02/01/1995

الفكــرة وزمن الفكـرة



||التراث الاسلامي – عدا النص القرآني والنبوي – مستخلص نظري لمراحل زمنية محددة. ومرجعيته بالنسبة لنا مرجعية احتجاج لامرجعية اثبات وحسم||
تزيد قائمة الابحاث والكتب التي اصدرها المفكر المعروف د. محمد عمارة عن الخمسين كتابا ، تدور بمجملها حول محور واحد ، هو اعادة تقديم التراث الفكري الاسلامي ، وتحليل تاريخ المعرفة بما يؤدي الى استنباط منهج جديد ، تقوم على اساسه ثقافة متواصلة مع اصولها ومنسجمة مع العصر .
المرحوم د. محمد عمارة

ينطلق عمارة في ابحاثه ، من ايمان شديد باهمية المحافظة على التراث الفكري للامة الاسلامية ، واهمية وضعه على طاولة النقد والتحليل في آن ، وهذا مايميزه عن عدد بارز من الباحثين العرب الآخرين ، الذين ينطلقون من التشكيك في جدوى اكثر ماوصل الينا من تراث وافكار ، كما هو حال المفكر الجزائري الأصل الاستاذ محمد اركون ، ويمثل كلا الباحثين ـ عمارة واركون ـ نموذجا لمدرسة تتبنى الدعوة الى اصلاح الثقافة السائدة في العالم الاسلامي ، واعادة وصل ما انقطع بينها وبين المسلم المعاصر ، مع ان الفرق في طريقة التعاطي واغراضه الفورية بين الرجلين يبدو شاسعا .
دعوة قديمة
والحقيقة ان الدعوة الى مناقشة ونقد الثقافة المتداولة ، لم تكن مقتصرة في اي وقت من الاوقات ، على تيار بعينه او عدد محدد من المفكرين على وجه الخصوص ، لكن معظم الذين تبنوا هذه الدعوة فشلوا في الصمود امام جاذبية المتبنيات الخاصة بكل منهم ، فتحولوا من التحليل الموضوعي المفترض في الباحث ، الى تجميع الادلة  على سلامة متبنياتهم أو ممارساتهم الخاصة على المستوى الفكري او الاجتماعي ، اما  الممارسة الفعلية للنقد والتحليل بغرض الوصول الى منهج منطقي في تقييم الثقافة ، فلم تحظ الا بالقليل من العمل والقليل من العاملين .
ومع النهوض الفكري الذي تبدو تباشيره قوية في افق العالم الاسلامي ، فان الدعوة الى دراسة جديدة للتراث الاسلامي تحظى باهتمام متزايد ، بالنظر الى شعور متفاقم بضرورة الخروج من قمقم الغربة عن الاصول الثقافية للامة ، القمقم الذي يتساوى فيه الاستسلام المطلق للتاريخ ، والهروب العشوائي عن الذات الى ثقافة الاخرين .
قواعد البحث
ولانجاز دراسة مثمرة للتراث الاسلامي ، دراسة تستهدف استثمار مافيه من كنوز ثقافية ، فان الحاجة تدعو الى الاتفاق على قواعد في التحليل يتبعها الباحثون في دراستهم للموروث الثقافي والتجربة التاريخية للامة ، لضمان الوصول الى نتائج معقولة بدلا من اعادة السرد ، الذي كان طابع الاعمال البحثية في هذا الحقل لوقت طويل .
 من بين تلك القواعد نذكر بصورة خاصة تأكيد اقتران النتاج الفكري لمسلمي العصور السالفة بظرفه التاريخي ، بحيث يصبح تجريده عن هذا الظرف مخلا بموقعه ضمن المنظومة الفكرية المتكاملة ، ويقتضي هذا ملاحظة العلاقة الوثيقة بين الفكرة وزمنها ، وموقعهما معا ضمن التجربة التاريخية للامة.
بناء على هذا الاساس فانه ينبغي النظر الى الموروث الفكري ـ باستثناء النص القرآني والنبوي ـ باعتباره المستخلص النظري لمرحلة ، او عدد من المراحل من التاريخ العام للامة الاسلامية ، وبالتالي فان مرجعيته بالنسبة الى فكر المراحل التاريخية اللاحقة ، محددة بكونها مرجعية احتجاج لامرجعية برهنة .
ان اقرار هذه القاعدة يعتبر انجازا كبير الاهمية ، في دراسة تاريخ الفكر الاسلامي ، من شأنها ان تساعد على حل اشكالية العلاقة بين الماضي والحاضر ، سيما على مستوى علاقة التاريخ بقيمة الفكرة ، وبالنسبة للمسلمين فان الرداء التاريخي للفكرة ، يلعب دورا فعالا في تحديد قيمتها عند العرض ،  خلاف ماهو متعارف في العالم ، من اعتبار حداثة الفكرة عنصرا اضافيا في قيمتها .
حاكمية الماضي
جوهر المشكلة التي تعالجها هذه القاعدة ، هي مانسميه (الاجماع) والذي تمدد من اصول الفقه الى معظم العلوم ، وفحواه ان اجماع علماء الامة في عصر من العصور على حكم معين في مسألة ، يجعله حاكما على الاجتهادات الاخرى اللاحقة ، الا اذا ثبت بطلان واحد من مباني ذلك الاجماع ، وقد تمدد هذا التصوير بحيث اصبح التوافق على رأي او اشتهاره ، بل وحتى السكوت عن مخالفته في بعض الاحيان ، منتجا للنتيجة ذاتها ، الامر الذي جعل المفكرين في الازمان اللاحقة ، في حرج من مناقشة ماسبق نقاشه في العهود الماضية .
ويبدو ان هذه المشكلة قد واجهت علماء المسلمين منذ ازمان بعيدة ، وحينها لم يجدوا بدا من ابتكار حل لمشكلة العلاقة بين زمنهم وازمان اسلافهم ، فحواه تقسيم الازمنة الثقافية الى قرون مفضلة واخرى دونها في الفضل ، بناء على مايروى من المأثور النبوي (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) والذي جرى تفسيره بان الغطاء التاريخي الذي يضيف الى قيمة الفكرة ، ينسحب متدرجا من عصر الصحابة الى عصر التابعين ، ثم تابعي التابعين فحسب ، ومع ان هذا الحل المبتكر لايعالج المشكلة تماما ، الا انه وفر لهم مخرجا مناسبا في ذلك الوقت .
مخرج حرج
وفي الوقت الحاضر يشدد عدد من الباحثين على اتباع ذات المنهج ، اي التمييز بين القرون المفضلة وسواها ، ان القبول بهذا المنهج مبرر بأن اقرب القرون الى عصر النبوة هم الاكثر قربا ومعايشة لظرف النص الديني ، وبالتالي شروطه وابعاده اي الاقدر فهما لجوهره ، لكن جرى تمديد هذا التصوير ليغطي معظم ماحدث في تلك الازمنة بغض النظر عن علاقتها بموضوع النص ، فشمل تقييم الاشخاص والافكار والتجارب .
ونتج عن هذا التمديد مانراه من تناقض محرج في قراءتنا للتاريخ الاسلامي ، أدت في حالات كثيرة الى اعتبار الصحة في القول ونقيضه ، واسباغ العصمة على القتيل وقاتله ، واعتبار مجموع ماحدث اجتهادات مبررة ، تمنع اللاحقين من اعادة تقييمها او مناقشة مبانيها ، خوفا من خرق حجاب العصمة الذي اسبغناه ـ اجتهادا ـ على من سلف .
ان التامل في هذا الموضوع ومناقشته تعتبر جوهرية ، اذا ما اخذنا بعين الاعتبار المستخلصات النظرية التي ترتبت على تلك التجارب ، وموقع هذه المستخلصات من مجمل التجربة التاريخية الاسلامية ، ثم وعلى وجه الخصوص من محاولاتنا الفكرية المعاصرة ، بمعنى آخر فان تلك مستخلصات تلك التجارب قد تجردت من ظرفها التاريخي الخاص ، واصبحت جزءا من المنظومة الثقافية التي ورثناها عن الاسلاف ، فاذا واصلنا تقييمها باعتبارها حاكمة على غيرها ـ بالنظر الى القيمة الاضافية المفترضة لزمنها ـ فسنجد انفسنا في مواجهة تناقض حقيقي مع الاسس النظرية التي يقوم عليها الشرع المطهر ، او مع القواعد العقلية التي تسالم عليها عقلاء كل الازمان .
ان المخرج من هذا التناقض هو تطبيق ميزان نقدي واحد على مختلف جوانب التجربة التاريخية ، والتاكيد على اقتران الفكرة بظرفها التاريخي ، الذي يساعد فهمه في تقييمها واستبيان المسافة بينها وبين ماهو بديهي عقلا ، او  ثابت شرعا .
نشر في (اليوم) 2 يناير 1995
مقالات ذات صلة




