‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاجتهاد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاجتهاد. إظهار كافة الرسائل

30/01/1995

فقه جــديد لعصر جـديد


شهدنا في السنوات العشر الاخيرة تصاعدا في الدعوة الى تجديد في الفقه الاسلامي ، متوازية مع الجهود الجارية في اكثر من بلد ، لتطبيق ما امكن من النظم والقوانين الاسلامية في الحياة العامة ، وخلال هذه الفترة شهدنا ظهور مصطلحات وعناوين جديدة مثل (فقه الواقع) و (فقه السياسة) و (فقه الاقليات) وغير ذلك من المصطلحات الشبيهة التي تشير بمجموعها الى حاجة لفقه نشط يعالج مشكلات المسلم المعاصر.

 لقد ظهر معظم هذه المشكلات كنتيجة لتباطؤ مسيرة البحث الفقهي ، فيما عجلة الزمن تتحرك سريعا الى الامام ، خالقة قضايا جديدة وحاجات جديدة تحتاج بدورها الى تكييف شرعي لابد ان يقوم على اجتهاد جديد.

وقد حاول بعض الفقهاء والمفكرين تحديد مواضع القصور في موقفنا الفكري الراهن ، فدرس بعضهم الفجوة الحضارية التي تفصلنا عن الحضارة الغربية النشطة ، وحاول استنباط نموذج للعلاقة بين المسلمين والغرب ، يضمن انتقال التجربة العلمية والحضارية ، دون الاضرار بأخلاقيات المجتمع المسلم وعقيدته .

 وحاول آخرون استنباط تكييف فقهي لبعض الممارسات الحياتية ، التي  تبلورت في الاطار الحضاري الغربي ، واصبحت لازمة لا يستغنى عنها للحياة والمعيشة ، في العالم الاسلامي كما في غيره من العوالم ، مثل تجربة البنوك الاسلامية .

 وحاول  غير هؤلاء تطوير نظرية للعلاقة بين الانسان  والشريعة من ناحية ، والانسان والطبيعة من ناحية اخرى ، باعتبار هاتين العلاقتين مفتاحا لفهم مرادات الاسلام ، والحد الفاصل بين ثوابته ومتغيراته .

جدل صحيح

وقد لقيت هذه الدعوات ترحيبا من جانب ، كما اثارت الغضب  من جانب آخر ، فثمة في العالم الاسلامي من يشعر بالقلق من عواقب اي دعوة تتناول تبديلا او تعديلا فيما هو قائم ، وثمة من يشعر بان السابقين لم يتركوا شيئا للخلف ليضيفوه .

وفي تقديرنا ان هذا الجدل بحد ذاته علامة صحة مستأنفة في الجسد الاسلامي ، الذي اوهنته سنين الركود الطويلة ، وهو ايذان بعودة الشريعة نظاما للحياة ، بعد ان بقيت قواعدها  -  منذ سقوط الحضارة الاسلامية حبيسة الكتب.

ان الجدل في صلاحية بعض الفقه الموجود بين ايدينا للتطبيق على حياتنا المعاصرة ، لا يعني باي حال شكا في الدين ، او خروجا عن الصراط المستقيم ، انه شك في العلم ، لا يؤدي  -  بالضرورة  -  الى تراجع عن الايمان ، فالعلم ينتمي الى مجال قابل للأخذ والرد ، شانه شان جميع المعقولات الاخرى ، اما الايمان فمستقر في القلب ، لا يتغير الا عن معرفة ويقين .

لا يمكن للفقه ان يتحرك من مكانه الا اذا تفاعل مع حاجات عصره ، ولا يمكن له ان يجيب على هذه الحاجات ، الا اذا تفاعل مع القاعدة العلمية والحياتية التي قامت عليها ، هذا التفاعل المطلوب لا يتحقق في جو السكون والركود ، فالجدل يلعب دور المثير للهمم ، فوق انه يركز الاضواء على الاولويات ومواضع القصور .

 لهذا السبب يبدو ضروريا اتاحة الفرصة للنقاش حول المسألة حتى يأخذ مداه ، فهو الطريق الوحيد الذي يكشف لنا عن حاجاتنا ، وربما كشف لنا عن وسائل للمعالجة توفر بعض الجهد الذي نحتاجه .

يؤمن المسلمون جميعا بالاسلام شريعة قابلة لتنظيم حياتهم في كل زمن وكل ظرف ، وهذا الايمان  -  على الرغم مما اثير حوله من شكوك  -  يبقى رائدا لحركة المسلمين ، ومحركا لعزائمهم نحو بعث الحضارة التي خسروها وربحها غيرهم ، لكن الايمان بصلاحية الاسلام لا يعني بالضرورة جاهزيته للتطبيق ، لاسيما عند الاخذ بعين الاعتبار تطبيقه في المجال العام ، في صورة قانون للمجتمع او لبعض جوانب حياته .

فقه لكل عصر

لازال معظم ما نعرفه من الفقه الاسلامي محصورا في اطار الاحكام الموجهة للفرد ، وموضوعا للاجتهاد القابل للتغيير في اي وقت ، اما الاحكام الموجهة للمجتمع ، والمنظمة في صورة قانون يتسم بالعمومية والدوام  -  ولو نسبيا  -  لازالت قليلة بل نادرة قياسا الى الحاجات الكثيرة التي جاء بها التطور السريع للحياة المعاصرة .

وينتمي معظم علم الفقه الى ازمان نشاطه السابقة ، وما انتجه الفقهاء المعاصرون دون اعتماد على جهد السابقين قليل جدا ، يصل الى حد الندرة ، ان نتاج الفقهاء السابقين تعبير  عن عصرهم ، وهو اجابة  على حاجات ظهرت فيه ، ويحتاج كل زمان الى فقه يجيب على حاجاته الخاصة .

ان حياة الناس وممارساتهم اليومية ، هي موضوع علم الفقه (موارد تطبيقه) والتغير طبيعة لازمة في حياة الناس ، فما نعيشه اليوم غير ما كان يعيشه اسلافنا ، وسيكون للذين ياتون من بعدنا حياة مختلفة عما نعيش ، ويفرض هذا التطور اختلافا في موضوعات الاحكام الشرعية ، يحتاج الى  بحث مستأنف ، ليس بتجميل النص او تحديث الاسلوب ، بل بمعالجة الموضوع من جديد ، باعتباره مختلفا عما سبقه .

العبادات والمعاملات

 ان المقصود بالفقه الجديد بالدرجة الرئيسية هو فقه المعاملات ، الذي تتسم معظم موضوعاته بالتغير مع تغير الزمن ، اما العبادات فالجانب الرئيسي منها ثابت ومنصوص ، كما انها استأثرت في الماضي والحاضر ، بقسط وافر من الابحاث الفقهية ، بحيث لايبدو ثمة حاجة ماسة الى اعادة نظر ، اللهم الا في جوانب محدودة وفرعية .

ثم ان موضوعات فقه العبادات لا تتأثر بالتطورات الحياتية خارج الاطار المعرفي الاسلامي ، او لنقل ان تلك التطورات لا تمس جوهر موضوعاتها ، بخلاف موضوعات فقه المعاملات ، التي تتغير كل يوم بفعل تغير انواع الحياة وانماطها .

وحياتنا لا تتغير تبعا لتطور نبدعه بأنفسنا ، حتى نحدد حركة التغيير في الاتجاه المناسب لشريعتنا ، نحن  -  وللأسف  -  نستهلك ابداع الآخرين ، على مستوى الافكار وعلى مستوى السياسات والبرامج ، فضلا عن وسائل العيش ، وفي حال كهذه فان اغفال تطوير الفقه سينتهي بالمسلمين الى العيش بشخصية مزدوجة ، تقيم العبادة كما امر الله وتعيش حياتها كما اراده الغرب .

والحل الوحيد الذي بين ايدينا هو تنشيط حركة الاجتهاد ، وتفعيل العلاقة الباردة بين علم الفقه وعلوم الحياة الاخرى ، ومواجه تحدي التطور الذي لا ينتظر المتباطئين ، لعلنا نستكمل فيما يأتي من زمن ، العدة اللازمة لبعث المدنية الاسلامية من جديد .

