03/09/1998

العودة الى المدرسة



 )سيكون اليوم الاول من العام الدراسي الجديد مخصصا للترحيب بالاساتذة الذين انضموا حديثا الى المدرسة ، وللتعارف بين الطلبة واساتـذتهم ، اضافة الى تعريف الطلبة الجدد بالمدرسة …(

تخيلت هذه الفقرة جزء من تعميم اصدره وزير المعارف الى مدراء المدارس في انحاء البلاد ، ليقيم بذلك سنة حسنة قوامها تحسين العـلاقة بين الطالب والمدرسة ، وبينه وبين اساتذته .
يقول لي جاري ، وهو مشرف تربوي واستاذ متمرس ، ان معظم الكتب التي عالجت قضايا التربية المدرسية ، تلح على ضرورة كسر الجاجز النفسي الذي يفصل الاستاذ عن تلاميذه ، وهو حاجز قائم بحكم فارق السن وفارق المكانة ، اضافة الى طبيعة العلاقة التي تقوم بين الطالب والمعلم منذ اليوم الاول ، وهي علاقة مضمونها الرئيسي الامر والنهي .

والمؤكد ان جميع الاساتذة ـ القدامى منهم والجدد ـ قد عرفوا هذه الحقيقة ،  خلال دراستهم أو من قراءاتهم الخارجية ، أو اكتشفوا الحاجة اليها من خلال التجربة العملية ، لكن الانسان قد ينسى أو يتناسى ، أو تشغله الأمور العاجلة الكثيرة عما يبدو قابلا للتأجيل .

في ماضي الزمان كان المعلم يدخل الى صفه ملوحا بعصا رفيعة ، يهذبها بعضهم ويتركها آخرون كما كانت في طبيعتها المتوحشة ، ويراها الطلبة فيفهمون الرسالة ، واي رسالة اسرع بلوغا من عصا في يد قادر على استعمالها ؟ لكن الامور تغيرت اليوم ، واصبح حمل العصا موجبا للعيب والاتصاف بالرجعية والتخلف ، ذلك ان أهل التربية في بلادنا قد اقتنعوا بان التربية بالعصا ، لا تخرج غير حامل عصا آخر ، فمنعوها ، واستراح ابناؤنا من منظرها المثير للرهبة ، بعد ان اكلت علقتها أنا ومن في سني مرارا وتكرارا .

رغم قلة معلوماتي فاني اجرؤ على الظن ، بأن كل طالب في  أي بلد من بلاد العالم ، يشعر بقدر من الرهبة ـ قليل أو كثير ـ سيما في الايام الاولى من العام الدراسي ، سواء كان المعلم يحمل عصا أو يحمل وردة ، وترتفع حدة الشعور بالرهبة ، لدى طلاب الابتدائية ، الذين اعتادوا على عطف الابوين ، ومحدودية العلاقات خارج البيت ، أما في مجتمعنا فاني اتوقع ان تكون الرهبة مضاعفة ، بالنظر لما يجتمع في المدرسة من صفات الاب والسلطة معا ، والشعور الغريزي لدى الطالب بانه ازاء سلطتين متداخلتين ، أو سلطة مكثفة .

شعور الرهبة لدى الطالب ، مريح لبعض الاساتذة ، فهو يوفر عليهم بعض العناء حين يحتاجون الى استجابة سريعة من جانب تلاميذهم ، ولعل هذا هو السر وراء التجهم ، والجدية المبالغ فيها ، التي يتكلفها بعض الاساتذة حين يقفون أمام طلابهم ، واذكر ان احد أساتذتي كان يدخل الى الصف كما يدخل العساكر ، يطرق الارض بحذائه الغليظ ، ويلوح يديه الى الامام والى الوراء ، بينما يهتز كرشه الممتليء كالحقيبة ، ثم يتجه الى السبورة فيواجهنا بظهره ، وبعد ان يكتب تاريخ اليوم وعنوان الدرس ، يستدير بخشونة ليشير على طالب ما ، سائلا اياه عن دفتر الواجبات ، أذكر انني وزملائي شعرنا بكثير من الخوف في البداية.

 لكننا اكتشفنا لاحقا ان الاستاذ كان في غاية اللطف مع زملائه ، وكان يجيد حبك النكتة التي لا تخطر على بال الكثيرين ، فأصبح الطلاب يتضاحكون سرا حين يدخل اليهم ، ويتبادلون النكات حول طريقته حين يخرج من عندهم ، وفي وقت لاحق ، تجرأ احدنا وسأله عن السبب في تجهمه أمامنا ، بينما يغرق في الضحك مع الاساتذة خارج الصف ، وأثار هذا السؤال ضحك الصف كله ، ورأينا الاستاذ يضحك أمامنا للمرة الاولى خلال ذلك العام ، وفيما بعد اصبح هذا الاستاذ صديقا لكل واحد من الطلاب ، الذين استشاره بعضهم في مشاكل دراسية أو أسرية ، وزرناه مرة أو مرتين في داره ، وكان قد تخلى بالطبع عن الطريقة العسكرية التي اعتاد عليها ، واصبح حضوره ودرسه من الاوقات المحببة عند طلابه .

وقبل ثلاث سنين وجدت احد ابنائي متخبطا في درس التربية الدينية ، كان حاصلا على درجة الامتياز في جميع المواد ، راسبا في التربية الدينية ، واجتهدت كثيرا في الحديث معه ، لكنه كان يلقي اللوم على معلمه ، بل كان يعتبر نفسه ناجحا لولا هذا المعلم ، فتحدثت مع المعلم ، وكان شابا حديث التخرج ، فوجدته يلقي اللوم كله على الولد ، واصفا اياه بالسفيه والمغرور ، ودلل على سفه الولد وغروره بالطريقة التي يحلق بها شعر رأسه ، وارتدائه البنطلون ، خلافا لما تقتضيه الاداب الاجتماعية ، وقد عجزت في الحقيقة عن حل المشكلة ، لكني وجدت ـ حين حضرت مجلس الاباء ـ ان معظم اولياء الامور كانوا يتحدثون عن مشكلة مماثلة ، وفي منتصف العام ، وجدت جميع طلاب الاستاذ المشار اليه راسبين ، عدا ثلاثة أو اربعة .

