23/01/1995

ضمير الكاتب ومحدداته


 عرضنا في مقال الاسبوع الماضي صعوبة الكتابة انطلاقا من وحي الضمير ، في ظرف التداخل الحرج بين الكاتب ومجتمعه ، وتوصلنا الى ان التزام الكاتب تجاه المحيط ، باي صورة من صوره يعيق تعبيره الكامل عن رأيه ، على انه لاينبغي تفويت الاشارة الى ان الالتزام تجاه المجتمع ليس بالضرورة جبرا أو قدرا ، انه في حالات كثيرة ، اختيار من جانب الكاتب .

انواع الالتزام
 ثمة اطارات ثلاثة للالتزام ، يمكن تصنيف الكتاب والمتحدثين في الشأن الثقافي تحت كل واحد من عناوينها ، الاطار الاول هو الالتزام المهني ، حينما تكون الكتابة مهنة ، ويكون التفكير والبحث حركة مضبوطة الايقاع ، باغراض ومحددات تلك المهنة ، فكاتب هذه الفئة هو مهندس للشكل وليس صانعا للافكار ، لاتقلقه الفكرة بل الصورة ، اذ يفترض ان الفكرة التي يعرضها كانت جاهزة قبل ان يبدأ البحث ، فيكون جهده العلمي منصبا على عرضها في احسن الصور ، حتى وان ترافق معها بعض الابتكارات الفرعية ، التي يحسبها الناس تجديدا ، وهي في حقيقتها مجرد تفريع تزيـيـني على الفكرة الاساس ، يستهدف تحسين صورتها وحسب .
 وفي حالات معينة فان الفكرة لاتولد الا ساعة الكتابة ، اي ان الحاجة الى تسويد الصفحات ، هي التي تستدعي الفكرة وليس العكس ، وفي هذه الحالة فانك لاتجد فكرة في ما تقرأ بل (كلام جرايد) كما يقول اخواننا المصريون ، يشرق الكاتب في طياتها ويغرب .

الالتزام الايديولوجي
 والاطار الثاني هو الالتزام الايديولوجي ، وكاتب هذه الفئة قد يبذل غاية الجهد في ابداع الافكار الجديدة ، او تطوير الافكار السائدة الى مستويات اعلى ، لكنه في كل الاحوال ، يظل سجين التفسيرات التي يوفرها متبناه الايديولوجي ، بحيث لايرى  الامور المختلفة الا بموازينها ، فالصحيح هو ماكان صحيحا عندها ، والخطأ هو ماجرى تخطئته في منهجها ، بغض النظر عن الثوابت العقلية والمنطقية المتعارف عليها عند الجميع ، وبغض النظر عن رايه الخاص .
فهذا الكاتب على الرغم من قدرته على الابتكار ، الا ان هذه الأهلية تظل محدودة بحدود المنهج الخاص الذي يتبناه ، ان الشك ، مجرد الشك ، في تنافي اي جزء من الفكرة او التحليل مع جزء من المعتقد ، او المتبنيات التي يفرضها انتماؤه المجتمعي ، هو سبب كاف ـ عنده ـ للتوقف عن التفكير ، لانه يتحمل التخلي عن نتاج جهده العقلي ، لكنه لايتحمل الاصطدام بعقيدته أو انتمائه ، ويمكن اعتبار هذا الكاتب كاتب منهج او كاتب تبرير ، لاكاتب فكرة .

 ويضرب لنا د. اكبر أحمد عالم الاجتماع المسلم المعروف ، مثالا على هذه الحالة في علم الاجتماع الماركسي ، الذي ضجر من تحليلاته الماركسيون فضلا عن غيرهم ، لان رجاله (تحدوهم الرغبة للعمل داخل اطار نظرياتهم دون اعتبار لطبيعة البيئة والعنصر) حتى ان م. جودلييه ـ وهو نفسه باحث ماركسي ـ وصف تحليلات بعض زملائه للمجتمعات القطاعية البناء بانها (ماركسية فجة) .
  اما الاطار الثالث فهو الالتزام بالمجتمع او بقضاياه ، وكاتب هذه الفئة متحرر من الضوابط المهنية ، وغير مضطر للاستسلام للتفسيرات النمطية ، لكنه لايستطيع ان يتحرر ـ في مرحلة اعلان الفكرة على الاقل ـ من مقتضيات العلاقة الضرورية بين المجتمع والكاتب ، باعتباره جزء من الجماعة وباعتباره صاحب دور فيها .

مرحلتان
قبل عرضها على القاريء تمر الفكرة بمرحلتين ،  يجري في المرحلة الاولى صناعة الفكرة والبرهنة عليها ، ويجري في التالية تجهيزها للعرض ، كي تحظى باكبر قدر من القبول .
وتبعا لمقولة الالتزام فان الكاتب يمارس الرقابة الذاتية في احدى هاتين المرحلتين ،  عند صناعة الفكرة ، او عند عرضها ، فالكاتب الملتزم مهنيا والكاتب الملتزم عقائديا ، يفكران ضمن مسارات محددة ، لذلك فهما لايجدان حاجة لتكرار الرقابة في المرحلة الثانية ، فما ينتجانه من افكار لابد ان يكون متوافقا مع ماهو سائد ومتوقع ،  اما الكاتب الثالث فيكتفي بالرقابة على الذات في مرحلة الاعداد لعرض الفكرة.
ان التحرر المطلق من قيود الالتزام باشكاله ومضامينه المختلفة ، امر صعب المنال ، لايدركه الا المكافحون الاشداء في سبيل الفكرة وشرف العقل ، وليس هذا مقدورا من اكثر اهل الثقافة ، في مراحل من التطور الاجتماعي كالتي تشهدها اكثر الاقطار العربية.

لكن تحت هذا المستوى فثمة قدر معقول من الالتزام ، لامفر من الخضوع له ، الا وهو الالتزام في طريقة عرض الفكرة ، ان الالتزامات التي يضعها الكاتب في مرحلة صناعة الفكرة ، لن تؤدي لسوى سد آفاق الفكر على عقله ، وجعله منقادا كالاسير الى الافكار المتداولة ، التي لايـنـبيء التعب عليها عن اي تطور في ذهنية الكاتب ، ولاتؤدي لأي تطوير في وعي المجتمع .

الرضى بالقيود
اصبح ثابتا ان مستوى الثقافة والابداع في بلد ، يتناسب طرديا مع حرية التعبير المتاحة فيه ، فالقيود تؤدي الى تبريد النشاط الذهني لرجل العلم ، كذلك يفعل الرضى بالتقييد ، فالكاتب الذي يعتبرها امرا اعتياديا ، لايجاهد للانطلاق بعقله في افاق الفكر ، فهو راض بما يمليه عليه عقل مستريح الى المتفق عليه .

  ان اسوأ ماينال الثقافة هو تلقي القيود ايا كانت ، بالقبول والتسليم من جانب المثقفين انفسهم ، واعتبارها امرا طبيعيا يلتزمون به عن رضى واختيار .

وفي معظم الاحوال فان الكاتب يمارس نوعا من الرقابة الذاتية على نفسه ، حينما يضع نصب عينيه ، ردود الفعل المتوقعة ساعة عرض الفكرة على الناس ، فكل كاتب ، او فلنقـل ـ على سبيل التحفظ ـ معظم الكتاب ، يرغب في رؤية افكاره وقد وصلت الى اكبر عدد من الناس ، وحظيت بالقبول في اوسع شريحة منهم .

ويتعلق هذا النوع من الرقابة الذاتية (الرقابة في المرحلة الثانية) بالمجتمعات التي تعطي للافكار الجديدة قيمة ،  اما النوع الاول (الرقابة في مرحلة صنع الفكرة) فتجده غالبا عند المجتمعات التي لاتقيم كبير وزن للثقافة ، وينطبق ذلك على مختلف المجتمعات ، وبغض النظر عن نوع العقيدة ، فقيمة الفكرة هنا  لاتقاس بمدى كشفها عن جديد او جلائها لغامض ، بل هي مرهونة بمقدار مايؤدي اليه العرض ، من تاكيد على قيم متعارف عليها  ، بغض النظر عن صحتها او فسادها .

نشر في (اليوم) 23يناير1995

16/01/1995

ضمــير الكاتب ؟ ... أي ضمــــير ؟



||مطالبة الكاتب الالتزام باملاءات ضميره حين يكتب ، تبدو عسيرة الاستجابة ، والسبب هو صعوبة التعبير الحر في ظرف اجتماعي لايفسح مكانا للراي المختلف||
يلح الاستاذ محمد الصويغ على ان يكون ضمير الكاتب حيا وموجها لكتاباته ، ويقرر في مقاله المنشور بهذه الجريدة يوم الاحد الاسبق ،  استحالة ان ينجز الكاتب الدور التنويري المفترض له ، اذا كان ضميره غائبا ساعة يمتطي صهوة القلم .

ويبدو لي ان القضية بمجملها ليست مورد خلاف من جانب اي كان ، فلن تجد احدا في شرق الارض وغربها ، يعترف بانه يكتب عكس مايمليه عليه ضميره .
القضية التي يختلف عليها الجميع هي ماهية هذا الضمير ، الذي يملي على الكاتب مايكتب ، فهل يوجد ياترى ضمير متجرد عن اي مؤثر خارجي ، واذا تاثر ضمير الكاتب بما حوله من المؤثرات ، فهل سيكون موضوعيا في كتابته ، متجردا في دعوته عن جواذب المصلحة او خوف الضرر ؟ .
ويقول الاستاذ الصويغ ان قلم الكاتب مرآة لمجتمعه ، فهو يلخص مايجري فيه ويعيد تصويره ضمن لوحة واحدة ، يشخص عبرها واقعه ، بايجابياته وسلبياته ،  والذي كنت اعلم حتى هذه اللحظة ان المرآة هي جزء من مهمة الكاتب ، اما الجزء الاهم  فهو تركيز الضوء على الايجابيات ، والدعوة لمعالجة السلبيات ، ونقد التقصير والغفلة ،  فاذا تقاعس عن هذا الدور فقد أخل بمسئوليته وقصر في اداء واجبه الاجتماعي .
حدود التصريح
لكن المجتمع ليس محايدا تجاه الممارسة الثقافية ، فلا يكفي ان تكون الفكرة التي يعرضها ا لكاتب صحيحة ، حتى يتلقاها المجتمع بالقبول ، بل اظن ان كثيرا من الكتاب يبذلون جهدا في اعداد الصيغة التي يعرضون بها افكارهم ، يزيد عن الجهد الذي يصرفونه في التوصل الى الفكرة نفسها والاستدلال عليها ، وليس ذلك الا لكون المجتمع شديد الحساسية تجاه مايكتب ومايقال في العلن ، سيما اذا تضمن نقدا لواقع قائم ، او ممارسة متعارف عليها ، او تفكيرا يرتاح اليه اكثر الناس .
ان اكثر الكتاب ـ لاسيما في المجتمعات الاقل حداثة ـ مضطرون للالتزام بالضوابط التي يحددها المجتمع للعمل الثقافي ، وهي ضوابط تقوم على تسلسل للقيم والاعراف ، لا يتضمن اقرارا مسبقا بحق النقد ، او الاعتراض العلني على الاخطاء .
ترى هل يمكن للكاتب ان يمارس دوره التنويري في ظل هذه الضوابط ، وهل يمكن ان يكون ضميره حاكما مطلقا على نتاجه ، فيما هو مضطر للالتزام بما يراد له ومالا يراد ؟ .
ان الاجابة على هذا السؤال تبدو ضرورية ، في التمهيد لاي حديث حول واجبات المثقفين ، وتزداد اهمية الاجابة ، عند الاخذ بعين الاعتبار تطبيق الفكرة في مجتمع كالمجتمع العربي ، الذي لايزال في مرحلة التاسيس الفكري لنسق حياته ، وعلاقاته الداخلية ، ونظام القيم الذي يؤطر محاولاته للحاق بركب العصر .
الاعتراض وتكاليفه
في مثل هذا الظرف يجد المثقف نفسه حاملا للسلم بالعرض كما يقولون ، ناقدا لما هو قائم حتى لو تعارف عليه اكثر الناس ، وداعيا لظرف جديد مختلف ، لم يتعرف عليه او يتكيف معه الا القليل من الناس ، وهو دور يضعه في مواجهة التيار الاجتماعي السائد ، مختلفا مع الاغلبية الغالبة التي تستريح الى (حشر مع الناس عيد) انه جدل بين تطلع اجتماعي يستند الى تبرير ثقافي مقترح ، يقاومه واقع اجتماعي يبرره نظام ثقافي ،  قادر على اعادة انتاج نفسه في صور جديدة .
وبسبب هذا الجدل فقد تعرض المثقفون في معظم الاحوال للاضطهاد او التهميش ، واصبح اعتياديا ان نجد النخبة المثقفة العربية ، مضطرة لاتخاذ موقع التابع بل اللاهث ، وراء النخب الاخرى ، النخب القديمة ، او النخب الحديثة التي مالت ـ بعد استقوائها ـ الى التماهي مع سابقتها ، والسير على نهجها في العمل الاجتماعي ، وفي بعض الحالات حيث رفض المثقفون هذا الموقع الذليل ، فقد كان مصيرهم العزل ، او الانفصال عن حركة المجتمع.
يمكن بطبيعة الحال العثور على طريقة للمواءمة بين العمل الثقافي ومقتضيات الواقع ، عندما يتخلى المثقف عن الدور التنويري والريادي المفترض له ، ويكرس جهده الفكري للجوانب التي لاتستثير حساسية المجتمع ولا تصادم متبنياته ، وفي عالم الفكر الكثير من القضايا التي يمكن طرقها دون ان تقلق منام المستريحين على وسادة (ليس في الامكان ابدع مما كان) ، وهي ـ بالتالي ـ تلبي شعور المثقف بالحاجة الى الاستمرار في العمل دون مواجهة المواقف الحرجة والصعبة .
المعاني المتعارضة للالتزام
 يستند المثقفون في دعاواهم على فرضية (الالتزام الاجتماعي)  بمعنى  ان المثقف ـ باعتباره اقدر اعضاء المجتمع على تحديد مواقع الخطأ والصواب ـ مكلف بدعـوة الناس الى القيـم والافكار ، التي يقدر انها اكثر تقدما مما هو سائد ، ومن ممارسته لهذا الدور يحصل على الاعتبار الاجتماعي المدعى لاهل العلم .
ولسوء الحظ فان مقولة الالتزام هذه ،  هي نفس المبرر الذي ترفعه القوى الاخرى التي تصارعهم ، ان التبرير الدائم لاضطهاد المثقفين ، هو خروجهم على النسق الثقافي الذي يقوم عليه هيكل العلاقات الاجتماعية ، او دعوتهم للخروج عليه ، هكذا وبهذا المبرر عومل المثقفون في معظم البلاد الاشتراكية السابقة ، كما في اكثر الدول العربية والاسلامية التي نحت هذا المنحى .
ان جوهر مقولة الالتزام في جانب المثقفين هو التعارض مع الراهن ، بينما هو على النقيض في الجانب الاخر ، حيث جوهرها هو التوافق ، الذي يعني في بعض المراحل الاستسلام لما هو قائم ، وفي بعض الاحيان تبريره او الدعوة اليه ، بغض النظر عن صلاحيته او عقلانيته .
واذا اخذنا بعين الاعتبار حقيقة ان الارادة الجمعية في المجتمع العربي ، مكثفة ـ واقعيا ـ في قناعات وقيم  تعيش على اعادة انتاج مبررات الواقع القائم ، أو اعادة انتاج المبررات التاريخية التي صنعت هذا الواقع المرير ،  فان التوافق المطلوب من المثقف ليس ـ في حقيقة الامر ـ سوى التوقف عن دوره النقدي والتنويري ، والانصراف الى دور التـبرير او الدعاية لما هو قائم ، اي التخلي عن المساهمـة في صناعة المستقبل .
لهذه الاسباب فان مطالبة الكاتب الالتزام بوحي ضميره عندما يكتب ، تبدو عسيرة الاستجابة ، لا لسبب الا صعوبة التعبير الحر في ظرف اجتماعي لايفسح مكانا للراي المختلف ، ولهذا فقد كان ينبغي للاستاذ الصويغ ان يدلنا على سبيل لتحرير الضمير من ضغوط المحيط حتى تكون حياته نافعا ، والا فما الفائدة من حياته ؟ .
نشر في (اليوم) 16 يناير 1995
مقالات  ذات علاقة
-------------------



10/01/1995

قراءة أهـل الشك


يعتبر محمد اركون (1928-2010) واحدا من اكثر المفكرين اثارة للجدل ، بل الغيظ في بعض الاحيان  ، فمنذ اطلالته الاولى على القاريء العربي ، لفت الانظار الى جملة من  القضايا المسكوت عنها في تاريخ الفكر الاسلامي ، وعندما عالجها فقد انطلق من موقع الشك في الفوارق التي تقام عادة للتمييز بين اهل التاريخ واهل الحاضر.

والحقيقة انه بدأ بالتشكيك فيما يعتبره هالة من القداسة ، احيط بها عدد من الاسماء ، من سياسيين او فقهاء او مفكرين ، ممن شاركوا بنشاط في الحياة الثقافية للعالم الاسلامي ، في مراحل صعوده الحضاري ، فبدأ بنقد اعمالهم ، وانتهى الى التشكيك في سلامة مواقعهم ، ضمن التسلسل المتعارف عليه لتاريخ الفكر .
لذلك فان عددا كبيرا من القراء سيصاب بالدهشة ، حينما يقرأ مطالعاته في التراث الثقافي الاسلامي ، ولابد ان بعض هؤلاء سيصاب بالضيق ، للجرأة الشديدة التي تميز قلم اركون ومعالجاته .
اللامفكـر فيـــه
وينطلق محمد اركون في معالجاته القاسية تلك ، من بديهية اقام عليها كثيرا من تنظيراته ، فحواها ان الفكر الذي ورثناه من اسلافنا ، قد كتب على يد فريق اجتماعي محدد ، لايمثل بالضرورة  كامل شرائح المجتمع الاسلامي ، وبالتالي فانه لايعكس الصورة الكاملة للحياة الثقافية والاجتماعية للمسلمين في عصورهم السابقة ، بل ثمة جانب يعتبره شديد الاهمية من التراث الاسلامي بقي مغفلا وممنوعا من الانتشار ، فلم يصلنا من بحره الا قطرات ، تكشف دراستها عن ملامح الوجه الآخر للحياة والثقافة ، التي نطلق عليها عنوانا اجماليا ، هو التراث الاسلامي .
ولهذا السبب فانه يلح على الضرورة العاجلة لدراسة مايسميه (اللامفكر فيه) في التراث الاسلامي ، ويعتبر نجاحه في تسليط الاضواء على هذا الجانب ، وتشخيصه وتشجيع الاخرين على تناوله ، رهان حياته الفكرية الرئيس .
 ويعتمد اركون في مقارباته على اثارة الاسئلة ، وفصل التفسيرات والشروح التي تشكلت حول النص الديني ، عن تدعيماتها النصية الجانبية ، التي تمنحها ـ حسب رأيه ـ حالة التعالي والتجرد ، كما يوجه النقد الى التاريخ الخطي للافكار ، باعتباره يعكس راي الطبقة المدنية من اصحاب الفكر وحسب .
منــهج غــربي
 وقد تعرض منهجه في قراءة التاريخ والثقافة ، لنقد شديد من جانب مفكرين ، شعروا بالقلق ، من ان محاولاته النقدية تستبطن رغبة في تهميش ، بل تحطيم قواعد قام عليها التفكير الاسلامي ، استنادا الى موازين فلسفية او منهجية ، تنتمي الى المجال المعرفي الغربي ، المادي التاسيس وغير المحايد فيما يتعلق بالاسلام كعقيدة ومنظومة قيم ، والامة الاسلامية ككيان وتجربة تاريخية .

ولايخفي اركون في اي من كتاباته المنشورة في اللغة العربية ، اعتقاده الراسخ بان الارث الثقافي للامة الاسلامية ، بحاجة الى دراسة جديدة ، تتناول خصوصا اعادة تقييم ماوصل الينا ، وماجرى تصنيفه خلال الازمنة الماضية ، من التاريخ الاسلامي ، في دائرة الثابت الفكري او الاعتقادي ، اوفي دائرة المتغير العلمي والتطبيقي .
ويعتقد انه لانجاز هذه الدراسة ، فاننا بحاجة الى استثمار مكثف للمنهجيات العلمية في نقد المعرفة ، التي تطورت في الغرب ، باعتبارها مناهج بحث ذات صفة علمية انسانية محضة ، نافيا المضمون الايديولوجي الذي يُـدّعَى انها تنطوي عليه .
استشراق جديد
ويقول ناقدو اركون انه منهجه ليس سوى تجديد لمدرسة الاستشراق ، التي درست الاسلام من منظورات غربية ، وخرجت بصور مشوهة عن الحقائق الاسلامية .
وبدروه فان محمد اركون يعطي قيمة كبيرة على المستوى الفكري لجهود عديد من الغربيين الذين درسوا الفكر الاسلامي ، ويظهر في ثنايا ابحاثه ثناء متكرر على كشوفاتهم ، التي لم يستطعها نظراؤهم المسلمون ، لسبب يتعلق بالمسار التاريخي ، الذي تشكل خلاله مايصفه بالعقل الكلاسيكي الاسلامي ، الذي تأسس ضمن مركبات بعضها عقلاني اولي وبعضها متعال ، مقدس او غيبي .
لكنه من ناحية ثانية يوجه نقدا شديدا ، الى طائفة من المستشرقين والدارسين الاجانب ، الذين رضوا باعتماد الفكر المتشكل بعد تفسير النص ، باعتباره مصدرا اصليا لدراسة الاسلام ، وهو يرى ان هذا الفكر قد ادى الى تشكيل خاص لمعاني النص ، وانعكاساته الفلسفية وتطبيقاته ، تكوّن مايمكن اعتباره ايديولوجية مجتمعية مستقلة عن النص (الاصل) ، وهو يرى في هذا المنهج الذي يدعي الامانة العلمية بالاعتماد على تلك المصادر ،  ممارسة سطحية في البحث.

اسئلة تلد اسئلة
ويكاد القارىء المتامل لابحاث الاستاذ اركون ، يشكك احيانا في قدرته على تقديم بديل معقول عن المنهجيات التي يتناولها بالنقد ، ذلك ان المطبوع من ابحاثه يبدو كما لو كان تحويما لاينقطع ، حول عدد كبير من القضايا الفكرية والمنهجية ، التي يتناول كلا منها بالنقد الشديد ، وهو يدعم بعض نقده بتدليلات كافية ، ويترك البعض الاخر دون الحد الادنى الضروري من الاستدلال .
وربما ادى افراطه في حشد القضايا التي يطرحها للمعالجة ، سواء تلك التي يستهدفها بصورة رئيسية ، او تلك التي يستشهد بها استطرادا ، الى قصر قرائه على عدد قليل من المحترفين واهل الاختصاص ، وهؤلاء بدورهم لايجدون لديه الا القليل من الكشوفات الجديدة ذات القيمة الرفيعة .
 لكن الذي لايمكن انكاره ، ان محمد اركون واحد من تلك الطبقة من الباحثين ، الذين يضطرون قارئهم الى التامل العميق في مايكتبون ، فما يثيره من الاسئلة  اكثر مما يجيب عنه ، وتلك لعمري ميزة لايتمتع بها سوى قليل من الكتاب ، يشعر القاريء انه ـ وهو معهم ـ رفيق للمعاناة والالم لحظة الشك ولحظة الكشف ، المعاناة التي يظن بها كل رفيق للفكر أو محب .
اليوم 10 يناير 1995




02/01/1995

الفكــرة وزمن الفكـرة



||التراث الاسلامي – عدا النص القرآني والنبوي – مستخلص نظري لمراحل زمنية محددة. ومرجعيته بالنسبة لنا مرجعية احتجاج لامرجعية اثبات وحسم||
تزيد قائمة الابحاث والكتب التي اصدرها المفكر المعروف د. محمد عمارة عن الخمسين كتابا ، تدور بمجملها حول محور واحد ، هو اعادة تقديم التراث الفكري الاسلامي ، وتحليل تاريخ المعرفة بما يؤدي الى استنباط منهج جديد ، تقوم على اساسه ثقافة متواصلة مع اصولها ومنسجمة مع العصر .
المرحوم د. محمد عمارة

ينطلق عمارة في ابحاثه ، من ايمان شديد باهمية المحافظة على التراث الفكري للامة الاسلامية ، واهمية وضعه على طاولة النقد والتحليل في آن ، وهذا مايميزه عن عدد بارز من الباحثين العرب الآخرين ، الذين ينطلقون من التشكيك في جدوى اكثر ماوصل الينا من تراث وافكار ، كما هو حال المفكر الجزائري الأصل الاستاذ محمد اركون ، ويمثل كلا الباحثين ـ عمارة واركون ـ نموذجا لمدرسة تتبنى الدعوة الى اصلاح الثقافة السائدة في العالم الاسلامي ، واعادة وصل ما انقطع بينها وبين المسلم المعاصر ، مع ان الفرق في طريقة التعاطي واغراضه الفورية بين الرجلين يبدو شاسعا .
دعوة قديمة
والحقيقة ان الدعوة الى مناقشة ونقد الثقافة المتداولة ، لم تكن مقتصرة في اي وقت من الاوقات ، على تيار بعينه او عدد محدد من المفكرين على وجه الخصوص ، لكن معظم الذين تبنوا هذه الدعوة فشلوا في الصمود امام جاذبية المتبنيات الخاصة بكل منهم ، فتحولوا من التحليل الموضوعي المفترض في الباحث ، الى تجميع الادلة  على سلامة متبنياتهم أو ممارساتهم الخاصة على المستوى الفكري او الاجتماعي ، اما  الممارسة الفعلية للنقد والتحليل بغرض الوصول الى منهج منطقي في تقييم الثقافة ، فلم تحظ الا بالقليل من العمل والقليل من العاملين .
ومع النهوض الفكري الذي تبدو تباشيره قوية في افق العالم الاسلامي ، فان الدعوة الى دراسة جديدة للتراث الاسلامي تحظى باهتمام متزايد ، بالنظر الى شعور متفاقم بضرورة الخروج من قمقم الغربة عن الاصول الثقافية للامة ، القمقم الذي يتساوى فيه الاستسلام المطلق للتاريخ ، والهروب العشوائي عن الذات الى ثقافة الاخرين .
قواعد البحث
ولانجاز دراسة مثمرة للتراث الاسلامي ، دراسة تستهدف استثمار مافيه من كنوز ثقافية ، فان الحاجة تدعو الى الاتفاق على قواعد في التحليل يتبعها الباحثون في دراستهم للموروث الثقافي والتجربة التاريخية للامة ، لضمان الوصول الى نتائج معقولة بدلا من اعادة السرد ، الذي كان طابع الاعمال البحثية في هذا الحقل لوقت طويل .
 من بين تلك القواعد نذكر بصورة خاصة تأكيد اقتران النتاج الفكري لمسلمي العصور السالفة بظرفه التاريخي ، بحيث يصبح تجريده عن هذا الظرف مخلا بموقعه ضمن المنظومة الفكرية المتكاملة ، ويقتضي هذا ملاحظة العلاقة الوثيقة بين الفكرة وزمنها ، وموقعهما معا ضمن التجربة التاريخية للامة.
بناء على هذا الاساس فانه ينبغي النظر الى الموروث الفكري ـ باستثناء النص القرآني والنبوي ـ باعتباره المستخلص النظري لمرحلة ، او عدد من المراحل من التاريخ العام للامة الاسلامية ، وبالتالي فان مرجعيته بالنسبة الى فكر المراحل التاريخية اللاحقة ، محددة بكونها مرجعية احتجاج لامرجعية برهنة .
ان اقرار هذه القاعدة يعتبر انجازا كبير الاهمية ، في دراسة تاريخ الفكر الاسلامي ، من شأنها ان تساعد على حل اشكالية العلاقة بين الماضي والحاضر ، سيما على مستوى علاقة التاريخ بقيمة الفكرة ، وبالنسبة للمسلمين فان الرداء التاريخي للفكرة ، يلعب دورا فعالا في تحديد قيمتها عند العرض ،  خلاف ماهو متعارف في العالم ، من اعتبار حداثة الفكرة عنصرا اضافيا في قيمتها .
حاكمية الماضي
جوهر المشكلة التي تعالجها هذه القاعدة ، هي مانسميه (الاجماع) والذي تمدد من اصول الفقه الى معظم العلوم ، وفحواه ان اجماع علماء الامة في عصر من العصور على حكم معين في مسألة ، يجعله حاكما على الاجتهادات الاخرى اللاحقة ، الا اذا ثبت بطلان واحد من مباني ذلك الاجماع ، وقد تمدد هذا التصوير بحيث اصبح التوافق على رأي او اشتهاره ، بل وحتى السكوت عن مخالفته في بعض الاحيان ، منتجا للنتيجة ذاتها ، الامر الذي جعل المفكرين في الازمان اللاحقة ، في حرج من مناقشة ماسبق نقاشه في العهود الماضية .
ويبدو ان هذه المشكلة قد واجهت علماء المسلمين منذ ازمان بعيدة ، وحينها لم يجدوا بدا من ابتكار حل لمشكلة العلاقة بين زمنهم وازمان اسلافهم ، فحواه تقسيم الازمنة الثقافية الى قرون مفضلة واخرى دونها في الفضل ، بناء على مايروى من المأثور النبوي (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) والذي جرى تفسيره بان الغطاء التاريخي الذي يضيف الى قيمة الفكرة ، ينسحب متدرجا من عصر الصحابة الى عصر التابعين ، ثم تابعي التابعين فحسب ، ومع ان هذا الحل المبتكر لايعالج المشكلة تماما ، الا انه وفر لهم مخرجا مناسبا في ذلك الوقت .
مخرج حرج
وفي الوقت الحاضر يشدد عدد من الباحثين على اتباع ذات المنهج ، اي التمييز بين القرون المفضلة وسواها ، ان القبول بهذا المنهج مبرر بأن اقرب القرون الى عصر النبوة هم الاكثر قربا ومعايشة لظرف النص الديني ، وبالتالي شروطه وابعاده اي الاقدر فهما لجوهره ، لكن جرى تمديد هذا التصوير ليغطي معظم ماحدث في تلك الازمنة بغض النظر عن علاقتها بموضوع النص ، فشمل تقييم الاشخاص والافكار والتجارب .
ونتج عن هذا التمديد مانراه من تناقض محرج في قراءتنا للتاريخ الاسلامي ، أدت في حالات كثيرة الى اعتبار الصحة في القول ونقيضه ، واسباغ العصمة على القتيل وقاتله ، واعتبار مجموع ماحدث اجتهادات مبررة ، تمنع اللاحقين من اعادة تقييمها او مناقشة مبانيها ، خوفا من خرق حجاب العصمة الذي اسبغناه ـ اجتهادا ـ على من سلف .
ان التامل في هذا الموضوع ومناقشته تعتبر جوهرية ، اذا ما اخذنا بعين الاعتبار المستخلصات النظرية التي ترتبت على تلك التجارب ، وموقع هذه المستخلصات من مجمل التجربة التاريخية الاسلامية ، ثم وعلى وجه الخصوص من محاولاتنا الفكرية المعاصرة ، بمعنى آخر فان تلك مستخلصات تلك التجارب قد تجردت من ظرفها التاريخي الخاص ، واصبحت جزءا من المنظومة الثقافية التي ورثناها عن الاسلاف ، فاذا واصلنا تقييمها باعتبارها حاكمة على غيرها ـ بالنظر الى القيمة الاضافية المفترضة لزمنها ـ فسنجد انفسنا في مواجهة تناقض حقيقي مع الاسس النظرية التي يقوم عليها الشرع المطهر ، او مع القواعد العقلية التي تسالم عليها عقلاء كل الازمان .
ان المخرج من هذا التناقض هو تطبيق ميزان نقدي واحد على مختلف جوانب التجربة التاريخية ، والتاكيد على اقتران الفكرة بظرفها التاريخي ، الذي يساعد فهمه في تقييمها واستبيان المسافة بينها وبين ماهو بديهي عقلا ، او  ثابت شرعا .
نشر في (اليوم) 2 يناير 1995
مقالات ذات صلة




