16/01/1995

ضمــير الكاتب ؟ ... أي ضمــــير ؟



||مطالبة الكاتب الالتزام باملاءات ضميره حين يكتب ، تبدو عسيرة الاستجابة ، والسبب هو صعوبة التعبير الحر في ظرف اجتماعي لايفسح مكانا للراي المختلف||
يلح الاستاذ محمد الصويغ على ان يكون ضمير الكاتب حيا وموجها لكتاباته ، ويقرر في مقاله المنشور بهذه الجريدة يوم الاحد الاسبق ،  استحالة ان ينجز الكاتب الدور التنويري المفترض له ، اذا كان ضميره غائبا ساعة يمتطي صهوة القلم .

ويبدو لي ان القضية بمجملها ليست مورد خلاف من جانب اي كان ، فلن تجد احدا في شرق الارض وغربها ، يعترف بانه يكتب عكس مايمليه عليه ضميره .
القضية التي يختلف عليها الجميع هي ماهية هذا الضمير ، الذي يملي على الكاتب مايكتب ، فهل يوجد ياترى ضمير متجرد عن اي مؤثر خارجي ، واذا تاثر ضمير الكاتب بما حوله من المؤثرات ، فهل سيكون موضوعيا في كتابته ، متجردا في دعوته عن جواذب المصلحة او خوف الضرر ؟ .
ويقول الاستاذ الصويغ ان قلم الكاتب مرآة لمجتمعه ، فهو يلخص مايجري فيه ويعيد تصويره ضمن لوحة واحدة ، يشخص عبرها واقعه ، بايجابياته وسلبياته ،  والذي كنت اعلم حتى هذه اللحظة ان المرآة هي جزء من مهمة الكاتب ، اما الجزء الاهم  فهو تركيز الضوء على الايجابيات ، والدعوة لمعالجة السلبيات ، ونقد التقصير والغفلة ،  فاذا تقاعس عن هذا الدور فقد أخل بمسئوليته وقصر في اداء واجبه الاجتماعي .
حدود التصريح
لكن المجتمع ليس محايدا تجاه الممارسة الثقافية ، فلا يكفي ان تكون الفكرة التي يعرضها ا لكاتب صحيحة ، حتى يتلقاها المجتمع بالقبول ، بل اظن ان كثيرا من الكتاب يبذلون جهدا في اعداد الصيغة التي يعرضون بها افكارهم ، يزيد عن الجهد الذي يصرفونه في التوصل الى الفكرة نفسها والاستدلال عليها ، وليس ذلك الا لكون المجتمع شديد الحساسية تجاه مايكتب ومايقال في العلن ، سيما اذا تضمن نقدا لواقع قائم ، او ممارسة متعارف عليها ، او تفكيرا يرتاح اليه اكثر الناس .
ان اكثر الكتاب ـ لاسيما في المجتمعات الاقل حداثة ـ مضطرون للالتزام بالضوابط التي يحددها المجتمع للعمل الثقافي ، وهي ضوابط تقوم على تسلسل للقيم والاعراف ، لا يتضمن اقرارا مسبقا بحق النقد ، او الاعتراض العلني على الاخطاء .
ترى هل يمكن للكاتب ان يمارس دوره التنويري في ظل هذه الضوابط ، وهل يمكن ان يكون ضميره حاكما مطلقا على نتاجه ، فيما هو مضطر للالتزام بما يراد له ومالا يراد ؟ .
ان الاجابة على هذا السؤال تبدو ضرورية ، في التمهيد لاي حديث حول واجبات المثقفين ، وتزداد اهمية الاجابة ، عند الاخذ بعين الاعتبار تطبيق الفكرة في مجتمع كالمجتمع العربي ، الذي لايزال في مرحلة التاسيس الفكري لنسق حياته ، وعلاقاته الداخلية ، ونظام القيم الذي يؤطر محاولاته للحاق بركب العصر .
الاعتراض وتكاليفه
في مثل هذا الظرف يجد المثقف نفسه حاملا للسلم بالعرض كما يقولون ، ناقدا لما هو قائم حتى لو تعارف عليه اكثر الناس ، وداعيا لظرف جديد مختلف ، لم يتعرف عليه او يتكيف معه الا القليل من الناس ، وهو دور يضعه في مواجهة التيار الاجتماعي السائد ، مختلفا مع الاغلبية الغالبة التي تستريح الى (حشر مع الناس عيد) انه جدل بين تطلع اجتماعي يستند الى تبرير ثقافي مقترح ، يقاومه واقع اجتماعي يبرره نظام ثقافي ،  قادر على اعادة انتاج نفسه في صور جديدة .