26/12/1994

الـدين والمعـرفة الدينـية

اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى ضرورة التفريق بين الدين (النص الديني) من جهة والمعارف الدينية والعلوم التي تسمى اسلامية من جهة اخرى ، وكان الغرض هو الدعوة الى منهج لقراءة التراث الاسلامي قراءة علمية تؤكد على اصالة النص واوليته ، لكن هذا التفريق لم يرض بعض الزملاء الذين اشاروا الى ان هذا الفصل ينطوي على قدر من التعسف.
الراي شخصي والحقائق الخارجية موضوعية
طريق العلم وقيمته
العلم هو النتائج الظنية او القطعية التي يتوصل اليها البحث والتحليل في موضوع معين نظري أو عملي ، بحيث يستغني العارفون به عن اعادة التجريب والتحليل ، في وقت معين ، وهذا التحديد اشارة الى وثيق الارتباط بين العلم والزمن ، اذ ان تطور الزمن قد يكشف عناصر جديدة ذات صلة بموضوعه ،لم يجر اخذها بعين الاعتبار في التجارب السابقة ، مما يمكن من اعادة التحليل على اسس امتن ، ويوفر الفرصة للتوصل الى نتائج اكثر صمودا عند النزاع .
والتحليل هو اصطناع علاقة بين عناصر اولية هي المعلومات ، بالاعتماد على امكانية مفترضة للتفاعل فيما بينها ، تتوفر في اطار منهج تحليل خاص يقدمه الباحث كمسار واطار لعمله العلمي ، فالمعلومات سابقة على العلم ، ويؤثر وجودها ـ قلة أو كثرة ـ على مستوى العلم الناتج عن التحليل ، ان توفر المعلومات او ندرتها ، تابع لمستوى مايوفره المجتمع من بيئة مناسبة للعمل العلمي ،  ولاسيما الاعتبار الاجتماعي للنشطين في هذا المجال ، ومدى تمتعهم بحرية البحث والتجريب ، ثم التعبير عن النتائج .
حاجات البيئة
وبديهي ان الاعتبار الاجتماعي للعلم والعلماء ، انما تقرر لكون الجهد العلمي واحدا من الوسائل التي يستخدمها المجتمع في انجاز حاجاته ، فالتقدم والرفاهية والقوة لاتاتي الا بتطبيق القواعد والارشادات العلمية ، ولم يحصل في اي ظرف ان تقدم مجتمع من المجتمعات ، دون الاتكال على قواعد العلم وارشاداته .
ومن هذه الزاوية خصوصا ، يمكن استنتاج ان العلم ليس ـ في اغلب الاحيان ـ محايدا ، ان ارتباطه بحاجات المجتمع الذي ينتج فيه ، يجعله خاضعا او ـ على الاقل ـ متأثرا بايديولوجية المجتمع ، بل ربما اصبح العلم في حالات معينة جهازا لصناعة الايديولوجيا المجتمعية ، اذ يحتاج مجتمع معين في وقت من الاوقات ، للاخذ بسلوك جديد او التخلي عن سلوك سائد ، خلافا لمقولات النظام القيمي الخاص به ، وهذا مايحصل ـ عادة ـ في اوقات الشدة أو ظروف التحول الاجتماعي ، فيقوم اهل العلم بوضع قاعدة نظرية لتبرير هذه الحاجة ، ومستلزماتها العملية ، بحيث يجري احلال السلوكيات الجديدة ضمن النظام القيمي للمجتمع كامتداد له ، حتى لو لم تكن كذلك في الاصل ، فيتاح للفرد ان يقوم بالعمل الذي لم يكن معتادا او مصنفا كأحد الافعال الصحيحة ، دون ان يشعر بتأنيب الضمير أو يتعرض لنقد اقرانه في المجتمع ، وقد يستعمل هذا المنهج التبريري لتسهيل انفلات المجتمع ، او القوى الفاعلة فيه ، من النظام القيمي الضابط للسلوك والعلاقات الاجتماعية .
الشيء ونقيضه
 ولايصعب العثور على الكثير من المفارقات المثيرة للدهشة في تاريخنا ، والتي انما وجدت في ظرف كالذي ذكرناه ، كما ان الامم الاوربية ابتدعت مقولة رسالة التنوير ، التي يحملها الجنس الابيض للعالم ، كمبرر لاستعمار البلدان والشعوب الملونة ، التي وصفت بانها في حاجة الى من يهديها طريق التقدم الذي اكتشفه الاوربيون دون غيرهم ، وذلك للخلاص من مشكل التناقض بين دعوة التحرر التي شاعت في اوربا قبيل الحقبة الاستعمارية ، وبين ارادة الاستعمار الذي تبرره  عوامل اقتصادية واستراتيجية ، فاستعمال العلم لتسويغ الاغراض الاجتماعية المؤقتة أمر متعارف ، ولولا هذه الامكانية ربما لم يشعر الناس بحاجة ماسة الى تقدير العلم والعلماء وتقديمهم على من سواهم .
وعلى هذا فمن البديهي القول ان العمل العلمي وماينتج عنه ، غير محايد ولاموضوعي ، في اغلب الحالات ، بمعنى ارتباطه بالمعلومات المفترض حيادها ، دون تاثر بالظرف الاجتماعي الذي يعايشه .
ــ اذا لم يكن العلم محايدا  فهل يمكن القول ان المعلومات محايدة ؟ .
