||مطالبة الكاتب الالتزام باملاءات ضميره حين
يكتب ، تبدو عسيرة الاستجابة ، والسبب هو صعوبة التعبير الحر في ظرف اجتماعي
لايفسح مكانا للراي المختلف||
يلح
الاستاذ محمد الصويغ على ان يكون ضمير الكاتب حيا وموجها لكتاباته ، ويقرر في
مقاله المنشور بهذه الجريدة يوم الاحد الاسبق ،
استحالة ان ينجز الكاتب الدور التنويري المفترض له ، اذا كان ضميره غائبا
ساعة يمتطي صهوة القلم .
ويبدو
لي ان القضية بمجملها ليست مورد خلاف من جانب اي كان ، فلن تجد احدا في شرق الارض
وغربها ، يعترف بانه يكتب عكس مايمليه عليه ضميره .
القضية
التي يختلف عليها الجميع هي ماهية هذا الضمير ، الذي يملي على الكاتب مايكتب ، فهل
يوجد ياترى ضمير متجرد عن اي مؤثر خارجي ، واذا تاثر ضمير الكاتب بما حوله من
المؤثرات ، فهل سيكون موضوعيا في كتابته ، متجردا في دعوته عن جواذب المصلحة او
خوف الضرر ؟
.
ويقول
الاستاذ الصويغ ان قلم الكاتب مرآة لمجتمعه ، فهو يلخص مايجري فيه ويعيد تصويره
ضمن لوحة واحدة ، يشخص عبرها واقعه ، بايجابياته وسلبياته ، والذي كنت اعلم حتى هذه اللحظة ان المرآة هي
جزء من مهمة الكاتب ، اما الجزء الاهم فهو
تركيز الضوء على الايجابيات ، والدعوة لمعالجة السلبيات ، ونقد التقصير والغفلة
، فاذا تقاعس عن هذا الدور فقد أخل
بمسئوليته وقصر في اداء واجبه الاجتماعي .
حدود
التصريح
لكن
المجتمع ليس محايدا تجاه الممارسة الثقافية ، فلا يكفي ان تكون الفكرة التي يعرضها
ا لكاتب صحيحة ، حتى يتلقاها المجتمع بالقبول ، بل اظن ان كثيرا من الكتاب يبذلون
جهدا في اعداد الصيغة التي يعرضون بها افكارهم ، يزيد عن الجهد الذي يصرفونه في
التوصل الى الفكرة نفسها والاستدلال عليها ، وليس ذلك الا لكون المجتمع شديد
الحساسية تجاه مايكتب ومايقال في العلن ، سيما اذا تضمن نقدا لواقع قائم ، او
ممارسة متعارف عليها ، او تفكيرا يرتاح اليه اكثر الناس .
ان
اكثر الكتاب ـ لاسيما في المجتمعات الاقل حداثة ـ مضطرون للالتزام بالضوابط التي
يحددها المجتمع للعمل الثقافي ، وهي ضوابط تقوم على تسلسل للقيم والاعراف ، لا
يتضمن اقرارا مسبقا بحق النقد ، او الاعتراض العلني على الاخطاء .
ترى
هل يمكن للكاتب ان يمارس دوره التنويري في ظل هذه الضوابط ، وهل يمكن ان يكون
ضميره حاكما مطلقا على نتاجه ، فيما هو مضطر للالتزام بما يراد له ومالا يراد ؟ .
ان
الاجابة على هذا السؤال تبدو ضرورية ، في التمهيد لاي حديث حول واجبات المثقفين ،
وتزداد اهمية الاجابة ، عند الاخذ بعين الاعتبار تطبيق الفكرة في مجتمع كالمجتمع
العربي ، الذي لايزال في مرحلة التاسيس الفكري لنسق حياته ، وعلاقاته الداخلية ،
ونظام القيم الذي يؤطر محاولاته للحاق بركب العصر .
الاعتراض
وتكاليفه
في
مثل هذا الظرف يجد المثقف نفسه حاملا للسلم بالعرض كما يقولون ، ناقدا لما هو قائم
حتى لو تعارف عليه اكثر الناس ، وداعيا لظرف جديد مختلف ، لم يتعرف عليه او يتكيف
معه الا القليل من الناس ، وهو دور يضعه في مواجهة التيار الاجتماعي السائد ،
مختلفا مع الاغلبية الغالبة التي تستريح الى (حشر مع الناس عيد) انه جدل بين تطلع
اجتماعي يستند الى تبرير ثقافي مقترح ، يقاومه واقع اجتماعي يبرره نظام ثقافي
، قادر على اعادة انتاج نفسه في صور جديدة .
وبسبب
هذا الجدل فقد تعرض المثقفون في معظم الاحوال للاضطهاد او التهميش ، واصبح
اعتياديا ان نجد النخبة المثقفة العربية ، مضطرة لاتخاذ موقع التابع بل اللاهث ،
وراء النخب الاخرى ، النخب القديمة ، او النخب الحديثة التي مالت ـ بعد استقوائها
ـ الى التماهي مع سابقتها ، والسير على نهجها في العمل الاجتماعي ، وفي بعض
الحالات حيث رفض المثقفون هذا الموقع الذليل ، فقد كان مصيرهم العزل ، او الانفصال
عن حركة المجتمع.
يمكن
بطبيعة الحال العثور على طريقة للمواءمة بين العمل الثقافي ومقتضيات الواقع ،
عندما يتخلى المثقف عن الدور التنويري والريادي المفترض له ، ويكرس جهده الفكري
للجوانب التي لاتستثير حساسية المجتمع ولا تصادم متبنياته ، وفي عالم الفكر الكثير
من القضايا التي يمكن طرقها دون ان تقلق منام المستريحين على وسادة (ليس في
الامكان ابدع مما كان) ، وهي ـ بالتالي ـ تلبي شعور المثقف بالحاجة الى الاستمرار
في العمل دون مواجهة المواقف الحرجة والصعبة .
المعاني
المتعارضة للالتزام
يستند المثقفون في دعاواهم على فرضية
(الالتزام الاجتماعي) بمعنى ان المثقف ـ باعتباره اقدر اعضاء المجتمع على
تحديد مواقع الخطأ والصواب ـ مكلف بدعـوة الناس الى القيـم والافكار ، التي يقدر
انها اكثر تقدما مما هو سائد ، ومن ممارسته لهذا الدور يحصل على الاعتبار
الاجتماعي المدعى لاهل العلم .
ولسوء
الحظ فان مقولة الالتزام هذه ، هي نفس
المبرر الذي ترفعه القوى الاخرى التي تصارعهم ، ان التبرير الدائم لاضطهاد
المثقفين ، هو خروجهم على النسق الثقافي الذي يقوم عليه هيكل العلاقات الاجتماعية
، او دعوتهم للخروج عليه ، هكذا وبهذا المبرر عومل المثقفون في معظم البلاد
الاشتراكية السابقة ، كما في اكثر الدول العربية والاسلامية التي نحت هذا المنحى .
ان
جوهر مقولة الالتزام في جانب المثقفين هو التعارض مع الراهن ، بينما هو على النقيض
في الجانب الاخر ، حيث جوهرها هو التوافق ، الذي يعني في بعض المراحل الاستسلام
لما هو قائم ، وفي بعض الاحيان تبريره او الدعوة اليه ، بغض النظر عن صلاحيته او
عقلانيته
.
واذا
اخذنا بعين الاعتبار حقيقة ان الارادة الجمعية في المجتمع العربي ، مكثفة ـ واقعيا
ـ في قناعات وقيم تعيش على اعادة انتاج
مبررات الواقع القائم ، أو اعادة انتاج المبررات التاريخية التي صنعت هذا الواقع
المرير ، فان التوافق المطلوب من المثقف
ليس ـ في حقيقة الامر ـ سوى التوقف عن دوره النقدي والتنويري ، والانصراف الى دور
التـبرير او الدعاية لما هو قائم ، اي التخلي عن المساهمـة في صناعة المستقبل .
لهذه
الاسباب فان مطالبة الكاتب الالتزام بوحي ضميره عندما يكتب ، تبدو عسيرة الاستجابة
، لا لسبب الا صعوبة التعبير الحر في ظرف اجتماعي لايفسح مكانا للراي المختلف ،
ولهذا فقد كان ينبغي للاستاذ الصويغ ان يدلنا على سبيل لتحرير الضمير من ضغوط
المحيط حتى تكون حياته نافعا ، والا فما الفائدة من حياته ؟ .
نشر
في (اليوم) 16 يناير 1995
مقالات ذات علاقة
-------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق