13/07/2009

المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال: مناقشة نظرية


خلال الأيام الماضية تعرض عدد من الكتاب في الصحافة المحلية إلى المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال. أي الدعم الذي تقدمه الشركات والأثرياء للخدمات العامة في مختلف جوانبها. يعرف الجميع أن عددا قليلا نسبيا من رجال الأعمال يخصص نسبة من إيراداته السنوية لأعمال الخير، فغالبيتهم مشغول بجمع المال والرفاهية الشخصية. ولهذا فقد أصبح هؤلاء وغيرهم موضوعا ثابتا للتقريع على يد الصحف وكتابها، وقد نسمع في بعض الأحيان مسؤولين رسميين وقادة مجتمع يتحدثون في الاتجاه نفسه.
ويبدو لي أن الموضوع بجملته غير واضح المعالم. فالانطباع السائد هو أن الناس جميعا، الأغنياء والفقراء، يقدمون صدقاتهم بصورة شخصية إلى المحتاجين أو إلى من يوصلها للمحتاجين، أما الخدمات العامة التي يستفيد منها عامة الناس، بمن فيهم المقتدرون، فهي مهمة الدولة.
"المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال" ليست من المفاهيم الموروثة في ثقافتنا المحلية، بل جاءتنا مع الانفتاح الثقافي والاقتصادي على العالم ولا سيما السوق الأمريكية التي يعتبر قطاعها التجاري أكبر ممول غير حكومي للأعمال التطوعية والخدمات الخيرية على مستوى العالم. لا أدري كيف ظهر هذا المفهوم ومن الذي طوره على النحو الذي نعرفه اليوم.
 لكنه دخل بحوث الفكر السياسي في منتصف السبعينيات في سياق الجدل حول العدالة الاجتماعية ومعايير قياسها، ولا سيما بحوث العدالة التوزيعية، أي معايير التوزيع العادل للثروة والموارد العامة وفرص النمو. العدالة التوزيعية مفهوم سياسي يتعلق بنظام العلاقة بين المجتمع والدولة وإدارة المال العام والقوانين التي تضمن تكافؤ الفرص.
في أول الأمر كان مبدأ العدالة يناقش في الإطار الفلسفي، لكنه انتقل من ثم إلى الفكر السياسي، ولا سيما ضمن التفكير في دور الدولة كضامن لأملاك الناس وأموالهم. نظر قدامى الليبراليين إلى التملك كحق مطلق لا يجوز حجبه أو تحديده واعتبروا حماية الحكومة لهذا الحق وسيلة لتعاظم الثروة العامة وازدهار البلد.
 لكن القرن العشرين شهد تحولا عن هذا التفكير بعدما ساد الاعتقاد بأن التملك المطلق يؤدي بالضرورة إلى استغلال الضعفاء وتدمير قيمة الإنسان. وينسب الفضل في هذا التحول إلى المفكرين اليساريين الذين قدموا مجادلات قوية ضد مبدأ السوق الحرة والملكية الفردية وبقية أركان التفكير الرأسمالي. تركزت هذه المجادلات حول فكرة العدالة والاستغلال.
الأكثر ثراء هو الأقدر على التأثير في السوق وفي النظام العام، وهو قد لا يتوانى عن استغلال السلطة والمال والبشر من أجل المزيد من السلطة والمال. رأى اليساريون أن الاستغلال هو جزء من بنية السوق الحرة. لأن كسب المال هو المعيار الوحيد للنجاح فيها. كلما تضخمت ثروة شخص اعتبر ناجحا والعكس بالعكس. من الناحية الواقعية فإن أقلية صغيرة في كل مجتمع تستطيع مراكمة ثروات كبيرة، وهذا سيأتي بالضرورة على حساب الأكثرية. فما تحصل عليه من مال يخسره شخص آخر، ولا يمكن للجميع أن يربحوا دون أن يخسر أحد. بدلا من ذلك اقترح اليساريون نظاما للتوزيع المركزي للخيرات العامة، على شكل منظومة موحدة تتكفل بسد الحاجات الأساسية لجميع الناس من السكن إلى التعليم والصحة العامة والمواصلات والوظائف.
تبدو حجة اليساريين معقولة إلى حد كبير فالثروة التي يجمعها شخص لم تتخلق في فراغ، بل هي ثمرة لاستثمار موارد كانت في الأصل ملكا لجميع الناس. هذا يثير بطبيعة الحال سؤالا جديا فحواه: هل للمجتمع حق في الثروة التي انتقلت من ملكية الجميع إلى يد شخص واحد؟ . صحيح أن ذلك الفرد بذل جهدا استثنائيا حتى جمع ثروته.. لكن ما هي حصة الجهد الذهني والبدني في تكوين الناتج، وما هي حصة رأس المال الأصلي، أي الموارد المشتركة في تكوينه؟
هذا السؤال والكثير من الأسئلة المماثلة مطروحة بشكل جدي على طاولة النقاش. في ما يخص مفهوم «المسؤولية الاجتماعية لقطاع الاعمال» فإن هذه المناقشة تمثل مدخلا ضروريا لتعريف طبيعة تلك المسؤولية، ما إذا كانت تشكل إحسانا من دون التزام، أو التزاما برد جزء من الفضل للمجتمع الذي خلق الإمكانية والفرصة للإثراء.
صحيفة عكاظ - 13 / 7 / 2009م 

06/07/2009

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة


الجدل الذي رافق انتخابات الرئاسة الايرانية وما بعدها ركز الاضواء على نقاش قديم حول فرص المواءمة بين الدين والحداثة في تجلياتهما المختلفة ولا سيما السياسية منها . وصف الاستاذ مظاهر اللاجامي محاولات الباحثين في هذا الصدد بانها تلفيق ، وكتب الاستاذ في علم الاجتماع السياسي د. خالد الدخيل نقدا معمقا لكتابي "حدود الديمقراطيةالدينية" ركز على التعارض الذاتي بين الدين والديمقراطية.

انني من المؤمنين بامكانية تطوير نموذج للحداثة يستوعب الحاجات الثقافية والمادية الخاصة لكل مجتمع . توصلت الى هذه القناعة بعد سنوات من البحث والمراجعة والجدل الذي زادني – في الوقت نفسه- تفهما واحتراما لتحفظات المعترضين واسباب قلقهم . وقد عرضت شريحة واسعة من تلك الاسباب والجوانب الاشكالية في كتاب "الحداثة كحاجة دينية".