ــ ربما ولكن ليس على الدوام ، فالعناصر التي يجري تحليلها ضمن عملية علمية ، تتضمن ملاحظات مباشرة لوقائع ، اضافة الى نتائج لتجارب أخرى سابقة ، وهي موصوفة بما سبق ذكره ، كما ان تجميع العناصر المشتركة في التحليل ، هو في حقيقته تقرير لموقعها ضمن هذا السياق او ذاك ، وهو يتأثر بخلفية الباحث التي لايمكن ان تكون محايدة ، بالنظر لكونه جزءا من مجتمع له ايديولوجية خاصة أو نظام قيم خاص ، وليس شجرة معزولة في صحراء .
الـــدين
اما الـدين فهو مجموع الحقائـق التي علمها الله سبحانه لخلقه ، على لسان نبيه ، لتمكينهم من حمل الامانة العظمى ، وهي خلافته في الارض  ، ويتضمن قواعد لنظم علاقة الانسان بربه ، وأخرى لنظم علاقته بمن سواه من البشر ، وثالثة لنظم علاقته بالكون المادي المحيط به ، والحقائق الدينية يقينيات ليس فيها جدل ، في صحتها او صلاحيتها ، اذ انها تأتي من عند خالق الكون ، العالم بكل مافيه وكل مايصلحه .
وفي هذه النقطة يختلف الدين عن العلم ، فبينما الدين كامل وحقائقه نهائية ، كما اخبرنا الله سبحانه {اليوم اكملت لكم دينكم } فان العلم لايكتمل ، بل هو في حال تطور لايتوقف ، وكل مرحلة من مراحله تكشف قصور سابقتها .
 العلم الذي نعنيه هو بطبيعة الحال علم البشر ، فعلم الله مطلق وكامل ويقيني ، وهو مالا يستطيعه بشر ايا كان .
المعرفة الدينية
ولذلك ميز علماء المسلمين بين ارادة الله للاشياء ، وقدرة عباده على ادراك تلك الارادة ، وقالوا بوجود عالمين للحكم الشرعي ، اعلاهما عالم التكوين حيث ان لله في كل واقعة حكما ، مطابقا للواقع على وجه اليقين ، وأدناهما عالم التشريع حيث يسعى اهل العلم لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره ، بالاعتماد على ادوات الاستنباط المعروفة ، وهم مع بذل كامل جهدهم لبلوغ الحقيقة ، لايستطيعون القطع بان ماتوصلوا اليه هو عين مراد الخالق سبحانه ، او انه مطابق للواقع على وجه اليقين ، ولذلك عرف بعض الاصوليين الفقه بانه الظن الغالب ، أو القطع بحسب الطاقة العقلية للبشر غير المعصوم ، وهي محدودة على اي حال .
ومن مظاهر القصور في علم البشر ، اختلاف فهمهم للدين وحقائقه ، فالذي وصل الينا على لسان النبي (ص) يتضمن ماهو واضح لايحتاج الى مزيد بيان ، كما يتضمن مالايعرف كنهه غير الراسخين في العلم ، وهو اذن بحاجة الى تفسير وتبيين ، ان اختلاف الناس في فهم مقاصد النص الديني ، هو احد اللوازم القهرية لاختلاف العقول ، وتباين مقادير العلم بين اهل العلم ، وهذا الاختلاف هو الذي جعل العلم ضرورة لفهم الشرع . كما يوضح هذا مكان العلم بالنسبة الى الدين ، فهو يفسره ويبين غوامضه ويفصل مجملاته ، كما يشخص موارد تطبيق كل حكم من أحكامه ، وبقدر مايتطور العلم ترتقي قدرتنا على فهم الدين .
ومنذ البعثة النبوية كان تطور العلوم في مجالاتها المختلفة ، سبيلا للكشف عن حقائق في الدين او سنن الحياة ونظام الكون ، اشير اليها مجملة في النص القرآني او النبوي ، ولم يتح مستوى العلم في ازمان سابقة استيعابها او معرفة تطبيقاتها .
ومن هذا يتضح ان فهم البشر لحقائق الدين رهين بمقدار معارفهم ، ويبقى هذا الفهم قاصرا ، بقدر ما العلم قاصر ، ان قصور العلم هو الاساس في تطوره ، والاعتقاد بهذا القصور هو الدافع الى البحث عن مجهولاته والتعرف على المزيد من دقائقه ، وهو السر في حركته الدائمة نحو الكمال الذي لايبلغه .
نشر في (اليوم) 24 رجب 1415 (26/12/1994)

 مقالات ذات علاقة

20/12/1994

التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب

 يتفق معظم المتحدثين في الثقافة العربية على ان الارث الثقافي الذي انتقل الينا من الاسلاف ، عظيم الفائدة اذا ما  اتخذ دعامة للجهد الهادف الى تجديد الحياة الاجتماعية في العالم العربي ، ذلك ان التراث ومعطياته الثقافية تشكل جانبا مهما من ذهنية الانسان العربي ، التي تتضمن تصوراته عن نفسه والاخرين ، وطريقة تفكيره وتطلعاته والقيم التي تنتظم حياته ، فهو من هذه الناحية  يمثل الوعاء الذي يحتضن مقومات هويته .

ويبدو لي ان العرب يتاثرون بموروثهم التاريخي بدرجة اعظم من اي شعب آخر، ربما لان تكون وتراكم هذا التراث ، قد تقارن زمنيا وموضوعيا مع قيام الامة العربية ، التي تكونت كحقيقة وكيان محدد الملامح ، في  ظل سيرورة تاريخية كان محركها وناظمها الاسلام ، بكل مافيه من عقائد وافكار وقيم ونظام حياة .

