ان يكون
قادرا على تقديم حديث لمدة لاتقل عن نصف ساعة ، من دون تكرار اي كلمة او وضعها في
غير سياقها الصحيح. وأعلم ان 90% من شبابنا لا يقدرون على هذا.
وأذكر للمناسبة نقاشا موسعا حول موضوع مماثل ، بيني وبين الاستاذ عدنان عيدان ، وهو خبير في حوسبة اللغة العربية ، ولاسيما استخداماتها في التعليم. وقد
عدنان عيدان |
وبالعودة الى نقاش الزميل الصحاف ،
فقد اتضح من ردود المتداخلين ، بانهم ظنوا ان السائل يقصد الحقيقة الكاملة التي
لايختلف عليها اثنان. وبعضهم قال ان الحق قصر على الشريعة المقدسة. والواضح ان
المعنى الذي أراده هو الحق "النظري" المقابل للباطل. وقال آخرون ان
الخبر الصحيح هو ماتراه بعينك لا ماتقرأ عنه. أي انه يماهي بين الحق والواقع.
فالذي تراه بعينك هو الاشياء المادية الواقعية ، وليس الحق المجرد او الذهني او
النظري.
وبدا لي ان هذا الخلط يجعل نقاشاتنا
قليلة الفائدة ، نظرا لاختلاف المعاني المنعكسة في ذهن القاريء ، عن تلك التي
يقصدها الكاتب. لذا وجدت من المفيد تقديم تصور أولي ، يوضح الفارق بين الاشياء
التي نراها في العالم الواقعي ، والاشياء التي نصنعها في داخل أذهاننا ، وكلاهما
نظنه حقيقة او وصفا للحقيقة. وهو قد يكون مجرد انطباع او تصور غير محايد.
سوف اترك تفصيل هذه المسألة لكتابات
قادمة. لكني أود الآن التاكيد على الفارق بين ثلاثة مستويات للمعرفة ، هي الظن
والعلم واليقين. ويشكل الاول (الظن) تسعة اعشار المعارف التي يحملها كل منا في
ذهنه. وهو يعتمد عليها في التواصل مع عالمه. لكونها مفتاحا للمرحلة الثانية أي
العلم. الانطباع الاولي عن الاشياء والشك والتفكير غير المكتمل ، والاحتمال
والتخيل ، كلها تنتمي الى المستوى الاولي.
اما الثاني (العلم) فهو المعرفة
المدعومة بدليل معياري ، يمكن التحقق منه بواسطة أي شخص. ان الاكثرية الساحقة من
الناس لايستطيعون البحث عن الادلة او لا يرغبون فيه. لذا فان علمهم محدود بمجال
اختصاصهم ، حتى لو حازوا قدرا من المعرفة في مجالات اخرى.
المستوى الثالث (اليقين) وهو
المعرفة التي تحوزها من دون دليل علمي. قد تتوصل اليها بأدلة شخصية (غير معيارية) او
من دون دليل اصلا. لكنها لا تتوقف على الدليل العلمي وليست مشروطة به. وهي ما نسميه
بالميتافيزيقا (ماوراء الطبيعة) او الايديولوجيا. كل الناس لديهم قناعات من هذا
النوع ، دينية او غير دينية.
اني أعرض هذه المستويات الثلاثة كي
أدعو القراء لتحاشي الخلط بينها. فكل منها له طريقة في الاستدلال ، بل وحتى مستوى
من الشحن المعنوي في الكلمات. سوف اعود للموضوع في وقت آخر. لكني اظن ان هذا كاف
لتوضيح الفكرة.
الشرق الاوسط الأربعاء
- 5 ذو الحجة 1440 هـ - 07 أغسطس 2019 مـ رقم العدد [14862]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق