كنت في الصف الأول ثانوي حين تعرفت على العلاقة الإشكالية بين المعرفة والحرية. لقد مر الان نحو نصف قرن على هذه الحادثة ، لكنها لازالت حية في تلافيف الذاكرة. ولعلي ما كنت سأحفظها بين عشرات الأشياء الأخرى ، لولا انها نقضت قناعة راسخة ، اعتبرتها يومذاك امرا بديهيا. تتجسد هذه القناعة في المثل المشهور "من علمني حرفا صرت له عبدا". وكنا نتداولها كتأكيد على الاحترام الواجب للمعلم.
د. جون كين
الذي حصل في ذلك اليوم اننا قرأنا في كتاب الادب
والنصوص ، مادة عنوانها "عبودية الحرف" تضمنت هجوما شديدا على المثل
المذكور. وقال كاتب المادة ان شأن التعليم ان يحرر الانسان ، لا ان يجعله عبدا
لغيره. وقد جاءت اللحظة الحاسمة ، حين أمر معلم المادة عددا من الطلاب بالحديث
دفاعا عن فكرة المثل ، وأمر آخرين باتخاذ الموقف المضاد ، أي تأييد الفكرة الرافضة
لعبودية الحرف. وكان من سوء حظي ان اختارني ضمن الفريق الثاني ، رغم قناعتي التامة
بالموقف الأول.
لا اذكر الان ماذا قلت في الموضوع. لكني عدت اليه
بعد زمن طويل نسبيا ، حين التحقت بفصل في مناهج البحث ، قدمه البروفسور جون كين ، الذي
افتتح الدرس بسؤال: حين تفكر في مسألة جديدة ، فهل تستطيع التعرف على المؤثرات
التي تدفعك لاختيار رأي بعينه؟. الإجابة على هذا السؤال تساعدنا في اكتشاف حدود
العقل: هل نفكر بعقل مستقل حقا ، ام ان ما نسميه تفكيرا ، هو مجرد استدعاء لأحكام
جاهزة من محيطنا الثقافي او تجاربنا الحياتية.
في مساء اليوم التالي ، شرحت فكرة الدرس لبعض أصدقائي
، فقدم واحد منهم نقضا للفكرة ، خلاصته انه لو لم يكن العقل مستقلا ، لما أمرنا
الله بالعودة الى عقولنا واعتبر حكمها حجة علينا. فبدا ان الجميع اقتنع بهذا الرد.
لكن زميلا آخر اشار الى ما اعتبره ميولا يسارية عند البروفسور كين ، وعقب بالحديث
عن الدور المحوري للمذهب الماركسي في الارتقاء بنقاشات الفلسفة ، فضلا عن مساهمته
الجليلة في تعميم فكرة العدالة الاجتماعية ، وتحويلها الى ثابت من ثوابت السياسة
في الدول المتقدمة.
دار نقاش قصير حول هذه الفكرة ، سرعان ما انحرف نحو
شخص كارل
ماركس وكونه يهوديا ، وعن دور اليهود في اوربا وعلاقتهم مع المسيحية ،
وهجرتهم الى أمريكا الشمالية ، ودور اللوبي
اليهودي هناك.. الخ. حين وصلنا الى هذه النقطة ، تدخل الزميل قائلا: أين
كنا نتحدث ، ومن الذين يتحدث الآن.. عقولنا ام خلفياتنا الذهنية ومفاهيمنا المسبقة
عن الناس والأفكار والحوادث؟.
لقد لفت هذا الزميل انظارنا الى الحقيقة التي لا
مراء فيها ، وهي أن رأينا في الماركسية – مثلا – ليس مبنيا على مقارنة علمية بين محاسنها
ومساويها. اننا ندخل النقاش محملين بمواقف مسبقة تجاه مؤسسها ، وتجاه الدين الذي
ينسب اليه (رغم انه بحسب تصنيفنا ملحد ، ولا ينتمي واقعيا الى ذلك الدين ولا غيره).
ان مجرد انتسابه لعائلة يهودية ، يستدعي حمولة ضخمة تحدد اتجاه الحديث.
في الدروس التالية من ذلك الفصل ، تعرفت على رؤية هانس-جورج
غادامر ومارتين
هايدجر ، ولاسيما تشديد الأخير على دور الخلفيات الذهنية المسبقة ، كوسيط
لفهم المعلومات الجديدة وتحديد قيمتها. وهو يقول في هذا الصدد ان كل فهم جديد مشروط
بفهم مسبق. نعلم طبعا ان هذا نسبي وليس مطلقا ، فالوعي الإنساني متحرك وهو – حسب
تعبير غادامر – افق مفتوح. بقدر ما يكون الوعي السابق مؤثرا ، فانه - في الوقت
نفسه - عرضة للتلاشي ، بتأثير المشاهد والمعلومات ، بل وحتى المصالح الجديدة. ان
أبرز علامات كون العقل عقلا ، هو هذه القدرة على التغير والتغيير المتواصل.
الشرق الاوسط الأربعاء - 24 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 19
أكتوبر 2022 مـ رقم العدد
[16031]
https://aawsat.com/node/3939046