لهذا فمن الصعب بل من المستحيل التعامل مع التراث ، باعتباره قابلا للالغاء او التهميش ، فهو متموضع في مكان القلب من كل ماله علاقة بالثقافة في حياة الانسان العربي ، وعليه فان الخيار المنطقي هو التعامل ايجابيا مع التراث في اي عملية ثقافية تتعلق بالمجتمع العربي.

البحث عن منهج
 معظم الراغبين في التعامل مع التراث ، مثل الذين يشككون في مكانته ضمن المنظومة الثقافية العربية ، لايزالون ـ مع افتراض امثل الاحتمالات ـ يبحثون عن المنهج الاسلم في التعامل مع هذه التجربة التاريخية العظيمة ، بكلمة اخرى فاننا لانزال نفتقر الى منهج متفق عليه ، للبحث في التراث بل وفي المكانة التي ينبغي له ان يحتلها كمرجع او كمقياس .
وفي هذا المستوى فان الجدل الاساسي ينصب على مايفترض انه قراءة انتقائية للتراث ، لاتاخذ بعين الاعتبار مجموع العوامل التي تتشكل منها التجربة التاريخية للامة ، بل تنتقي مايرى الباحث فيه تدعيما لرأي يتبناه او يدعو اليه ، ولذلك تجد تكرارا ان باحثين يدعون الى اراء متناقضة ، بامكانهم العثور على مايكفي من الادلة من تلك التجربة لكي يدعم كل منهم رايه ، مما يثير الشك في صحة المرجعية التي توفر الدعم للراي ونقيضه في آن واحد .

الخطاب الجماهيري
بالنسبة للباحثين المحترفين فان القضية تبدو اسهل تناولا ، اذ يبدو من السهل الاتفاق معهم على ايجاد تراتب منهجي، بين ماهو دين (نص ديني ) وماهو معارف دينية (شروح او تفاسير او استنباطات من النص ، او اجتهادات محكومة بالقواعد المنصوصة) وماهو علوم تبلورت بموازاة العلوم  الدينية ، دون ان تكتسب المرتبة الخاصة بالعلوم الدينية ، او علوم تبلورت في الاطار الاجتماعي للجماعة المسلمة ، فهي منسوبة للمجتمع وليس الدين  .

لكن الصعوبة تاتي من الاختلاط القائم بين البحث العلمي والخطاب الجماهيري ، اذ يضطر المتحدث الى عامة الناس ـ بحكم العادة ربما ـ  لعرض العديد من العناصر التاريخية او الثقافية التراثية المصدر ، من اجل اثارة حماسة المستمعين ، وقد جرى العرف على التساهل في الاستدلال بما يبدو ـ ظاهريا على الاقل ـ غير مخالف للاحكام الشرعية ، من اجل تشجيع الناس على الاهتمام باعمال الخير او توجيه افكارهم الى الحقائق التي لاينبغي لهم ان يغفلوها .

وهذا المنهج على الرغم من سلامة مقاصده ، يؤدي ـ في احيان كثيرة ـ الى اشاعة افكار او قيم لايمكن التاكد من صدقيتها ، نحن نعلم ان الناس يتاثرون بالخطاب الذي يحوي اكبر قدر من الشواهد والاشارات الحادة ، المثيرة للنشاط الذهني في بعد واحد ، وهم يستريحون الى حشد الادلة وراء الفكرة التي يُدعون اليها ، الفكرة العامة ، المطلقة والاحادية البعد ، التي لاتحتمل ـ في اذهانهم على الاقل ـ النقض او التخصيص  .

 ويمكن لنا ان نستوعب خطورة هذا المنحى ، اذا ما وضعنا الافكار المتداولة بين عامة الناس عن الدين والتاريخ على مائدة النقد ، واقمنا مقارنة بينها وبين ماهو ثابت الصحة ، عندها سنكتشف ان العديد مما يتداول باعتباره بديهيا او متعارفا على كونه صحيحا ، هو في الحقيقة غير ذلك ، وقد جمع الشيخ ناصر الدين الالباني نحو خمسة الاف من الروايات ، المنسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام ، مما تحفل به الكتب ويتحدث عنه المتحدثـون ، وهي مشكوكة او كاذبة ، وقد وجدت بينها عددا كبيرا مما تسالم الناس على صحته ، وتعارف المتحدثون على قوله باعتباره ثابتا بل بديهيا ، ومثل ذلك يمكن القول عن القضايا التاريخية والاراء في مختلف القضايا والامور ، مما يحتاج الى تمحيص ، لكنها تقال للناس من باب التساهل او الطمع في ان تساعد على اقناعهم بالافكار الصحيحة ، لكنها ـ بعد زمن ـ تصبح جزءا من ذاكرة الناس وتتداخل في النسيج الاصلي فلايعود من الممكن ـ عند غير الباحثين المختصين على الاقل ـ  تمييزها عن العناصر الصحيحة .

زمن العجلة
ومما يزيد الطين بلة ان كثيرا من المشتغلين بالشأن الثقافي ، ممن يتحدثون للناس او يكتبون لهم في وسائل الاعلام المختلفة ، لاينفقون في البحث العلمي من وقتهم الا القليل ، وقد وجدت من متابعة لعدد من هؤلاء ان معظمهم لديه اختصاص معين لكنه يتحدث في كل قضية ، كما لو انه قد كشف له غطاء العلم ، فهم في ممارستهم للدعوة والتبشير بالافكار التي يتبنونها ، لايتوقفون عن الحديث في اي موضوع طالما كان يخدم تلك الافكار ، بغض النظر عن قدرتهم على التعامل معها او نقدها ،  وغالبا ماتجد احدهم شاغلا كل وقته في الكتابة او التبليغ والحديث الى الناس ، بحيث لايتبقى لديه سوى القليل جدا من الوقت يصرفه بالكاد في استذكار مايريد الحديث عنه في اليوم التالي ، ومثل هذا لايستطيع تخصيص الوقت الذي يحتاجه ـ في العادة ـ من يريد التمحيص ، وياخذ على نفسه التحقق من كل امر قبل اعلانه على الناس . هذه الطائفة من المشتغلين في الشان الثقافي هي الاكثر تواصلا مع الناس ، وهي في الوقت ذاته اقل محترفي العمل الثقافي بذلا للجهد في الانتخاب والاختيار .

وجود مثل هذه الحالة ، وهي امر واقع لايسع احد الغاءه ، هو مما يؤكد الحاجة الى بحث واسع يستهدف تقييم العناصر المختلفة التي يتشكل منها موروثنا الثقافي ، لابراز ماهو صحيح وتسليط الضوء على ماهو مصطنع او فاقد الصلاحية ، وهذا بدوره يدعو الى ايجاد منهج نقدي متوافق عليه لتقييم تلك العناصر ، اضافة الى اشاعة مناخ من التسامح ، يوفر الفرصة لنقد الافكار التي يعرضها هذا او ذاك من المتحدثين في الشأن الثقافي ، حينها سيكون كل متحدث مطمئنا الى ان مايعرضه يتمتع بالموثوقية او مواجهة النقد ، حتى لاتقال الافكار للناس ، فيترك الغث منها والسمين يدور في الانفس فيبني من جهة ويهدم من جهة اخرى .

نشر في (اليوم) 17 رجب 1415 - (20 ديسمبر 1994)



مقالات ذات علاقة :

مقالات  ذات علاقة
-------------------


13/12/1994

دولة واحدة ... مجتمعات عديدة



خلال الاشهر القليلة الماضية تابعت وسائل الاعلام عددا من القضايا التي تبدو في ظاهرها مختلفة باختلاف مواقعها ومبرراتها ، على الرغم من كونها تمثل تجسيدات لمشكلة واحدة ، الا وهي مشكلة التنوع القومي والثقافي ، في اطار الدولة الواحدة وحدود هذا التنوع ، من اتفاق الولايات المتحدة مع كوبا على الحد من هجرة المواطنين الكوبيين ، الى منع المحجبات من دخول المدارس الفرنسية ، مرورا بالجدل الدائر في السودان حول تطبيق الشريعة ، وانتهاء بمحاكمة النواب الاكراد في البرلمان التركي .

الدولة القومية
ظهرت فكرة الدولة القومية في اوربا في اواخر القرن التاسع عشر ، كواحدة من المحاولات الهادفة الى حل مشكلة التنافر الاجتماعي ، الناتج عن تعدد الثقافات وتعدد القوميات في الدولة الواحدة ، وفي ذلك الوقت فان طبيعة النظام السياسي في اكثر الاقطار الاوروبية ، كانت توجد اسبابا لقيام تقسيم طبقي على اساس الانتماء القومي ، مما يجعل طائفة من المواطنين محكومة بارادة الطائفة الاخرى ، فتشكل الاولى مجتمع الدرجة الثانية ، بينما تستأثر الثانية بالدرجة العليا ، ومايترتب عليها من امتيازات ومكاسب ، بل ان بعض الامبراطوريات قامت بمحاولات جادة وعنيفة ، لتذويب القوميات والثقافات في بوتقة القومية المسيطرة ، مع ما استتبع هذا السعي من تكاليف باهضة ، على الصعيد المادي والبشري ، كما على الصعيد السياسي ، ولاينسى معظم المؤرخين سياسة الفرنسة في الجزائر ، ولاسياسة التتريك التي قادها حزب تركيا الفتاة ، عشية الغروب المؤلم لشمس الدولة العثمانية ، فضلا عن محاكم التفتيش المشهورة ، التي اعقبت سقوط الدولة الاسلامية في الاندلس .

تنوع باهظ الـثمن
وفي الفترة بين الحربين العالميتين حاول الحزب النازي بزعامة ادولف هتلر ، الذي اصبح من ثم الحزب الحاكم ، احياء هذه النزعة وتأجيجها على نطاق اوسع ، يقوم على التمييز بين الالمان ، باعتبارهم النموذج الانساني الاصفى والارقى ، وبين بقية سكان العالم الذين اعتبرهم من الدرجة الثانية ، وادى ذلك الى الويلات والمآسي المعروفة في الحرب الكونية الثانية .
اما في العالم العربي ، فثمة امثلة عديدة على التنافرات السياسية ، التي نتجت عن التعدد الثقافي او القومي في القطر الواحد ، من بينها الحرب الطويلة المزمنة في شمال العراق ، بين الحكومة والاقلية الكردية ، والحرب الاهلية اللبنانية التي استعرت بين الطوائف الدينية ، مرتين على الاقل خلال اقل من قرن ، وحديثا جدا الدعوة المتعاظمة بين الجزائريين الذين يرجعون الى اصول بربرية ، للحصول على وضع مميز ضمن الدولة الجزائرية .

يطمح السياسيون الى دولة ذات مجتمع واحد ، بثقافة واحدة ، لاتقاء التعدد الذي قد يصبح في وقت من الاوقات ، مبررا للتنافر الاجتماعي ، لكن يبدو ان تحقيق مثل هذا المجتمع ، لم يعد الان ضمن قائمة الممكنات على الصعيد السياسي ، بل ان العالم يسير حثيثا باتجاه مستويات من التنوع الثقافي داخل كل دولة ، تعيد من جديد صورة الامبراطوريات الكبرى ، التي سادت في ازمان سالفة ، وضمت تحت لوائها قوميات وشعوبا عديدة ، على بقاع واسعة من الارض ، كما هو الشأن في الدول الاسلامية المتعاقبة ، وامبراطوريات القرون الوسطى الاوربية ، ان تزايد الاهتمام بقضية حقوق الانسان من جهة ، وتحرير التجارة الدولية من جهة اخرى ، اضافة الى التقدم العظيم في وسائل الاتصال الجمعي ، ولاسيما في الربع الاخير من هذا القرن ، يؤذن بسقوط الحواجز السياسية التي تفصل بين الدول القومية ، كما يعمل على تفتيت الحدود الثقافية ، التي تشير الى خصائص لمجتمعات تتميز بها عمن سواها .

تعدد تحت سقف واحد
وبالنظر الى هذه التطورات ، فان الرهان القديم على امكانية قيام مجتمع نقي العنصر ، موحد الثقافة ، اصبح جزء من الماضي ، وحل محله قبول يتزايد مع مرور الزمن ، بفكرة المجتمع المتنوع والمتعدد الثقافات ، ضمن الاطار القانوني لسيادة الدولة .
لكن التعدد كان في الماضي ارضية للتنافر الاجتماعي ، ادى في احيان كثيرة الى نزاعات سياسية مكلفة ، ولذلك فان اعتماده قاعدة للعلاقة بين الدولة الحديثة والمجتمع ، بحاجة الى منهج في العمل واجراءات سياسية ، تتيح معالجة الاشكالات التي لابد ان تنتج عن الوضع الجديد .
ان اهم جزء من منهج العمل ، هو الاعتراف بحق كل مجموعة ثقافية في التمتع بخصوصيتها ، وحماية حقها الكامل في التعبير عن توجهاتها الثقافية ، بما لايصل الى الاضرار المادي او المعنوي بالمجموعات الاخرى ، وهي تحصل على هذا الحق في مقابل اقرارها الكامل بسيادة الدولة ، وتعالي القانون الوطني ، ومعالجة اي جزء من ثقافتها الخاصة ، ربما ينطوي على توجهات مخالفة لمصالح مجموع البلاد .

كما ينبغي اتخاذ اجراءات تستهدف تأكيد الهوية الوطنية ، الجامعة لمختلف الافراد والمجموعات الثقافية والاجتماعية في البلد الواحد ، والتاكيد على اعتبار هذه الهوية وتطبيقاتها ، حاكمة على اي مجموعة بمفردها ، بالنظر لكونها تمثل الحد القانوني والمعترف به ، لمفهوم المصلحة العامة الذي يرجع اليه الجميع .

وياتي في طليعة تلك الاجراءات ، مساعدة كل مجموعة على الانفتاح على الاخرى ، ثقافيا واقتصاديا ، حتى يبقى التنوع في حدوده الطبيعة ، كخاصية للجماعة ، فلا يتعداها الى الحدود المبغوضة ، كأن يصبح مبررا للتعالي على الغير او اعتزالهم .

 وفي الولايات المتحدة ومعظم الدول الاوربية ، التي يهاجر اليها مئات الالاف من البشر كل عام ، تتبنى الحكومات سياسة مزدوجة لاستيعاب المهاجرين ، تتضمن ـ من جهة ـ التاكيد على كون وطنهم الجديد هو الوطن النهائي الذي يختص بالولاء والحب ، كما تتضمن ـ من الجهة الاخرى ـ حماية حقهم في التعبير عن هويتهم الثقافية الخاصة ، مع تعديلها لكي تتناسب ونمط الحياة ، ومتطلبات القانون في الوطن الجديد .

ويظهر من دراسة التجربة الامريكية على وجه الخصوص ، ان سياسة الدمج المتوازن تحقق نجاحات كبيرة ، فهذا البلد الذي تشكل اساسا من مهاجرين من مختلف ارجاء العالم استطاع الحفاظ على مكانته كاقوى بلد في العالم ، واكثرها تقدما ، بل انه استثمر ذلك التنوع في تعزيز نفوذه الاقتصادي والثقافي في معظم بلدان العالم الاخرى ، بخلاف التجربة السوفياتية البائدة ، التي قامت على الدمج القسري وسيطرة الاكثرية الروسية ، فانتهت الى النزاعات القومية الدامية ، التي قلّ ان تخلو صحيفة يومية من اخبار جديدة عنها وعن مآسيها .
نشر في (اليوم) 13-ديسمبر- 1994

28/11/1994

فضائل القـرية وحقائق المدينة


في منتصف السبعينات دعا الرئيس المصري الراحل انور السادات الى ما اسماه بالعودة الى اخلاق القرية ، وعزز هذه الدعوة بوضع عدد من التنظيمات التي تحقق هذا الغرض ، من ضمنها القانون المشهور باسم (قانون العيب) الذي الغي قبل اسابيع ، وقد قيل في تبرير هذه الدعوة ، بانه ثمة حاجة الى التصدي للتراجع المتفاقم في الاخلاقيات العامة ، الناتج عن انهيار الضوابط الاجتماعية التي يتمتع بها مجتمع القرية .

وتكشف هذه الدعوة والكثير من المقالات ، التي تنشرها الصحف حول فضائل القرية وفضائل الماضي ، عن الفزع الذي ينتاب كثيرا من الناس ، ازاء شيوع النزعة المادية وثقافة الاستهلاك في المجتمع المديني ، حيث اصبحت المعنويات والفضائل المتفق عليها ، مجرد حكايات للتفاخر او الذكرى ، تكافح ببسالة للحفاظ على ما تبقى لها من مواقع  في ميدان الحياة العملية .

لكن ـ مع هذا ـ لم يتوقع احد ان تحظى هذه الدعوة بنصيب من النجاح ، بل وصمت بانها مجرد تغطية لموقف غير عادل تجاه القوى الاجتماعية المدينية المعارضة لسياسات الرئيس .

اتجاه الهجرة
 والحق ان قليلا جدا من الناس في العالم العربي ـ ممن عاشوا حياة المدينة ـ يرغب في العودة الى القرية ـ كمكان او كأسلوب حياة ـ على الرغم من توافق الاكثرية على ان اخلاقياتها ، ماتزال اكثر استقامة من اخلاقيات المدينة ، وعلاقاتها الاجتماعية ماتزال اكثر دفئا .

ويمكن الاستدلال على هذا الاتجاه بالتضخم المضطرد ، في عدد المهاجرين القرويين الى المدن في معظم الاقطار العربية ، مما ادى الى تضخم مواز في حجم معظم المدن الرئيسية ، يقابله انكماش للريف ، وصل في بعض الحالات الى تفريغ قرى بأكملها من السكان ، وفي مثال ملفت للنظر نشرت صحيفة محلية في الاسبوع المنصرم ، اعلانا اصدرته بلدية احدى القرى ، يطلب من بعض الاشخاص ازالة بيوت لهم مهددة بالانهيار ، بعد تركها خالية لسنين طويلة ، الملفت في هذا الاعلان هو قول البلدية بان مناشدتها لهؤلاء الاشخاص على وجه التحديد ، اعتمد على شهادة اهل الخبرة بانهم يملكون تلك البيوت ، وتضمن الاعلان قائمة باسماء الملاك المشهود لهم ، اضافة الى مساكن وصفت بانها مجهولة المالك ، ويشير هذا الى التغير الكبير الذي طرأ على وضع القرية ، بسبب هجرة معظم سكانها ، بحيث اصبحوا منسيين من جانب الاخرين الذين فضلوا البقاء فيها ، الامر الذي ينطوي على مفارقة مثيرة .

وراء الدفء
ان عدم الرغبة في العودة الى القرية ، مبرر عند معظم المهاجرين ، بان المقارنة بينها وبين المدينة  ـ كموضوع اجتماعي ـ يتجاوز موضوع الاخلاقيات ، ويتجاوز العلاقات الدافئة الى فلسفة الاخلاق وارضية العلاقات الاجتماعية ، التي فيها من الفضائل بقدر مافيها من المعوقات ، بحيث يمكن القول ان النهوض الذي شهده العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين ، ترافق مع نقلة في الحياة الاجتماعية لمعظم العرب ، ابرز عناوينها هو التحول من حياة القرية ـ كظرف اجتماعي وثقافة ـ الى حياة المدينة ، بكل ماتتضمنه هذه من عناصر افتراق عن سابقتها .

ويبدو لي ان معظم الذين انتقلوا بين المكانين ، انما كانوا يسعون الى القبض على فرصتهم في الحياة ، فرصتهم الفردية التي تتيحها لهم كفاءتهم وطموحاتهم الى حياة ارقى واكمل ، ان سعة افق المدينة وتنوع مجتمعها ، وما يستتبعه من تعدد الفرص فيها ، هو المبرر الرئيسي لصيرورتها محلا لتحقيق الآمال .