نشر في ( اليوم) 30يناير1995

مقالات ذات علاقة

26/12/1994

الـدين والمعـرفة الدينـية

اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى ضرورة التفريق بين الدين (النص الديني) من جهة والمعارف الدينية والعلوم التي تسمى اسلامية من جهة اخرى ، وكان الغرض هو الدعوة الى منهج لقراءة التراث الاسلامي قراءة علمية تؤكد على اصالة النص واوليته ، لكن هذا التفريق لم يرض بعض الزملاء الذين اشاروا الى ان هذا الفصل ينطوي على قدر من التعسف.
الراي شخصي والحقائق الخارجية موضوعية
طريق العلم وقيمته
العلم هو النتائج الظنية او القطعية التي يتوصل اليها البحث والتحليل في موضوع معين نظري أو عملي ، بحيث يستغني العارفون به عن اعادة التجريب والتحليل ، في وقت معين ، وهذا التحديد اشارة الى وثيق الارتباط بين العلم والزمن ، اذ ان تطور الزمن قد يكشف عناصر جديدة ذات صلة بموضوعه ،لم يجر اخذها بعين الاعتبار في التجارب السابقة ، مما يمكن من اعادة التحليل على اسس امتن ، ويوفر الفرصة للتوصل الى نتائج اكثر صمودا عند النزاع .
والتحليل هو اصطناع علاقة بين عناصر اولية هي المعلومات ، بالاعتماد على امكانية مفترضة للتفاعل فيما بينها ، تتوفر في اطار منهج تحليل خاص يقدمه الباحث كمسار واطار لعمله العلمي ، فالمعلومات سابقة على العلم ، ويؤثر وجودها ـ قلة أو كثرة ـ على مستوى العلم الناتج عن التحليل ، ان توفر المعلومات او ندرتها ، تابع لمستوى مايوفره المجتمع من بيئة مناسبة للعمل العلمي ،  ولاسيما الاعتبار الاجتماعي للنشطين في هذا المجال ، ومدى تمتعهم بحرية البحث والتجريب ، ثم التعبير عن النتائج .
حاجات البيئة
وبديهي ان الاعتبار الاجتماعي للعلم والعلماء ، انما تقرر لكون الجهد العلمي واحدا من الوسائل التي يستخدمها المجتمع في انجاز حاجاته ، فالتقدم والرفاهية والقوة لاتاتي الا بتطبيق القواعد والارشادات العلمية ، ولم يحصل في اي ظرف ان تقدم مجتمع من المجتمعات ، دون الاتكال على قواعد العلم وارشاداته .
ومن هذه الزاوية خصوصا ، يمكن استنتاج ان العلم ليس ـ في اغلب الاحيان ـ محايدا ، ان ارتباطه بحاجات المجتمع الذي ينتج فيه ، يجعله خاضعا او ـ على الاقل ـ متأثرا بايديولوجية المجتمع ، بل ربما اصبح العلم في حالات معينة جهازا لصناعة الايديولوجيا المجتمعية ، اذ يحتاج مجتمع معين في وقت من الاوقات ، للاخذ بسلوك جديد او التخلي عن سلوك سائد ، خلافا لمقولات النظام القيمي الخاص به ، وهذا مايحصل ـ عادة ـ في اوقات الشدة أو ظروف التحول الاجتماعي ، فيقوم اهل العلم بوضع قاعدة نظرية لتبرير هذه الحاجة ، ومستلزماتها العملية ، بحيث يجري احلال السلوكيات الجديدة ضمن النظام القيمي للمجتمع كامتداد له ، حتى لو لم تكن كذلك في الاصل ، فيتاح للفرد ان يقوم بالعمل الذي لم يكن معتادا او مصنفا كأحد الافعال الصحيحة ، دون ان يشعر بتأنيب الضمير أو يتعرض لنقد اقرانه في المجتمع ، وقد يستعمل هذا المنهج التبريري لتسهيل انفلات المجتمع ، او القوى الفاعلة فيه ، من النظام القيمي الضابط للسلوك والعلاقات الاجتماعية .
الشيء ونقيضه
 ولايصعب العثور على الكثير من المفارقات المثيرة للدهشة في تاريخنا ، والتي انما وجدت في ظرف كالذي ذكرناه ، كما ان الامم الاوربية ابتدعت مقولة رسالة التنوير ، التي يحملها الجنس الابيض للعالم ، كمبرر لاستعمار البلدان والشعوب الملونة ، التي وصفت بانها في حاجة الى من يهديها طريق التقدم الذي اكتشفه الاوربيون دون غيرهم ، وذلك للخلاص من مشكل التناقض بين دعوة التحرر التي شاعت في اوربا قبيل الحقبة الاستعمارية ، وبين ارادة الاستعمار الذي تبرره  عوامل اقتصادية واستراتيجية ، فاستعمال العلم لتسويغ الاغراض الاجتماعية المؤقتة أمر متعارف ، ولولا هذه الامكانية ربما لم يشعر الناس بحاجة ماسة الى تقدير العلم والعلماء وتقديمهم على من سواهم .