26/12/1994

الـدين والمعـرفة الدينـية

اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى ضرورة التفريق بين الدين (النص الديني) من جهة والمعارف الدينية والعلوم التي تسمى اسلامية من جهة اخرى ، وكان الغرض هو الدعوة الى منهج لقراءة التراث الاسلامي قراءة علمية تؤكد على اصالة النص واوليته ، لكن هذا التفريق لم يرض بعض الزملاء الذين اشاروا الى ان هذا الفصل ينطوي على قدر من التعسف.
الراي شخصي والحقائق الخارجية موضوعية
طريق العلم وقيمته
العلم هو النتائج الظنية او القطعية التي يتوصل اليها البحث والتحليل في موضوع معين نظري أو عملي ، بحيث يستغني العارفون به عن اعادة التجريب والتحليل ، في وقت معين ، وهذا التحديد اشارة الى وثيق الارتباط بين العلم والزمن ، اذ ان تطور الزمن قد يكشف عناصر جديدة ذات صلة بموضوعه ،لم يجر اخذها بعين الاعتبار في التجارب السابقة ، مما يمكن من اعادة التحليل على اسس امتن ، ويوفر الفرصة للتوصل الى نتائج اكثر صمودا عند النزاع .
والتحليل هو اصطناع علاقة بين عناصر اولية هي المعلومات ، بالاعتماد على امكانية مفترضة للتفاعل فيما بينها ، تتوفر في اطار منهج تحليل خاص يقدمه الباحث كمسار واطار لعمله العلمي ، فالمعلومات سابقة على العلم ، ويؤثر وجودها ـ قلة أو كثرة ـ على مستوى العلم الناتج عن التحليل ، ان توفر المعلومات او ندرتها ، تابع لمستوى مايوفره المجتمع من بيئة مناسبة للعمل العلمي ،  ولاسيما الاعتبار الاجتماعي للنشطين في هذا المجال ، ومدى تمتعهم بحرية البحث والتجريب ، ثم التعبير عن النتائج .
حاجات البيئة
وبديهي ان الاعتبار الاجتماعي للعلم والعلماء ، انما تقرر لكون الجهد العلمي واحدا من الوسائل التي يستخدمها المجتمع في انجاز حاجاته ، فالتقدم والرفاهية والقوة لاتاتي الا بتطبيق القواعد والارشادات العلمية ، ولم يحصل في اي ظرف ان تقدم مجتمع من المجتمعات ، دون الاتكال على قواعد العلم وارشاداته .
ومن هذه الزاوية خصوصا ، يمكن استنتاج ان العلم ليس ـ في اغلب الاحيان ـ محايدا ، ان ارتباطه بحاجات المجتمع الذي ينتج فيه ، يجعله خاضعا او ـ على الاقل ـ متأثرا بايديولوجية المجتمع ، بل ربما اصبح العلم في حالات معينة جهازا لصناعة الايديولوجيا المجتمعية ، اذ يحتاج مجتمع معين في وقت من الاوقات ، للاخذ بسلوك جديد او التخلي عن سلوك سائد ، خلافا لمقولات النظام القيمي الخاص به ، وهذا مايحصل ـ عادة ـ في اوقات الشدة أو ظروف التحول الاجتماعي ، فيقوم اهل العلم بوضع قاعدة نظرية لتبرير هذه الحاجة ، ومستلزماتها العملية ، بحيث يجري احلال السلوكيات الجديدة ضمن النظام القيمي للمجتمع كامتداد له ، حتى لو لم تكن كذلك في الاصل ، فيتاح للفرد ان يقوم بالعمل الذي لم يكن معتادا او مصنفا كأحد الافعال الصحيحة ، دون ان يشعر بتأنيب الضمير أو يتعرض لنقد اقرانه في المجتمع ، وقد يستعمل هذا المنهج التبريري لتسهيل انفلات المجتمع ، او القوى الفاعلة فيه ، من النظام القيمي الضابط للسلوك والعلاقات الاجتماعية .
الشيء ونقيضه
 ولايصعب العثور على الكثير من المفارقات المثيرة للدهشة في تاريخنا ، والتي انما وجدت في ظرف كالذي ذكرناه ، كما ان الامم الاوربية ابتدعت مقولة رسالة التنوير ، التي يحملها الجنس الابيض للعالم ، كمبرر لاستعمار البلدان والشعوب الملونة ، التي وصفت بانها في حاجة الى من يهديها طريق التقدم الذي اكتشفه الاوربيون دون غيرهم ، وذلك للخلاص من مشكل التناقض بين دعوة التحرر التي شاعت في اوربا قبيل الحقبة الاستعمارية ، وبين ارادة الاستعمار الذي تبرره  عوامل اقتصادية واستراتيجية ، فاستعمال العلم لتسويغ الاغراض الاجتماعية المؤقتة أمر متعارف ، ولولا هذه الامكانية ربما لم يشعر الناس بحاجة ماسة الى تقدير العلم والعلماء وتقديمهم على من سواهم .