الفرد والجماعة
ان مكانة الفرد هي ابرز الامثلة التي تجسد الفارق بين القرية والمدينة ، فالفرد في القرية منسوب ـ في اغلب الحالات ـ الى عائلته أو قبيلته ، اي الى هوية يرثها ، وعليها يتقرر مكانه الاجتماعي ، بخلاف المدينة التي تقيم الاعتبار الاكبر لانجاز الفرد ذاته ، ويعني ذلك ان الفرصة الحقيقية للتعبير عن الطموح عند عامة الناس ، انما توجد في المدينة ، حيث يتاح للفرد ـ بغض النظر عن موروثه ـ ان يعبر عن نفسه وكفاءته ، وحيث يكون هذا سبيلا لنيل المكانة التي يطمح الى تحقيقها على الصعيد الاجتماعي .
ان دفء العلاقات القروية ، وقوة النظام الاخلاقي فيها ، يعبر ـ ضمنيا ـ عن صورة من صور السلطة الاجتماعية ، التي تستثمر في احيان كثيرة للتسلط على الفرد ، ويتجسد هذا التسلط على صورة (العيب) الذي يقابل كل خروج ـ ولو جزئي ومحدود ـ على مجموعة الاعراف والتقاليد ، التي يتسالم عليها المجتمع القروي.

وتلعب الاعراف والعادات دور الاطار الذي يطبق ضمنه هذا النظام ، وفي ظروف التطور الاجتماعي ، فان هذه العادات تلعب دورا فعالا ، في اعاقة محاولات التكيف الفردي مع متطلبات التطور ، ذلك ان بعضها ، بل جلها في الحقيقة ، تبلور كاستجابة لظروف مرت على المجتمع في وقت من الاوقات ، ظروف تتعلق بمعيشته او بأمنه الداخلي ، لكن تلك الاعراف  تجردت ـ بمرور الزمن ـ عن الظروف التي نشأت في ظلها ، واصبحت مطلقة تطبق باعتبارها قيمة مستقلة ولازمة من لوازم الحياة الاجتماعية ، تقوم بدور المنظم  والضابط لسلوك الافراد واختياراتهم .

مكان الجماعة
مجتمع القرية اذن هو مكان الجماعة ، وهو تجسيد لحاكمية الجماعة على الفرد ، حيث فرصته للتعبير عن ذاته ، مرهونة بتوافقه التام مع ارادة الجماعة ، وحيث ارادته ذائبة فيها والا فهي مقموعة ، بخلاف المدينة التي لاتوجد فيها جماعة  ـ بالمعنى القروي ـ لكي تكون فيها ارادة جماعية حاكمة ، اي ان الفرد متحرر من الضوابط الاجتماعية غير المحمية بالقانون ، فالطريق مفتوح امامه للكفاح في سبيل فرصة الحياة ، التي يتمناها ويطمح الى نيلها .

على ان لهذا التباين بين قوة الجماعة وقوة الفرد ، في مجتمع القرية فضيلة ليست قليلة الاهمية ، هي التكافل والتضامن بين ابناء المجتمع الواحد او القبيلة الواحدة ، حيث يشعر الفرد بانه ـ في صراعه مع متطلبات الحياة ـ ليس نبتا صحروايا يجاهد وحيدا للبقاء منتصب القامة ، فثمة من اهله وعشيرته من يستطيع دعمه واسناده عندما يحتاج .

 وقد جرى تطوير هذه الفضيلة على يد المهاجرين الى المدن ، على صورة عرف يقضي بان كلا منهم مسئول بدرجة او بأخرى ، عن مساعدة ابناء جماعته على النجاح في حياتهم الجديدة .
على ان لهذه الممارسة الفاضلة وجهها السلبي ، اذا استعملت كوسيلة للاستئثار ، شأنها في ذلك  شأن معظم الممارسات الاجتماعية ، التي هي في الاساس فضائل ، لكنها لاتخلو ـ اذا استعملت في غير محلها ـ من الاشكالات ، لكن دعنا نوكل الحديث عن هذا الجانب الى مقالة أخرى قادمة .
نشر في (اليوم ) 28نوفمبر 1994

مقالات ذات علاقة 
المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

21/11/1994

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة



خلال تجربتها الانمائية الحديثة حصدت بلادنا الكثير من ثمار النمو الاقتصادي ، على اصعدة عديدة منها اتساع القاعدة الانتاجية للاقتصاد الوطني ، وارتفاع مستوى المعيشة ، فضلا عن تكامل الحد الادنى المطلوب من الخدمات المدنية ، وقد تغيرت صورة البلاد  بسرعة كبيرة ، قياسا الى التجارب المماثلة في بلدان أخرى ، فخلال السنوات القليلة الفاصلة بين أواخر الستينات ومنتصف الثمانينات ، تحولت من دولة يغلب عليها الطابع الصحراوي الخشن ، الى دولة حديثة المظهر حيوية الاقتصاد .
كان لهذا النمو السريع والشامل ، تكاليفه على الصعيد الاجتماعي كما كان له ثماره ، وتلك معادلة في الحياة الاجتماعية لايمكن التنكر لها او تغافلها .
على اي حال ، لانحتاج للوم انفسنا على الانعكاسات السلبية للنمو الاقتصادي. ثمة انعكاسات هي ناتج قسري عن تغير طبيعة العمل ومستوى المعيشة ، واخرى ناتجة عن اغفال المعالجة الضرورية ، للتطورات الاجتماعية المحتملة خلال مرحلة الانماء وما يليها ، فلننظر الى بعض الامثلة.

اعوام العزلة

حتى منتصف الثلاثينات الميلادية كانت معظم اقاليم المملكة ـ باستثناء المدن الثلاث الرئيسية في الحجاز ، التي ياتيها الناس مرة او مرات قليلة في العمر ـ منعزلة عن الاخرى على المستوى الاجتماعي ، فلا طرق معبدة ولا وسائل انتقال ، ولا وسائل اتصال ميسرة ليجول الناس بين هذا الاقليم وذاك ، أو يعرف اهل هذا الاقليم عن جيرانهم في الاقليم الاخر ، ولهذا فقد كانت المجتمعات المتعددة التي تألفت منها المملكة ، غريبة عن بعضها ، مختلفة في وسائل تدبير لقمة عيشها ، وبالتالي في العديد من وسائل تعبيرها عن ذاتها ، وتقرير خياراتها الحياتية .
لكن وصول بعثات  التنقيب الاجنبية الاولى ، ثم تدفق البترول وما اوجده من فرص عمل غير متوقعة ، وما جاء به من ثروة ومكانة ، غير هذه الصورة  ،  فقد بدأ الالاف من الناس من مناطق مختلفة يتحركون صوب منطقة البترول ، التي يوفر العمل فيها عائدا مجزيا ومريحا ، بالقياس الى مصادر  العيش الضيقة المعتادة ، أو صوب المدن الرئيسية التي استقبلت ثمار الدفعات الاولى من عوائد البترول ، على شكل زيادة في الطلب على الخدمات والسلع ، مما ادى الى تنشيط سوق العمل.