وبسبب هذا الجدل فقد تعرض المثقفون في معظم الاحوال للاضطهاد او التهميش ، واصبح اعتياديا ان نجد النخبة المثقفة العربية ، مضطرة لاتخاذ موقع التابع بل اللاهث ، وراء النخب الاخرى ، النخب القديمة ، او النخب الحديثة التي مالت ـ بعد استقوائها ـ الى التماهي مع سابقتها ، والسير على نهجها في العمل الاجتماعي ، وفي بعض الحالات حيث رفض المثقفون هذا الموقع الذليل ، فقد كان مصيرهم العزل ، او الانفصال عن حركة المجتمع.
يمكن بطبيعة الحال العثور على طريقة للمواءمة بين العمل الثقافي ومقتضيات الواقع ، عندما يتخلى المثقف عن الدور التنويري والريادي المفترض له ، ويكرس جهده الفكري للجوانب التي لاتستثير حساسية المجتمع ولا تصادم متبنياته ، وفي عالم الفكر الكثير من القضايا التي يمكن طرقها دون ان تقلق منام المستريحين على وسادة (ليس في الامكان ابدع مما كان) ، وهي ـ بالتالي ـ تلبي شعور المثقف بالحاجة الى الاستمرار في العمل دون مواجهة المواقف الحرجة والصعبة .
المعاني المتعارضة للالتزام
 يستند المثقفون في دعاواهم على فرضية (الالتزام الاجتماعي)  بمعنى  ان المثقف ـ باعتباره اقدر اعضاء المجتمع على تحديد مواقع الخطأ والصواب ـ مكلف بدعـوة الناس الى القيـم والافكار ، التي يقدر انها اكثر تقدما مما هو سائد ، ومن ممارسته لهذا الدور يحصل على الاعتبار الاجتماعي المدعى لاهل العلم .
ولسوء الحظ فان مقولة الالتزام هذه ،  هي نفس المبرر الذي ترفعه القوى الاخرى التي تصارعهم ، ان التبرير الدائم لاضطهاد المثقفين ، هو خروجهم على النسق الثقافي الذي يقوم عليه هيكل العلاقات الاجتماعية ، او دعوتهم للخروج عليه ، هكذا وبهذا المبرر عومل المثقفون في معظم البلاد الاشتراكية السابقة ، كما في اكثر الدول العربية والاسلامية التي نحت هذا المنحى .
ان جوهر مقولة الالتزام في جانب المثقفين هو التعارض مع الراهن ، بينما هو على النقيض في الجانب الاخر ، حيث جوهرها هو التوافق ، الذي يعني في بعض المراحل الاستسلام لما هو قائم ، وفي بعض الاحيان تبريره او الدعوة اليه ، بغض النظر عن صلاحيته او عقلانيته .
واذا اخذنا بعين الاعتبار حقيقة ان الارادة الجمعية في المجتمع العربي ، مكثفة ـ واقعيا ـ في قناعات وقيم  تعيش على اعادة انتاج مبررات الواقع القائم ، أو اعادة انتاج المبررات التاريخية التي صنعت هذا الواقع المرير ،  فان التوافق المطلوب من المثقف ليس ـ في حقيقة الامر ـ سوى التوقف عن دوره النقدي والتنويري ، والانصراف الى دور التـبرير او الدعاية لما هو قائم ، اي التخلي عن المساهمـة في صناعة المستقبل .
لهذه الاسباب فان مطالبة الكاتب الالتزام بوحي ضميره عندما يكتب ، تبدو عسيرة الاستجابة ، لا لسبب الا صعوبة التعبير الحر في ظرف اجتماعي لايفسح مكانا للراي المختلف ، ولهذا فقد كان ينبغي للاستاذ الصويغ ان يدلنا على سبيل لتحرير الضمير من ضغوط المحيط حتى تكون حياته نافعا ، والا فما الفائدة من حياته ؟ .
نشر في (اليوم) 16 يناير 1995
مقالات  ذات علاقة
-------------------



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...