وعلى هذا فمن البديهي القول ان العمل العلمي وماينتج عنه ، غير محايد ولاموضوعي ، في اغلب الحالات ، بمعنى ارتباطه بالمعلومات المفترض حيادها ، دون تاثر بالظرف الاجتماعي الذي يعايشه .
ــ اذا لم يكن العلم محايدا  فهل يمكن القول ان المعلومات محايدة ؟ .
ــ ربما ولكن ليس على الدوام ، فالعناصر التي يجري تحليلها ضمن عملية علمية ، تتضمن ملاحظات مباشرة لوقائع ، اضافة الى نتائج لتجارب أخرى سابقة ، وهي موصوفة بما سبق ذكره ، كما ان تجميع العناصر المشتركة في التحليل ، هو في حقيقته تقرير لموقعها ضمن هذا السياق او ذاك ، وهو يتأثر بخلفية الباحث التي لايمكن ان تكون محايدة ، بالنظر لكونه جزءا من مجتمع له ايديولوجية خاصة أو نظام قيم خاص ، وليس شجرة معزولة في صحراء .
الـــدين
اما الـدين فهو مجموع الحقائـق التي علمها الله سبحانه لخلقه ، على لسان نبيه ، لتمكينهم من حمل الامانة العظمى ، وهي خلافته في الارض  ، ويتضمن قواعد لنظم علاقة الانسان بربه ، وأخرى لنظم علاقته بمن سواه من البشر ، وثالثة لنظم علاقته بالكون المادي المحيط به ، والحقائق الدينية يقينيات ليس فيها جدل ، في صحتها او صلاحيتها ، اذ انها تأتي من عند خالق الكون ، العالم بكل مافيه وكل مايصلحه .
وفي هذه النقطة يختلف الدين عن العلم ، فبينما الدين كامل وحقائقه نهائية ، كما اخبرنا الله سبحانه {اليوم اكملت لكم دينكم } فان العلم لايكتمل ، بل هو في حال تطور لايتوقف ، وكل مرحلة من مراحله تكشف قصور سابقتها .
 العلم الذي نعنيه هو بطبيعة الحال علم البشر ، فعلم الله مطلق وكامل ويقيني ، وهو مالا يستطيعه بشر ايا كان .
المعرفة الدينية
ولذلك ميز علماء المسلمين بين ارادة الله للاشياء ، وقدرة عباده على ادراك تلك الارادة ، وقالوا بوجود عالمين للحكم الشرعي ، اعلاهما عالم التكوين حيث ان لله في كل واقعة حكما ، مطابقا للواقع على وجه اليقين ، وأدناهما عالم التشريع حيث يسعى اهل العلم لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره ، بالاعتماد على ادوات الاستنباط المعروفة ، وهم مع بذل كامل جهدهم لبلوغ الحقيقة ، لايستطيعون القطع بان ماتوصلوا اليه هو عين مراد الخالق سبحانه ، او انه مطابق للواقع على وجه اليقين ، ولذلك عرف بعض الاصوليين الفقه بانه الظن الغالب ، أو القطع بحسب الطاقة العقلية للبشر غير المعصوم ، وهي محدودة على اي حال .
ومن مظاهر القصور في علم البشر ، اختلاف فهمهم للدين وحقائقه ، فالذي وصل الينا على لسان النبي (ص) يتضمن ماهو واضح لايحتاج الى مزيد بيان ، كما يتضمن مالايعرف كنهه غير الراسخين في العلم ، وهو اذن بحاجة الى تفسير وتبيين ، ان اختلاف الناس في فهم مقاصد النص الديني ، هو احد اللوازم القهرية لاختلاف العقول ، وتباين مقادير العلم بين اهل العلم ، وهذا الاختلاف هو الذي جعل العلم ضرورة لفهم الشرع . كما يوضح هذا مكان العلم بالنسبة الى الدين ، فهو يفسره ويبين غوامضه ويفصل مجملاته ، كما يشخص موارد تطبيق كل حكم من أحكامه ، وبقدر مايتطور العلم ترتقي قدرتنا على فهم الدين .
ومنذ البعثة النبوية كان تطور العلوم في مجالاتها المختلفة ، سبيلا للكشف عن حقائق في الدين او سنن الحياة ونظام الكون ، اشير اليها مجملة في النص القرآني او النبوي ، ولم يتح مستوى العلم في ازمان سابقة استيعابها او معرفة تطبيقاتها .
ومن هذا يتضح ان فهم البشر لحقائق الدين رهين بمقدار معارفهم ، ويبقى هذا الفهم قاصرا ، بقدر ما العلم قاصر ، ان قصور العلم هو الاساس في تطوره ، والاعتقاد بهذا القصور هو الدافع الى البحث عن مجهولاته والتعرف على المزيد من دقائقه ، وهو السر في حركته الدائمة نحو الكمال الذي لايبلغه .
نشر في (اليوم) 24 رجب 1415 (26/12/1994)

 مقالات ذات علاقة

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...