توسع المدينة

 لعلها من المفارقات ان المئات من اهل بلادنا ، الذين غادروها في الربع الاول من القرن العشرين ، الى الهند والبحرين والعراق والشام بحثا عن الرزق ، اصبحوا الان قادرين على استقدام اعداد متزايدة من اهل تلك البلاد للعمل هنا ، فلقمة العيش كبرت واصبحت قريبة .

في الرياض ـ على سبيل المثال ـ لم يستطع الاستاذ محمد المانع (1903-1987) كما يخبرنا في بعض كتاباته ، العثور على سكن خاص له ولموظفين آخرين ، عملوا في الديوان الملكي في ثلاثينات القرن ، الا بعد جهد جهيد ، فلم تكن المدينة لتستقبل من الاغراب الا قليلا ، يحلون ضيوفا على اهلها ، ولم يتوقع احد ان احدا من خارج اقليمها بحاجة الى السكن الدائم فيها ، اما الاستاذ سعيد الغامدي الذي درس تطور المجتمع القروي في قرى بلحمر الجنوبية ، فيروي ان واحدا من اهلها استقدم عاملا يمانيا لمساعدته ، فكانت هذه الخطوة موضوع حديث المجالس لعدة اشهر ، وعقدت لاجلها اجتماعات ودارت مناقشات بين شيوخ القرية ، انتهت الى (قرار) بان يقيم الرجل سكنا خاصا لأجيره على اطراف القرية ، لان القرية لاتحتمل رؤية (اجنبي) بل وتخشى منه .

اما اليوم فهذه القرية ، كما هو الحال في الرياض ، تضم بين جنباتها من غير سكانها ، مايوازي عدد هؤلاء او ربما يزيد ، لقد تغير التركيب السكاني في مدن المملكة وقراها خلال العقود الثلاثة الماضية ، بحيث اصبحت قادرا على ان ترى في كل مدينة ، نماذج اجتماعية لكل اقليم من اقاليم المملكة .

تأثير الهجرة

يؤدي خروج عدد كبير من الناس من مجتمعاتهم الاصلية ، الى اهتراء في النظام الداخلي لهذه المجتمعات ، يتجسد في صورة انحلال لقوة الضبط الاجتماعي للافراد ، ثمة قرى كانت تعتبر الراديو اداة من ادوات الشيطان ، وتعليم العلوم الحديثة تهيئة للكفر بالله ، اما السفر الى البلاد الغريبة فهو رضى بالكفر عن الايمان ، لكن العشرات من الشباب الذين خرجوا الى المدن الكبرى ، لاجل العمل اكتشفوا عادة الاستماع الى الراديو ، ومن ثم الانخراط في الصف المدرسي ، ولحقتهم اخواتهم او بناتهم ، ثم استطاع بعضهم السفر الى البلاد المبغوضة ، فوجدوا ان متعة الاكتشاف تستحق التمرد على الضوابط القديمة .

ولان الامر لايبقى سرا على الدوام ، فقد انتهى ذلك التمرد الابتدائي ، الى تلاشي قدرة المجتمع على ضبط ابنائه ، ضمن الاطارات السلوكية السائدة ، والتي يحميها توافق اجتماعي ، هو مانسميه بالقيم او التقاليد ، بكلمة اخرى فان هذه التقاليد التي سادت عشرات من السنين ، اصبحت عاجزة عن الصمود في وجه رياح التغيير .

الفرصة والقصور

هل كان هذا الامر طيبا بصورة مطلقة ؟
ربما كان ضروريا ، له نتائجه الحسنة وهي كثيرة لكنه لايخلو من بعض الاشكالات ، من بين نتائجه الطيبة هو ظهور الفرصة التي تحتاجها البلاد ،  لتحقيق مفهوم التواصل الثقافي والاندماج الاجتماعي بين سكانها ، فلم يكن من الصحيح بقاء ابناء البلد الواحد ، غرباء عن بعضهم متجاهلين احوالهم ، بينما تفرض عليهم الحقائق الموضوعية ، ان يكونوا شركاء في سرائهم وفي ضرائهم .

ومن النتائج السلبية هو قيام مجتمعات جديدة غير متعارفة . في المدن الكبرى على سبيل المثال ، ستجد المهاجرين من الاقاليم ، اكثر ميلا الى اقامة شكل جديد عن مجتمعهم الاصلي ، يعبر عنه في صورة تكتلات اجتماعية لابناء قرية واحدة او قبيلة واحدة ، وينطوي هذا الاتجاه على مبررات للانعزال عن شركائهم في هذه المدينة ، ممن ينتمون الى الاقاليم والقرى الاخرى.

ولا ارى لهذا التوجه الانعزالي مبررات كافية ومعقولة ، ماخلا الشعور الطبيعي بالتوافق الثقافي ، بين ابناء القرية او القبيلة الواحدة ، وهو توافق يوفر لاصحابه الاطمئنان والامان النفسي ، ويندر تحققه بسهولة بين اشخاص ينتمون الى اقاليم مختلفة.

على ان هذا التبرير يكشف ـ اذا صح ـ عن حالة غير مقبولة ، من ضعف التكيف الاجتماعي والثقافي لدى المواطن ، يعبر عنه بالهروب من المجتمع الواسع والمتنوع الذي تمثله المدينة ، الى مجتمع ضيق وأحادي ، هو اعادة انتاج متكلف لصورة القرية ، وهذا بدوره ناتج عن قصور في المنهج التعليمي والاعلامي ، الذي ينبغي ان يعيد صناعة صورة المجتمع في ذهن الفرد ، منذ طفولته وحتى يكبر ، المجتمع الكبير المتمثل في الوطن ، بديلا عن مجتمع القرية الصغير والسابق للدولة ، ان التواصل بين الافراد من مختلف الاصول والانتماءات الاجتماعية ، هو الذي يحقق مفهوم المواطنة ، ويقيم علائقها بين ابناء الوطن الواحد ، اما الانقطاع ـ ايا كان سببه ـ فهو سبب قوي لقيام حالة من الشتات الاجتماعي ، يصعب في ظلها بناء وطن للجميع .
نشر في (اليوم) 21نوفمبر 1994

مقالات ذات علاقة 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...