في نهاية المطاف جرى استبدال الاستاذ ، وتمكن الطلبة من عبور امتحانات ذلك العام بسلام ، وجدت بعد التأمل ان جوهر المشكلة كان صعوبة ـ بل استحالة ـ التفاهم بين الطرفين ، المعلم والطالب ، ولعل المعلم كان على حق ، لكن النتيجة لم تكن مشرفة على الاطلاق ، فرسوب ثلاثين طالب في صف واحد ، ليس مما يمنح المعلم فرصة للافتخار ، وظننت اذ ذاك انه كان ينبغي على المعلم الاجتهاد في ازالة الحواجز بينه وبين تلاميذه ، وان يشعرهم بحرصه على مصلحتهم ، بدل ان يضع نفسه في موضع الاتهام من جانبهم ، الاتهام بالقسوة والاتهام بالتفريط في المصلحة .

المعلم الناجح هو الذي يساعد طلابه جميعا على النجاح ، وهو الذي يزرع في انفسهم الشوق الى المدرسة ، لا الخوف منها ، الرغبة في التعلم ، لا التثاقل عنه .

من المهم ان يكون المعلم صديقا لطلابه ، من المهم ان يجتهد في اكتساب محبتهم وثقتهم ، وان يكون قريبا الى نفوسهم ، حتى يجتهدوا في اداء واجباتهم راغبين لا مرغمين .

الصداقة تبدأ بالتعارف البسيط ، والثقة تبدأ بابتسامة ولو مصطنعة ، والشعور بالرهبة يزول بعد قليل من الكلام المنطوي على مجاملة .

اتمنى ان يدعى كل معلم ، لتخصيص اليوم الاول من العام الدراسي ، لتعريف نفسه الى طلابه ، اسمه وموطنه وسنين دراسته ، وكيف قضى عطلة العام المنصرم ، ثم سؤال طلابه عن اسمائهم وأعمارهم ، وموقع كل منهم في عائلته ، والهوايات التي يمارسها ، وفريق الكرة الذي يلعب معه ، ثم يحدثهم عن اهمية المادة التي سيدرسها لهم ، والعلماء البارزين في مجالها العلمي ، وهذه كلها اشياء بسيطة ، لكنها عميقة الاثر في نفوس الطلاب ، وهي تهيء لعلاقة ناعمة سلسلة بين المعلم والطالب ، تستمر حتى نهاية العام .

قال لي صاحبي ان هذه الامور بديهية ، يعرفها كل معلم ، ويمارسها كثير من المعلمين ، لكني اعرف ان معلمين آخرين لا يحبون اضاعة الوقت في احاديث مثل هذه ، وهم من الجدية بحيث يريدون البدء بالدرس قبل انتهاء الدقيقة الاولى من الوقت المخصص ، وعلى  أي حال فاني اتمنى ان لا يكون السادة الاساتذة في حاجة الى هذا الحديث الطويل ، وكنت مهتما بالتذكير ، ولو على طريقة حامل العلم الى من هو اعلم منه .
عكاظ 3 سبتمبر 1998

27/08/1998

الفكرة وصاحب الفكرة

 

ليس من واجبات الكاتب ان يقول للناس ما يحبون ، والا كان حديثه اعلانا عن نفسه ، لا دعوة الى الفكرة ، والاصل ان المهمة الكبرى للكتاب والمثقفين ، هي دعوة الناس الى تبني الافكار أو المواقف التي يظنونها صحيحة ، ولهذا قال اهل العلم في سالف الزمان ، ان العلم حجة على صاحبه ، كما ان الدعوة اليه وظيفة ، يقوم بها شكرا لله الذي انعم عليه بهذا القدر من المعرفة .

بناء على هذا ، فقد يظن الكاتب نفسه قادرا على قول ما يشاء حين يشاء ، لكن الفرق عظيم بين الحقيقة والواقع ، فما هو صحيح قد لا يكون ممكنا ، وما هو ممكن قد لا يكون صحيحا ، وقد يجد الكاتب نفسه مخيرا بين السكوت ، أو التحول الى رجل علاقات عامة ، يقول للناس ما يرغبون في سماعه ، بدل اخبارهم بما ينبغي لهم معرفته ، البديل الصحيح هو التسلح بالقدر الممكن من الشجاعة لقول ما يراه صحيحا ، ان كان الامر يستحق العناء ، أو كان العناء قابلا للتحمل.


لو سألت الناس عن الكاتب الذي يفضلونه ، فسيخبرك معظمهم ـ إذا لم نقل جميعهم ، بانهم يريدون كاتبا يتحدث بصراحة وتجرد ، ولعلهم يغتنمون الفرصة لذم كتاب العلاقات العامة ، الذين يفصلون المادة على مقاس الشخص الذي يتوجه اليه الخطاب ، لكن إذا تعلق الامر باشخاصهم ، فان هؤلاء الناس انفسهم ، لا يرغبون في كاتب يقول لهم ما لا يعجبهم ، أي ما لا يتفق مع رأيهم الحاضر أو مصلحتهم الراهنة أو ميولهم  .

ويبدو لي ان هذا هو الامر الطبيعي ، فكل انسان يريد من الآخرين ان يكونوا موضوعيين ومنصفين ، شرط ان لا تؤدي تلك الموضوعية وهذا الانصاف ، الى الاضرار به أو ايذاء مشاعره ، وعلى أي حال فلكل انسان الحق في ان يحمي مصالحه وما يراه من حقوقه ، وله الحق في ان يدافع عن آرائه ، بعض النظر عن مواقف الاخرين ومصالحهم ، فاولئك ايضا لن يقفوا مكتوفي اليدين إذا اقتربت النار من خبزهم .

اقول ان هذه ممارسات مقبولة ، ينبغي تفهم ما يترتب عليها ، ولو كان غير مريح ، لكن من ناحية ثانية فان الافراط في التمسك بالاراء والمواقف ، ولا سيما الضجر من آراء الاخرين المخالفة ، يجعل الانسان معزولا عن محيطه الثقافي ، ويحرمه من ثمرات التفاعل مع اراء الغير وحاصل عقولهم ، وخير للانسان ان يتحمل اذية الخلاف البسيطة من ان يبقى اسيرا للجهل .

