عرضنا في مقال الاسبوع الماضي صعوبة
الكتابة انطلاقا من وحي الضمير ، في ظرف التداخل الحرج بين الكاتب ومجتمعه ،
وتوصلنا الى ان التزام الكاتب تجاه المحيط ، باي صورة من صوره يعيق تعبيره الكامل
عن رأيه ، على انه لاينبغي تفويت الاشارة الى ان الالتزام تجاه المجتمع ليس
بالضرورة جبرا أو قدرا ، انه في حالات كثيرة ، اختيار من جانب الكاتب .
انواع
الالتزام
ثمة اطارات ثلاثة للالتزام ، يمكن تصنيف الكتاب
والمتحدثين في الشأن الثقافي تحت كل واحد من عناوينها ، الاطار الاول هو الالتزام
المهني ، حينما تكون الكتابة مهنة ، ويكون التفكير والبحث حركة مضبوطة الايقاع ،
باغراض ومحددات تلك المهنة ، فكاتب هذه الفئة هو مهندس للشكل وليس صانعا للافكار ،
لاتقلقه الفكرة بل الصورة ، اذ يفترض ان الفكرة التي يعرضها كانت جاهزة قبل ان
يبدأ البحث ، فيكون جهده العلمي منصبا على عرضها في احسن الصور ، حتى وان ترافق
معها بعض الابتكارات الفرعية ، التي يحسبها الناس تجديدا ، وهي في حقيقتها مجرد
تفريع تزيـيـني على الفكرة الاساس ، يستهدف تحسين صورتها وحسب .
وفي حالات معينة فان الفكرة لاتولد الا ساعة
الكتابة ، اي ان الحاجة الى تسويد الصفحات ، هي التي تستدعي الفكرة وليس العكس ،
وفي هذه الحالة فانك لاتجد فكرة في ما تقرأ بل (كلام جرايد) كما يقول اخواننا
المصريون ، يشرق الكاتب في طياتها ويغرب .
الالتزام
الايديولوجي
والاطار الثاني هو الالتزام الايديولوجي ، وكاتب
هذه الفئة قد يبذل غاية الجهد في ابداع الافكار الجديدة ، او تطوير الافكار
السائدة الى مستويات اعلى ، لكنه في كل الاحوال ، يظل سجين التفسيرات التي يوفرها
متبناه الايديولوجي ، بحيث لايرى الامور
المختلفة الا بموازينها ، فالصحيح هو ماكان صحيحا عندها ، والخطأ هو ماجرى تخطئته
في منهجها ، بغض النظر عن الثوابت العقلية والمنطقية المتعارف عليها عند الجميع ،
وبغض النظر عن رايه الخاص .
فهذا الكاتب على الرغم من قدرته على
الابتكار ، الا ان هذه الأهلية تظل محدودة بحدود المنهج الخاص الذي يتبناه ، ان
الشك ، مجرد الشك ، في تنافي اي جزء من الفكرة او التحليل مع جزء من المعتقد ، او
المتبنيات التي يفرضها انتماؤه المجتمعي ، هو سبب كاف ـ عنده ـ للتوقف عن التفكير
، لانه يتحمل التخلي عن نتاج جهده العقلي ، لكنه لايتحمل الاصطدام بعقيدته أو
انتمائه ، ويمكن اعتبار هذا الكاتب كاتب منهج او كاتب تبرير ، لاكاتب فكرة .
ويضرب لنا د. اكبر أحمد عالم الاجتماع المسلم
المعروف ، مثالا على هذه الحالة في علم الاجتماع الماركسي ، الذي ضجر من تحليلاته
الماركسيون فضلا عن غيرهم ، لان رجاله (تحدوهم الرغبة للعمل داخل اطار نظرياتهم
دون اعتبار لطبيعة البيئة والعنصر) حتى ان م. جودلييه ـ وهو نفسه باحث ماركسي ـ
وصف تحليلات بعض زملائه للمجتمعات القطاعية البناء بانها (ماركسية فجة) .
اما الاطار الثالث فهو الالتزام بالمجتمع او بقضاياه ، وكاتب هذه الفئة
متحرر من الضوابط المهنية ، وغير مضطر للاستسلام للتفسيرات النمطية ، لكنه
لايستطيع ان يتحرر ـ في مرحلة اعلان الفكرة على الاقل ـ من مقتضيات العلاقة
الضرورية بين المجتمع والكاتب ، باعتباره جزء من الجماعة وباعتباره صاحب دور فيها
.
مرحلتان
قبل عرضها على القاريء تمر الفكرة
بمرحلتين ، يجري في المرحلة الاولى صناعة
الفكرة والبرهنة عليها ، ويجري في التالية تجهيزها للعرض ، كي تحظى باكبر قدر من
القبول .
وتبعا لمقولة الالتزام فان الكاتب
يمارس الرقابة الذاتية في احدى هاتين المرحلتين ،
عند صناعة الفكرة ، او عند عرضها ، فالكاتب الملتزم مهنيا والكاتب الملتزم
عقائديا ، يفكران ضمن مسارات محددة ، لذلك فهما لايجدان حاجة لتكرار الرقابة في
المرحلة الثانية ، فما ينتجانه من افكار لابد ان يكون متوافقا مع ماهو سائد ومتوقع
، اما الكاتب الثالث فيكتفي بالرقابة على
الذات في مرحلة الاعداد لعرض الفكرة.
ان التحرر المطلق من قيود الالتزام
باشكاله ومضامينه المختلفة ، امر صعب المنال ، لايدركه الا المكافحون الاشداء في
سبيل الفكرة وشرف العقل ، وليس هذا مقدورا من اكثر اهل الثقافة ، في مراحل من
التطور الاجتماعي كالتي تشهدها اكثر الاقطار العربية.
لكن تحت هذا المستوى فثمة قدر معقول من
الالتزام ، لامفر من الخضوع له ، الا وهو الالتزام في طريقة عرض الفكرة ، ان
الالتزامات التي يضعها الكاتب في مرحلة صناعة الفكرة ، لن تؤدي لسوى سد آفاق الفكر
على عقله ، وجعله منقادا كالاسير الى الافكار المتداولة ، التي لايـنـبيء التعب
عليها عن اي تطور في ذهنية الكاتب ، ولاتؤدي لأي تطوير في وعي المجتمع .
الرضى بالقيود
اصبح ثابتا ان مستوى الثقافة والابداع
في بلد ، يتناسب طرديا مع حرية التعبير المتاحة فيه ، فالقيود تؤدي الى تبريد
النشاط الذهني لرجل العلم ، كذلك يفعل الرضى بالتقييد ، فالكاتب الذي يعتبرها امرا
اعتياديا ، لايجاهد للانطلاق بعقله في افاق الفكر ، فهو راض بما يمليه عليه عقل
مستريح الى المتفق عليه .
ان اسوأ ماينال الثقافة هو تلقي القيود ايا كانت ، بالقبول والتسليم من
جانب المثقفين انفسهم ، واعتبارها امرا طبيعيا يلتزمون به عن رضى واختيار .
وفي معظم الاحوال فان الكاتب يمارس
نوعا من الرقابة الذاتية على نفسه ، حينما يضع نصب عينيه ، ردود الفعل المتوقعة
ساعة عرض الفكرة على الناس ، فكل كاتب ، او فلنقـل ـ على سبيل التحفظ ـ معظم
الكتاب ، يرغب في رؤية افكاره وقد وصلت الى اكبر عدد من الناس ، وحظيت بالقبول في
اوسع شريحة منهم .
ويتعلق هذا النوع من الرقابة الذاتية
(الرقابة في المرحلة الثانية) بالمجتمعات التي تعطي للافكار الجديدة قيمة ، اما النوع الاول (الرقابة في مرحلة صنع الفكرة)
فتجده غالبا عند المجتمعات التي لاتقيم كبير وزن للثقافة ، وينطبق ذلك على مختلف
المجتمعات ، وبغض النظر عن نوع العقيدة ، فقيمة الفكرة هنا لاتقاس بمدى كشفها عن جديد او جلائها لغامض ،
بل هي مرهونة بمقدار مايؤدي اليه العرض ، من تاكيد على قيم متعارف عليها ، بغض النظر عن صحتها او فسادها .
نشر في (اليوم) 23يناير1995