 يركز مفهوم الحداثة على دور الانسان كمصدر للقيم والمعايير والمعرفة. وهذا ينطبق على انسان المجتمعات التي ابدعت مفهوم الحداثة وتلك التي تلقته لاحقا . خلال قرن تقريبا شارك مفكرون من شتى انحاء العالم في نقد وتطوير العناصر التي يتشكل منها مفهوم الحداثة. محورية الانسان الفرد ، العقلانية ، معيارية العلم ، التعاقد والارادة الحرة كارضية لتفويض السلطة... وغير ذلك من مكونات المفهوم خضعت لنقاشات معمقة برهنت على ان الحداثة تابى – بطبيعتها – القولبة والحصر الايديولوجي .

على الطرف الاخر فان تقاليد البحث في الفكر الاسلامي تسمح بالتمييز بين القيم الاساسية للدين وبين اجتهادات المسلمين على اختلاف توجهاتهم وعصورهم . هذه المساحة هي التي سمحت دائما بوجود افهام متعددة للمبدأ الواحد واشكال متعددة من الممارسة الدينية . ثمة قيم اساسية في الدين لا يختلف عليها اثنان ، مثل العدل وكرامة الانسان والمساواة ، وثمة الى جانبها تجربة دينية تعبر فقط عن فهم مجتمع معين لتلك القيم.

نعرف بالبديهة ان فهم الانسان لفكرة ما ثم تطبيقها يتاثر بالضرورة بعوامل عديدة واحيانا متعارضة ، وبينها عوامل ذاتية مثل القدرات العلمية للفرد وتربيته العائلية ونفسيته ، وبينها عوامل اجتماعية كالثقافة العامة ومصادر المعيشة ونوعية الفرص والتحديات التي تواجه الجماعة ، ويضاف اليها طبعا المستخلصات الثقافية للتجربة التاريخية لهذه الجماعة .

من المفهوم ان نطاق وعمق تاثير هذه العوامل يختلف بين مجتمع واخر تبعا لاختلاف ظروفه الفعلية وتجربته التاريخية ، كما يختلف تلقي الافراد للفكرة نفسها تبعا لاوضاعهم الذهنية والنفسية والمادية. هذا هو المنطق الطبيعي للحياة والاشياء . ومن هنا نجد قراءات عديدة وتطبيقات متنوعة للفكرة الدينية ، تستلهم جميعا القيمة الاساسية ، لكنها تقدم تجارب متغايرة.  قد نطلق على هذا التنوع اسم الاجتهاد او تعدد القراءات او التمييز بين الثابت والمتحول ، او اي اسم شئت . لكن  الجوهري في الموضوع كله هو امكانية انتاج تجارب دينية متغايرة بين مجتمع واخر. لا اظنني بحاجة الى ادلة لاثبات هذا الادعاء لان تاريخنا والواقع الذي امامنا يكشف عن تنوع في الافهام والتطبيقات يستحيل حصره.

الرسالة النهائية لهذا التحليل هي ان افراد المسلمين والجماعة المسلمة يقومون فعلا – وهم على حق في ذلك – باعادة تشكيل حياتهم الدينية بين ظرف واخر كي تتناسب مع ثقافتهم ، حاجاتهم ، همومهم ، ظروفهم ، وتطلعاتهم ، وهذا ما اسماه هانس جورج غادامر بالافق التاريخي للفكرة.

لكل جيل حق ثابت في صوغ فهمه الخاص للفكرة الدينية وكذلك تجربته الدينية . وهذا يشمل بالتاكيد حقه في تقريب الفكرة او تطبيقاتها الى المباديء والقيم التي تبدو – في وقت معين – ضرورة للحياة ، او وسيلة للارتقاء بالحياة . بعبارة اخرى فلسنا مضطرين لسؤال اسلافنا الذين ماتوا عن امكانية التقريب بين الحداثة وقيم الدين . نحن مثلهم لدينا الحق ولدينا القدرة على الفحص والاختبار والنقد ثم الاخذ بالفكرة او تعديلها او اعادة انتاجها ضمن نسيجنا القيمي الخاص ، كما فعل الاسلاف مع الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية وغيرها.

الاسلام والحداثة ، كلاهما يفتح الباب امام النقد والتجريب والمعالجة الهادفة الى انتاج افكار جديدة او اعادة انتاج افكار مسبقة في صيغ جديدة . وهذا هو المنطلق في القول بامكانية المواءمة بين الاسلام والحداثة وما ينتج عنهما من معايير وادوات عمل.
عكاظ 6 يوليو 2009

29/06/2009

الانتخابات الايرانية وعالم السياسة المتغير



الاحتجاجات التي اعقبت اعلان نتائج الانتخابات الايرانية التي عرفت باسم جنبش سبز=الحركة الخضراء) تكشف عن حقيقة السياسة كعالم متغير : كل خطوة فيها تولد نقيضها واسباب نهايتها المنتظرة .
في هذه الانتخابات سجل المحافظون هدفهم الاهم فاحتفظوا بالرئاسة . لكنهم دفعوا ثمنا غاليا جدا ، ربما ستظهر انعكاساته في الانتخابات النيابية بعد عامين . 
يتألف التيار المحافظ بشكل رئيسي من فريقين ينتميان الى تصنيف طبقي – سياسي مختلف ، اي مصادر نفوذ مختلفة واحيانا متعارضة . جاء الرئيس نجاد من جناح غالبه من متوسطي العمر ينتسب الى الطبقة الوسطى ، وتبلورت تجربته السياسية من خلال العمل الاداري في مؤسسات الدولة . اما الجناح الاخر الذي يوصف بانه تقليدي فقد تبلورت تجربته السياسية من خلال العمل الاهلي في مؤسسات دينية او في السوق ويستمد قوته من نفوذه في الشارع ومن دعم الهيئات الدينية. تاريخيا كان الفريقان على طرفي نقيض ، فالاداريون يميلون الى توسيع نفوذ الدولة وضبط المؤسسات الاهلية ، وهذه تمثل بذاتها مصدرالقلق الرئيس عند الفريق التقليدي الذي يميل بشدة الى الاستقلال عن الدولة وانظمتها الضيقة .
رغم التفارق السياسي والاجتماعي ، يحمل الجناحان المحافظان ايديولوجيا سياسية متماثلة الى حد كبير. عنصر الاجماع هذا هو الذي وحد انشغالاتهم بعدما اكتسح الاصلاحيون الشارع بين 1997 الى 2005.  يحمل الاصلاحيون ايديولوجيا سياسية مختلفة تماما ويسعون الى اهداف يعتبرها المحافظون عائقا امام نموذج الدولة التي يحلمون بالوصول اليها . في العام 2003 وحد المحافظون صفوفهم ونجحوا في ثلاث جولات انتخابية كبرى ، بدأت بالانتخابات النيابية ثم المحلية وتوجت بفوز مرشحهم بالرئاسة ، احمدي نجاد ، في 2005. لكن السياسة ابت ان تغادر طبيعتها كعالم متغير ، فكل نجاح حمل معه تناقضات اضافية اعادت تفكيك التيار الذي نجح بعد لاي في توحيد صفوفه .