ويكره الناس ان يوصفوا بالجمود والانغلاق والعاطفية ، ويحبون ان يوصفوا بالمرونة والانفتاح والعقلانية ، لكن الى أي حد يا ترى يستطيعون تلبية المتطلبات النفسية والسلوكية ، التي تؤهلهم للاتصاف بتلك الاوصاف المرغوبة ؟ .

الجمود يعني التمسك بالاراء والافكار المعتادة ، ومقاومة أي محاولة لتغييرها او تعديلها ، والانغلاق هو اقامة جدار بين الذات والاخرين ، يمنع وصول اراءهم وتاثيرهم ، هذا الجدار عبارة عن تصنيفات مسبقة لكل شخص ، تجعل افكاره موصومة ومعيبة ، قبل ان يكلف المتلقي نفسه عناء البحث فيها او تحليلها ، اما العاطفية فهي بناء الاراء والمواقف على اساس قرب الموضوع من الذات وبعده عنها ، لا على اساس مقومات الموضوع ، والقواعد العقلانية والمفاهيمية ، التي يسميها اهل العلم (بناء العقلاء) والتي يشترك في الايمان بها كل ذوي العقول .

وعلى العكس من هذا فان الانفتاح والمرونة والعقلانية ، هي الاستماع الى الاراء المختلفة ، بغض النظر عن الموقف النهائي منها ، ثم الاخذ بعين الاعتبار احتمال ان تكون صحيحة حتى لو خالفت ما هو مقبول سلفا لدى الشخص المعني ، فالانسان المنفتح يقبل بالاستماع الى الاراء المختلفة بغض النظر عن الموقف النهائي منها ، ويعلم ايضا ان الزمن فعال سلبا وايجابا في المعلومات والافكار ، معلوماته ومعلومات الاخرين ، افكاره وافكار الاخرين .

لكي تنطبق صفة الموضوعية والانفتاح والمرونة على شخص ، فانه مطالب باحتمال مخالفة الغير لارائه ، ومطالب باحتمال التخلي عن بعض هذه الاراء ، أي التخلص من الاعجاب بالذات ، الذي يضفي على المتبنيات الذاتية نوعا من العصمة والمصونية من التغيير والتعديل ، فالعاقل لا يرفض فكرة دون تمحيصها ، ولا يرفض فكرة لأنه يبغض صاحبها ، ولا يشكك في فكرة لانها دارت حول موضوع ثقيل على نفسه ، او ارتبطت شواهدها بمواقف تباين ما يميل اليه ، وقد ورد في الاثر عن نبي الله عيسى عليه السلام ان الحكمة كالجوهرة تؤخذ ولو كانت في فم الكلب .

كما تحترم افكارك فان الاخرين يحترمون افكارهم ، ومثلما تتوقع من الغير ان يقبل بارائك فان اولئك يتوقعون منك موقفا مماثلا ، ولو ان كل الناس اختاروا التمسك بآرائهم ، وطرح ما يقوله الاخرون ، لما قام للعلم بنيان ، ولما تطورت معارف البشرية ، ينبغي للعاقل ان يعامل الناس بمثل ما يحب من المعاملة ، فاذا ارادهم ان يقبلوا بما عنده ، فلا بد له ان يقبل بعض ما عندهم ، والا كان من المطففين الذين توعدهم القرآن بالويل ، لانهم (اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) .

الموضوعية والعقلانية هي ان تقول الحق ولو كان مرا ، وتقوله ولو كان خلاف ما ترغب ، وتقوله ولو انتهى الى قناة من لا تحب ، فالحق مجرد في ذاته ، لا يتكيف بحسب الميول والرغبات ، والموضوعية تقتضي النظر في أبعاد الموضوع ذاته ، دون قياس للمسافة التي تفصله عن المتبنيات الشخصية .

يستطيع الكاتب ان يقول للناس ما يحبون ، لكنه لن يكون صادقا معهم ولا امينا ، ويستطيع ان يتحول الى كاتب عرائض يكيل الأوصاف بحسب المناسبة ، لكنه لن يكون صادقا مع نفسه .

 الى جانب هذا فهو يستطيع احيانا قول ما يؤمن به ، والتعبير عما يعجز الاخرون عن التعبير عنه ، بعض الحقيقة ليست زيفا ، فهي القدر المستطاع ، فان قدر على الحقيقة كلها ، وجب عليه اظهارها ، وان عجز عنها كلها ، فخير له ان يعتصم بالصمت كي يريح ويستريح ، فليس اسوأ من قتل الحقيقة غير تزييفها .

نحن بحاجة الى توسيع مساحة التعبير ، بحاجة الى فضاء يخلو من العقبات التي تجعل الكاتب عاجزا ، نحن بحاجة الى ان نحتمل بعضنا ، وان نسمع اراء بعضنا ولو خالفت اراءنا او اضرت بمشاعرنا ، ذلك هو السبيل الوحيد الذي اذا سلكه الناس ارتقت معارفهم واصبح للعلم شأن ومكان .

عكاظ 27 اغسطس 1998  


مقالات  ذات علاقة
-------------------


09/07/1998

حـديـث النــــــــاس



رغم انشغال الناس بمتابعة مباريات المونديال ، فان الوضع الاقتصادي يحظى بنصيب كبير من الأحاديث التي تدور في المجالس والسوق ، لا سيما بعد القرارات التي اتخذت الشهر الماضي لخفض الانفاق في ميزانية العام الجاري ، وقد غذى الوزير النعيمي الآمال بتحسن قريب في الاوضاع ، حين بشر الناس بان اسعار البترول سوف ترتفع ، إذا التزمت الدول المنتجة باتفاقات تحديد الانتاج الأخيرة ، وان هذا التحسن سوف يبدأ بالظهور في اوائل السنة القادمة .

ونود ان نحمل تصريحات وزير البترول على محمل الجد ، فلنا حاجة في التفاؤل ، وانتظار الخير الآتي ، لكني آمل ان لا تؤدي هذه التصريحات الى اعتبار الامور طبيعية تماما ، أي ان لا يقول المخططون بأن الانخفاض الحالي في اسعار البترول ، طبيعي ويحدث في كل مكان .. الى آخر ما يقال عادة ، عندما يراد تطييب الخواطر القلقة في الازمات ، نأمل حقا ان تتحسن اسعار البترول في اوائل السنة القادمة ، لكن من جهة اخرى ، يصعب التصديق بانها سوف تتجاوز المعدلات التي سادت خلال السنوات العشر الاخيرة ، خلافا للتفاؤل الذي ساد اواخر العام الماضي ، بان الاسعار سوف تقف عند معدل 16 دولارا للبرميل .

كثير من الناس الذين يشغلهم هذا الموضوع ، وانا منهم ، يسمعون تصريحات متفائلة مثل هذه ، كما يقرأون ما ينشر ويسمعون ما يقال ، مما يخالف فحواها ، ويعلمون بان التطمينات وتطييب الخواطر لا تعالج مشكلة ولا تغير حالا الى احسن منه ، وان خففت من القلق الوقتي لدى القلقين . ما يهمنا الان هو النظر في المسألة ككل ، فالعاقل من يتعظ بتجارب غيره فضلا عن تجاربه الخاصة .

بدأت انعكاسات  الانخفاض الحالي في اسعار البترول ـ ومعها الدخل الوطني ـ تظهر تدريحيا في السوق ، فانخفض مؤشر اسعار الاسهم المحلية مع انخفاض الطلب ، كما تدور احاديث عن احتمال رفع اسعار الخدمات العامة مثل الكهرباء والوقود ، وهي اجراءات سبق ان اتخذت عندما واجهت البلاد ازمة مماثلة قبل ثلاثة اعوام ، ونجحت الى حد ما في اختصار عجز الميزانية ، لكن معالجة عجز الميزانية ليس دواء طويل الامد لاقتصاد البلاد ، الا اذا اردنا التوقف في المستوى الابتدائي للاقتصاد أي ابقاء الناس متكلين في حياتهم ومعايشهم على الانفاق الحكومي المباشر ، وهو أمر لا يريده أحد ولا يستصوبه أحد .

يقول أهل الرأي في السوق بأن ما نحتاجه اليوم ، هو حلول جذرية وسياسات واقعية واستراتيجيات طويلة الأمد ، تؤدي الى تحرير الاقتصاد الوطني من الاعتماد الكلي والكامل على مبيعات البترول الخام ، واذا كنا قد وجدنا انفسنا مضطرين في بدايات معركة النمو ، الى التعويل على عائدات البترول ، والتساهل في ربط حياة الناس بصورة كاملة بالانفاق الحكومي ، فلا ينبغي الاسترسال في هذا النهج الى النهاية ، فهو يتحول  مع مرور الزمن ، من حافز للنمو الى مثبط لامكاناته ، في الوقت الذي لا تستغني البلاد عن مصادر جديدة لمواصلة نموها الاقتصادي والاجتماعي .

من ناحية أخرى فان رفع اسعار الخدمات العامة ، ليس محبوبا ولا مبررا عند أكثرية الناس ، لا سيما من الطبقات الوسطى والفقيرة ، صحيح ان الحكومة تدعم اسعار الكهرباء مثلا ، لكن من الصحيح ايضا ان الناس ليسوا مسئولين عن السياسات التي تتسم بالتبذير من جانب شركات الكهرباء ، والتي تتحول تاليا الى فواتير يتحمل عبئها المستهلك الذي لا ناقة له ولا جمل ، والحق ان الاحتكار الشامل الذي تتمتع به الشركة السعودية الموحدة للكهرباء (سكيكو) قد مكنها من فرض اراداتها الخاصة على جمهور المستهلكين ، وهناك من يدعي ان بالامكان اختصار فواتير الكهرباء  بصورة ملموسة ، لو وجدت شركات منافسة لشركة سكيكو ، وهناك من جرب فعلا وتأكد من هذا المدعى ، الامر نفسه يقال بالنسبة للوقود ، فنحن نعلم ان تكاليف انتاج البترول في المملكة ، تعتبر الاقل على مستوى العالم ، وان الحكومة لا تدعم اسعار الوقود ، أي ان ارامكو كانت تربح سابقا ، ولا تزال تربح من مبيعات الوقود ، والاحرى ان تخفض اسعاره  الآن ، تماشيا مع انخفاضه في السوق العالمية ، لا ان ترفعه كما يتوقع المتشائمون . الغرض ان التفكير يجب ان ينصب على سياسات اكثر واقعية ، وعدم رمي عباءة المسئولية على الحائط الواطئ للمستهلك البسيط .

منذ عدة أعوام يلح الخبراء على تخصيص شركات القطاع العام وخفض النفقات الحكومية ، باعتبارهما عنصرين جوهريين لتصحيح المسار الاقتصادي ، وقد بدأت أولى بشائر القبول بهذه الاقتراحات مع قرار تخصيص خدمة الاتصالات ، والحديث عن تخصيص النقل الجوي ، لكن الواضح ان الامر بحاجة إلى ما هو أكثر ، كما يحتاج إلى إزالة الصفة الاحتكارية التي تتمتع بها هذه القطاعات ، مع تحولها من مفهوم الخدمة العامة إلى الخدمة التجارية المدفوعة الثمن ، إذ لا يعقل أن تحافظ شركة الهاتف على احتكارها لهذه الخدمة ، مع أن التزامها الاول سيكون منصبا على مصالحها كشركة تجارية ، كما انه لن يكون منطقيا تمتع الخطوط السعودية بميزة احتكار خدمة النقل الجوي بعد تخصيصها ، واجبار المستهلك على دفع قيمة أعلى لما يشتريه من الخدمات ، اذا كان بالوسع ايجاد هذه الخدمة باسعار اقل .

ما أردت قوله ان تخصيص الخدمات العامة ذات الطبيعة التجارية ، وهو الاجراء الذي اعتبره الخبراء ضروريا لخفض النفقات الحكومية وتنشيط القطاع الخاص ، بحاجة الى أن يوضع ضمن مفهوم أوسع من بيع اسهم الشركات المملوكة للحكومة ، لتوفير بضعة عشرات من الملايين ، ينبغي ان يوضع ضمن مفهوم تطوير اهتمامات القطاع الخاص من الاستثمارات الجزئية والقصيرة الامد ، الى الاعمال الاستراتيجية الطويلة الامد ، ولتحقيق هذا المفهوم ، فاننا بحاجة الى تحرير السوق من الامتيازات الاحتكارية التي تتمتع بها بعض الشركات على حساب البقية ، ولا سيما على حساب المستهلك النهائي ، كما ينبغي التأكيد على تضمين مفهوم الخدمة العامة في الاستثمار ، والتخلص من عقلية الربح المادي الاقصى ، السائدة في السوق ، والتي ترسخت في السنوات الماضية كنتاج للتدفق المفاجيء للثروة والفرص ، وقصور المفاهيم والقيم التي يجري نشرها وتعليمها ، عن استيعاب الحقائق الجديدة ، التي افرزها تطور الصراع بين المال والقيمة الاجتماعية ، بين العناصر المادية وغير المادية في النمو الاقتصادي

يقول الناس ايضا ان المحافظة على المستوى المرتفع للمعيشة ، بحاجة الى ابتكار مداخل وأدوات واطارات استثمار جديدة ، لا سيما في قطاع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة ، ويضربون مثلا على هذا المدعى بقطاع البناء والاسكان ، الذي لا يمكن التساهل في اهميته وحيويته ، فمع تراخي صندوق التنمية العقاري او توفقه احيانا عن الاقراض السكني ، فان هذا القطاع قد انكمش الى حدود مقلقة ، وقد كان يمثل شريحة واسعة من اجمالي القطاع الخاص ، ويمكن اعادة تنشيطه بتغيير سياسات الاقراض السائدة في البنوك المحلية .

 ولنا في تجارب الدول الاخرى درس وعبرة ، في بريطانيا مثلا يتم تمويل 60 بالمائة من عمليات بناء وتملك البيوت السكنية بقروض شخصية ، ونظرا لاتساع هذا القطاع فقد تأسست ـ الى جانب البنوك العادية ـ بنوك متخصصة في هذا المجال ، يطلق عليها (جمعيات البناء) حيث يستطيع أي مواطن بغض النظر عن امكاناته المادية الفعلية ، اقتراض مبلغ لشراء مسكن خاص ، كما ان شركات البناء تنظم اتفاقات مع تلك البنوك ، لاقراض من يرغب في شراء المساكن التي تبنيها ، ان قطاع الاسكان من القطاعات المزدهرة في بريطانيا رغم ان الحكومة لا تقدم قروضا ، بل تضع سياسات وتوجيهات لتعمل هيئات التمويل الخاصة على ضوئها . ان تنشيط قطاع البناء يمكن ان يتوازى مع وضع توجيهات للاستثمار في صناعة مواد البناء ، ومعظمها من نوع الاستثمارات المتوسطة ، من اجل رفع مستوى التكامل الرأسي لهذه الصناعة ، وتمكين البلاد من انتاج كل ما يلزمها لبناء مساكن ابنائها .

في نفس المجال نحن بحاجة الى تغيير بعض مفاهيم الملكية السائدة في الانظمة ، والمفاهيم السائدة في المجتمع ايضا ، لتمكين المواطن من امتلاك شقة في عمارة او طابق في بيت ، يتشارك في ملكية ارضه مع الغير ، والسماح بتأجير الارض لفترات طويلة ، مئة سنة مثلا ، بحيث تعامل المنشآت المقامة فوقها معاملة الملك الحر طيلة فترة التاجير ، اضافة الى تشجيع اقامة الجمعيات التعاونية للسكن ، ومنحها امتيازات مالية او قانونية ، لتخفيض كلفة البناء او الاستملاك السكني ، مما سيؤدي الى تنشيط قطاع البناء والعقار والصناعات المرتبطة بالبناء .

الخلاصة ان الناس ـ معظمهم على الاقل ـ ينظرون بقلق الى انعكاسات الانخفاض الراهن في الدخل الوطني على معيشتهم ، لكنهم في المقابل ليسوا غافلين عن حقيقة ان هذا التطور السلبي لم يكن اختياريا ، كما ان اعادة الوضع الى ما كان عليه في أوائل الثمانينات او بعيدها ، ليس من الاحتمالات التي ينظر اليها غالبية الناس ، الاكثرية حسب ما أظن تعرف بعض الحقائق او كلها رغم انها لا تعلن بصورة رسمية ، ولا تناقش في الصحافة المحلية ، ما يطمح اليه الناس هو سياسات جديدة تتعامل مع الشأن الاقتصادي باعتباره قضية مستقبلية ايضا ، وليس مشكلة وقتية محدودة ، ذلك يحتاج الى سياسات جديدة والى توجيه جديد لمراكز الثقل ، وتعديل الانظمة السائدة لتكون عونا على هذا التوجيه ، فلعلنا نعود الى وضع اقتصادي طبيعي ، لا يعتمد كليا وقطعيا على عدد براميل البترول التي نبيعها وقيمة كل برميل .

عكاظ 9 يوليو 1998

03/07/1998

وجوه الاستمتاع بالقوة العسكرية



تفاعلنا الثقافي مع الحضارات الاخرى ، الغربية مثلا ، لن يؤدي الى تشويه شخصيتنا ، الا اذا تركنا الباب مفتوحا أمام هذا الاحتمال ، كل حضارة لها معاييرها الخاصة التي تعتبرها مسطرة قياس صالحة في جميع الاوقات ولكل المجتمعات ، انها بمثابة ايديولوجيا ، والايديولوجيات تميل دائما الى تعميم نفسها ، بالتمرد على حدود النسبية التي يقتضيها منطق الاشياء ، نحن نتعامل مع حضارة في حالة علو وقوة ، حضارة لا تخفي اعتقادها بانها تملك الحق في الانتشار والسيطرة واستتباع الشعوب الادنى منها حياتيا ، لكننا ـ في المقابل ـ لسنا مضطرين للقبول بكل فرضيات هذه الحضارة واراداتها ، ولا نحن مضطرون لتكييف معاييرنا لكي تطابقها .

في أوقات سابقة ، حين تجادل العرب حول علاقتهم مع الغرب المتحضر ، توصل كثير منهم الى ان الخيار الانسب هو الانتقاء ، فقد اقروا بان في الغرب اشياء تستحق الاستيراد ، واراد بعضهم تحديدا ادق ، فقرر بان ما يصلح لنا هو خلاصات التجارب في مجال العلوم الطبيعية والتجريبـية دون النظرية ، فتلك الاشياء ـ حسب تقديرهم ـ خالية من مضمون فلسفي ، يخشى ان يؤثر على المعتقدات أو نظام الحياة ، حينما حان الوقت لتطبيق الافكار وجدنا ان العرب لم يأخذوا شيئا ، أو ان ما أخذوه لم يكن كثير الفائدة .

السر الكامن خلف هذه المفارقة هو ان العرب ، بل ليس من المبالغة القول ان المسلمين بعامة ، يفتقرون الى الاستعداد الكامل والكلي لخوض معركة الحضارة ، أي انهم لا يريدون مواجهة التحدي الحضاري كما ينبغي ان يواجه ، ولا يريدون تحمل الاعباء التي تتطلبها مثل هذه المعركة ، ولو قررنا اليوم ان نخوض هذه المعركة ونتحمل اعباءها ، فسوف نضع أقدامنا على الميل الاول من الطريق ، وسنصل غدا أو بعد غد الى غايته .

 مثال الباكستان حاضر في الاذهان ، فبعد هزيمتها المرة عام 1971 وما ادت اليه من سلخ نصفها الشرقي ، قررت التوصل الى توازن استراتيجي مع الهند التي تفوقها عددا وعدة ، في هذه الاثناء ضاعفت الهند جهودها لابقاء كفتها راجحة ، فأجرت تجربة نووية أولى في العام 1974  ورد الباكستانيون بقرار الدخول الى النادي النووي ، فكثفوا جهودهم للحصول على التكنولوجيا النووية ، التي كانت ولا تزال محروسة ومحرمة الانتشار ، بعد عشرين عاما من المحاولات اصبح لدى باكستان التكنولوجيا الكافية لاجراء تجربتها النووية الاولى .

ما دامت باكستان قد نجحت في فك الغاز الفيزياء النووية ، فهذا يعني ان لديها من الامكانات والكفاءات العلمية ، ما يؤهلها لتطوير صناعات متقدمة في المجالات الاخرى غير العسكرية ، لكنها وضعت ثقلها وراء برنامج محدد ، وهاهي قد نجحت في الوصول به الى غايته ، على رغم العقد والصعوبات والقيود الكثيرة التي تفرضها الاقطار الصناعية على انتقال التقنية النووية ، اقول ما دامت قد نجحت في هذا ، فانها قادرة على النجاح في المجالات الاخرى ، اذا وضعت كل ثقلها ، واعتبرتها معركة مصير ، كما اعتبرت موضوع التوازن الاستراتيحي مع جيرانها الهنود ، ثم ان هذه التجربة تكشف ان المسلمين الاخرين كانوا ولا يزالون قادرين على بلوغ غاياتهم ، لو وضعوا ثقلهم وركزوا جهودهم فيها .  الحضارة معركة ، ولا يفوز فيها الا من قبل بدخولها باعتبارها معركة المصير .

في الستينات حاولت مصر ، ومن ذات المنطلق ، أي التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل ، ان تقيم صناعة عسكرية متقدمة ، ويقال انها قد قطعت في هذا المجال شوطا بعيدا ، لكنها توقفت بعد فترة ، وكان ينبغي ان يستفاد من الخبرة التي توفرت لتطوير الصناعة في المجالات الاخرى المدنية ، وفي الثمانينات حاول العراق مثل ذلك ، لكنه صرف الجهد كله في بناء قوة عسكرية استعملها في المكان الخطأ ، ولو انه وجه مثل هذه الجهود الى الميدان المدني ، لما كان اليوم يستجدي رضا الامم المتحدة واعضاء مجلس الامن ، هذه وتلك تدلنا على ان العرب والمسلمين بعامة ، قادرون على خوض معركة الحضارة اذا ارادوا وتحملوا الاعباء ، لكنهم مع ذلك لم يفعلوا .

من المحتمل ـ هكذا يبدو لي على الاقل ـ ان العرب والمسلمين مأخوذون بقلق المحافظة على الاعتزاز تجاه الآخر المتفوق ، أكثر من قلقهم من ذواتهم وعليها ، واذا أصيب الانسان أو المجتمع بهذا الداء ، فانه يصرف همه ويكرس طاقاته للظهور بمظهر القوى ، حتى يشعر بالرضى ، لكن هذا الرضى يعمل على اخفاء العيوب التي في الذات ، فلا يلتفت اليها صاحبها المشغول باستعراض قوته المادية ، والاستمتاع بالتعبير عنها في اجلى اشكالها ، أي القدرة على الغلبة وقهر الخصم ، لهذا السبب ـ ربما ـ كان تركيز الباكستان والعراق ومصر ، وربما غيرها من الاقطار الاسلامية على التقدم في الصناعة العسكرية دون غيرها .

في تجربة الدول الغربية ، الولايات المتحدة خاصة ، كانت الابحاث في المجال العسكري قاطرة الصناعة المدنية ، وهذا ما حدث أيضا  في المانيا قبل الحرب العالمية الثانية ، فالجيش يمول الابحاث للاغراض العسكرية ، لكن نتائجها سرعان ما تحول الى الصناعة المدنية ، ان تطور صناعة الطيران والمعلوماتية وانظمة الاتصال هي ثمرة لهذا النظام الذي يشبه الانابيب المستطرقة .

 لكننا لا نجد سيرورة مماثلة في العالم الاسلامي ، نحن نعلم ان بعض الجيوش العربية والاسلامية يملك فرقا هندسية تنفذ منشآت شديدة التعقيد ، ولدى بعضها مصانع لانتاج انظمة الاتصال والاسلحة والنقل ، لكن هذه الامكانات بقيت حتى الان محصورة بين اسوار المعسكرات ، فاذا احتجنا الى بناء جسر أو سد ، استقدمنا شركات اجنبية ، واذا احتجنا الى انشاء أو توسعة نظم الاتصال لجأنا الى الاجانب ، واذا اردنا بناء مصنع تذكرنا نظام (تسليم المفتاح) المريح ، وتذكر دراسة تحليلية عن هجرة العقول من مصر ، ان عددا كبيرا من المهندسين والصناع والمبتكرين الذين هاجروا الى الولايات المتحدة الامريكية وكندا ، كانوا يعملون اصلا في المصانع العسكرية ، لكنهم فقدوا وظائفهم أو فقدوا الدافع الضروري للابتكار فهاجروا ، ومنهم من يعمل الان في كبريات المصانع ومراكز الابحاث ، ومنهم من يعمل في وكالة الفضاء الامريكية .