وعلى هذا فمن البديهي القول ان العمل العلمي وماينتج عنه ، غير محايد ولاموضوعي ، في اغلب الحالات ، بمعنى ارتباطه بالمعلومات المفترض حيادها ، دون تاثر بالظرف الاجتماعي الذي يعايشه .
ــ اذا لم يكن العلم محايدا  فهل يمكن القول ان المعلومات محايدة ؟ .
ــ ربما ولكن ليس على الدوام ، فالعناصر التي يجري تحليلها ضمن عملية علمية ، تتضمن ملاحظات مباشرة لوقائع ، اضافة الى نتائج لتجارب أخرى سابقة ، وهي موصوفة بما سبق ذكره ، كما ان تجميع العناصر المشتركة في التحليل ، هو في حقيقته تقرير لموقعها ضمن هذا السياق او ذاك ، وهو يتأثر بخلفية الباحث التي لايمكن ان تكون محايدة ، بالنظر لكونه جزءا من مجتمع له ايديولوجية خاصة أو نظام قيم خاص ، وليس شجرة معزولة في صحراء .
الـــدين
اما الـدين فهو مجموع الحقائـق التي علمها الله سبحانه لخلقه ، على لسان نبيه ، لتمكينهم من حمل الامانة العظمى ، وهي خلافته في الارض  ، ويتضمن قواعد لنظم علاقة الانسان بربه ، وأخرى لنظم علاقته بمن سواه من البشر ، وثالثة لنظم علاقته بالكون المادي المحيط به ، والحقائق الدينية يقينيات ليس فيها جدل ، في صحتها او صلاحيتها ، اذ انها تأتي من عند خالق الكون ، العالم بكل مافيه وكل مايصلحه .
وفي هذه النقطة يختلف الدين عن العلم ، فبينما الدين كامل وحقائقه نهائية ، كما اخبرنا الله سبحانه {اليوم اكملت لكم دينكم } فان العلم لايكتمل ، بل هو في حال تطور لايتوقف ، وكل مرحلة من مراحله تكشف قصور سابقتها .
 العلم الذي نعنيه هو بطبيعة الحال علم البشر ، فعلم الله مطلق وكامل ويقيني ، وهو مالا يستطيعه بشر ايا كان .
المعرفة الدينية
ولذلك ميز علماء المسلمين بين ارادة الله للاشياء ، وقدرة عباده على ادراك تلك الارادة ، وقالوا بوجود عالمين للحكم الشرعي ، اعلاهما عالم التكوين حيث ان لله في كل واقعة حكما ، مطابقا للواقع على وجه اليقين ، وأدناهما عالم التشريع حيث يسعى اهل العلم لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره ، بالاعتماد على ادوات الاستنباط المعروفة ، وهم مع بذل كامل جهدهم لبلوغ الحقيقة ، لايستطيعون القطع بان ماتوصلوا اليه هو عين مراد الخالق سبحانه ، او انه مطابق للواقع على وجه اليقين ، ولذلك عرف بعض الاصوليين الفقه بانه الظن الغالب ، أو القطع بحسب الطاقة العقلية للبشر غير المعصوم ، وهي محدودة على اي حال .
ومن مظاهر القصور في علم البشر ، اختلاف فهمهم للدين وحقائقه ، فالذي وصل الينا على لسان النبي (ص) يتضمن ماهو واضح لايحتاج الى مزيد بيان ، كما يتضمن مالايعرف كنهه غير الراسخين في العلم ، وهو اذن بحاجة الى تفسير وتبيين ، ان اختلاف الناس في فهم مقاصد النص الديني ، هو احد اللوازم القهرية لاختلاف العقول ، وتباين مقادير العلم بين اهل العلم ، وهذا الاختلاف هو الذي جعل العلم ضرورة لفهم الشرع . كما يوضح هذا مكان العلم بالنسبة الى الدين ، فهو يفسره ويبين غوامضه ويفصل مجملاته ، كما يشخص موارد تطبيق كل حكم من أحكامه ، وبقدر مايتطور العلم ترتقي قدرتنا على فهم الدين .
ومنذ البعثة النبوية كان تطور العلوم في مجالاتها المختلفة ، سبيلا للكشف عن حقائق في الدين او سنن الحياة ونظام الكون ، اشير اليها مجملة في النص القرآني او النبوي ، ولم يتح مستوى العلم في ازمان سابقة استيعابها او معرفة تطبيقاتها .
ومن هذا يتضح ان فهم البشر لحقائق الدين رهين بمقدار معارفهم ، ويبقى هذا الفهم قاصرا ، بقدر ما العلم قاصر ، ان قصور العلم هو الاساس في تطوره ، والاعتقاد بهذا القصور هو الدافع الى البحث عن مجهولاته والتعرف على المزيد من دقائقه ، وهو السر في حركته الدائمة نحو الكمال الذي لايبلغه .
نشر في (اليوم) 24 رجب 1415 (26/12/1994)

 مقالات ذات علاقة

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...