15/05/2019

لازم النظافة ولازم الطهارة




عقب الاستاذ مجاهد عبد المتعالي على نقاش سابق في هذه الصفحة ، قائلا ان العقل الاسلامي مطالب بالتحرر من خلطه المزمن بين ما أسماه "لازم النظافة" و"لازم الطهارة"(الوطن 11 مايو 2019). واختيار مجاهد لهذا المثال في غاية الذكاء والجمال ، لأن فعل النظافة مادي ، قابل لتوليد معنى روحي هو الطهارة. هذه المقارنة تختصر -  في ظني - مفهوم علاقة الدين بالدنيا بتمامه.

اتفق مع الصديق مجاهد ، على حاجتنا لايضاح الحد الفاصل بين ما نصنفه داخل الدين وما نعتبره خارج الدين. وهي حاجة ملحة في هذا الزمان ، وكل زمان يشهد تحول الدين والكلام باسمه الى وظيفة ومصدر عيش. ففي حالة كهذا يتبارى المدعون حراسة الدين والحديث باسمه ، بتبارون في توسيع دائرة التكاليف ، حتى لا يبقى فعل انساني خارجها. وحجتهم الثابتة هي ان دين الله شامل لكل فعل من افعال الحياة. فاذا قلت لهم ان الامر ليس على هذا النحو ، وجهوا اليك السؤال المفخخ: هل ترى ان دين الله ناقص او عاجز عن استنباط حكم في موضوع جديد؟.
ملا احمد النراقي

لتفكيك هذا التداخل وتوضيح المسألة ساعرض نقطتين: الاولى في خطأ القول بان دين الله شامل ، سيما في المعنى المتداول عند الناس ، وهو موافق للقول المأثور "ما من مسألة الا ولله فيها حكم".  أقول ان هذا نقاش قديم. وقد سبق ان دار بين فقيهين هما يوسف البحراني (ت-1772م) واحمد النراقي (ت-1828م) ، حين استدل الاول بالاية "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء -النحل 89" والايات والاحاديث التي تماثلها. فرد عليه النراقي بان المقصود فيها ، هو تبيين ما يجب على الخالق بيانه ، او يقتضي الحال او اللطف بيانه ، لا كل شيء على نحو الاطلاق. فالبديهي ان كثيرا من امور الدنيا ، لم تبين في القرآن الكريم ولا في السنة الشريفة. وذلك لانها ليست مما يجب بيانه ، بمعنى انها خارج دائرة الشريعة والتكليف. كما ان عدم البيان لا يوجب الظن بالنقص ، فترك البيان لما ليس مطلوبا ، ليس مظنة نقص. بل لعل بيان غير المطلوب يعد تكلفا. والتكلف مما يعاب على الكامل.
النقطة الثانية:  ان غالبية الناس – ولا سيما المشتغلين بالعمل الديني – قد خلطوا بين معنيين للدين مختلفين تماما ، اولهما الشريعة كمنظومة واجبات وتكاليف تقيد حرية الفرد. والثاني الدين كمنظومة روحية تمنح الفعل قيمة. يضم المعنى الاول ما يفعله الانسان (مجبرا) لانه واجب عليه ، مثل صوم رمضان وعدم الكذب مثلا. بينما يتسع الثاني لكثير من امور الدنيا دون ان يولد الزاما او حرجا على الانسان. بل ربما زاده حبا لعالمه وارتباطا به. من ذلك مثلا ان تزرع شجرة في حديقة بيتك او في الصحراء ، وتستذكر في نفسك ان هذا مما يحبه الله. هذا يسمى بالنية وهي المدخل الى توليد المعنى في الفعل. ومثله ان تساعد جارك الفقير ، لانك تحبه او لانك ترغب ان يكون محيطك الاجتماعي محبا لك. لكنك تستذكر أيضا ان احب الناس الى الله انفعهم للضعفاء من خلقه. أفعال كهذه دنيوية بحتة وغير واجبة بالمعنى الفقهي. لكن استذكار معناها الروحي يحولها الى طريق لنيل رضا الله سبحانه ، فتصبح افعالا دينية.
اظن هذا كافيا لبيان الخيط الواصل بين "لازم النظافة" و"لازم الطهارة" ، اي بين الديني والدنيوي.
الشرق الاوسط الأربعاء - 10 شهر رمضان 1440 هـ - 15 مايو 2019 مـ رقم العدد [14778]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...