31/10/2018

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

|| أبرز سمات الفكرة القائدة هي كونها مرنة ، بحيث يمكن لعامة الناس ان يعيدوا انتاجها ضمن الاطر التي تلبي رغباتهم وتلائم ظروفهم. ثم كونها قادرة على اشباع الحاجة الملحة في داخل كل انسان لاكتشاف ذاته او تحقيق ذاته||


توخيا للانصاف ، ينبغي القول انه لا توجد فكرة وحيدة ، تشكل ما اسميناه في الاسبوع الماضي "صاعق التفجير" للطاقات والعزائم والارادة العامة الضرورية لاطلاق النهضة. ثمة افكار عديدة ، يمكن لكل منها ان يحمل جنين النهضة. اما النهوض الفعلي فيبدأ عندما تتطور الفكرة ، من حالة ذهنية مجردة الى حالة عاطفية محركة ، فتستحوذ على اهتمام الناس وتمسي  نقطة التقاء وتجسيد لآمالهم.

وفقا لتعبير الصديق المهندس صادق الرمضان ، فان هذا العصر هو عصر  الافكار القائدة. انظر الى تطبيق "الواتس اب" الذي كان مجرد فكرة تداولها "بريان اكتون" و "جان كوم" ، في خريف 2008. الفكرة ببساطة ، هي ميكنة سؤال "ايش الاخبار؟" الذي يتداوله كل الناس يوميا. يقول اكتون "كنا نريد اداة تجعل الناس قادرين على التواصل في كل لحظة ومن دون كلفة" ومن هنا جاء اسم التطبيق.
فكرة "ايش الاخبار" المغالية في البساطة ، يستعملها الان 1.5 مليار شخص في شرق الارض وغربها. وفي 2016 دفعت شركة فيسبوك 19 مليار دولار للاستحواذ على التطبيق.
مثل الواتس اب ، هناك العديد من الافكار المشابهة التي ساهمت في تغيير العالم. وهي معروفة لمن يتابع تيارات العلم والتقنية في العالم.
ربما يحتج احد القراء بان فكرة مثل "الواتس اب" لا تطابق مفهوم النهضة الذي في الاذهان. فهي مجرد حل لمشكلة جانبية في حياة الناس. وجوابي ان المقصود من ضرب المثل ، ليس الغاية التي استهدفتها الفكرة او المشروع. المقصود هو العوامل التي حولت الفكرة ، خلال وقت قصير نسبيا ، الى نقطة التقاء بين عشرات الملايين من البشر في انحاء العالم. ان أهمية "الفكرة القائدة" تكمن في قدرتها على تعبئة الناس ، من مختلف المشارب والاتجاهات ، وراء غاية محددة.
كي تكون الفكرة على هذا النحو ، يجب ان تحمل صفات محددة ، سوف اختار من بينها صفتين: اولاهما هو كون الفكرة بسيطة ، قابلة للنفاذ بذاتها ، او بتجسيداتها ومعانيها ، الى عقول عامة الناس وقلوبهم دون جهد. اما الصفة الثانية ، فهي ان تقدم الفكرة حلا حقيقيا او افتراضيا لحاجة قائمة ، مادية او نفسية. بالنسبة لفكرة الواتس اب ، فقد تمثلت الحاجة المادية في التواصل غير المكلف ، اما الحاجة النفسية – وهي الاهم في رأيي – فتمثلت في تمكينها عامة الناس من التعبير عن ذواتهم. وهو ما أسماه ابراهام ماسلو في نظريته المشهورة عن هرم الحاجات الانسانية ، بالحاجة للتقدير.
زبدة القول ، ان أبرز سمات الفكرة القائدة هي كونها مرنة ، بحيث يمكن لعامة الناس ان يعيدوا انتاجها ضمن الاطر التي تلبي رغباتهم وتلائم ظروفهم. ثم كونها قادرة على اشباع الحاجة الملحة في داخل كل انسان لاكتشاف ذاته او تحقيق ذاته.
ثمة افكار تقود نهضة شاملة. وهذه لها شروط اضافية ، ابرزها في ظني هو ارتباطها بتحديات يفهمها الناس كتحديات لوجودهم. أما في الحالات الاعتيادية ، فليس ضروريا ان تكون النهضة حزمة كاملة شاملة. يمكن للمجتمع ان ينهض في جانب واحد. مثل الاقتصاد او انتاج العلم ، او التقنيات الجديدة ، او الصناعة ، بل حتى في واحد من فروع هذه الحقول أو غيرها.
النهوض في جانب ، سينعكس تلقائيا على جوانب الحياة الاخرى. فيعيد صياغة الثقافة وانماط الانتاج والعلاقات الداخلية ، بحيث يتحول الى محرك للنهضة في مختلف ارجاء الحياة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 21 صفر 1440 هـ - 31 أكتوبر 2018 مـ رقم العدد [14582]
https://aawsat.com/node/1443186/

24/10/2018

كيف نتقدم.. سؤال المليون

من اسرار التخلف ، قطيعتنا الذهنية مع الطبيعة ، غفلتنا عن استثمار الموارد العظيمة التي تزخر بها ارضنا وسماؤنا وبحرنا وانفسنا. وبالمثل فإن أحد أسرار التقدم ، هو العودة لفهمها والتفاعل معها على نحو بناء.