 ويبدو لي ان الفوز الاخير هو ايضا نهاية التشكيل الكلاسيكي للتيار المحافظ. خلال الحملة الانتخابية شن الرئيس المرشح احمدي نجاد وانصاره حملة شرسة على عدد من زعماء المحافظين ابرزهم ناطق نوري الذي ادار عملية توحيد الاجنحة المحافظة في 2003 وكان قبل ذلك مرشح التيار للرئاسة في 1997 ، كما شملت الحملة هاشمي رفسنجاني الذي يقف في منتصف الطريق بين المحافظين والاصلاحيين لكنه يعتبر حليفا اساسيا للمحافظين التقليديين.

كان المتوقع بعد فوز احمدي نجاد بالرئاسة ان يبادر الجميع الى الاحتفال ، لكننا لاحظنا ان ابرز زعماء المؤسسة الدينية في مدينة قم قد تجاهلوا الامر بشكل مثير للانتباه ، فلم يبادر اي منهم بتهنئة الرئيس الجديد ولا اعلنوا تاييدهم لاجراءات الحكومة في مواجهة غضب الاصلاحيين. كما ان رئيس المجلس النيابي ونوابه قاطعوا الاحتفال الذي اقامه الرئيس احمدي نجاد لمناسبة فوزه. 

ثمة انباء عن جهود يبذلها الرئيس السابق رفسنجاني ورئيس المجلس النيابي علي لاريجاني للتوصل الى تسوية . ويسعى رفسنجاني الى ضمان دعم المراجع الدينية في قم فضلا عن اقطاب الجناح التقليدي. واذا نجح هذا المسعى  فهو سيكون بالضرورة على حساب المحافظين الشباب والرئيس المنتخب . فالمفهوم ان هذه المحاولة لا تستهدف دعم الرئيس بل استعادة المحافظين التقليديين للمبادرة ، وبالنظر لما يشهده الشارع من احتجاجات وغليان فان حصة الاصلاحيين في الحل المنتظر ستكون بالتاكيد معيارا لقبول او رفض هذا الحل. فالقلق الذي ولدته الاحتجاجات لا يتعلق بدور الجناح التقليدي بل بمطالب الاصلاحيين . في الحقيقة فان كل مسعى للحل بحاجة الى استثمار الغضب الذي عبر عنه انصار الاصلاحيين كي يبلغ غايته.

الحل الذي يسعى اليه رفسنجاني هو تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة نجاد تضم اصلاحيين ومحافظين تقليديين . لكن هذا مستبعد في ظني اذا لم تتغير التوازنات الحالية ، اي اذا لم يجد مرشح الجمهورية سلطته ومكانته مهددة بشكل جدي . مرشد  الجمهورية لا يفضل مثل ذلك الحل لانه سئم من السياسيين المحترفين (بمن فيهم رفسنجاني ولاريجاني)، وهو يميل الى حكومة تكنوقراط يلعب فيها الوزير دور مدير اعلى لا دور رجل سياسة . لكن في كل الاحوال فان الموقف المعترض للتقليديين ، والموقف المعارض للاصلاحيين سوف يلقي ظلالا قاتمة على مكانة وعمل الرئيس في السنوات الاربع القادمة. ومن المؤكد انه سيكون اقل قوة واندفاعا مما كان عليه خلال الفترة الرئاسية الاولى.

عكاظ 29 يونيو 2009

22/06/2009

الانتخابات الايرانية : صراع بين منطقين

الجدل الذي رافق الاعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية في ايران يكشف عن منطقين يتنازعان الراي العام : منطق يرى ان المجتمع هو وعاء السلطة ومصدر الشرعية السياسية. وبالتالي فان الرئيس الصالح هو ذلك الذي يحمله الجمهور الى سدة الحكم . بينما يرى المنطق الثاني ان الحكم وظيفة خاصة باصلح الناس وافضلهم. وان اهل الحل والعقد ، اي اقطاب النظام الاجتماعي ، هم الاقدر على تحديد الشخص المؤهل لاعتلاء سدة الحكم.

يقوم المنطق الاول على ارضية فلسفية تطورت صورها الحديثة ضمن الاطار المعرفي الاوربي ، ويلخصها مبدأ العقد الاجتماعي . وفقا لهذا المبدأ فان السياسة لا تعرف مفهومي الحق والباطل (بالمعنى المتداول في الثقافة العربية) ، بل تدور قيمة الفعل السياسي بين الصواب والخطأ . الصواب والخطأ ضمن هذا الاطار ليست مفاهيم مجردة او موضوعية ، بل هي تعريفات عقلائية لوقائع قائمة على الارض ، وهي تتغير بين ظرف واخر . فالصحيح هو ما اثبته العرف العام في البلد ، والخطا هو ما اعرض عنه العرف.

الرجوع الى العرف العام يستند الى تراث ضخم من التجارب الانسانية منذ ظهور التفكير السياسي حتى اليوم . وقد ناقشه الاصوليون المسلمون ضمن بحوثهم حول دور العرف في التشريع ، والادلة العقلية ، ولا سيما في جواز الرجوع الى بناء العقلاء ، والحسن والقبح العقليين ، وهي من المباحث المشهورة في اصول الفقه.

اما في اوربا فقد تطور المبدأ بعدما تخلى المفكرون عن التفسيرات الفلسفية القديمة للعلاقة بين المجتمع والسلطة ، وبينها خصوصا الكاثوليكية التي تتحدث عن سياسة تستند الى معايير سماوية معرفة ومحددة مسبقا ، وتلك التي ترجع الى الفلسفة اليونانية القديمة ولا سيما فلسفة سقراط وتلاميذه التي فكرت في السياسة من خلال مفهوم غاية الخلق وغرضه ، ونظرت الى السلطة باعتبارها مكانا لاعلم الناس الذين يتولون تربية المجتمع وهدايته الى طريق الكمال.

يرجع المنطق الثاني ، اي سلطة الافضل والامثل ، الى مفهوم "اهل الحل والعقد" الذي تطور في اطار التجربة التاريخية الاسلامية ولا سيما بعد القرن التاسع الميلادي ، وهو يقترب الى حد كبير من التفكير اليوناني المشار اليه ، بل يمكن الجزم انه قد تأثر به بشكل عميق. وهو على اي حال يوافق هوى قويا عند النخبة العلمية ولا سيما في مدارس العلم الشرعي . سوف تجد الربط الشديد بين العلم والسلطة منتشرا عند معظم الفقهاء والمفكرين المسلمين ، ولا سيما في القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي ، كما تراه عند من نقل عن اولئك او تاثر باعمالهم من المعاصرين .

وتبدو مبررات هذا الاتجاه مقبولة لدى كثيرين ، فهم يقولون ان السلطة حرفة تحتاج مثل اي حرفة اخرى الى علم ، وهذا العلم موجود في مدارس العلم الشرعي وفي شروح النص الديني وتفسيراته. ولهذا فان اهل هذا العلم هم الاقدر على ممارسة السلطة . كما ان السلطة مظنة للفساد او الاستغلال فيلزم ان تعطى الى العادل الكامل . والعدالة ليست من الصفات الفطرية في الانسان بل هي تنمو مع تربيته وتدريبه على الفضائل وطرق اكتشاف الحقيقة وكسب المعرفة ، وهذا يوجد في الدين وينمو في نفس الانسان حين يكرس حياته لدراسة علومه.

يميل الدستور الايراني الى المنطق الاول اي اعتبار المجتمع وعاء للسلطة ومصدرا للشرعية . بينما تميل النخبة الدينية الايرانية الى المنطق الثاني ، اي اعتبار السلطة السياسية مكانا للامثل والافضل. من الناحية النظرية فان الانتخابات الرئاسية تدور وفقا للاول ، لكن السلطة الحقيقية اديرت – على الاقل خلال العقدين الماضيين – وفقا للثاني.

في الانتخابات الاخيرة حاول الجمهور ، ولا سيما جيل الشباب ، قلب المعادلة والعودة الى روح الدستور . لكن فشلهم يظهر ان مصادر القوة لا تزال في ايدي النخبة ، وانها قادرة على التحكم في اتجاهات التغيير من خلال تحكمها في اتجاه الانتخابات ونتائجها. الجدل حول سلامة الانتخابات سيؤدي بالتاكيد الى استقطاب اجتماعي متزايد بين مؤيدي المنطقين ، واظن انه سيترك تاثيرا كبيرا على التفكير السياسي في الاطار الاسلامي ، لا سيما في الاساس الفلسفي للسلطة والشرعية السياسية.

عكاظ 22 يونيو 2009
https://www.okaz.com.sa/article/271200

16/06/2009

هل تتلاءم الثقافة الإسلامية مع الديموقراطية؟


بقلم توفيق المديني
جريدة المستقبل  - الثلاثاء 16 حزيران 2009 - العدد 3335 - ثقافة و فنون - صفحة 18

الكل في العالم العربي، وفي العالم الغربي، تساءل في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، عن التطورات السياسية والإسقاطات السياسية، على ضوء انتصار الثورةالإسلامية في إيران، ومدى تفاعل مجموعة من التغيرات الإيرانية مع المعطيات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط.
الرئيس السابق محمد خاتمي 
وهناك تساؤل ألقى بثقله على الساحة العربية، منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ويتمثل ماهو الأفضل للعالم العربي، أن ينخرط في تجربة الديمقراطية الغربية، حتى وإن عبدت هذه الديمقراطية الطريق لوصول الحركات الإسلامية الأصولية إلى السلطة، أم أن الأمرعلى عكس من ذلك يتطلب الإبقاء على الأنظمة التسلطية عن طريق إجهاض الفوز الانتخابي للإسلاميين بحجة حماية المسار الديمقراطي، والمثل الديمقراطية؟ وفي سؤال جامع، هل حالة الديمقراطية حالة شر تام أم حالة خير للعالم العربي؟

لاتزال ظاهرة الإسلام السياسي على تنوع حركاته وتياراته في العالمين العربي والإسلامي تشغل اهتمام الباحثين والمفكرين العرب. فقد عقدت في السنوات الأخيرة ندوات فكرية عدة، شارك فيها باحثون ومفكرون لهم تجربة غنية بالفكر وخبرة سياسية عملية ومساع ديموقراطية معروفة، ومتحفظون ومعترضون على الديموقراطية، لتقديم مقاربات حول إشكاليات الديموقراطية، بهدف نقل الحوار حول الديموقراطية في البلاد العربية خطوة إلى الأمام على طريق تأسيس أرضية فكرية سياسية مشتركة لتأصيل الديموقراطية في الحياة السياسية العربية دون تعد على ضوابط نظام الحكم الديموقراطي ومبادئه العامة المشتركة، ودون تضحية بثوابت الأمة ومصالحها الحيوية.

وغالباً ما يتساءل بعض الباحثين والمنظرين العرب والأجانب عن العلاقة بين الإسلام والديموقراطية، وهل تتلاءم أو تتعارض الثقافة الإسلامية مع بعض التجربة "الديموقراطية الغربية" أو"الليبرالية"؟.

يقدم لنا الدكتور توفيق السيف في كتابه الجديد "حدود الديمقراطية الدينية" تحليلا سوسيولوجيا معمقا عن النقاش المستجد في منطقة الشرق الأوسط حول العلاقة بين الدين والديمقراطية، متخذا من دراسته لتجربة السلطة في إيران ما بعد الثورة الإسلامية موضوعا لاختبار فرضياته حول إيجاد بناء نموذج ديمقراطي قادر على التفاعل مع الهوية الدينية للمجتمعات المحلية.