ما حدث فعلا هو ان الدول العربية قد وضعت كل همها وطاقتها في الميدان العسكري ، فلما تراجعت الحاجة اليه اصبح عبئا ينبغي التخلص منه ، وليس تحويل الخبرات المستفادة منه الى القطاعات الاخرى ، أي اننا لم نكن بصدد مواجهة التحدي الحضاري ، بل مواجهة التحدي العسكري فحسب . ما كان يشغل بالنا ويستغرق اهتمامنا ، هو الحصول على قوة تبعد عنا قلق الهوان في ميدان الحرب ، أما قلق البقاء في حال التخلف والهامشية ، فلم يكن موضوع انشغال كبير لأنفسنا ، التي لا نتظر في ذاتها قدر ما تنظر الى الغير ، ولا تهتم بالمستقبل قدر ما هي مشغولة بهموم الحاضر .

نعود الى مثال الهند وباكستان للمقارنة ، لقد نجحت باكستان في تفجير قنبلتها النووية الاولى كما نجحت الهند من قبل ، لكن الفارق بين البلدين لا زال شاسعا ، منذ فترة طويلة كانت الهند التي واجهت مجاعات وعانت فقرا شديدا ، توجه جل اهتمامها الى تطوير بناء علمي واقتصادي وجدته سبيلا الى حل شامل لمشكلاتها ، وهي اليوم وبعد نصف قرن على استقلالها تجني ثمار ذلك الاهتمام ، فقد تحولت الى دولة شبه صناعية ـ مقارنة بالاقطار الصناعية الاوربية واليابان ـ انها تصنع كل شيء تقريبا مما تحتاج ، من الابرة الى الطائرة ، صحيح انها لا تزال بعيدة عن المستوى الذي بلغته أوربا أو اليابان على سبيل المثال ، لكنها ايضا بعيدة جدا عن النقطة التي انطلقت منها ، والتي لا تزال باكستان تدور حواليها ، لهذا السبب قال المحللون ان العقوبات  التي قررت الدول الصناعية فرضها على البلدين ، ستكون اشد وطأ في باكستان ، لان اقتصادها اضعف ، وقدرتها على تأمين حاجاتها من المصادر المحلية ، ادنى مما هو في الهند .

الخلاصة التي اردنا الوصول اليها ، هي ان ما يجعل شخصيتنا مشوهة وثقافتنا عاجزة ونظامنا الاجتماعي فاقدا للفاعلية ، ليس اتصالنا بالغرب وتفاعلنا معه ، وليس كوننا ضعفاء عند المقارنة بالغير ، بل انشغالنا بذلك الغير الى درجة اغفال التحديات التي تتوجه الينا ، واغفال ما يتهدد وجودنا ذاته ، اذا بقينا اسرى للتخلف على كل صعيد .

 ان نجاح بعض العرب والمسلمين في تطوير تكنولوجيا خاصة ، وان كانت محدودة الاستخدام، يدل بصورة قطعية على ان هذا الباب ليس محرما ولا عسيرا على بقية المسلمين.

 لكن قلق الاعتزاز ، وما صرف اليه من وضع البيض كله في سلة الحرب ، والتركيز على الجانب العسكري ، هو الذي ادى الى اعتبار التقدم في المجال العسكري منفصلا عن غيره من المجالات ، وهكذا اصبح التقدم مرهونا بالتحديات الآنية ذات الطابع العسكري ، لا بتحديات المستقبل التي تتوجه الى وجودنا ومصيرنا ككل .
عكاظ 3 يوليو 1998