ظهرت الطبعة الاولى من كتاب الامير شكيب ارسلان "لماذا تاخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم" في 1940. ورأيت له طبعة جديدة صدرت في 2008. بين هذين العامين ، طبع ما لا يقل عن عشرين مرة ، الامر الذي يجعله واحدا من اكثر الكتب العربية شهرة. وهو لايزال موضع اهتمام بين الباحثين وعامة القراء على السواء. 
(1869-1946)  شكيب ارسلان
 لم يقدم ارسلان تحليلا عميقا عن أسباب تخلف المسلمين. كما لم يفسر لقرائه اسرار تقدم الغربيين. أن إجاباته لا تختلف في الحقيقة عن التصورات الانطباعية التي يتداولها عامة الدعاة والمتعلمين ، والتي تنسب التخلف في الغالب إلى قصور أخلاقي ، تعاضد مع شيوع اللاعقلانية ، في المجتمع المسلم. وهي بالتأكيد عوامل صحيحة ، لكنها لا تقدم تفسيرا علميا ، يمكن الاتكاء عليه فيما لو أردنا الانتقال إلى المرحلة التالية ، اي سؤال: ما العمل.
أن السر وراء الشهرة التي حظي بها كتاب المرحوم ارسلان ، تكمن في السؤال الذي اختاره عنوانا لكتابه. فهو أشبه بما يسمى عند التراثيين "حديث النفس" ، اي ذلك الهم الذي شغل أذهان المسلمين جميعا ، في مرحلة من مراحل حياتهم.
لا ادري إن كان المسلمون فردا فردا قد انشغلوا حقا بالتفكير في هذا السؤال. لكني واثق أن الغالبية العظمى من متعلميهم ، قد سمع به أو توقف عنده ، في وقت ما. ونعلم طبعا أن بعضهم قد جادلوا حوله أو حاولوا الاجابة عليه.
 نعلم أيضا أن السؤال مازال مشرعا. لأننا لم نتوصل الى جواب شاف. والحق أن هذا سؤال المليون كما يقال. لأن جوابه في غاية التعقيد. انه أوسع من مجرد تحليل علمي. وهو ليس مجرد نظرية في ادارة الموارد ، مثل نظريات التنمية الاقتصادية والسياسية مثلا. بل فكرة نهضة ، تستلزم – إضافة إلى نظرية التقدم المتعددة الابعاد – ظرفا نفسيا عاما ، يسمح بانعتاق الجمهور من هموم الحاضر وأزماته والانخراط في مغامرة النهضة. الظرف النفسي يتمثل فيما يمكن وصفه بروحية النهضة ، التي نعرف انها كانت وراء نهضة بريطانيا في العصر الفيكتوري (١٨٣٧-١٩٠١) وألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الأولى ، ثم الصين بعد ١٩٨٠.
ذكرت هذه الاقطار بالخصوص ، للتأكيد على أن النهضة ليست رهنا باتفاق المسلمين. وانه لا يمكن لأي عدو إعاقة النهضة اذا تحلى اصحابها بالإرادة والإصرار ، والاستعداد للتضحية في سبيل مستقبلهم. الأقطار التي ذكرتها نهضت بمفردها وسط محيط سياسي غير مساعد.
تحتاج النهضة في مراحلها الأولى ، إلى تكلف وجهد نفسي ومادي باهظ. أما التالية فتاتي سلسة وسريعة ، مثل كرة ثلج تتدحرج من أعلى الجبل.
منطلق النهضة هو تصور المستقبل والايمان به. ولا يمكن للمستقبل الا أن يكون مختلفا ، بل ونقيضا للحاضر ، فضلا عن الماضي. ثم إن التضحيات المطلوبة ليست مادية حصرا. أشدها صعوبة هي التضحية بما اعتبرناه مسلما وبديهيا في رؤيتنا للطبيعة والعالم المحيط بنا.
أحد عوامل التخلف هو قطيعتنا الذهنية مع الطبيعة. وبسببها غفلنا عن استثمار الموارد العظيمة التي تزخر بها ارضنا وسماؤنا وبحرنا وانفسنا. وبالمثل فإن أحد أسرار التقدم ، يكمن في العودة لفهمها والتفاعل معها على نحو بناء.
اني واثق ان جميعنا يتطلع الى مستقبل مختلف تماما عن حاضرنا. لكن السؤال الذي يجب ان نواجه به انفسنا دائما ، هو : ما هي الفكرة التي يمكن لها ان تكون بمثابة صاعق التفجير للطاقات والعزائم والارادة العامة الضرورية لاطلاق النهضة؟.
الشرق الاوسط الأربعاء - 14 صفر 1440 هـ - 24 أكتوبر 2018 مـ رقم العدد [14575]
https://aawsat.com/node/1436101

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...