ويتألف الكتاب من سبعة فصول وخاتمة، حيث يناقش الفصل الأول: المسار التاريخي الذي تطوّرت خلاله نظرية السلطة الشيعية منذ القرن الثامن الميلادي حتى قيام الثورة الإسلامية في عام 1979. ويناقش الفصل الثاني التعديلات المهمة التي أدخلها آية الله الخميني على نظرية السلطة الشيعية التقليدية، والتي بلغت المقوّمات الأساسية والوظيفية لنموذج السلطة التقليدية. ويناقش الفصل الثالث نموذج السلطة الثوري الذي قام على أرضية النظرية الدينية التقليدية، ويستعرض مكوّناته ومبرّرات قيامه. ويقدّم الفصل الرابع تحليلاً للإيديولوجيا السياسية للتيار المحافظ، بما فيها رؤيته للدولة الاسلامية وموقفه من القضايا موضع الجدل في إيران، مثل مسألة المواطنة وما يتعلق بها من الحقوق السياسية، والشرعية وسيادة القانون، والجمهورية ودور الشعب، فضلاً عن الأساس النظري لتلك الايديولوجيا.

ينطلق توفيق السيف في تحليله لصعود التيار الإصلاحي في السياسة الإيرانية، من نظرية الانقلاب البراديمي (المنظومي) التي طورها الفيلسوف الأميركي توماس كون لتفسير ذلك التطور، ومعانيه بالنسبة إلى التجربة الإيرانية. فهو يقول: "أظهرت المناقشة أن العيوب التي أدت إلى إطاحة الباراديم الثوري تكمن في الأسس التي قام عليها، ولا سيما الافتقار إلى أيديولوجيا سياسية متينة وعدم الانسجام عند النخبة التي اشتركت في إقامة النظام السياسي. واسهم هذان العاملان في تسهيل قيام حكومة شمولية شديدة التخلف. وأظهرت تجربة العقد الأول من عمر النظام فشل البراديم الثوري في احتواء مشكلات البلاد، لا سيما في ظروف الحرب والضغوط الاقتصادية الخارجية" (ص 145).

وقد توسعت جبهة الإصلاحيين مع انتخاب حجة الإسلام الإصلاحي محمد خاتمي رئيساً للجمهورية في أيار/ مايو 1997، الداعي إلى إرساء دولة القانون، والحريات العامة، وحقوق الفرد، والتعددية، والسماح بنشاط جميع الأحزاب شرط موالاتها للدستور حتى لو اعترضت على بعض تدابيره مثل آلية عمل نظام ولاية الفقيه "ويبقى شخص الفقيه خارج دائرة النقد".
ومن خلال الفحص الموضوعي لتجربة الإصلاحيين في الحكم وأيديولوجيتهم، يلخص الكاتب خصائص الخطاب الإصلاحي بأنه خطاب يجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية ـ الليبرالية واقتصاد السوق الحر، ويتبنى عدداً من المعالجات النظرية التي تمثل اختراقات في جدل الدين ـ الحداثة، وتتعلق بمسائل جوهرية مثل الطبيعة الدينية للدولة، ومصدر السلطة والسيادة، ودور الشعب وغيرها. وقد عالج المفكرون الإصلاحيون هذه المسائل من منطلقات دينية أصيلة، لكن تفسيراتهم الجديدة مكنتهم من التوصل إلى صياغات قريبة جداً من تلك المعروفة في الأدبيات السياسية الحديثة.

يستنتج الكاتب أنه في حين فشل التيار الإصلاحي في إحداث تغيير كبير في بنية السلطة أو المحافظة على دوره السياسي، فقد نجح في تغيير البيئة السياسية في إيران، وإرساء حزمة مهمة من الإصلاحات في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبصفة خاصة في علاقة الدولة بالمجتمع.

وتتمثل المحاور الرئيسة للخطاب الإصلاحي في نقد الأيديولوجيا الرسمية، ولاسيما أرضيتها النظرية (الفقه التقليدي)، والدفاع عن الحداثة، والديمقراطية، والتعددية، وتحديد السلطة. ويقترب المفهوم الإصلاحي للديمقراطية إلى حد كبير من المفهوم الليبرالي. لكنه يخالفه في الموقف من العلمانية، إذ يرفض الإصلاحيون العلمانية كأيديولوجيا لكنهم يعتبرون التحول العلماني (أو المعرفي) نتيجة حتمية لاندماج الدين في الدولة والتحولات الاجتماعية.
ويقدم الخطاب الإصلاحي مثالا قويا على إمكانية المصالحة بين الإسلام والحداثة، لا سيما في الجانب السياسي. فهو يوفر أرضية لتفاعل نشيط بين المعرفة الدينية من جهة والفكر الفلسفي الاجتماعي الحديث من جهة أخرى.

ويعتقد الكاتب أن تجربة الإصلاحيين في السلطة، جعلت إيران أقرب إلى الديمقراطية، إذ تمثل تجربتهم الفكرية والسياسية نموذجاً يثير الاهتمام في تجسير الفجوة بين الدين والديمقراطية، ويقدم المفكرون الإصلاحيون حلولاً جديدة للكثير من المسائل التي ما زالت تثير الجدل في الشرق الأوسط حول إمكان التوصل إلى نموذج ديمقراطي محلي قادر على التفاعل مع الهوية والقيم الدينية للمجتمعات الإسلامية..