22/01/1998

الانصاف ، لا شيء اكثر من الانصاف


قد يمكن الادعاء بأن تطور البشرية ، هو في حقيقته المحصلة المكثفة لمحاولات الافراد وابداعاتهم ، حيث لا يذكر التاريخ سوى مناسبات تعد على اصابع اليد ، قامت خلالها أمة من الامم او مجتمع من المجتمعات ، بصورة جماعية ، باستنباط نمط حياة جديدة ، أو انتخاب طريق جديدة للعمل خلاف ما اعتادت عليه .Standing Out From The Crowd
وفي جميع المناسبات الاخرى ، كانت مبادرات الافراد وكشوفاتهم هي الخطوة الاولى التي كشفت لمجتمعهم عن صورة مستقبل اجمل من حاضره ، وهي القاطرة التي عبروا على متنها حاجز الزمن ، فانتقلوا من عصورهم الى عصر اكثر تقدما واشراقا .
لكن هذاكان في نهاية المعاناة ، اما في البداية فقد غامر الافراد بنقد نظام ثقافي واجتماعي قائم ومتفق عليه ، واعتبر المجتمع هذا النقد تجسيدا لنوع من التمرد ، أو ـ في أحسن الحالات ـ ارادة للتمايز عن نظام الحياة الصحيح ، ولهذا فان المجتمع قد رمى اولئك الافراد ـ الا القليل منهم ـ بشتى التهم التي يختص بها المجتمع من يعارضه أو يتمرد على قيمه وانماط حياته ، ولهذا السبب فقد بقي الجدل محتدما ، حول مسألة العلاقة بين الفرد والمجتمع ، والتوازن الصحيح بين الطرفين ، التوازن الذي يكفل للمجتمع حقوقه كما يكفل حقوق الفرد ، ويبدو ان هذا الجدل سيستمر لأمد طويل قبل ان يجد نهايته الصحيحة ، وقد لا يجدها اطلاقا .
على ان القرن العشرين الذي نعيش أيامه الاخيرة ، قد شهد اعادة تعريف لهذه العلاقة ، بحيث يمكن القول ان الميزان قد اعتدل الى حد كبير ، وجرى الاعتراف بالفرد كذات مستقلة عن المجتمع ، له حقوق تتعلق به بذاته ، وبغض النظر عن انتمائه الى جماعة محددة او وراثته لهوية محددة ، ويبدو واضحا ان هذا التطور قد ترافق مع تقدم المجتمعات ، بحيث يمكن القول ان اكثر المجتمعات تقدما ، هي ـ في الوقت ذاته ـ اكثرها تقديرا لدور الفرد وذاته المستقلة ، فكأن هذا وذاك صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر ، أو ان كلا منهما مشروط بالآخر.
ويواجه مجتمعنا ـ مثل كل مجتمع آخر ـ ذات المسألة ، مما يفرض عليه البحث عن حل صحيح لها ، حل تفرضه حاجة المجتمع الماسة الى تجاوز نقاط التوقف والاعاقة ، التي نراها في كل مناسبة مانعا للانطلاق في طريق النهضة المنشودة .
ويظهر لي ان معظم الناس في مجتمعنا ، ان لم نقل كلهم ، يذهبون الى ترجيح كفة المجتمع ، واعتبار الجدل بين حقوقه وحقوق الفرد محسوما من الاساس لصالح المجتمع ، ولهم في هذا مبررات ، بينها ان المجتمع هو مجموع الافراد وان حسمها لصالح الجميع يعني اقرار حق كل فرد بمفرده ، لكن هذا تصور باطل ، فالمجموع له صورة خاصة ، كما لكل فرد صورة خاصة مختلفة ، ولا ينتج من الصورة المركبة من مجموع الافراد المستقلين صورة المجتمع ، كما ان صورة المجتمع لا يمكن تقسيمها الى صور متعددة ، لكي تناسب كل فرد ، ان صورة الجماعة ليست تركيبا لمجموع صور الافراد .
يريد الفرد ان يعبّر عن ذاته ، وان يقول رأيه في العلن ، يريد ان يختار نظام حياته الذي يتوصل اليه بعقله ، والذي يجد فيه مصلحته ، يريد ان يجد نفسه قادرا على تلمس قدراته وامكانياته ، واستثمارها في ابداع ما لم يكن معتادا أو معروفا في وسطه الاجتماعي ، ويريد المجتمع من كل عضو فيه ان يتماثل مع البقية وان يخضع للنظام الثقافي وهيكل العلاقات والتراتبية السائدة ، وهو يضع الزامات محمية بقوة (العيب) وأحيانا بقوة (القانون) توجب على كل فرد الانصياع والا واجه العقاب .
من أجل هذا امتنع كثير من المبدعين عن قول رأيهم ، او التعبير عن اراداتهم ، ومن أجل هذا نام الكثيرون على وجع الحرمان من اقتـناص فرصهم بعدما وجدوها قاب قوسين أو ادنى من اطراف ايديهم ، ومن أجل هذا حرم المجتمع نفسه من ابداع المبدعين ، والكشوف الجديدة التي ربما توصل اليها أهل الكشف ، وهم لا يوجدون في المجتمع الواحد الا كنوادر ، يعدون على اصابع اليد .
يحترم المجتمع المتقدم نفسه ، كما يحترم كل عضو فيه بمفرده ، فاذا جاء زيد بجديد فانه لا يسأل عن نسبه ، ولا يسأل عن لقبه ، ولا يسأل عن الاطار الذي ينتمي اليه ، أما المجتمع المتخلف فانه لا ينظر في الجديد ، بل ينظر الى صاحبه ، فهو ابن فلان ، وليس فلانا ، وقد ينشغل بهوية الرجل وانتمائه الاجتماعي وأصله وفصله ، عن الجديد الذي جاء به ، فيضيع بهاء هذا في ظلمة ذاك ، بدل ان يبدد البهاء حلكة الظلمة ، وعلى أي حال فان الظلمة قد لا تكون سوى اعتبارات لا أساس لها ، غير ما قرره المجتمع أو اراده اولو الحول والطول من ابناء المجتمع ، واني لأرى رجالا ونساء حرموا من ان يخدموا وطنهم ، لا لشيء غير هويتهم التي رأى بعض من يقرر ، انها مريبة او انها غير محبوبة ، واني لأرى رجالا ونساء انكمشوا على انفسهم واستعاضوا بالحلم عن الحقيقة ، بعد ان وجدوا ما يبدعون غير ذي قيمة في عيون مجتمعهم ، وأرى اناسا اختاروا لشجيرات ابداعهم ان تزهروتثمر في الحقول البعيدة ، بعد ان ضاق عليهم بستان الأهل ، على ان هذا البستان ما يزال في معظمه بائرا أو قليل الشجر يحتاج لكل نبتة ولو صغيرة .
ما يريده الانسان الفرد هو الانصاف ، ولا شيء أكثر من الانصاف ، والانصاف هو ان ينظر الى عمل الفرد لا الى هويته ونسبه ومكان عيشه واطاره الاجتماعي ، والانصاف هو ان لا يؤاخذ الفرد بجريرة أبيه او ابناء قبيلته او أهله ، والانصاف أخيرا ان لا يوضع فرد او مجموعة من الافراد في دائرة الشك والاتهام لانهم يحملون فكرة لا نرضاها ، أو يسعون الى طريقة حياة لا نرتاح لها .
اين هي المشكلة يا ترى ؟
أهي في الافراد الذين يجبنون عن التعبير عن ذاتهم خشية غضب من يخاف غضبهم ، أم هي في الذين يعرفون الحقيقة لكنهم يجبنون عن الوقوف الى جانبها وتحمل مراراتها ، أم هي في المجتمع الذي يستريح الى كل ما هو قائم وينفر من كل جديد ؟ .
لا ندري ، ما ندريه هو ان اعطاء الفرد حقه في التعبير عما يشاء ، ولو كان مخالفا للسائد والمتفق عليه ، هو السبيل الى كشف المستقبل ، وهو الخط الواصل بينه وبين الحاضر ، فاذا قطعناه لأي سبب من الاسباب ، فقد انقطعنا عن المستقبل ، وحصرنا انفسنا بين جدران الحاضر ، الذي يشي بصورة الماضي بقدر ما يمهد لذلك المستقبل .
المجتمع المتوازن ، مثل الشخص المتوازن ، هو الذي لا يسجن نفسه في دائرة الخوف من الجديد ، الجديد في الافكار والجديد في التصورات وفي انماط وسبل الحياة ، كما لا ينساق ـ دون تأمل ـ وراء دواعي الرجاء ، فهو في حياته يخاف بقدر ما يرجو ، ويرجو بقدر ما يخاف ، فاذا اختل الميزان لصالح الخوف ، اصبح عصيا على كل تجديد ، واذا اختل لصالح الرجاء اصبح مقودا بالنزق منساقا وراء كل ناعق .
عكاظ 22 يناير 1998
مقالات ذات علاقة

الحق أولا

الحداثة كمحرك للتشدد الديني

عن العالم المحبوب

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

طريق التقاليد

الطريق الليبرالي

تكون الهوية الفردية

عن الهوية والمجتمع



رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...