ولما جاءت حكومة الرئيس أحمدي نجاد، الممثل القوي للتيار المحافظ المتشدد، فقد كانت مبنيّةٌ على تحالفٍ بين عدّة مجموعات سياسية وعسكرية: أوّلاً فريقٌ دينيّ مُتشدّد يلعب فيه آية الله مصباح يزدي دوراً هامّاً، ويدعو إلى تطبيقٍ كاملٍ لمبدأ "ولاية الفقيه"، بالتحالف مع مرشد الثورة؛ وفصيلٌ من "حرّاس الثورة" يتطلّع إلى جعل إيران قوّةً مُهيمنةً في المنطقة - وقد تمّت مكافأة قادة هذا الفصيل بمناصب اقتصادية وسياسية هامّة. أمّا القسم الآخر من "الباسدران" فقد التحق باللّواء محمد باقر قاليباف، ممثّل الشريحة المُحدّثة، وهو رئيس بلديّة طهران، ومرشّحٌ للإنتخابات الرئاسية.
الشيء المؤكد في إيران، أن التيار المحافظ المتشدد ما زال يتمسك بالمفاصل الأساسية للنظام ويعمل من مواقعه المحصنة على كبح أي إصلاح أو تغيير أو إطلاق حرية التعبير ولو من داخل النظام، نفسه، والقيم نفسها التي انفصلت من أجل الثورة الإسلامية. فالطلاب الذين كانوا رأس الحربة في إسقاط شاه إيران، يوم كان رمزاً للظلم والاستبداد، وناصروا الجمهورية الإسلامية، أصبحوا اليوم يطالبون بالتخلي عن نظرية ولاية الفقيه، التي باتت تفتقر إلى المساندة سواء وسط الطلاب أو أساتذتهم. وهذا بحد ذاته يعتبر تطوراً سياسياً مهماً وخطيراً، بل إنه أهم وأخطر تطور منذ استلام رجال الدين السلطة العام 1979.

ويعتقد بعض المحللين الغربيين أن تبلور التيار الإصلاحي في إيران هي "بداية النهاية" لنظام حكم آيات الله الذي نشأ عام 1979، وتذهب دومينيك برومبرجر، الخبيرة الفرنسية البارزة في الشؤون الدولية إلى الجزم بأن "الثورة الخمينية انتهت في طهران.." بعد أن كسر التيار الإصلاحي "المساكنة على الطريقة الإيرانية" المتميزة بانعدام التوازن البنيوي في المواجهة بين "الفقيه" المطلق مع الشرعية الشعبية.

مرة أخرى، يجد التيار الإصلاحي نفسه في صراع مع الزمن وأن المبادرة التي دخلها في سبيل تحديث النظام السياسي، وخوض معركة الحداثة في إيران، هي في غاية التعقيد، بعد أن ضيع الفرصة الأخيرة عندما كان خاتمي في السلطة، حيث أن هزيمته أدت إلى انحساره، ولو مؤقتا.
ولاشك أن انحسار وفقدان التيار الإصلاحي زمام المبادرة، يخدمان موضوعياً البيروقراطية المحافظة والمتشددة، التي انقضت على المكاسب التي حققها التيار الإصلاحي خلال السنوات القليلة الماضية. ذلك إن نجاح التيار المحافظ المتشدد كان له تأثير كبير في كل العالم الإسلامي.

الكتاب: حدود الديموقراطية الدينية
 الكاتب: توفيق السيف
دار الساقي، بيروت 2009، 407 صفحات من القطع الكبير

جريدة المستقبل  - الثلاثاء 16 حزيران 2009 - العدد 3335 - ثقافة و فنون - صفحة 18
http://almustaqbal.com/storiesprintpreview.aspx?storyid=352688

مقالات مماثلة




15/06/2009

طريق التقاليد



معظم المجتمعات التي سعت لتحديث نظامها الاقتصادي شهدت صراعات داخلية شديدة بين المحافظين الذين يدعون للتمسك بالتقاليد الموروثة والحداثيين الذين يرونها عقبة في طريق التطور المادي والثقافي. وأظن أن إنكلترا هي البلد الذي شهد أشد هذه الصراعات دموية، فقد تحول الجدل إلى حرب أهلية دامت بضع سنين. وشهدت فرنسا في وقت متأخر نسبيا، في العام 1968، ما أطلق عليه وقتها «ثورة الطلاب» واعتبره الاجتماعيون مثالا على انتفاضة الأجيال الجديدة ضد التنظيم الاجتماعي التقليدي. وفي دول أخرى من الولايات المتحدة الأمريكية وحتى اليابان، مرورا بدول أوروبية وآسيوية وعربية، شهدت المجتمعات صراعات واسعة أو محدودة، دافعها الأساس هو تمرد الجيل الجديد على تنظيمات اجتماعية ضيقة الأفق
أصبح هذا التحدي أكثر جدية منذ أواخر القرن العشرين، وهو يزداد حدة مع مرور الوقت، لأن الأجيال الجديدة تزداد قوة وجرأة، كما إن الفوارق بينها وبين الأجيال السابقة تزداد سعة وعمقا، بسبب التقدم التكنولوجي الذي وفر للشباب عناصر قوة إضافية، أبرزها المعرفة والقدرة على المقارنة وابتكار الحلول. قلت لابني يوما إن راتبه الشهري اليوم يعادل دخلي السنوي حين كنت في مثل عمره، وأعلم جيدا أن بقية الأولاد قادرون اليوم على الوصول إلى مصادر معلومات لم نكن نتخيلها قبل ثلاثين عاما، فضلا عن أن نصل إليها. بعبارة أخرى فإن ما يطلبه شبابنا اليوم يتجاوز كثيرا جدا ما كنا نطلبه حين كنا في مثل أعمارهم، لأن قدراتهم أكبر ولأن المساحات التي يستطيعون الوصول إليها أوسع وأبعد. وسيكون للجيل الآتي تطلعات ومطالب أكثر من تلك التي عند شباب اليوم


يمكننا ببساطة أن ندير ظهرنا لهذه المطالب ونعتبرها نزقا طفوليا، وربما نجد وسيلة لإقناع الشباب بالسكوت والانتظار. لكن الأمور لا تحل بهذه البساطة. حتى لو استمع الشباب إلى نصائحنا واعتذاراتنا، فإن محرك التحدي يظل فعالا في داخلهم، وهو سيعود إلى النشاط والتعبير عن ذاته غدا أو بعد غد
إهمال التحدي لوقت طويل يشدد الميل للمنازعة في نفوس الشباب. ويتجلى هذا الميل في صورة إنكار للنظام الاجتماعي والقيم التي يقوم عليها. ويتمظهر عادة في صورة سخرية من التقاليد والأعراف السائدة. وفي مراحل متقدمة، يمكن أن يتطور هذا الميل إلى تعبيرات مادية عنيفة أو لينة تندرج إجمالا تحت عنوان الخروج على القانون


الإهمال هو خيار الخسارة، رغم أنه يبدو سهلا وغير مكلف ــ في بدايته على الأقل ــ، الحل السليم ــ مهما كان مكلفا ــ هو استيعاب الجيل الجديد بمطالبه وتطلعاته. طريق الاستيعاب يبدأ بتقبل فكرة التخلي عن بعض الأعراف والتقاليد الموروثة، ثم إعادة إنتاج تقاليد جديدة تتناسب مع حاجات المجتمع الجديد وظروفه المادية والثقافية. في هذا السياق نتحدث عادة عن مثال اليابان التي نجحت في الجمع بين التقاليد الموروثة وبين الحداثة. لكن ينبغي أن لا نخدع أنفسنا، فالذي فعله اليابانيون هو إعادة إنتاج تقاليدهم بما يحافظ على الشكل القديم لكن مع تحديث المضمون. يمكن تطبيق المقولة نفسها على إنكلترا والهند والولايات المتحدة وكثير من الدول الأخرى التي أعادت إنتاج تقاليدها بمضمون جديد. المحافظة على الشكل الخارجي للتقاليد ليس أمرا سيئا، بل ربما يكون ضروريا لتأمين قدر من الاطمئنان والتواصل الثقافي مع التاريخ. لكن الحياة تتطلب ــ بنفس المقدار ــ تقاليد تتناسب مع ظرف الحياة الراهن


نحن بحاجة إلى التحرر من التقاليد المعيقة، لا سيما تلك التي تفرض علينا منظورات وتصورات قديمة عن الحياة والعالم، كما تفرض علينا قيما وأحكاما تعيق طموحنا إلى مكان يتناسب مع واقعنا وقدراتنا وحاجات عصرنا. قد يكون أمرنا سهلا لأن جيلنا استسلم لأقداره وقبل بما وجد أمامه، لكني أخشى حقا أن الجيل الذي بعدنا ليس بنفس السهولة أو القابلية للاستسلام

عكاظ 15 يونيو 2009

08/06/2009

الطريق الليبرالي


طريق التنمية الشاملة لم يعد خيارا بل ضرورة لاستيعاب تطلعات الجيل الجديد، مثلما كانت التنمية الاقتصادية في وقتها ضرورة للإقلاع من الفقر المادي والثقافي. اتجه العالم إلى التفكير في التنمية كمسار متكامل ومتصاعد، وظهرت في هذا الإطار نظريات تتحدث عن التنمية الشاملة والتنمية المستدامة ، بعدما كان التفكير مركزا على تحديث الاقتصاد. نعلم اليوم أن تحديث الاقتصاد يؤدي بالضرورة إلى تعزيز النزعات الليبرالية في المجتمع.

الليبرالية كسلوك ورغبة عامة ، ليست أيديولوجيا كما تصورها النقاشات المدفوعة بتوجهات أيديولوجية. من المؤسف أننا لم نستطع تجاوز الفرضيات السقيمة التي تناولت الليبرالية كمذهب متناقض مع التقاليد أو بديل عن الدين. هذا النوع من النقاش غيب الحقيقة التي نستطيع مشاهدتها عيانا كل يوم وفي كل مكان ، حقيقة أن الناس جميعا يرغبون في أن يعترف بهم كأفراد أكفاء ، قادرين على تقرير طريقة حياتهم وتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية التي تترتب على خياراتهم.

جوهر الليبرالية هو تقدير قيمة الفرد باعتباره إنسانا حرا عاقلا ومسؤولا.

قد لا أكون مبالغا لو قلت إن أغلبية الناس سوف يذهبون في هذا الاتجاه ، لو خيروا بينه وبين المنهج القديم الذي ينكر على الفرد هويته المستقلة ، ويعتبره مجرد امتداد بيولوجي لعائلته أو قبيلته أو طائفته أو جنسه ، المنهج الذي يعتبر الفرد عاجزا عن سلوك طريق الإحسان ما لم يخضع لمراقبة مرشد ، أو آثما بطبعه ما لم يقيد أحد يديه وعقله كي لا يبغي على الغير.

الاقتصاد الجديد يخلق فرصا ويفتح أبوابا أمام الجيل الذي استوعبه وتعامل معه واستفاد منه. هذه الفرص هي أدوار ومسارات تأثير تختلف عما اعتاد عليه المجتمع التقليدي. نحن إذن إزاء نظام اجتماعي يولد وينمو تدريجيا. الطريق الصعب هو استيعاب هذه الحقيقة وإعادة هيكلة النظام الاجتماعي القائم ، على نحو يستوعب القادمين الجدد. الطريق السهل هو إنكار هذه الحاجة ، والاكتفاء بالفرجة على ما يحدث من تحولات. الطريق الأول صعب لأنه يتطلب اتخاذ قرارات غير معتادة ، والتنازل عن أعراف ترسخت واعتادها الناس لزمن طويل. الطريق الثاني سهل لأن الإهمال هو أسهل المواقف.

لكن عواقب الإهمال قد تكون كارثية. يؤدي الإهمال إلى قيام نظام اجتماعي مزدوج كما لاحظ سعد الدين إبراهيم: يرغب الناس في نمط حياة حديث، لكنهم يتظاهرون بالالتزام بالتقاليد. يتحول هذا التظاهر في أحيان كثيرة إلى نوع من التكاذب الجماعي. يشعر الناس أحيانا بأنهم محتاجون إلى التظاهر كي يسهلوا حياتهم. يتحدث شخص ما عن فضائل التقاليد ، وهو يعلم أنه غير صادق ، لأنه شخصيا يفضل نمط معيشة حديثا ومنهج عمل حديثا. الذين يستمعون إليه يشعرون بذات الشعور ويفهمون أنه غير صادق ، ولعله يفهم أيضا أنهم يستمعون إليه وهم يضحكون في دواخلهم على مبرراته.

بدلا من هذه الازدواجية ، فإن الطريق السليم ، مهما كان صعبا ، هو تشجيع الناس على التعبير عن حقيقة ما يحبون ، حتى لو تعارض مع التقاليد والعادات الجارية أو مع اللغة السائدة في التخاطب. يجب أن نقبل بحق الفرد في أن يكون كما يريد، ثم نضع القانون الذي يوضح الحدود النهائية ، التي ينبغي للفرد رعايتها حين يعبر عن إراداته.

تحرير الفرد من قلق الرقابة الاجتماعية ، هو أحد المبادئ الكبرى لليبرالية. لكن الليبرالية لا تتحدث عن أفراد منعزلين أو حشود في غابة ، بل عن مواطنين في مجتمع يحترم القانون. القانون في مجتمع حديث يعتبر ضرورة لحماية الحريات وموازنتها مع المسؤوليات التي تترتب على ممارستها. الليبرالية إذن ليست دينا يتوازى مع الأديان ولا هي أيديولوجيا مغلقة ، تأخذها كلها أو تطرحها كلها.

الليبرالية تعبير عن رغبة الإنسان في استعادة هويته الخاصة ، وتحرير ذاته من العقد والأعراف والرقابة. قد لا يكون هذا الأمر محبوبا في مجتمعات كثيرة ، لكنه محطة في طريق بدأنا السير فيه فعلا ، فبلغنا تلك المحطة أو نكاد.

   https://www.okaz.com.sa/article/268087                عكاظ 8 يونيو 2009

01/06/2009

جائزة القطيف للانجاز

مساء الجمعة احتفلت القطيف بجائزة الانجاز لعام 2009. فاز بالجائزة 13 شابا وشابة بين 115 مرشحا في مجالات الهندسة والادب والطب والفنون . من نافل القول ان المجتمع بحاجة الى تشجيع الابداع والابتكار كتمهيد ضروري للاقلاع من مستنقع الجمود والاستهلاك الطفولي لمنتجات الاخرين . ثمة نواقص كثيرة في مجتمعنا ، بعضها قابل للعلاج بجهد اهلي وبعضها عسير . واظن ان غياب العقل العلمي والتفكير العلمي هو واحد من ابرز النواقص واشدها تاثيرا . لكن علاجه لم يعد اليوم صعبا كما كان في الماضي ، كما لم يعد صعبا على المجتمع اتخاذ مبادرات لتشجيع المبدعين والمبتكرين وحث الاجيال الجديدة على السير في هذا الطريق الطيب.

سعيد الخباز

جائزة القطيف للانجاز هي مثال على هذا النوع من المبادرات التي تؤكد قدرة المجتمع على معالجة التاخر عن ركب العلم وانتشار التفكير الخرافي والاسطوري والتعامل الساذج مع منتجات الحضارة. بدأت الفكرة بمبادرة شخص واحد هو الاستاذ سعيد الخباز . لكنها اثارت اهتمام الكثير من الناشطين من الرجال والنساء الذين ارادوا ان يقدموا لمجتمعهم شيئا جديدا . شيئا لا يخصهم  كاشخاص ولا يفيدهم بشكل مباشر ، لكنهم يعبرون من خلاله عن رغبة المجتمع الاهلي في ان يفعل شيئا لنفسه ، يحل مشكلاته ، او يعالج عيوبه ، او يدفع بقاطرته خطوة الى الامام .

في كل قرية ومدينة على امتداد المملكة ، ثمة جيل جديد يفكر بصورة مختلفة عما اعتدنا ، جيل منفتح على مصادر المعرفة وقادر على النفوذ اليها بطرق لم نعرفها ابدا . وسط هذا الجيل مئات من الشباب والشابات الذين تجاوزوا حدود استهلاك المعرفة الى نقدها واعادة انتاجها او تطوير جوانب منها . نحن لا نعرف الكثير من هؤلاء لان معظمهم لا يظهرون في وسائل الاعلام . ولان الامر على هذا النحو فانهم لا يحصلون على التشجيع الضروري كي يطوروا معارفهم وابداعاتهم .

 العلوم الجديدة والابداع فيها لم يحصل على المكانة الملائمة في منظومة القيم الاجتماعية . ولهذا تجد الناس يحتفون بتاجر يكدس الاموال ، او شاعر يجيد القاء قصيدة ، بينما يتجاهلون عالما يعرض نظرية جديدة او يبتكر علاجا لمرض او حلا لمشكلة تقنية .

قبل بضع سنوات تشكلت في القطيف لجنة لتكريم العاملين في المجال الاجتماعي ، كرمت في احتفالاتها السنوية الماضية علماء وشعراء وناشطين وروادا للنشاط الخيري . وكانت تلك اول مبادرة منتظمة تركز على تكريم المتميزين وخدام المجتمع. لكن فكرة التكريم ارتبطت في هذه المبادرة بالتجربة الكاملة للشخص المكرم. ولهذا فقد كان التقدم في العمر هو الصفة المشتركة بين الذين حصلوا على التكريم في السنوات الماضية .

في المقابل فان جائزة الانجاز تركز على الجيل الجديد بصورة خاصة ، فهي تشترط ان لا يتجاوز عمر المرشح 40 عاما. بعبارة اخرى فان التكريم سيكون هنا للشباب ، على انجازات محددة ، وليس لمجمل التجربة الحياتية للشخص. كما ان اختيار الفائزين يعتمد في المرحلة الاولى على مبادرة المبدع نفسه . افتتحت لجنة الجائزة موقعا الكترونيا يترشح من خلاله من يرى نفسه متصفا بالمواصفات المقررة ، ويعرض اعماله ، ثم تقوم لجنة تحكيم محايدة بتحديد الفائز. ومن العناصر الجديدة في هذه المبادرة هو تخصيص نصف عدد الجوائز للنساء . وتقديمها مع جوائز الرجال في احتفال واحد ، الامر الذي يعالجة مشكلة التمييز الجنسي ، وهي مشكلة لا زالت تعرقل التوازن في النمو الاجتماعي .

هذه مبادرة تستحق التقدير ويستحق اصحابها الشكر ، وهي تغريني بدعوة باقي المواطنين لتكرارها في كل مدينة وقرية من مدن البلاد كي نرسخ قيمة الابتكار وكي نعطي لشبابنا املا في انفسهم ودافعا لانتخاب الخيارات التي تخدم البلد ككل. كما اتمنى ان يؤخذ بالنموذج المتقدم الذي اعتمده القائمون على جائزة القطيف للانجاز ، اي التركيز على الشباب ، والمساواة بين الجنسين وجعله عملا اهليا مدنيا بالكامل.

عكاظ 1 يونيو 2009
https://www.okaz.com.sa/article/266548

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...